أمير المؤمنين الإمام عليّ وبداية الحكاية - الإيمان؟
________________________________________
أين هم المؤمنون الخاشعون عباد الله الصالحون؟
دعني في البداية أخبرك بقصة يا أخي فيها من العبرة والمعنى والمغزى ما لا تحويه نصوص ومجلدات... في اليوم الذي أُحرِقَت فيه مكتبة الإسكندرية ضاعت كل الكتب ولم يبقَ سوى كتاب واحد... كتاب واحد لا قيمة له فلا أحد بقرائته مهتم... رجل كبير في السن، فقير الحال أراد شراء الكتاب حين علِم أن ثمنه رخيص... فاشتراه ووجد بين صفحاته أسرار حجر يُدعى حجر الأسرار... تقول صفحات الكتاب أن حجر الأسرار موجود على ضفاف شواطىء أحد البحار، البحر الأسود، وإلى جنبه توجد آلاف الحجارة التي تبدو مثله تماماً... لهذا الحجر قدرة غريبة على تحويل الفحم إلى ألماس والمعدن إلى ذهب خالص... لكنه على الشاطىء بين إخوته الأحجار... لا فرق في أشكالهم لكن الإختلاف يتجسد في جوهرهم... حجر الأسرار دافىء بينما باقي الأحجار باردة. باع الرجل جميع ما يملك من ممتلكات متواضعة جداً... إشترى خيمة وذهب إلى شواطىء البحر الأسود ليخيّم هناك ويبحث عن حجر الأسرار.
بدأ الرجل الكبير بالتقاط الأحجار عن الشاطىء حجراً تلو الآخر وكلّما وجَد الحجر بارداً ألقى به في البحر... مرّ يوماً كاملاً وهو على هذا الحال، يلتقط الحجارة وفي البحر يرميها... بعدها مرّت أيام وشهور وسنوات دون أن يجد حجر الأسرار... مرّت ثلاث سنوات. ثلاث سنوات يلتقط حجراً، يجده بارداً فيلقيه في البحر... في يومٍ من الأيام التقط بين يديه حجراً دافئاً فرماه في البحر... لكن مهلاً... حجر دافىء ورماه في البحر؟ نعم يا صديقي، رماه في البحر... هو العقل يا صديقي، هي العادة يا أخي والعادة عبادة وإبادة... ثلاث سنوات يتبع ذات العادة دون أن يتغيّر ويتجدّد حتى رمى بحجر الأسرار في البحر دون أن يدري.
حجر الأسرار في هذه الحكاية هو الإيمان وحين أقول الإيمان فأنا أعني الثقة... الإيمان الذي أعنيه ليس إيمان أمّتنا ومجتمعنا... ليس إيمان الفكر والمعتقد.. هو كلّ البعد بعيد عن وضع معتقد وفكرة في الرأس ومن ثمّ تخيّلها والإيمان أو الإعتقاد بها... هذا ليس بإيمان... سمّوه خطأ بالإيمان... هو الإعتقاد والفرق شاسع واسع بين الإعتقاد والإيمان... الإيمان ثقة ورضى وقناعة واستسلام وتسليم لنهر الوجود والمشيئة الإلهية والفطرة الحقيقية الأصلية. الإيمان لحظات حيّة ينبض بها قلب الإنسان بينما الإعتقاد فكرة ميتة في الرأس لا تغيّر النفْس...
حجر الأسرار هو الإيمان، وما أبعدنا اليوم عن الإيمان... نادراً ما تلقى إنساناً تثق به وتستسلم لحكمته وبرائته، فأين نحن من حضرة الأنبياء والأولياء الصالحين والقديسين؟ وجود إنسان مؤمن حقاً، أهلٌ للثقة هو نادر كما حجر الأسرار موجود بين إخوَته الأحجار يبدو مثلهم في الظاهر لكن الباطن والنوايا والأسرار هي الأساس والحق والحقيقة، إنما الأعمال بالنيّات... أين أنتِ أيتها القلوب الدافئة المُحبّة التي ترتاح في واحتك النفوس العطشى للحقيقة، التائهة في ليل زماننا المظلم؟ هكذا... أنت تلتقي البشر منذ الصغر... منذ الطفولة وأنت تلقى البشر... منذ الطفولة وأنت تلتقط الأحجار حجراً تلو الآخر وتجدها باردة... في يومٍ ما ستلتقط حجراً دافئاً...
يوماً ما ستلتقي المعلّم الصالح والحكيم المستنير. ستشعر بدفئه، بصلاحه، باستقامته وطُهره ورغم هذا ستتجاهله... التقطتَ الحجر الدافىء، حجر الأسرار لكنك سترميه يا صديقي... وحُجّة رميه ستكون عذر أقبح من ذنب... ربما تنعته بالجنون أو تقول عنه أنه بالحضارة غير مفتون ويريدنا أن نحيا كالبدو فكلامه وحياته وأفكاره لا تناسب حضارتنا وحضرتنا المزيفة لذا فهو مجنون... أياً كان عذرك لا يهُمّ... ما يهُمّ أنك سترميه يا صديقي... ستسأل نفْسك وتقول كيف حدث ذلك؟
الأمر بسيط... بداية الحكاية كانت أرضاً رمى فيها المجتمع بذور الشك فلا مكان لقلب تشعر معه بالأمان في هذا الزمان... الكلّ جاهز وحاضر للخداع والمنافسة والسّباق ويارب نفسي واستعداد تام لأدوس على غيري حتى أنال مرادي... طبعاً أوجَدْنا عناوين جميلة للمنافسة وقطع أعناق غيرنا حتى نخفي بربريّتنا ورائها... عناوين من نوعية الأذكى، المتفوِّق، الأوّل، الأجمل وغيرها من آفات وعاهات ارتدت بدلات لامعة متوهّجة لتخفي ورائها لونها المُعتِم المظلم...
منذ الصغر وأنت تسمع عن غابات مجهولة مخيفة يعيش فيها الأشرار والأشخاص الذين لا يستحقون الثقة... غابات مجهولة تكبر يوماً بعد يوم في مجتمع فقد الإنسان فيه وعيَه وأصبح مشفّراً مغيّباً أسيراً تافهاً تائهاً في ظلمات لاوَعيِه، حتى رحَلت الثقة من القلوب بعد أن خاب رجائها وانقطع أملها في أن تجد مسكنها في قلب العبد المؤمن الصادق... ما وسعني أرض ولا سماء إنما وسعني قلب عبدي المؤمن وأين هو الإيمان؟ أين أنتِ أيتها الثقة؟
منذ البداية رمى المجتمع بذور الشكّ في قلبك فامتدّت وتفرّعَت في كيانك وشكّلَت حالَك وأحوالَك وأصبحتَ تنظر للوجود بعين الشكّ في كل موجود فالجميع أعداء يترقّبون الفرص حتى ينقضّون عليك ومنك يستفيدون وما تملُك يستغلّون.
أصبحتَ ترى الجميع أعداء لك فالدفء هجَرَ قلوب العِباد وحجر الأسرار اختفى وتراجع خلف القناع والستار... إرحمنا يا ستّار... شيئاً فشيئاً يفقد هذا الطفل ثقته في جميع من حوله ليس فقط الأغراب... ليس فقط مَن يسكنون تلك الغابات... الطفل يفقد الثقة حتى في أهله... ينظر إليهم ويراقِب حالهم فيجدهم متناقضين مترددين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً... الطفل يتعلّم ألا يثق بأمه التي تخبره شيئاً ثم تخبره بشيء معاكس تماماً للسابق... هو لا يعلم ماذا تريد، الأم نفسها لا تعرف ماذا تريد...
في أحد الأيام سأل طفل أمه عن معنى الزواج، فقد كان يتصفّح كتاباً كبيراً ملوّناً ووَجَد فيه كلمة زواج... سأل أمه عن المعنى فأجابته بأن الزواج هو المحبة بين رجل وإمرأة، السعادة والفرح والإحتفال بين شخصين... فأصاب الطفل الذهول، وحين سألته أمه ما سبب هذا الذهول أجابها بأن جوابها يعني أنها نادراً ما تكون متزوجة!!! سألَته وقالَت: ماذا تعني؟... أجابها بأنها في إحدى أيام الأسبوع كانت سعيدة هي ووالده أي أنها كانت متزوجة، لكنها باقي الأيام وصباح هذا اليوم لم تكُن متزوجة، فلا سعادة ولا فرح ولا احتفال بل صراخ وجدال وقتال...
هل من سبيل الآن لإقناع هذا الطفل بصدق هذه الأم؟
لقد وصَفَت له الزواج بأنه المحبة والفرح والمشاركة، وحياتها يملأها الحزن والقتال والصراخ والجدال... تحدثت أمه عن المثال لكنها لم تكُن تعي ما تقوله فهي حتى لا تحيا هذا المثال ولا تعرف عنه شيئاً سوى أحاديث وروايات وأقوال... وكيف للطفل أن يثق بأمه؟ هذا أمرٌ مُحال...
يطلب الأب من إبنه أن يكون صادقاً شريفاً وأميناً، وفي الوقت ذاته يراه إبنه وهو يكذب ويغشّ حتى يُنقذ نفْسه... يندهش الطفل وأبوه المتحدِّث بإسم الصدق يطلب منه أن يذهب ويقول للمتسوِّل المحتاج الذي ينتظر على الباب بأن لا أحد في المنزل حتى لا يعطيه كِسوة أو مال... يُصاب الطفل بالذهول... والده يطلب منه أن لا يكذب وها هو بنفْسِه يكذِب!!! ومن أين للثقة بمكان ومَسكن داخل القلوب؟... ها هو الطفل يلتقط الأحجار الباردة يوماً بعد يوم فقد اعتاد البرود واعتاد عدم الثقة واعتاد أن يرميها...
الأمر الخطير أن جذور الشكّ تمتدّ في الداخل كلّما امتدّت في الخارج... ها هو الطفل يكبُر... كان لا يثق بعائلته وها هو الآن لا يثق بالجيران والأصدقاء والمدرّسين والمعلّمين والسياسيين ورجال الدين، فالكل مخادعين مرائين كاذبين... عاجلاً أم آجلاً سيَبزُغ فجر هذه الحقيقة في ذهن الإنسان: لا أحد أهلٌ للثقة. ومع بزوغ فجر الظلام هذا يزداد الخطر والدمار فالإنسان حينها سيفقد ثقته بنفسه. لماذا سيفقد ثقته بنفسه؟ لأن الجميع ضد رغباته ومشاعره وأفكاره يقفون صفّاً واحداً بالمرصاد... لأنه دائماً ما اكتشف منذ أن كان طفلاً ويكتشف بأنّ طبيعته لا تناسب مجتمعه الذي يدعوه لكبتها وتجاهلها وعدم الحديث عنها... لأن مشاعره مُهمَلة وأفكاره منبوذة وآراءه لا تلقى أيّ تقدير... لأن الطفل يريد أن يخرج ويلعب مع أصدقائه وأمه تقول له إجلس وأنهِ واجبك... الآن ماذا؟ الآن إن استمع لفطرته وطبيعته فسوف يخرج للّعِب، لكنه أمرٌ خطير... لكنه أمر لغضب الأم مثير... ليس فقط غضب الأم... فاليوم غضبها وغداً غضب المعلّمة في المدرسة ومن يدري ماذا سيكون العقاب؟ حينها يفقد الطفل ثقته بإحساسه فيُجبِر نفسه على الجلوس وإنهاء فرضه... وهكذا... كل ما يريد فعله، كل ما ينوي فعله يبدو خاطئاً للجميع، يبدو مُسيئاً في نظر الجميع وكأنها مؤامرة يُدبِّرها الجميع... وبعد كل هذا تأتي الخلاصة: إن فعلْت ما أريد، إن قلْت وعبَّرت عمّا أريد فسوف أعاقَب، وإن فعلْتُ ما يريده غيري فسوف أُكافَأ، وهل للثقة من مكان في قلب الإنسان بعد هذه الخلاصة؟
الخلاصة: فقدان الثقة في الآخرين... فقدان الثقة في النفْس...
أنت لا تؤمن بأحد، أنت لا تؤمن بنفْسك.
وتسألني يا صديقي عن الإيمان؟ لماذا فقدناه في هذا الزمان؟ وأين هم المؤمنون الخاشعون اليوم والآن؟
إن الكرام قليل وقد أصبحوا جوهرة نادرة في هذا الزمان... منذ قرون وقرون والناس تريد المعجزات من الأنبياء والأولياء لأنهم لا يصدقون، لأنهم لا يثقون... لأن قلوبهم أغلقَت أبوابها منذ أن كانوا أطفالاً فلم تجد الثقة مسكناً فرحلَت وهجرَت القلوب وإلى الآن لم تعود... الناس لم تثق بالرسول الحبيب ورجموه ولم تثق بالمسيح وأرادوا صلبِه ولم تثِق بإبراهيم وأرادوا حرقِه... هذا حالنا فنحن لا نؤمن لأننا أغلقنا قلوبنا، لأننا نحيا في الفكر ونعتقد... نعتقد بمُعتَقد ونظن أنه الإيمان... ومن هنا وُلِد النفاق..
أين هو هذا الإيمان وأنت تأكل حقوق الناس حتى تصل أعلى المراكز والمجالس؟ أين هو الإيمان وأنت على الكرسي جالِس تريد تمجيد نفسك وإخضاع الشعوب لحُكمَك حتى تتمكن من المباهاة بنفْسك ومُلكك؟ أين هو الإيمان ونحن لا نهتم سوى بالبنيان والحضارات الزائفة والعمارات التي طالت السماء ونسينا كيف نبني الإنسان؟... ألم أقُل لك يا أخي أن الفرق كبير بين الإعتقاد والإيمان؟ الإعتقاد عادة وفكرة تعتقد بها والسلام... أما الإيمان فأسلوب حياة خالي من النفاق وابتعاد عن مخالطة ومجالسة أهل السوء والنفاق.. سمَّينا الإعتقاد بالإيمان حتى نختصر الطريق ولا نبحث عن الحقيقة وعن أعلى رفيق... ونحن الخاسرون بما كسَبَت أيدينا.
لكن الآن لا جدوى من البكاء والنحيب فما حدث قد حدث... الآن بالإمكان إبطال ما كان بالعودة إلى كهف القلب وفتح باب غاره انتظاراً لعودة الثقة من جديد... إفتح قلبك وبابك وثِق بالوجود وجوهر وروح كل موجود... إفتح قلبك وستجد الثقة الإلهية بدأت تزرع بذورها في تربة هذا القلب فيولَد وينمو الإيمان... الثقة مفتاح يفتح بابك إلى المجهول، إلى الله.... توكّلت على الله، لا بالفكر لكن بالقلب والنيّة، بالحق وبعيْش هذا الإتكال حقيقة حيّة لا فكرة في الرأس ميّتة...
وأنا لا أقول لك هنا بأنك لن تُخدع حين تفتح قلبك للثقة ويُزهر في كيانك الإيمان... لا، سوف تُخدَع وربّما أكثر من قبْل... هل قرأتَ حياة الأنبياء والحكماء وأبصَرْتَ كم من مرة خانهم أقرب أقربائهم وأصدقائهم وأعدائهم؟... ماذا فعَلَت الأمة بالإمام عليّ حين غدَرَت به ولحِقت المال والمراكز والمناصب؟؟؟ ماذا فعل إبن ملجم بالإمام عليّ الذي لطالما أحسنَ إليه في حياته؟؟؟ وماذا فعل تلميذ يسوع به حين خانه ووَشى به؟؟؟
الإمام عليّ الذي كان سيّداً على نفْسه، ملَك نفْسه ولم تملكه الدنيا. الذي عرَف الدين طُهراً باطناً و عِلماً ظاهراً وعملاً عادلاً وقولاً حكيماً. الذي آخاه الرسول الحبيب حين آخى بين المهاجرين والأنصار أيام هجرته والمسلمين إلى المدينة. جعل لكل أنصاري أخاً من المهاجرين أي رفيق درب وطريق وجميعنا في الله أخوة ورحّالة على ذات الدرب والطريق. وفي مشهد جليل تعجز اللغة عن وصف معناه الجميل، أجلسه النبيّ إلى جواره وضمّه إليه ثم قال: "... وهذا أخي".
دعني أحدِّثك بالقليل من ما فاضَ به القلب حين هامَ وعرِف وتعَرَّف على ثقة الإمام عليّ بالوجود وصبره على خداع الناس له... دعني أحدِّثك عن الإمام عليّ لنحيا الحياة خلف أسوار الكلمات...
أمير المؤمنين يرفض العيش في قصر الخلافة ويرتدي ثوباً بثلاثة دراهم و يوزّع ما في بيت المال على المسلمين فرداً فرداً دون أن يكون له أي نصيب من هذا المال... يلبس الثوب الخشِن ويقول:
"هذا الثوب يصرف عني الزّهْو ويساعدني على الخشوع في صلاتي وهو قدوة صالحة للناس كي لا يُسرفوا ويتبذّخوا..."
أمير المؤمنين يهمس في قلوبنا: "إن المؤمنين مستكينون، إن المؤمنين مُشفقون، إن المؤمنين خائفون"... ولكن مَن منّا خائفٌ من أن يؤذي غيره بأفعاله؟ من منّا خائف على مصائرنا؟ من منّا مستعدّ لأن يغفر بدلاً من أن يعتدي ويقتل؟ من منّا مُشفق على حال البشر مستكين خاشع يرحم أخيه الإنسان والطير والحجر؟
يهمس لحكّامنا، لمَن إلى الدنيا ركَن، ولأصحاب الجاه والقصور ويقول:
إن الذين بنوا فَطالَ بناؤهم واستمتعوا بالأهل والأولاد
جَرَت الرياح على محلّ ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد
ماذا الذي نفعله أنا وأنت؟ كما تكونوا يُوَلّى عليكم... نحن وحكّامنا نُحاكم من سرَق لأنه احتاج ومن بغَى لأنه كُبِت ومن قتل لأنه انحرف وظُلِم ونحن في قصورنا ننعَم بحفلاتنا واحتفالاتنا؟ نحاكِم غيرنا قبل أنفسنا ونعذّب الناس وندّخر الأموال وفي النهاية نقول: نحن نطبّق شرع الله... نطبّق شرع الله ونحن لا نعرف من هو الله أصلاً... أنا وأنت لا نعرف من نحن حتى...
ومَن أكثر ثقة في الوجود من أمير المؤمنين حين أخذ مكان رسول الله في داره إذ أن الرسول كان يتهيّأ للهجرة من مكة إلى المدينة؟
أخذ عليّ مكان الرسول ليشغل عنه قريش ويتمكن من الذهاب إلى المدينة وصاحبه أبو بكر، وهو يعلم أنه لو أمسكَت به قريش فمصيره الموت... الموت غريباً وحيداً دون أن يودّع حتى أحبابه وأصحابه. لم يأخذ مكان الرسول في داره فقط بل قام بتوزيع الودائع على أصحابها فرداً فرداً والتي كان الرسول يحتفظ بها لأصحابها في مكة. وحدَه أدى الأمانات لأهلها ثم لحِق بالرسول وحدَه أيضاً دون مرافقة وحرّاس وجنود. وحدَه سلَك ذات الطريق التي سلكها رجال قريش لملاحقة الرسول وأبو بكر.
أمير المؤمنين يعلم أن الله معه، داخله وفي كل مكان.... لا يعلم أن الله معه لأنه اعتقد بذلك، لا... بل لأنه رأى نور الله متجسداً داخل نفْسه، عاش واختبر الحضرة الإلهية وتلقّى العلوم السرمدية فعَرفَت نفسه الخشوع والزهد في رحاب هذه القدرة الكونية، وعرفَت القوة والصلابة لأنها تستمد قوتها من قدرة إلهية لا حدّ لها ولا عدّ. أمير المؤمنين شهَد وشاهَد وقال:
"دارٌ بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نُزّالها أحوالٌ مختلفة، وتاراتٌ متصرّفة، العيش فيها مذموم والأمان فيها معدوم....."
"...... واعلموا عباد الله أنكم، وما أنتم فيه من هذه الدنيا، على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، والنمارِق المُمهّدة، الصخور والأحجار المُسنّدة، والقبور اللاطِئة المُلحَدة، التي قد بنى الخراب فناؤها وشيّد التراب بناؤها، فمحلّها مُقترِب وساكنها مغترِب................"
ثقتَه بالوجود، إيمانه اللامحدود هو كنزه وما يملُك رغم الفتنة ورغم الخيانة... لا سبيل يا أخي عند المؤمن للمساومة... بل نداء ينادي به من لبّ القلب كما نادى الإمام عليّ مَن خانوه وقال:
" .... أما والله لودَدتُ أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم. ولوددت أني لم أرَكم ولم أعرفكم. فقد والله ملأتم صدري غيظاً، وجرعتموني الأمرّين أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالخذلان والعصيان."
أنا لا أقول بأنك لن تُخدَع ثانية... لكن خسارة الثقة في الوجود وفي الله هي الخديعة والخسارة الحقيقية... أنت الآن تحيا الإيمان ولن يهزّك الخداع فالأمان عندك بالله لا بالأشخاص ولا بالمال ولا العيال... أنت الآن تعلم أنك تخطو في عالم الأبدية وأن الخيانة لا تخيفك والخداع لا يُرهِبك مهما كانت النتائج... ماذا ستخسر؟ منزل؟ مال؟ هذا وذاك؟؟؟ الموت سيأتي ويأخذ كل هذا منك، فإذا كانت هذه هي الخسارة في نظرك فأنت خاسرٌ من الآن وفي كل الأحوال.. إذاً لماذا الخوف؟ إن خفتم من شيء فادخلوا فيه، تذكّر... تذكّر ولا ترمي الأبدية، الثقة والإيمان، الصلاة والمحبة لأجل زور وبهتان.
دع البشر يَخدَعون ويُخادِعون... دعهم ينهبون ويَسرقون وماذا سيسرقون منك؟ مالك أو شيئاً من ممتلكاتك... لكن الإيمان لك وحدك، يغسِل ويطهّر روحك... وحدَه يبقى معك ومن رحل وإيمانه صديقه فقد ملَك كل شيء... فقد دخل جنة الله... ومَن رحل وممتلكاته وحساباته وشيكاته معه وأطماعه ونواياه الجاحدة فقد خسِر كل شيء... فقد باع الآخرة واشترى الدنيا بثمن قليل...
بشار عبدالله
موقع بيت الصياد
________________________________________
أين هم المؤمنون الخاشعون عباد الله الصالحون؟
دعني في البداية أخبرك بقصة يا أخي فيها من العبرة والمعنى والمغزى ما لا تحويه نصوص ومجلدات... في اليوم الذي أُحرِقَت فيه مكتبة الإسكندرية ضاعت كل الكتب ولم يبقَ سوى كتاب واحد... كتاب واحد لا قيمة له فلا أحد بقرائته مهتم... رجل كبير في السن، فقير الحال أراد شراء الكتاب حين علِم أن ثمنه رخيص... فاشتراه ووجد بين صفحاته أسرار حجر يُدعى حجر الأسرار... تقول صفحات الكتاب أن حجر الأسرار موجود على ضفاف شواطىء أحد البحار، البحر الأسود، وإلى جنبه توجد آلاف الحجارة التي تبدو مثله تماماً... لهذا الحجر قدرة غريبة على تحويل الفحم إلى ألماس والمعدن إلى ذهب خالص... لكنه على الشاطىء بين إخوته الأحجار... لا فرق في أشكالهم لكن الإختلاف يتجسد في جوهرهم... حجر الأسرار دافىء بينما باقي الأحجار باردة. باع الرجل جميع ما يملك من ممتلكات متواضعة جداً... إشترى خيمة وذهب إلى شواطىء البحر الأسود ليخيّم هناك ويبحث عن حجر الأسرار.
بدأ الرجل الكبير بالتقاط الأحجار عن الشاطىء حجراً تلو الآخر وكلّما وجَد الحجر بارداً ألقى به في البحر... مرّ يوماً كاملاً وهو على هذا الحال، يلتقط الحجارة وفي البحر يرميها... بعدها مرّت أيام وشهور وسنوات دون أن يجد حجر الأسرار... مرّت ثلاث سنوات. ثلاث سنوات يلتقط حجراً، يجده بارداً فيلقيه في البحر... في يومٍ من الأيام التقط بين يديه حجراً دافئاً فرماه في البحر... لكن مهلاً... حجر دافىء ورماه في البحر؟ نعم يا صديقي، رماه في البحر... هو العقل يا صديقي، هي العادة يا أخي والعادة عبادة وإبادة... ثلاث سنوات يتبع ذات العادة دون أن يتغيّر ويتجدّد حتى رمى بحجر الأسرار في البحر دون أن يدري.
حجر الأسرار في هذه الحكاية هو الإيمان وحين أقول الإيمان فأنا أعني الثقة... الإيمان الذي أعنيه ليس إيمان أمّتنا ومجتمعنا... ليس إيمان الفكر والمعتقد.. هو كلّ البعد بعيد عن وضع معتقد وفكرة في الرأس ومن ثمّ تخيّلها والإيمان أو الإعتقاد بها... هذا ليس بإيمان... سمّوه خطأ بالإيمان... هو الإعتقاد والفرق شاسع واسع بين الإعتقاد والإيمان... الإيمان ثقة ورضى وقناعة واستسلام وتسليم لنهر الوجود والمشيئة الإلهية والفطرة الحقيقية الأصلية. الإيمان لحظات حيّة ينبض بها قلب الإنسان بينما الإعتقاد فكرة ميتة في الرأس لا تغيّر النفْس...
حجر الأسرار هو الإيمان، وما أبعدنا اليوم عن الإيمان... نادراً ما تلقى إنساناً تثق به وتستسلم لحكمته وبرائته، فأين نحن من حضرة الأنبياء والأولياء الصالحين والقديسين؟ وجود إنسان مؤمن حقاً، أهلٌ للثقة هو نادر كما حجر الأسرار موجود بين إخوَته الأحجار يبدو مثلهم في الظاهر لكن الباطن والنوايا والأسرار هي الأساس والحق والحقيقة، إنما الأعمال بالنيّات... أين أنتِ أيتها القلوب الدافئة المُحبّة التي ترتاح في واحتك النفوس العطشى للحقيقة، التائهة في ليل زماننا المظلم؟ هكذا... أنت تلتقي البشر منذ الصغر... منذ الطفولة وأنت تلقى البشر... منذ الطفولة وأنت تلتقط الأحجار حجراً تلو الآخر وتجدها باردة... في يومٍ ما ستلتقط حجراً دافئاً...
يوماً ما ستلتقي المعلّم الصالح والحكيم المستنير. ستشعر بدفئه، بصلاحه، باستقامته وطُهره ورغم هذا ستتجاهله... التقطتَ الحجر الدافىء، حجر الأسرار لكنك سترميه يا صديقي... وحُجّة رميه ستكون عذر أقبح من ذنب... ربما تنعته بالجنون أو تقول عنه أنه بالحضارة غير مفتون ويريدنا أن نحيا كالبدو فكلامه وحياته وأفكاره لا تناسب حضارتنا وحضرتنا المزيفة لذا فهو مجنون... أياً كان عذرك لا يهُمّ... ما يهُمّ أنك سترميه يا صديقي... ستسأل نفْسك وتقول كيف حدث ذلك؟
الأمر بسيط... بداية الحكاية كانت أرضاً رمى فيها المجتمع بذور الشك فلا مكان لقلب تشعر معه بالأمان في هذا الزمان... الكلّ جاهز وحاضر للخداع والمنافسة والسّباق ويارب نفسي واستعداد تام لأدوس على غيري حتى أنال مرادي... طبعاً أوجَدْنا عناوين جميلة للمنافسة وقطع أعناق غيرنا حتى نخفي بربريّتنا ورائها... عناوين من نوعية الأذكى، المتفوِّق، الأوّل، الأجمل وغيرها من آفات وعاهات ارتدت بدلات لامعة متوهّجة لتخفي ورائها لونها المُعتِم المظلم...
منذ الصغر وأنت تسمع عن غابات مجهولة مخيفة يعيش فيها الأشرار والأشخاص الذين لا يستحقون الثقة... غابات مجهولة تكبر يوماً بعد يوم في مجتمع فقد الإنسان فيه وعيَه وأصبح مشفّراً مغيّباً أسيراً تافهاً تائهاً في ظلمات لاوَعيِه، حتى رحَلت الثقة من القلوب بعد أن خاب رجائها وانقطع أملها في أن تجد مسكنها في قلب العبد المؤمن الصادق... ما وسعني أرض ولا سماء إنما وسعني قلب عبدي المؤمن وأين هو الإيمان؟ أين أنتِ أيتها الثقة؟
منذ البداية رمى المجتمع بذور الشكّ في قلبك فامتدّت وتفرّعَت في كيانك وشكّلَت حالَك وأحوالَك وأصبحتَ تنظر للوجود بعين الشكّ في كل موجود فالجميع أعداء يترقّبون الفرص حتى ينقضّون عليك ومنك يستفيدون وما تملُك يستغلّون.
أصبحتَ ترى الجميع أعداء لك فالدفء هجَرَ قلوب العِباد وحجر الأسرار اختفى وتراجع خلف القناع والستار... إرحمنا يا ستّار... شيئاً فشيئاً يفقد هذا الطفل ثقته في جميع من حوله ليس فقط الأغراب... ليس فقط مَن يسكنون تلك الغابات... الطفل يفقد الثقة حتى في أهله... ينظر إليهم ويراقِب حالهم فيجدهم متناقضين مترددين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً... الطفل يتعلّم ألا يثق بأمه التي تخبره شيئاً ثم تخبره بشيء معاكس تماماً للسابق... هو لا يعلم ماذا تريد، الأم نفسها لا تعرف ماذا تريد...
في أحد الأيام سأل طفل أمه عن معنى الزواج، فقد كان يتصفّح كتاباً كبيراً ملوّناً ووَجَد فيه كلمة زواج... سأل أمه عن المعنى فأجابته بأن الزواج هو المحبة بين رجل وإمرأة، السعادة والفرح والإحتفال بين شخصين... فأصاب الطفل الذهول، وحين سألته أمه ما سبب هذا الذهول أجابها بأن جوابها يعني أنها نادراً ما تكون متزوجة!!! سألَته وقالَت: ماذا تعني؟... أجابها بأنها في إحدى أيام الأسبوع كانت سعيدة هي ووالده أي أنها كانت متزوجة، لكنها باقي الأيام وصباح هذا اليوم لم تكُن متزوجة، فلا سعادة ولا فرح ولا احتفال بل صراخ وجدال وقتال...
هل من سبيل الآن لإقناع هذا الطفل بصدق هذه الأم؟
لقد وصَفَت له الزواج بأنه المحبة والفرح والمشاركة، وحياتها يملأها الحزن والقتال والصراخ والجدال... تحدثت أمه عن المثال لكنها لم تكُن تعي ما تقوله فهي حتى لا تحيا هذا المثال ولا تعرف عنه شيئاً سوى أحاديث وروايات وأقوال... وكيف للطفل أن يثق بأمه؟ هذا أمرٌ مُحال...
يطلب الأب من إبنه أن يكون صادقاً شريفاً وأميناً، وفي الوقت ذاته يراه إبنه وهو يكذب ويغشّ حتى يُنقذ نفْسه... يندهش الطفل وأبوه المتحدِّث بإسم الصدق يطلب منه أن يذهب ويقول للمتسوِّل المحتاج الذي ينتظر على الباب بأن لا أحد في المنزل حتى لا يعطيه كِسوة أو مال... يُصاب الطفل بالذهول... والده يطلب منه أن لا يكذب وها هو بنفْسِه يكذِب!!! ومن أين للثقة بمكان ومَسكن داخل القلوب؟... ها هو الطفل يلتقط الأحجار الباردة يوماً بعد يوم فقد اعتاد البرود واعتاد عدم الثقة واعتاد أن يرميها...
الأمر الخطير أن جذور الشكّ تمتدّ في الداخل كلّما امتدّت في الخارج... ها هو الطفل يكبُر... كان لا يثق بعائلته وها هو الآن لا يثق بالجيران والأصدقاء والمدرّسين والمعلّمين والسياسيين ورجال الدين، فالكل مخادعين مرائين كاذبين... عاجلاً أم آجلاً سيَبزُغ فجر هذه الحقيقة في ذهن الإنسان: لا أحد أهلٌ للثقة. ومع بزوغ فجر الظلام هذا يزداد الخطر والدمار فالإنسان حينها سيفقد ثقته بنفسه. لماذا سيفقد ثقته بنفسه؟ لأن الجميع ضد رغباته ومشاعره وأفكاره يقفون صفّاً واحداً بالمرصاد... لأنه دائماً ما اكتشف منذ أن كان طفلاً ويكتشف بأنّ طبيعته لا تناسب مجتمعه الذي يدعوه لكبتها وتجاهلها وعدم الحديث عنها... لأن مشاعره مُهمَلة وأفكاره منبوذة وآراءه لا تلقى أيّ تقدير... لأن الطفل يريد أن يخرج ويلعب مع أصدقائه وأمه تقول له إجلس وأنهِ واجبك... الآن ماذا؟ الآن إن استمع لفطرته وطبيعته فسوف يخرج للّعِب، لكنه أمرٌ خطير... لكنه أمر لغضب الأم مثير... ليس فقط غضب الأم... فاليوم غضبها وغداً غضب المعلّمة في المدرسة ومن يدري ماذا سيكون العقاب؟ حينها يفقد الطفل ثقته بإحساسه فيُجبِر نفسه على الجلوس وإنهاء فرضه... وهكذا... كل ما يريد فعله، كل ما ينوي فعله يبدو خاطئاً للجميع، يبدو مُسيئاً في نظر الجميع وكأنها مؤامرة يُدبِّرها الجميع... وبعد كل هذا تأتي الخلاصة: إن فعلْت ما أريد، إن قلْت وعبَّرت عمّا أريد فسوف أعاقَب، وإن فعلْتُ ما يريده غيري فسوف أُكافَأ، وهل للثقة من مكان في قلب الإنسان بعد هذه الخلاصة؟
الخلاصة: فقدان الثقة في الآخرين... فقدان الثقة في النفْس...
أنت لا تؤمن بأحد، أنت لا تؤمن بنفْسك.
وتسألني يا صديقي عن الإيمان؟ لماذا فقدناه في هذا الزمان؟ وأين هم المؤمنون الخاشعون اليوم والآن؟
إن الكرام قليل وقد أصبحوا جوهرة نادرة في هذا الزمان... منذ قرون وقرون والناس تريد المعجزات من الأنبياء والأولياء لأنهم لا يصدقون، لأنهم لا يثقون... لأن قلوبهم أغلقَت أبوابها منذ أن كانوا أطفالاً فلم تجد الثقة مسكناً فرحلَت وهجرَت القلوب وإلى الآن لم تعود... الناس لم تثق بالرسول الحبيب ورجموه ولم تثق بالمسيح وأرادوا صلبِه ولم تثِق بإبراهيم وأرادوا حرقِه... هذا حالنا فنحن لا نؤمن لأننا أغلقنا قلوبنا، لأننا نحيا في الفكر ونعتقد... نعتقد بمُعتَقد ونظن أنه الإيمان... ومن هنا وُلِد النفاق..
أين هو هذا الإيمان وأنت تأكل حقوق الناس حتى تصل أعلى المراكز والمجالس؟ أين هو الإيمان وأنت على الكرسي جالِس تريد تمجيد نفسك وإخضاع الشعوب لحُكمَك حتى تتمكن من المباهاة بنفْسك ومُلكك؟ أين هو الإيمان ونحن لا نهتم سوى بالبنيان والحضارات الزائفة والعمارات التي طالت السماء ونسينا كيف نبني الإنسان؟... ألم أقُل لك يا أخي أن الفرق كبير بين الإعتقاد والإيمان؟ الإعتقاد عادة وفكرة تعتقد بها والسلام... أما الإيمان فأسلوب حياة خالي من النفاق وابتعاد عن مخالطة ومجالسة أهل السوء والنفاق.. سمَّينا الإعتقاد بالإيمان حتى نختصر الطريق ولا نبحث عن الحقيقة وعن أعلى رفيق... ونحن الخاسرون بما كسَبَت أيدينا.
لكن الآن لا جدوى من البكاء والنحيب فما حدث قد حدث... الآن بالإمكان إبطال ما كان بالعودة إلى كهف القلب وفتح باب غاره انتظاراً لعودة الثقة من جديد... إفتح قلبك وبابك وثِق بالوجود وجوهر وروح كل موجود... إفتح قلبك وستجد الثقة الإلهية بدأت تزرع بذورها في تربة هذا القلب فيولَد وينمو الإيمان... الثقة مفتاح يفتح بابك إلى المجهول، إلى الله.... توكّلت على الله، لا بالفكر لكن بالقلب والنيّة، بالحق وبعيْش هذا الإتكال حقيقة حيّة لا فكرة في الرأس ميّتة...
وأنا لا أقول لك هنا بأنك لن تُخدع حين تفتح قلبك للثقة ويُزهر في كيانك الإيمان... لا، سوف تُخدَع وربّما أكثر من قبْل... هل قرأتَ حياة الأنبياء والحكماء وأبصَرْتَ كم من مرة خانهم أقرب أقربائهم وأصدقائهم وأعدائهم؟... ماذا فعَلَت الأمة بالإمام عليّ حين غدَرَت به ولحِقت المال والمراكز والمناصب؟؟؟ ماذا فعل إبن ملجم بالإمام عليّ الذي لطالما أحسنَ إليه في حياته؟؟؟ وماذا فعل تلميذ يسوع به حين خانه ووَشى به؟؟؟
الإمام عليّ الذي كان سيّداً على نفْسه، ملَك نفْسه ولم تملكه الدنيا. الذي عرَف الدين طُهراً باطناً و عِلماً ظاهراً وعملاً عادلاً وقولاً حكيماً. الذي آخاه الرسول الحبيب حين آخى بين المهاجرين والأنصار أيام هجرته والمسلمين إلى المدينة. جعل لكل أنصاري أخاً من المهاجرين أي رفيق درب وطريق وجميعنا في الله أخوة ورحّالة على ذات الدرب والطريق. وفي مشهد جليل تعجز اللغة عن وصف معناه الجميل، أجلسه النبيّ إلى جواره وضمّه إليه ثم قال: "... وهذا أخي".
دعني أحدِّثك بالقليل من ما فاضَ به القلب حين هامَ وعرِف وتعَرَّف على ثقة الإمام عليّ بالوجود وصبره على خداع الناس له... دعني أحدِّثك عن الإمام عليّ لنحيا الحياة خلف أسوار الكلمات...
أمير المؤمنين يرفض العيش في قصر الخلافة ويرتدي ثوباً بثلاثة دراهم و يوزّع ما في بيت المال على المسلمين فرداً فرداً دون أن يكون له أي نصيب من هذا المال... يلبس الثوب الخشِن ويقول:
"هذا الثوب يصرف عني الزّهْو ويساعدني على الخشوع في صلاتي وهو قدوة صالحة للناس كي لا يُسرفوا ويتبذّخوا..."
أمير المؤمنين يهمس في قلوبنا: "إن المؤمنين مستكينون، إن المؤمنين مُشفقون، إن المؤمنين خائفون"... ولكن مَن منّا خائفٌ من أن يؤذي غيره بأفعاله؟ من منّا خائف على مصائرنا؟ من منّا مستعدّ لأن يغفر بدلاً من أن يعتدي ويقتل؟ من منّا مُشفق على حال البشر مستكين خاشع يرحم أخيه الإنسان والطير والحجر؟
يهمس لحكّامنا، لمَن إلى الدنيا ركَن، ولأصحاب الجاه والقصور ويقول:
إن الذين بنوا فَطالَ بناؤهم واستمتعوا بالأهل والأولاد
جَرَت الرياح على محلّ ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد
ماذا الذي نفعله أنا وأنت؟ كما تكونوا يُوَلّى عليكم... نحن وحكّامنا نُحاكم من سرَق لأنه احتاج ومن بغَى لأنه كُبِت ومن قتل لأنه انحرف وظُلِم ونحن في قصورنا ننعَم بحفلاتنا واحتفالاتنا؟ نحاكِم غيرنا قبل أنفسنا ونعذّب الناس وندّخر الأموال وفي النهاية نقول: نحن نطبّق شرع الله... نطبّق شرع الله ونحن لا نعرف من هو الله أصلاً... أنا وأنت لا نعرف من نحن حتى...
ومَن أكثر ثقة في الوجود من أمير المؤمنين حين أخذ مكان رسول الله في داره إذ أن الرسول كان يتهيّأ للهجرة من مكة إلى المدينة؟
أخذ عليّ مكان الرسول ليشغل عنه قريش ويتمكن من الذهاب إلى المدينة وصاحبه أبو بكر، وهو يعلم أنه لو أمسكَت به قريش فمصيره الموت... الموت غريباً وحيداً دون أن يودّع حتى أحبابه وأصحابه. لم يأخذ مكان الرسول في داره فقط بل قام بتوزيع الودائع على أصحابها فرداً فرداً والتي كان الرسول يحتفظ بها لأصحابها في مكة. وحدَه أدى الأمانات لأهلها ثم لحِق بالرسول وحدَه أيضاً دون مرافقة وحرّاس وجنود. وحدَه سلَك ذات الطريق التي سلكها رجال قريش لملاحقة الرسول وأبو بكر.
أمير المؤمنين يعلم أن الله معه، داخله وفي كل مكان.... لا يعلم أن الله معه لأنه اعتقد بذلك، لا... بل لأنه رأى نور الله متجسداً داخل نفْسه، عاش واختبر الحضرة الإلهية وتلقّى العلوم السرمدية فعَرفَت نفسه الخشوع والزهد في رحاب هذه القدرة الكونية، وعرفَت القوة والصلابة لأنها تستمد قوتها من قدرة إلهية لا حدّ لها ولا عدّ. أمير المؤمنين شهَد وشاهَد وقال:
"دارٌ بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نُزّالها أحوالٌ مختلفة، وتاراتٌ متصرّفة، العيش فيها مذموم والأمان فيها معدوم....."
"...... واعلموا عباد الله أنكم، وما أنتم فيه من هذه الدنيا، على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، والنمارِق المُمهّدة، الصخور والأحجار المُسنّدة، والقبور اللاطِئة المُلحَدة، التي قد بنى الخراب فناؤها وشيّد التراب بناؤها، فمحلّها مُقترِب وساكنها مغترِب................"
ثقتَه بالوجود، إيمانه اللامحدود هو كنزه وما يملُك رغم الفتنة ورغم الخيانة... لا سبيل يا أخي عند المؤمن للمساومة... بل نداء ينادي به من لبّ القلب كما نادى الإمام عليّ مَن خانوه وقال:
" .... أما والله لودَدتُ أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم. ولوددت أني لم أرَكم ولم أعرفكم. فقد والله ملأتم صدري غيظاً، وجرعتموني الأمرّين أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالخذلان والعصيان."
أنا لا أقول بأنك لن تُخدَع ثانية... لكن خسارة الثقة في الوجود وفي الله هي الخديعة والخسارة الحقيقية... أنت الآن تحيا الإيمان ولن يهزّك الخداع فالأمان عندك بالله لا بالأشخاص ولا بالمال ولا العيال... أنت الآن تعلم أنك تخطو في عالم الأبدية وأن الخيانة لا تخيفك والخداع لا يُرهِبك مهما كانت النتائج... ماذا ستخسر؟ منزل؟ مال؟ هذا وذاك؟؟؟ الموت سيأتي ويأخذ كل هذا منك، فإذا كانت هذه هي الخسارة في نظرك فأنت خاسرٌ من الآن وفي كل الأحوال.. إذاً لماذا الخوف؟ إن خفتم من شيء فادخلوا فيه، تذكّر... تذكّر ولا ترمي الأبدية، الثقة والإيمان، الصلاة والمحبة لأجل زور وبهتان.
دع البشر يَخدَعون ويُخادِعون... دعهم ينهبون ويَسرقون وماذا سيسرقون منك؟ مالك أو شيئاً من ممتلكاتك... لكن الإيمان لك وحدك، يغسِل ويطهّر روحك... وحدَه يبقى معك ومن رحل وإيمانه صديقه فقد ملَك كل شيء... فقد دخل جنة الله... ومَن رحل وممتلكاته وحساباته وشيكاته معه وأطماعه ونواياه الجاحدة فقد خسِر كل شيء... فقد باع الآخرة واشترى الدنيا بثمن قليل...
بشار عبدالله
موقع بيت الصياد
تعليق