إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مناظرة بين ابن عباس وعمر

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مناظرة بين ابن عباس وعمر

    كرهت قريش أن تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم
    روى الطبري محاورتين جرتا بين عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنه وقال: قال الخليفة في إحداهما لابن عباس:
    ما منع قومكم منكم؟ ـ أي ما منع قومكم قريشاً من ولايتكم ـ‍
    قال ابن عباس: لا أدري!
    قال عمر: لكنّي أدري، يكرهون ولايتكم لهم!
    قال ابن عباس: لِمَ ونحن لهم كالخير!؟
    قال: غفراً؛ يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فيكون بَجَحاً بَجَحاً. لعلّكم تقولون إن أبا بكر فعل ذلك، لا واللّه ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره. الحديث.
    وفي الثانية قال:
    يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟
    فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يُدريني.
    فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتَبْجحوا على قومكم بجحاً بجحاً؛ فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووُفّقَتْ.
    فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتُمِط عني الغضب تكلمتُ.
    فقال: تكلم يا ابن عباس.
    فقلت: أما قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ اختارت قريش لانفسها فأصابت
    ووفقت؛ فلو أنَّ قريشاً اختارت لانفسها حيث اختار اللّه عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة؛ فإن اللّه عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال: (ذَلِك بِأنَّهُمْ كرِهوا ما أنزَلَ اللّهُ فأحْبَطَ أعْمَالَهُم‌ْ).
    فقال عمر: هيهات واللّه يا ابن عباس؛ قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أُقِرَّكَ عليها فتزيل منزلتك مني.
    فقلت: وما هي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
    فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً.
    فقلت: أما قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً؛ فان إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.
    فقال عمر: هيهات! أبت واللّه قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاّ حسداً ما يحول، وضغناً وغشاً ما يزول.
    فقلت: مهلاً يا أميرالمؤمنين! لا تصِف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش؛ فإن قلب رسول اللّه (صل الله عليه واله) من قلوب بني هاشم.
    فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس.
    فقلت: أفعل.
    فلما ذهبت أقوم استحيا مني فقال:
    يا ابن عباس مكانك! فواللّه إني لراعٍ لحقّك، محبُّ لما سرك.
    فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن لي عليك حقّاً وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثمّ قام فمضى(13).


    وقفة تأمّل لدراسة الحديثين
    في الحديثين صرح الخليفة عمر بأنَّ قريشاً كرهوا أن يجتمع في بني هاشم النبوّة والخلافة فيتبجّح بنو هاشم على قريش بَجَحاً أي يتباهوا بذلك على قريش مباهاة.
    وقال في الثاني: (فاختارت قريش لانفسها فاصابت ووُفّقت‌). إذاً
    فقد بحثت قريش في أمر الولاية عن مصلحة أنفسهم ـفي ظاهر الامر الدنيوي‌ـ‍ وليس مصلحة سائر المسلمين. وأي فرق للمسلمين أيَّ قبيلة من قريش وليت الحكم بعد رسول اللّه (صل الله عليه واله).
    وفي تصويبه عمل قريش لم يستدل بغير قوله (اختارت قريش لانفسها) ولم يذكر أي دليل آخر من كتاب اللّه أو سنّة رسوله (صل الله عليه واله).
    ويستفاد من جواب ابن عباس (فلو أنّ قريشاً اختارت لانفسها حيث اختار اللّه عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها) أمران:
    أوّلاً ـ إن اختيار قريش كان في غير ما اختاره اللّه، ويقصد حيث اختار اللّه الامام عليّاً (عليه السلام). كما سنورد الايات والاحاديث في هذا الصدد بُعيد هذا إن‌شاء اللّه تعالى.
    ثانياً ـ إنه ليس لقريش أن تختار غير ما اختار اللّه. ويشير بقوله هذا إلى قوله تعالى في سورة الاحزاب:
    (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) (36).
    وشدّد النكير على كراهية قريش أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم وقال: إن اللّه عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال: (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللّه فأحبط‍ أعمالهم‌) (محمّد / 9). وقد فصّلنا القول في مدلول حبط الاعمال في بحث (جزاء الاعمال‌) من كتاب (عقائد الاسلام‌)‍ فليراجع.
    وفي جواب الخليفة لابن عباس لم يجد ردّاً لدعوى ابن عباس أن قريشاً اختاروا غير ما اختار اللّه وغير ما أنزل اللّه؛ بل جابهه بنقل ما بلغه أن ابن عباس قال: (إنّما صرفوها عنا حسداً وظلماً) ولم ينكر ذلك ابن عباس، بل أبان حجّته في هذا القول وقال:
    (أمّا قولك: ظلماً؛ فقد تبين للجاهل والحليم‌).
    يعني ابن عباس من قوله هذا أنّ قوله: بأنّ بني هاشم ظلموا في تنحية الامام عليّ عليه السلام عن الحكم ليس يخص ابن عبّاس وحده ليكون هو الّذي كشف بقوله ذلك عن تلك الحقيقة، بل إن ذلك قد تبين لجميع الناس؛ العاقل الحصيف منهم، والجاهل الخسيس.
    وأجاب عن قوله (حسداً) وقال: (إن إبليس حسد آدم ونحن ولده المحسودون‌).
    ولعلّ ابن عباس يشير في كلامه هذا إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: (إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذريّة بعضها من بعض واللّه سميع عليم‌) (33 ـ 34) أي إنّ بني هاشم من ذريّة من حسده إبليس لانّ اللّه اصطفاهم، وللذرية أُسوة في ذلك بآبائهم.
    وأخيراً جاش صدر الخليفة بالغيظ ولم يتحمّل أقوال ابن عباس وقال له: (هيهات! أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشـم إلاّ حسـداً ما يحول، وضـغناً وغشّاً ما يزول‌).
    فأجابه ابن عباس وقال: (مهلاً يا أميرالمؤمنين! لا تصف قلوب قوم
    أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغشّ؛ فإنّ قلب رسول اللّه (صل الله عليه واله) من قلوب بني هاشم‌).
    ونترك شرح كلمة الخليفة لما فيها من قسوة. أمّا كلمة ابن عباس فقد أشار فيها إلى قوله تعالى في سورة الاحزاب: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً) (الاية 33). ولمّا لم يستطع الخليفة أن يرد على ابن عباس قوله، أمره بالابتعاد عنه وقال له: (إليك عني يا ابن عباس!) أي ابتعد عنّي، ولمّا أطاع ابن عباس أمر الخليفة وأراد أن يقوم؛ لانَ عليه الخليفة وختم الامر بينهما بالحسنى، واستمرت الخلافة القرشية كسائر قريش في كرهها لاستيلاء بني هاشم على الحكم. كما يظهر ذلك من المحاورة الّتي دارت بين الخليفة وابن عباس بعد موت عامل حمص حيث خاطب الخليفة ابن عباس بقوله:
    يا ابن عباس! إن عامل حمص هلك، وكان من أهل الخير ـ وأهل الخير قليل ـ‍ وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شي‌ء لم أره منك، وأعياني ذلك، فما رأيك في العمل؟
    قال: لن أعمل حتّى تخبرني بالّذي في نفسك.
    قال: وما تريد إلى ذلك؟
    قال: أريده، فإن كان شي‌ء أخاف منه على نفسي، خشيتُ منه عليها الّذي خشيتَ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أنّي لست من أهله، فقبلت عملك هنالك، فإنّي قلّما رأيتك طلبت شيئاً إلاّ عاجلته.
    فقال: يا ابن عباس!، إنّي خشيت أن يأتي عليّ الّذي هو آت وأنت في عملك فتقول: هلّم إلينا ولا هلّم إليكم دون غيركم... الحديث(14).
    يظهر أنّ هذه المحاورة جرت بينهما في اُخريات حياة عمر. وجرت في آخر شهر من حياة الخليفة عمر ما رواه في هذا الصدد البخاري بسنده وقال:
    عن ابن عباس أنّه قال: كنت أُقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها إذ رجع إليَّ عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أميرالمؤمنين! هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؛ فواللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة فتمت. فغضب عمر ثمّ قال: إنّي إن شاء اللّه لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الّذين يريدون أن يغصبوهم اُمورهم. قال عبدالرحمن فقلت: يا أميرالمؤمنين! لاتفعل فإنَّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الّذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعونها على مواضعها، فأمهل حتّى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.
    فقال عمر: أما واللّه إن شاء اللّه لاقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
    فقال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتّى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر ابن الخطاب فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟
    فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثمّ قال: أما بعد! فإني قائل لكم مقالة قد قدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لاحد أن يكذب عليّ ـ إلى قوله ـ ثمّ إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يَغترنَّ امرؤٌ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن اللّه وقى شرها، وليس منكم من تقطع الاعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرَّة أن يُقتلا. ـإلى قوله في آخر الخطبة أيضاًـ فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرَّة أن يقتلا(15).
    يا ترى! من هو فلان المعزوم على بيعته؟ ومن هو فلان الّذي أهاج بقوله غضب الخليفة فخطب وقال في خطبته ما قال؟ إنّ ابن أبي الحديد الشافعي قد كشف في بعض ما رواه عن اسميهما وقال:
    (إنّ الرجل الّذي قال: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً؛ عمّار بن ياسر قال: لو قد مات عمر لبايعت عليّاً. فهذا القول هو الذي أهاج عمر أن خطب بما خطب به‌)(16).

    دراسة مفهوم الخطبة:
    يفهم من كلام الخليفة أنه خشي أن يفلت زمام الامر بعد وفاته من يد قريش ويبادر غيرهم من المسلمين ـ صحابة وتابعين ـ إلى بيعة من يكرهون ولايته، وهو الامام عليّ عليه السلام، ولذلك ابتكر طريقة سدّ بها الطريق على أولئك وقال: (من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرّة أن يُقتلا). قال ذلك في حين أنه بنفسه ولي أمر المسلمين دون مشورة المسلمين، واستند في شرعية حكمه إلى تعيين الخليفة أبي بكر له، ومهما يكن من أمر فقد
    أمسك ـ بطرحه ذلك ـ بزمام الامر بقوة بيده، ثمّ طرح بعد ذلك بقليل، وعندما طعن، وأمر بأن يجتمع ستة من قريش ليختاروا واحداً منهم للخلافة، وجعل أمر ترشيح الخليفة بيد عبدالرحمن بن عوف، وشرط هذا ـ للبيعة ـ عمل الخليفة بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فقبل عثمان الشرط ورفضه الامام عليّ (عليه السلام)، وكانوا يعلمون أنّ الامام عليّاً لايقبل أن يجعل سيرة أبي بكر وعمر في عداد كتاب اللّه وسنّة رسوله. ونجد الخليفة عمر ينبئ سعيد بن العاص الامويّ أنّ الّذي يلي الامر من بعده هو ذو رحم سعيد، وقد ولي بعد الخليفة عمر ذو رحم سعيد (عثمان بن عفان الاموي‌ّ)، وأنّ أبا بكر دعا عثمان خالياً فقال:
    (اكتب... هذا ما عهد أبو بكر إلى المسلمين، أمّا بعد) فاُغمي عليه
    فذهب عنه، (فكتب عثمان: أمّا بعد! فإنّي استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب‌) ولمّا أفاق أمضى ما كتبه عثمان من توليته عمر لانّه كان قد وافق قصده.
    وعن أمر من يلي بعد عثمان روى اليعقوبي وقال:
    إن عثمان اعتلّ علّة اشتدّت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثمّ كتب بيده: عبدالرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبدالرحمن فأخبره، فقال عبدالرحمن، وغضب غضباً شديداً: أستعمله علانيةً، ويستعملني سرّاً! ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أميّة، فدعا عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيّره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبدالرحمن بن عوف.
    ووجّه إليه عبدالرحمن بن عوف بابنه، فقال له: واللّه لقد بايعتك، وإن فيّ ثلاث خصال أفْضُلُكَ بهن... الخبر(17).
    ويظهر أنّه كان قد بُتَّ في أن يلي الحكم بعد عثمان عبدالرحمن بن عوف غير أنَّ عبدالرّحمن توفِّي قبل عثمان سنة 31 أو 32 ه‍‍ بعد أن اشتد الخصام بينهما(18)، وكذلك وقع الخلاف بين بني أُميّـة (الاُسرة الحاكمة من قريش‌) وسائر أفخـاذ قريش، وقادت أُم المؤمنين عائشة أُسرتها من تميم والمخالفين حتّى سقط‍ الخليفة عثمان قتيلاً في داره في المدينة وبمحضر من المهاجرين والانصار(19).
    عند ذلك ملك المسلمون أمرهم وانحلّوا من كلّ بيعة سابقة توثقهم فتهافتوا على الامام عليّ (عليه السلام) يبايعونه وفي مقدّمتهم أصحاب رسول
    اللّه(صل الله عليه واله)، ولما ولي الامام عليُّ (عليه السلام) الحكم ألغى جميع امتيازات قريش الّتي مُنِحوها على عهد الخلفاء قبله، وساوى بين سروات قريش وسائر المسلمين ـالعرب منهم والموالي‌ـ في تقسيم بيت المال والمنزلة الاجتماعية، فلملمت قريش أطرافها بعد أربعة أشهر من حكمه، وأقامت عليه حرب الجمل الّتي اجتمع فيها مروان (المطالب بدم عثمان‌) وطلحة والزبير (اللّذان حرّضا على قتل عثمان‌) بقيادة أُمّ المؤمنين عائشة الّتي أفتت بقتل عثمان. ثمّ أقامت قريش عليه حرب صفين. أقامت الحربين عليه باسم الطلب بدم عثمان، وبذلك شوّشت قريش على المسلمين في خارج المدينة الرؤية الصحيحة. وبعد تحكيم الحكمين بصفين خرجت على الامام عليّ الخوارج بنهروان. ولهذا كلّه شكوى الامام من ظلم قريش مثل قوله في كتابه لاخيه عقيل:
    (فَدَعْ عَنْكَ قرَيْشَاً وَتَرْكَاضَهُم في الضَّلاَلِ، وَتَجْوَالَهُمْ في الشِّقَاقِ، وجِمَاحَهُمْ في التِّيهِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجمعوا عَلى حَرْبي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْب رَسُولِ اللّهِ، صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قَبْلي؛ فَجَزَتْ قُرَيشاً عَني الْجَوَازي، فَقَدْ قَطعُوا رَحمي... الكتاب‌)(20).
    وأخبر عن مشاجرةٍ وقعت بينه وبين أحدهم وقال:
    وقَدْ قالَ قائلٌ: إنّكَ على هذا الامْر لَحريص.
    فَقُلْتُ: بَلْ أَنتم وَاللّهِ لاحرَصُ وَأَبْعَدُ، وأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ! وإنَّما طَلَبْتُ حَقَّا لي وَأَنْتُمْ تَحُولُون بَيْني وَبَيْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَعْتُهُ بالْحُجَّةِ في الْمَلاِ الْحاضِرينَ هَبَّ كَأنَّهُ [بُهتَ] لاَيَدْري ما يُجِيبُني بِهِ! اللَّهُمَّ إنِّي أَستَعِينُكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانهُمْ؛ فإنَّهُمْ قَطَعُوا رحمِي، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعتي أَمراً هُوَ لِي؛ ثُمَّ قَالُوا: أَلاَ إنَّ [في] الْحَقِّ أَنْ تَأخُذَهُ وفي الْحقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ(21).
    وقال في خطبة اُخرى:
    (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمي وَأَكْفَأُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا أَلا إنَّ في الحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفي الحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِر مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً. فَنَظَرْتُ فَإذا لَيْسَ لي رَافِدٌ، ولا ذَابُّ، ولا مُسَاعِدٌ إلا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَن المَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى القَذَى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَى، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلقَلْبِ مِنْ حَزِّ الشِّفارِ)(22).

    وأخيراً استُشهِدَ الامام‌(عليه السلام) بيد أحد الخوارج في محراب مسجد الكوفة، وبعد استشهاد الامام عليّ (عليه السلام) استولى معاوية على الحكم في سنة أربعين للهجرة وسمّوا هذا العام بعام الجماعة وهو في الحقيقة عام الجماعة لقريش، واستمرّ حكم معاوية عشرين عاماً، وتوفِّي في سنة ستين للهجرة.
    * * *
    كان ذلكم بعض آثار كراهية قريش لحكم الامام عليّ (عليه السلام)، ومن آثار تلك الكراهية منعهم نشر حديث الرسول‌(صل الله عليه واله) كما سنذكرها في ما يأتي بإذنه تعالى.
    الهوامش

    13- في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ه‍‍ من تاريخ الطبري ط. مصر الاولى، 1/30 ـ‍ 32، وطبعة أوربا، 1/2768 ـ 2772، والثانية منهما ـ أيضاً ـ في تاريخ ابن‌الاثير، 3/24 ـ 25،
    واللفظ للطبري.
    14 - مروج الذهب للمسعودي 2/321 ـ 322.
    15 - صحيح البخاري 4/119 ـ 120، باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الحدود. وقد أوردنا مورد الحاجة من الخطبة ص 171 قبل هذا. و(ويضعونها) كذا جاءت في الاصل والصواب: يضعوها.
    16 - في شرح الخطبة (26) من شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة.
    17 - تاريخ اليعقوبي، 2/169.
    18 - راجع الاوائل لابي هلال العسكري ط. بيروت 1407، ص 129، وشرح النهج لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1/169.
    19 - راجع كتابنا: (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة‌) ط. بيروت عام 1408 ص 87 ـ 162 فصل في عهد الصهرين.
    20 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده ـ الرسائل، الكتاب رقم 36. والاغاني ط.ساسي 15/44.
    والتركاض: مبالغة في الركض، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال، وكذلك التجوال من الجول والجولان، والشقاق: الخلاف، وجماحهم: استعصاؤهم على سابق الحقّ، والتيه: الضلال والغواية.
    الجوازي: جمع جازية بمعنى المكافأة، دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم.
    21 - نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، الخطبة: 167. وطبعة بيروت للدكتور صبحي الصالح، الخطبة: 172.
    وضرب الوجه: كناية عن الردّ والمنع، (وقرعته بالحجّة‌): من (قرعه بالعصا) ضربه بها، وهبَّ: من هبب التيس ـ أي: صياحه ـ أي: كان يتكلّم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب كأنّه مخبول لا يدري ما يقول.
    وأستعينك: أستنصرك وأطلب منك المعونة، ويروى في مكانه (أستعديك‌) أي: أطلب منك أن تعديني عليهم وأن تنتصف لي منهم.
    و(ثمّ قالوا ـ الخ‌) أي: إنهم اعترفوا بفضله، وأنه أجدرهم بالقيام به ففي الحقّ أن يأخذه، ثمّ لما اختار المقدم في الشورى غيره عقدوا له الامر، وقالوا للامام: في الحقّ أن تتركه، فتناقض حكمهم بالحقّيّة في القضيتين، ولا يكون الحقّ في الاخذ إلاّ لمن توافرت فيه شروطه.
    22 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة: 212.
    وقد جاء القسم الاوّل منها في كتاب الغارات للثقفي، ص 392.
    وأستعديك: أستعينك، وأكفأ الاناء أي قلبه، كناية عن تضييعهم حقّه.
    والرافد: المعين، والذاب: المدافع، و(ضننت‌) أي: بخلت، والقذى: ما يقع في العين، والشجى: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، يريد غصّة الحزن.
    والشفار: جمع شفرة، وهي حدّ السيف وغيره.

المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, اليوم, 07:21 AM
ردود 2
9 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ibrahim aly awaly
بواسطة ibrahim aly awaly
 
يعمل...
X