موقف الحسين من بيعة يزيد بن ميسون
لقد كان الحسين الوارث الوحيد لتلك الثورة التي فجرها جده الرسول الأعظم على الجاهلية الرعناء و العنصرية و الوثنية لإنقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم و التسلط و الإستعباد و واصلها أبوه و أخوه من قبله ، و كان دوره القيادي للسير بها على خطا جده و أبيه سنة ستين للهجرة حيث الأمة كانت بانتظار من ينهض بأعبائها و يكون الحارس الأمين المسؤول عنها بها أن أخذت دعائمها تنهار و تتقوض تحت ضربات بني أمية و أعوانهم ، و جميع معطياتها التي انطلقت قبل خمسين عاماً أو أكثر قد صادرها الأمويون و أعوانهم و الكتاب الكريم رفع على حرابهم وحراب جلاديهم ، و الفكر العقائدي الذي جاء به الإسلام ليبني العقول و القلوب خضع لتوجيه السلطات الحاكمة ، و سيوف المجاهدين انتقلت إلى الجلاوزة و الجلادين للتنكيل بالصلحاء و الإبرياء ، و الصدقات و الغنائم التي كانت تصل إلى مسجد الرسول و تذهب منه إلى بيوت الفقراء و المساكين أصبحت تنتقل إلى قصر الخضراء لشراء الضمائر
و تخدير المعارضين للسلطة الحاكمية و جيل الثورة الثاني بين من تعرض للإبادة الجماعية في مرج عذراء و قصر الخضراء و بين من سيطرات عليهم مبادئ الردة و المرجئة و المجبرة و المتصوفة فأقعدتهم عن التحرك و افقدتهم القدرة على النضال و غرست في نفوسهم و قلوبهم بذور الإستسلام للواقع المرير الذي كانت تتخبط فيه الأمة من جور الأمويين و امعانهم في تزوير السنة و تحريف مبادئ الإسلام و تعاليمه لصالح جاهليتهم التي حاربت محمداً أكثر من عشرين عاماً .
و من هنا كان دور الحسين الوريث الوحيد لثورة جده و أبيه على الشرك و الوثنية و العنصرية شاقاً و عسيراً لأنه لم يرث معها جيشاً و لا سلاحاً و لا مالا و لا أي قوة جبهوية أو مجموعة منظمة غير نفسه وحفنة من بنيه و إخوته ، لم يكن يملك غير ذلك و يملك في الوقت ذاته القدرة على الإنزواء للعبادة و مكانه من الجنة مضمون ، و لكنه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقاً إلى الجنة بدلاً عن الجهاد و التضحيات ، لأنه يدرك ان الطريق الأكمل إلى الله هو طريق الحق و طريق الحق هو الجهاد و النضال و الإلتزام بمبادئ الثورة الإسلامية و تعليمها ، و إذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين ان ينزوي في المساجد للعبادة و يتخلى عن النضال و الجهاد فلا يجوز ذلك على الحسين وارث الرسول و علي ( عليهم السَّلام ) بأن يتخلى عن وعيه النظالي و يلجأ إلى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق و العدل و كرامة الإنسان فلم يبق امامه إلا الثورة و بدونها لا يكون سبطاً للرسول و ابنا لعلي ( عليه السَّلام ) و وارثاً لهما و قدره ان يكون شهيداً و ابنا لأكرم الشهداء و أبا لآلاف الشهداء ، و أن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل الحق و العدل و المستضعفين في الأرض من الرجال و النساء .
لقد حاول معاوية أن يفرض بيعة ولده يزيد على الحسين فلم يتهيأ له ذلك و لا سكوته عنه و هو أدنى ما كان يرجوه معاوية و يتمناه ، و استمر الحسين على موقفه من تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين بالسلاح و المال و التشهير بمعاوية و أحداثه و تحريض المسلمين على تلك البيعة الغادرة ، و مات معاوية سنة ستين من الهجرة و الحسين على موقفه المتصلب منها ، كما امتنع جماعة من البيعة تاسياً بالحسين ( عليه السَّلام ) .
و كما ذكرنا من قبل فان يزيد بن ميسون لم يكن كأبيه في حزمه و احتياطه للمشاكل و الأحداث و التستر بالدين ليسدل ذلك الستار الشفاف على جرائمه و تصرفاته كما كان يفعل ابوه من قبله ، و لما انتقلت السلطة إليه كان من الأولويات عنده ان يلزم الحسين و من تخلف معه من وجوه الصحابة ببيعته فكتب إلى الوليد بن عقبة حاكم المدينة يوم ذاك كتاباً يأمره فيه أن يأخذ البيعة من الحسين و عبد الله بن عمر و إبن الزبير و لا يسمح لهم بالتاخير و لو لحظة واحدة ، و عندما استلم الكتاب استدعي الحسين إليه ليلاً ، و عندما دخل الحسين عليه اخبره بموت معاوية و قرأ عليه كتاب يزيد إليه فاراد الحسين ( عليه السَّلام ) ان يتخلص منه بدون استعمال العنف ، فقال له : مثلي لا يبايع سراً فإذا خرجت غداً إلى الناس و دعوتهم لها أرجو أن يكون أمرنا واحداً ، و كان الوليد يتمنى أن لا تضطره الأمور إلى التورط مع الحسين بما يسيء إليه فاقتنع بجوابه ، و لكن مروان بن الحكم أبت له أمويته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي معززاً مكرماً كما دخل فحاول أن يستفزه و يشحنه عليه فقال له : لأن فارقك الحسين الساعة و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتل بينك و بينه و لكن احبسه فان أبى و لم يبايع فاضرب عنقه .
و هنا لم يعد أمام الحسين ( عليه السَّلام ) في مقابل هذا التحدي الصارخ إلا أن يعلن عن موقفه من يزيد و حكومته و عن تصميمه على الثورة مهما كانت التضحيات و قد أصبح وجها لوجه أمام دوره التاريخي الذي يتحتم عليه أن يصنعه فوثب عند ذلك ليعلن عما ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى فقال له : ويلي عليك يا إبن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي كذبت و لؤمت ، ثم اقبل على الوليد و قال : أيها الأمير انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة بنا فتح الله و بنا ختم و يزيد فاسق فأجر شارب المخمور و قاتل للنفوس المحترمة و مستحل لجميع الحرمات و مثلي لا يبايع مثله .
و جاء في مثير الأحزان لإبن نما ان الوليد بتحريض من مروان رد على الحسين بأسلوب يتسم بالحجة و الغلظة فهجم من كان مع الحسين من إخوته و مواليه و بيدهم الخناجر و أخرجوه من المنزل ، فقال له مروان : لقد عصيتني و الله لا يمكنك من مثلها ابداً ، فرد عليه الوليد بقوله كما جاء في رواية الطبري : ويح غيرك يا مروان لقد اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً ان قال لا أبايع يزيداً و الله أن امرءا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان يوم القيامة لا ينظر الله إليه و لا يزكيه و له عذاب اليم .
و اضاف إلى ذلك إبن عساكر في تاريخه ان أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث زوجة الوليد انكرت عليه ما جرى منه مع الحسين ( عليه السَّلام ) فأجابها بأنه كان هو البادئ بالشتم والسب ، فقالت له : أتسبه و تسب أباه أن سبك ، فقال لها لا أعود لذلك ابداً .
لقد اعلن الحسين ثورته على يزيد و دولته بتلك الكلمات التي وجهها إلى الوليد بن عقبة المكلف بتوطيد حكمه في الحجاز و في مدينة الرسول بالذات و لم يكن الوالي يحسب أن الحسين سيعلنها في مجلسه بتلك الصراحة و في المجلس من هم أشد عداء لمحمد و آل محمد و رسالة محمد
من يزيد و أبيه .
ان فيه الوزغ و إبن الوزغ طريد رسول الله الذي لا يستطيع ان يزيح عن قلبه و نفسه تلك العقد الدفينة التي خلفتها معاركهم مع الإسلام و انتصاراته التي ارغمتهم على التظاهر به مرغمين و ما تلا ذلك من ابعادهم عن المدينة إلى مكان مقفر من بلاد الطائف و تحريض المسلمين على مقاطعتهم رداً على أيذائهم للنبي و تجسسهم عليه و هو في بيته مع أهله و نسائه .
هذا الموقف و ما تلاه من المواقف الأخرى التي كان من جملتها موقفه مع مروان بن الحكم و هو ينصحه ان يبايع ليزيد بن معاوية فرد عليه بقوله : و على الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد بن معاوية ، و قوله ان الخلافة محرمة على آل أبي سفيان ، كل هذه المواقف الحسينية تشكل إعلاناً صريحاً لتصميمه على الثورة و مناهضة الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية مهما بلغ حجم التضحيات في سبيلها ، و قد بلغت مواقفه هذه يزيداً بأقصى حدود السرعة بواسطة الأمويين الذين كانوا يفاوضونه و يراقبون جميع تحركاته و تصرفاته و يحصون عليه حتى أنفاسه .
لقد بلغت مواقف الحسين يزيداً بكل أبعادها و مضاعفاتها فأفقدته وعيه و اندفع مع نزقه و مضى يعمل للتخلص من الحسين قبل أن يخرج من مدينة جده و يستفحل خطره فدس جماعة من جلاديه لقتله في المدينة قبل مغادرتها إلى العراق أو إي بلد آخر كما تؤكد ذلك أكثر المصادر ، و لعل ذلك هو ما حداً بالحسين إلى مغادرة المدينة إلى مكة مع بنيه و إخوته و أسرته ليفوت على يزيد بن ميسون و حفيد هند آكلة الأكباد ما كان يخطط له من اجهاض ثورته و هي لا تزال في مراحلها الأولى . و قد اختار الحسين ( عليه السَّلام ) لنفسه مكة و هو في طريقه إلى الشهادة على تراب كربلاء ليضع المسلمين حيث يجتمعون فيها في ذلك الفصل من جميع مناطق الحجاز امام الواقع المرير الذي ينتظرهم في ذلك العهد المظلم ، و يضع
بين أيديهم ما يحدق بالاسلام من دولة أبي سفيان العدو الأكبر لمحمد و رسالته و ماعزم عليه من الثورة و التضحية لإنقاذ شريعة جده من أولئك المردة أحفاد أبي سفيان و الحكم بن العاص طريد رسول الله حتى و لو كلفه ذلك حياته و حياة بنيه و جميع أسرته ، و فيها اجتمع بتلك الوفود و من بقي من أنصر جده و وضعهم تجاه مسؤولياتهم و استعرض جميع أحداث معاوية و مواقفه المعادية للإسلام و ما ينتظرهم من خليفته المستهتر الخليع و دعاهم إلى نصرته و جهاد الظالمين ، و مضى في طريقه إلى الهدف الأسمى و الغاية القصوى و هو يتمثل بقول القائل :
تاركاً وراءه آراء المشيرين و الناصحين الذين لم تتسع آفاقهم لأهداف ثورته و ما سيكون لها من الآثار السخية بالعطاء على مدى التاريخ .
سنة إحدى و ستين
لقد كانت سنة إحدى و ستين مسرحاً لصراع عنيف بين ارادتين و وقف التاريخ مذهولاً بين تلك الإرادتين ارادة الخير و إرادة الشر تمثلت الأولى في شخصية عظيمة خرجت من بيت علي و فاطمة أضفت عليها القداسة هالة من الإشعاع كأنه اشعاع الفجر المنبلج في كبد الظلام ، و تمثلت الثانية ارادة الشر في رجل أقل ما يقال فيه انه كان ربيب الشرك و الجاهلية و حفيداً لأبي سفيان و زوجته هند آكلة الأكباد .
و الأول هو الإمام الحسين سبط الرسول الأعظم و شبل علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ذلك الإمام العظيم و البطل الخالد .
لقد كان الحسين فرعاً لشجرة التوحيد الممتدة جذورها الطيبة الزكية لهاشم سيد العرب في زمانه و يزيد شوكة من حسك نابت في تربة سبخة من أرض موات أنبتت اخبث شجرة كان بنو أمية من نتاجها ، و لقد عكست واقعة الطف الدامية التي شهدت مأساتها أرض كربلاء أثر كلا الجانبين بل أثر تلك الإرادتين الإرادة الخيرة الهادفة
للإصلاح و إستئصال الشرك و الوثنية تلك الإرادة المتمثلة في الحسين و صحبه ، و الإرادة الثانية الشريرة الهادفة للفساد و سفك الدماء و استعباد الصلحاء و الأحرار و اعادة الجاهلية بكل أشكالها و معالمها كما كان يمثلها حفيد أبي سفيان و آكلة الأكباد .
لقد وقف الحسين وقفته العظيمة التي حيرت العقول بما فيها من معاني البطولات و التضحيات التي لم يحدث التاريخ بمثلها في سبيل العقيدة و المبدأ و حرية الإنسان و كرامته فرداً أمام جولة جبارة تخضع لنفوذ ملك ظالم جبار يحتل الصدارة في قائمة الطغاة و السفاحين و المجرمين في كل أرض و زمان .
لقد وقف الحسين وقفته الخالدة التي كانت و لا تزال مصدراً من أوفر المصادر حظاً بكل معاني الخير و الفضيلة و المثل العليا رافضاً الخنوع و الاستكانة لحكم ذلك الذئب الكاسر المتمثل في هيكل انسان يسميه الناس يزيداً ، و قدم دمه و دماء ذويه و إخوته و أنصاره قرباناً لله و للدين ليبقى حياً ما دامت الإنسانية تحتضن الأجيال على مدى العصور و بقي الحسين خالداً خلود الدهر بدفاعه عن كرامة الإنسان و حريته و عقيدته و بمواقفه التي أعلن فيها ان كرامة الإنسان فوق ميول الحاكمين و لا سبيل لأحد عليها .
و ذهب يزيد و من على شاكلته من الحاكمين في متاهات الفناء ، و التاريخ تتبعهم لعنات الأجيال إلى قيام يوم الدين .
لقد كان الحسين الوارث الوحيد لتلك الثورة التي فجرها جده الرسول الأعظم على الجاهلية الرعناء و العنصرية و الوثنية لإنقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم و التسلط و الإستعباد و واصلها أبوه و أخوه من قبله ، و كان دوره القيادي للسير بها على خطا جده و أبيه سنة ستين للهجرة حيث الأمة كانت بانتظار من ينهض بأعبائها و يكون الحارس الأمين المسؤول عنها بها أن أخذت دعائمها تنهار و تتقوض تحت ضربات بني أمية و أعوانهم ، و جميع معطياتها التي انطلقت قبل خمسين عاماً أو أكثر قد صادرها الأمويون و أعوانهم و الكتاب الكريم رفع على حرابهم وحراب جلاديهم ، و الفكر العقائدي الذي جاء به الإسلام ليبني العقول و القلوب خضع لتوجيه السلطات الحاكمة ، و سيوف المجاهدين انتقلت إلى الجلاوزة و الجلادين للتنكيل بالصلحاء و الإبرياء ، و الصدقات و الغنائم التي كانت تصل إلى مسجد الرسول و تذهب منه إلى بيوت الفقراء و المساكين أصبحت تنتقل إلى قصر الخضراء لشراء الضمائر
و تخدير المعارضين للسلطة الحاكمية و جيل الثورة الثاني بين من تعرض للإبادة الجماعية في مرج عذراء و قصر الخضراء و بين من سيطرات عليهم مبادئ الردة و المرجئة و المجبرة و المتصوفة فأقعدتهم عن التحرك و افقدتهم القدرة على النضال و غرست في نفوسهم و قلوبهم بذور الإستسلام للواقع المرير الذي كانت تتخبط فيه الأمة من جور الأمويين و امعانهم في تزوير السنة و تحريف مبادئ الإسلام و تعاليمه لصالح جاهليتهم التي حاربت محمداً أكثر من عشرين عاماً .
و من هنا كان دور الحسين الوريث الوحيد لثورة جده و أبيه على الشرك و الوثنية و العنصرية شاقاً و عسيراً لأنه لم يرث معها جيشاً و لا سلاحاً و لا مالا و لا أي قوة جبهوية أو مجموعة منظمة غير نفسه وحفنة من بنيه و إخوته ، لم يكن يملك غير ذلك و يملك في الوقت ذاته القدرة على الإنزواء للعبادة و مكانه من الجنة مضمون ، و لكنه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقاً إلى الجنة بدلاً عن الجهاد و التضحيات ، لأنه يدرك ان الطريق الأكمل إلى الله هو طريق الحق و طريق الحق هو الجهاد و النضال و الإلتزام بمبادئ الثورة الإسلامية و تعليمها ، و إذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين ان ينزوي في المساجد للعبادة و يتخلى عن النضال و الجهاد فلا يجوز ذلك على الحسين وارث الرسول و علي ( عليهم السَّلام ) بأن يتخلى عن وعيه النظالي و يلجأ إلى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق و العدل و كرامة الإنسان فلم يبق امامه إلا الثورة و بدونها لا يكون سبطاً للرسول و ابنا لعلي ( عليه السَّلام ) و وارثاً لهما و قدره ان يكون شهيداً و ابنا لأكرم الشهداء و أبا لآلاف الشهداء ، و أن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل الحق و العدل و المستضعفين في الأرض من الرجال و النساء .
لقد حاول معاوية أن يفرض بيعة ولده يزيد على الحسين فلم يتهيأ له ذلك و لا سكوته عنه و هو أدنى ما كان يرجوه معاوية و يتمناه ، و استمر الحسين على موقفه من تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين بالسلاح و المال و التشهير بمعاوية و أحداثه و تحريض المسلمين على تلك البيعة الغادرة ، و مات معاوية سنة ستين من الهجرة و الحسين على موقفه المتصلب منها ، كما امتنع جماعة من البيعة تاسياً بالحسين ( عليه السَّلام ) .
و كما ذكرنا من قبل فان يزيد بن ميسون لم يكن كأبيه في حزمه و احتياطه للمشاكل و الأحداث و التستر بالدين ليسدل ذلك الستار الشفاف على جرائمه و تصرفاته كما كان يفعل ابوه من قبله ، و لما انتقلت السلطة إليه كان من الأولويات عنده ان يلزم الحسين و من تخلف معه من وجوه الصحابة ببيعته فكتب إلى الوليد بن عقبة حاكم المدينة يوم ذاك كتاباً يأمره فيه أن يأخذ البيعة من الحسين و عبد الله بن عمر و إبن الزبير و لا يسمح لهم بالتاخير و لو لحظة واحدة ، و عندما استلم الكتاب استدعي الحسين إليه ليلاً ، و عندما دخل الحسين عليه اخبره بموت معاوية و قرأ عليه كتاب يزيد إليه فاراد الحسين ( عليه السَّلام ) ان يتخلص منه بدون استعمال العنف ، فقال له : مثلي لا يبايع سراً فإذا خرجت غداً إلى الناس و دعوتهم لها أرجو أن يكون أمرنا واحداً ، و كان الوليد يتمنى أن لا تضطره الأمور إلى التورط مع الحسين بما يسيء إليه فاقتنع بجوابه ، و لكن مروان بن الحكم أبت له أمويته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي معززاً مكرماً كما دخل فحاول أن يستفزه و يشحنه عليه فقال له : لأن فارقك الحسين الساعة و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتل بينك و بينه و لكن احبسه فان أبى و لم يبايع فاضرب عنقه .
و هنا لم يعد أمام الحسين ( عليه السَّلام ) في مقابل هذا التحدي الصارخ إلا أن يعلن عن موقفه من يزيد و حكومته و عن تصميمه على الثورة مهما كانت التضحيات و قد أصبح وجها لوجه أمام دوره التاريخي الذي يتحتم عليه أن يصنعه فوثب عند ذلك ليعلن عما ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى فقال له : ويلي عليك يا إبن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي كذبت و لؤمت ، ثم اقبل على الوليد و قال : أيها الأمير انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة بنا فتح الله و بنا ختم و يزيد فاسق فأجر شارب المخمور و قاتل للنفوس المحترمة و مستحل لجميع الحرمات و مثلي لا يبايع مثله .
و جاء في مثير الأحزان لإبن نما ان الوليد بتحريض من مروان رد على الحسين بأسلوب يتسم بالحجة و الغلظة فهجم من كان مع الحسين من إخوته و مواليه و بيدهم الخناجر و أخرجوه من المنزل ، فقال له مروان : لقد عصيتني و الله لا يمكنك من مثلها ابداً ، فرد عليه الوليد بقوله كما جاء في رواية الطبري : ويح غيرك يا مروان لقد اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً ان قال لا أبايع يزيداً و الله أن امرءا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان يوم القيامة لا ينظر الله إليه و لا يزكيه و له عذاب اليم .
و اضاف إلى ذلك إبن عساكر في تاريخه ان أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث زوجة الوليد انكرت عليه ما جرى منه مع الحسين ( عليه السَّلام ) فأجابها بأنه كان هو البادئ بالشتم والسب ، فقالت له : أتسبه و تسب أباه أن سبك ، فقال لها لا أعود لذلك ابداً .
لقد اعلن الحسين ثورته على يزيد و دولته بتلك الكلمات التي وجهها إلى الوليد بن عقبة المكلف بتوطيد حكمه في الحجاز و في مدينة الرسول بالذات و لم يكن الوالي يحسب أن الحسين سيعلنها في مجلسه بتلك الصراحة و في المجلس من هم أشد عداء لمحمد و آل محمد و رسالة محمد
من يزيد و أبيه .
ان فيه الوزغ و إبن الوزغ طريد رسول الله الذي لا يستطيع ان يزيح عن قلبه و نفسه تلك العقد الدفينة التي خلفتها معاركهم مع الإسلام و انتصاراته التي ارغمتهم على التظاهر به مرغمين و ما تلا ذلك من ابعادهم عن المدينة إلى مكان مقفر من بلاد الطائف و تحريض المسلمين على مقاطعتهم رداً على أيذائهم للنبي و تجسسهم عليه و هو في بيته مع أهله و نسائه .
هذا الموقف و ما تلاه من المواقف الأخرى التي كان من جملتها موقفه مع مروان بن الحكم و هو ينصحه ان يبايع ليزيد بن معاوية فرد عليه بقوله : و على الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد بن معاوية ، و قوله ان الخلافة محرمة على آل أبي سفيان ، كل هذه المواقف الحسينية تشكل إعلاناً صريحاً لتصميمه على الثورة و مناهضة الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية مهما بلغ حجم التضحيات في سبيلها ، و قد بلغت مواقفه هذه يزيداً بأقصى حدود السرعة بواسطة الأمويين الذين كانوا يفاوضونه و يراقبون جميع تحركاته و تصرفاته و يحصون عليه حتى أنفاسه .
لقد بلغت مواقف الحسين يزيداً بكل أبعادها و مضاعفاتها فأفقدته وعيه و اندفع مع نزقه و مضى يعمل للتخلص من الحسين قبل أن يخرج من مدينة جده و يستفحل خطره فدس جماعة من جلاديه لقتله في المدينة قبل مغادرتها إلى العراق أو إي بلد آخر كما تؤكد ذلك أكثر المصادر ، و لعل ذلك هو ما حداً بالحسين إلى مغادرة المدينة إلى مكة مع بنيه و إخوته و أسرته ليفوت على يزيد بن ميسون و حفيد هند آكلة الأكباد ما كان يخطط له من اجهاض ثورته و هي لا تزال في مراحلها الأولى . و قد اختار الحسين ( عليه السَّلام ) لنفسه مكة و هو في طريقه إلى الشهادة على تراب كربلاء ليضع المسلمين حيث يجتمعون فيها في ذلك الفصل من جميع مناطق الحجاز امام الواقع المرير الذي ينتظرهم في ذلك العهد المظلم ، و يضع
بين أيديهم ما يحدق بالاسلام من دولة أبي سفيان العدو الأكبر لمحمد و رسالته و ماعزم عليه من الثورة و التضحية لإنقاذ شريعة جده من أولئك المردة أحفاد أبي سفيان و الحكم بن العاص طريد رسول الله حتى و لو كلفه ذلك حياته و حياة بنيه و جميع أسرته ، و فيها اجتمع بتلك الوفود و من بقي من أنصر جده و وضعهم تجاه مسؤولياتهم و استعرض جميع أحداث معاوية و مواقفه المعادية للإسلام و ما ينتظرهم من خليفته المستهتر الخليع و دعاهم إلى نصرته و جهاد الظالمين ، و مضى في طريقه إلى الهدف الأسمى و الغاية القصوى و هو يتمثل بقول القائل :
ان كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي يا سيوف خذيني
تاركاً وراءه آراء المشيرين و الناصحين الذين لم تتسع آفاقهم لأهداف ثورته و ما سيكون لها من الآثار السخية بالعطاء على مدى التاريخ .
سنة إحدى و ستين
لقد كانت سنة إحدى و ستين مسرحاً لصراع عنيف بين ارادتين و وقف التاريخ مذهولاً بين تلك الإرادتين ارادة الخير و إرادة الشر تمثلت الأولى في شخصية عظيمة خرجت من بيت علي و فاطمة أضفت عليها القداسة هالة من الإشعاع كأنه اشعاع الفجر المنبلج في كبد الظلام ، و تمثلت الثانية ارادة الشر في رجل أقل ما يقال فيه انه كان ربيب الشرك و الجاهلية و حفيداً لأبي سفيان و زوجته هند آكلة الأكباد .
و الأول هو الإمام الحسين سبط الرسول الأعظم و شبل علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ذلك الإمام العظيم و البطل الخالد .
لقد كان الحسين فرعاً لشجرة التوحيد الممتدة جذورها الطيبة الزكية لهاشم سيد العرب في زمانه و يزيد شوكة من حسك نابت في تربة سبخة من أرض موات أنبتت اخبث شجرة كان بنو أمية من نتاجها ، و لقد عكست واقعة الطف الدامية التي شهدت مأساتها أرض كربلاء أثر كلا الجانبين بل أثر تلك الإرادتين الإرادة الخيرة الهادفة
للإصلاح و إستئصال الشرك و الوثنية تلك الإرادة المتمثلة في الحسين و صحبه ، و الإرادة الثانية الشريرة الهادفة للفساد و سفك الدماء و استعباد الصلحاء و الأحرار و اعادة الجاهلية بكل أشكالها و معالمها كما كان يمثلها حفيد أبي سفيان و آكلة الأكباد .
لقد وقف الحسين وقفته العظيمة التي حيرت العقول بما فيها من معاني البطولات و التضحيات التي لم يحدث التاريخ بمثلها في سبيل العقيدة و المبدأ و حرية الإنسان و كرامته فرداً أمام جولة جبارة تخضع لنفوذ ملك ظالم جبار يحتل الصدارة في قائمة الطغاة و السفاحين و المجرمين في كل أرض و زمان .
لقد وقف الحسين وقفته الخالدة التي كانت و لا تزال مصدراً من أوفر المصادر حظاً بكل معاني الخير و الفضيلة و المثل العليا رافضاً الخنوع و الاستكانة لحكم ذلك الذئب الكاسر المتمثل في هيكل انسان يسميه الناس يزيداً ، و قدم دمه و دماء ذويه و إخوته و أنصاره قرباناً لله و للدين ليبقى حياً ما دامت الإنسانية تحتضن الأجيال على مدى العصور و بقي الحسين خالداً خلود الدهر بدفاعه عن كرامة الإنسان و حريته و عقيدته و بمواقفه التي أعلن فيها ان كرامة الإنسان فوق ميول الحاكمين و لا سبيل لأحد عليها .
و ذهب يزيد و من على شاكلته من الحاكمين في متاهات الفناء ، و التاريخ تتبعهم لعنات الأجيال إلى قيام يوم الدين .
عش في زمانك ما استطعت نبيلا * و اترك حديثك للرواة جميلا
و لعزك استرخص حياتك انه * اغلى و إلا غادرتك ذليلاً
تعطي الحياة قيادها لك كلما * صيرتها للمكرمات ذلولا
العز مقياس الحياة و ضلَّ مَن * قد عدَّ مقياس الحياة الطولا
قل كيف عاش و لا تقل كم عاش من * جعل الحياة إلى عُلاه سبيلا
لا غرو ان طوت المنية ماجدا * كثرت محاسنه و عاش قليلا
قتلوك للدنيا و لكن لم تدم * لبني أمية بعد قتلك جيلا
و لعزك استرخص حياتك انه * اغلى و إلا غادرتك ذليلاً
تعطي الحياة قيادها لك كلما * صيرتها للمكرمات ذلولا
العز مقياس الحياة و ضلَّ مَن * قد عدَّ مقياس الحياة الطولا
قل كيف عاش و لا تقل كم عاش من * جعل الحياة إلى عُلاه سبيلا
لا غرو ان طوت المنية ماجدا * كثرت محاسنه و عاش قليلا
قتلوك للدنيا و لكن لم تدم * لبني أمية بعد قتلك جيلا