إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

هذا هو السرّ

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هذا هو السرّ

    هذا هو السرّ
    هكذا يولَد الدين الحقيقي فيك
    جوهر الدين وفطرة أبينا إبراهيم
    ________________________________________
    1
    في يومٍ من الأيام قال حكيم مستنير: أنا لست بمُلحِد ولست بمُتديّن أيضاً... قبل أن نرجم دون أن نرحم، قبل أن نحكم دون أن نفهم، دعونا ندخل غار الكلمات لنقرأ المعنى بين النصوص... المعنى الذي لا يدركه سوى صمتَنا ويُسمع همسَه في صدى النفوس.
    هناك احتمالان لتفسير هذا الكلام... وجهان ومعنيان.. المعنى الأول هو السقوط... المعنى الأول يعود بنا إلى غابات اللاوعي حيث الإنسان يحيا حياته كالحيوان لا يعرف شيئاً عن التدين أو الإلحاد... لا يؤمن بالدين ولا يؤمن بعدم الإيمان... المعنى الثاني ارتفاع وتحليق فوق سماوات العقل والمنطق والتفكير... المعنى الثاني يعني تجاوز الإنسان لمبدأ الثنائية، لا اعتقاد ولا إلحاد، ليس تابعاً لأي مذهب أو طائفة أو معتقد، وليس ناكراً لأيّاً من هذه الأديان... المعنى الثاني هو المقصود... هو الهدف المنشود الذي لا تفهمه المجتمعات والحشود بل تحياه قلوب الأفراد التي لا تحدّ تجربتها وحكمتها ورحمتها حدود.
    علينا أن نفهم شيئاً مهماً... في المجتمع نجد نوعية الناس التي لا تؤمن بشيء... الناس التي لا تهتم بالدين ولا بالروح... هؤلاء من نسمهيم بالغير متدينين أو الملحدين أو أيّ إسم يختاره العقل بحسب بيئة الإنسان صاحب العقل ومعتقداته... هؤلاء لا يذهبون إلى الكنيسة أو المسجد أو المعبد، لا شكر ولا حمْد ولا امتنان في قلوبهم للوجود والأكوان... لا يعرفون كيف لله يخشعون... قلوبهم لا تشعر ولا تنبض بمعنى العبادة والخشوع.... لا يخشعون ولا يتذكرون... هُم يعملون ويعملون وبمشاغل الدنيا منشغلون وبمعارِفها المادية والثقافية والوطنية مهتمون. هؤلاء يحيون حياة مادية بحتة... لا شاعرية فيها ولا أبعاد... يأكلون، يشربون ويتزوجون. إذا سألتهم ماذا بكُم لا تبحثون عن أسرار وجودكم ومعنى حياتكم ولا تقيمون لدار البقاء بيتاً تكملون فيه مشواركم ورحلتكم الروحية؟ سيبدأون بالمنطق وبسرد معارفهم الفكرية التحليلية... سيحاوروك وبمنطقهم يغلبوك لأنهم لا يملكون بين أيديهم سوى كلمات هي في الواقع أوهام يحتمون خلفها من جهلهم لمعنى الألوهية والحياة. لذا ما خاطبتُ جاهلاً إلا وغلَبني...

    فعلاً ما خاطبتُ جاهلاً إلا وغلبني، فهؤلاء تملأ رؤوسهم الكلمات والمبررات والحُجج والبراهين... الحقيقة لا تحتاج لبراهين... الحقيقة لا تُثبتها الشرائع ولا القوانين... الحقيقة يعجز اللسان عن وصف معناها الدفين ويعجز العقل عن تصور لمحة من لمحات نورها الأبديالمبين... الحجج والبراهين لا تُثبت سوى وجود الأكاذيب، فكيف لك أن تحاورهم؟ هذا حوار الطرشان... أنت على قمة جبل وهُم في أسفل وادي...
    يريدونك أن تنزل لهم ولا يريدون أن يرتفعوا ويصعدوا إليك... قال أحدهم: أنظر لقد أحضر مئة برهان على وجود الشمس... فأجابه الثاني، لو لم يكُن في قلبه مئة شك بوجود الشمس لما أحضر المئة برهان...
    هؤلاء يريدون البراهين... هم يحيون في عقولهم والعقل يريد برهاناً لأنه لن يتمكن من عيش الحقيقة الكونية فعيْشها يعني موته... فقط في حال اللاعقل... من على قمة الروح أنت تحيا الإشارات والبشارات والأسرار التي عاشها الأنبياء والخلفاء والحكماء والأولياء... يريدون كتباً ومعلومات وتبريرات ولا يعلمون شيئاً عن التجربة والإختبار... أسئلة ورائها أسئلة والدائرة مفرغة، فصمْت العارفين ومعنى السر الإلهي هُم يجهلون... هُم أصلاً لا يعرفون لماذا يعيشون، وإن سألتهم، بسَرد جميع أنواع الفلسفات سيبدأون. وما معنى الحياة إن لم تكن تنتظر ولادتك من الروح القدس؟ ما معنى الحياة إن خرجْت منها كما دخلْتها؟؟؟ ويا ليت الإنسان يخرج من الحياة كما دخَلَها... لا بل يفارقها وقد خسِر الكثير من برائته وفقَد جنّة طفولته وها هو يغادرها قبل أن يتعلّم درسَه ويكتسب حكمتَه...
    ماذا في حياة أنت تعرف سلفاً ما سيحدث فيها؟ حياة تجرّدَت من كل معانيها؟ حياة أنت محروم من أسرارها وينابيعها؟ أنت لا تنتظر شيئاً إلهياً لأنك لم تبدأ بعد بالبحث عن ذاتك وعن ربك... أنت تقوم بشيء آليّ يوميّ...
    أنت تعلم أنك اليوم ستذهب للمكتب وستعود على الغداء لتأكل مع عائلتك... أنت تعلم أنك الليلة ستمارس الحب أو ستزور فلان، فكل شيء معروف سلفاً... اليوم مثل البارحة مثل غد. وفي يومٍ من الأيام يأتي اليوم المعلوم ويكون القدر المحتوم وتموت... هذا كل شيء إذاً؟ كانت حياتك مجرد خطوات نحو الموت؟

    أُنظر في عيون هؤلاء الناس... أُنظر بعمق في عيون مَن لم يتّصل بمقامات كيانه العلوية، مَن لم تأتِه البشارات السماوية ومَن لم يرتقي بطاقاته ويرتفع بمنازلها درجات نورانية... أُنظر في عيون من لم يدخل أبعاد عوالمه الداخلية... مَن لا يعرف شيئاً عن العالم الأكبر الذي انطوى فيه... ستجِد عيونهم جرداء قاحلة وإن ابتسموا... لا بريق ولا نور ولا ألوهية تنساب وتتدفّق... هؤلاء لم يُلاقوا بعدْ محمديّتهم ومسيحيتهم ولم تعزف أرواحهم لحنها الإلهي... يعيشون الحياة وكأنهم بالصدفة هنا موجودون... هُم ببساطة وجودوا أنفسهم هنا، لا يعلموا لماذا وكيف ولا متى... أين كانوا قبل أن يسكنوا هذا الجسد وأين سيذهبوا بعد أن يتركوا الجسد.. يحيون كالأموات ويموتون أموات لذا قال المسيح دعوا الأموات تدفن بعضها... يشغلون أنفسهم وبالهم بمئات الأشياء... إبنتهم ستلِد طفلاً، قريب لهم سوف يتزوج، يريدون شراء شقة، أو السفر إلى مكان ما...
    أعذار وأعذار تبقيهم في دائرة الأوهام وكل هذه الأعذار لخدمة الفكر وعدم دخول مساحة الذكر التي تشغل كيانهم... يشغلون أنفسهم حتى لا يواجهوا فراغهم ووحدتهم داخل أنفسهم... الخوف يقتلهم إن هُم بالصدفة لاقوا وحدتهم... الخوف يقتلهم حين يشعروا أو يفكروا باحتمال أن لا يبقى في يوم من الأيام أحدٌ معهم... فيشغلون أنفسهم وبالحياة يلتهون... لكن إلى متى؟ تسعون عام؟ أو حتى مئة؟ ثم ماذا؟ المئة عام كالسنة... سيأتي اليوم الموعود وعندها لن يكون للندم والحسرة حدود...
    ولا تتعجبوا حين أخبركم بأنني حين أتحدث عن جماعة الغير متدينين فإنني أشمل معهم المتدينين المزيفين... المتدينون المزيفون الذي يذهبون بالفرض والإكراه إلى الكنيسة والمسجد والمعبد كجزء من النظام المفروض عليهم، لا بدافع القلب المُحِبّ... كجزء من تأدية الواجب المفروض عليهم سواء أعجبهم الأمر أم لم يعجبهم... المتدينون المزيفون الذين يقرأون الإنجيل والقرآن كالببغاوات دون أن يزرعوا في قلوبهم الآيات ويحاولوا أن يحيوا ويعيشوا ولو آية... أن يحيوا أسرارها وإعجازها الكوني... ويكونوا أحياء مع الحيّ القيوم... هؤلاء الذين يحفظون ويردّدون لأنهم بالجنة يطمعون ومن الجحيم يرتجفون... فما قرائتهم وما صلواتهم سوى واجب وانتهى... هُم لا يعتبرونها بداية وباب ومفتاح لعلوم إلهية وأسرار كونية، بل يعتبرونها النهاية وغاية الحكاية وانتهى...
    يعتبرونها معتقداً في الرأس فتتحوّل فلسفة كما إخوتنا المتحذلقون الذين ذكرتهم قبل قليل وكفى... فلماذا أنفسهم يتعبون؟ والوقت يبدّدون؟ فلديهم الكثير في الخارج يلعبون به ويتمتعون...
    لو أن الناس تحيا الدين والتديّن مثلما تتحدث عنه وتعتقد به فكرة جافة لا حياة فيها في رؤوسهم، لَكان حالنا اليوم غير هذا الحال... فرد واحد متدين مِن بين مئة شخص... هذا هو الحال... ورغم هذا نصرّ على الكذب وعلى قول المُحال... نتفاخر بأننا متدينين ولواجباتنا حافظين وأين هو تدين القلب؟ أين هو العمل الصادق والنية الطاهرة والعقل الذاكر الخالي من لهوات وشهوات الدنيا؟ أين؟؟؟؟؟ لو كنا متدينين لَوَجَدنا عالمنا كما كان أيام أمير المؤمنين... العدل والحكمة والمساواة، لا غني ولا فقير ولا طبقات ولا واسطات... البارحة كان أمير المؤمنين واليوم نحيا عصر أمير المنافقين أو هل أقول أمراء النفاق والرياء على كل شكل ولون ودين؟ لو كنا متدينين لوجدنا السلام والطمأنينة والفرح والإحتفال في كل مكان... معاذ الله وهل من حقنا أن نحتفل وأن نأخذ حقوقنا دون أن تتمرّغ في الطين وجوهنا ويذلّنا صاحب المال؟
    يتحدث الناس عن الحب ويسمعون أغاني الحب لكنهم يذهبون إلى الحرب... يتحدث هؤلاء الناس عن المحبة والأخوة في الله لكنهم يقتلون بعضهم البعض ويسبّون ويشتمون وبعضهم البعض ينافسون وكلٌّ ينتمي لفئة وطائفة ومذهب ولون... هؤلاء الناس أخطر من الذين لا يؤمنون وعن معنى حياتهم الروحي لا يبحثون... أخطر لأنهم خلف ستار الدين يختبئون وبردائه يتستّرون وكلمات الأنبياء يردِّدون... هؤلاء أنفسهم والأرض بكاملها يَخدعون ويُخادِعون.
    تسعة وتسعون بالمئة من البشر في يومنا هذا هُم عن التديّن الحقيقي بعيدون... نادراً ما تلتقي هذا المتدين الطاهر النقي الصادق الأمين... وهل للتدين علامات وإشارات؟ نعم... للتدين إشارات وعلامات وبشارات... إن رأيت أحدهم وصِدقاً وطهراً وأمناً وأماناً يشعّ من عينيه فاعلم أنك في بيتك وأنه متدين... إن رأيته ورأيت سماحةً في وجهه وصمتاً خلف كلماته ورقصة في خطواته ونوراً إلهياً يبارك عيونه ومساراته ويوجِّه حركاته فاعلم أنه متدين. إذا رأيته ووجدْتَ الدهشة والبراءة تداعب قلبه، واحترام الحياة يتنفّس داخل صدره... أنه يجلس وحده قنوعاً مسالِماً وسعيداً فلا يعتمد على متَع الدنيا الخارجية لتكون مصدراً لسعادته، سعادته داخلية مصدرها مجهول ومنبعها غير معلوم، فاعلم أنه متدين.

    الإنسان الذي يواجه أفكاره وخوفه وذكرياته وآلامه وفراغه داخل باحة صمته هو الإنسان المتدين... هو الإنسان الذي لا يلهي نفسَه هرباً من لقائها، هرباً من مواجهة نفسه اللوامة الأمارة بالسوء فكيف له أن يتصور أنه بهذا السوء؟ أنه يحوي سواداً داخله...
    لكن ما لم تتم المواجهة فلن يُكشَف لك الحجاب عن نفْسك الراضية الشفافة... لن تصبح متديناً حقاً... أنت لا تزال تهرب من المواجهة وتركن إلى الدنيا... تقرأ الجرائد وتشاهد الأخبار وزيارات لا تنتهي... أحياناً تلجأ إلى النوم... إلى شراء أثاث جديد وتسَوُّق ودوران في الأسواق تشتري الثياب والأحذية... أنت تدخل كل مكان إلا ذاتك، أنت تعرف كل شيء عدا صمتك، عدا نفسك، عدا ربّك...
    الإنسان المتدين لا يحتاج معبداً يتواجد فيه لتتعرّف عليه وتعرِف أنه متدين... فأينما وُجِد المتدين وحلّ فمكانه مبارك... مكانه معبد ومسجد وكنيسة... المتدين في حال وصل دائم وصِلة مُتّصلة بالله... حالة الوصل الدائم، وصل بالقلب لا بالفكر... فالفكر يفصل ولا يصِل، يقسِّم ولا يوَحِّد... حالة الوصل هذه تُحوِّل عمله عبادة فكل شيء يقوم به هو عبادة وتعبُّد... وما خُلقَ الإنس والجنّ إلا ليعبدون... صلاته يترجمها كل نفَس يحياه في كل لحظة من لحظات حياته.
    حين قال الحكيم المستنير أنا لست مُلحداً فهِم الجميع... لا شيء يحتاج للشرح هنا... لكن حين قال ولست متديناً أيضاً استولى العجب والدهشة على الجميع... الآن فتح الحكيم المستنير باب التجاوز والتجلّي الذي تعجر العقول عن فهمه واستيعابه... باب هو أبعد من التدين... باب يتجاوز الثنائية من تدين وإلحاد، من صح وخطأ، من قداسة ونجاسة وفضيلة ورذيلة إلى وحدانية لا تعرف إسماً ولا لقباً ولا تعريفاً. باب تختفي معه الأفعال والطقوس والشعائر والتقنيات وما هو هذا الباب؟ باب الفناء والتوحُّد بخالق الأكوان، بجوهر وأصل ولُبّ كل ذرة تطوف في هذه الأكوان... في هذا الحال مَن هو العالِم ومن المعلوم؟ من هو العابد ومن المعبود؟ اختفت الثنائية واختفى الحوار وبدأ التوحّد والفناء...
    هذه هي لحظة القيامة والشهادة حين يتوحّد الفرد مع الكلّ، يذوب ويتحلّل في الله كما قطرة الماء في المحيط... يقدّم نفسَه قرباناً لله... إنها لحظة القيامة بعد الصلب وما هو الصلب؟ هو صلب النفْس اللوامة والأمارة بالسوء...

    لحظة القيامة والفناء والشهادة تتجلّى في لحظة التوحُّد هذه... في هذه اللحظة لا يبقَ أحد سوى الله. فكل فكرة عن استقلال هذه الروح عن ربها وتمسّكها بجسد وفكر ولقب اعتقَدَت أنه هويّتها، لم يكن سوى وهماً وبُعداً عن الجنة... أما الآن فشهادة حق بأن لا وجود إلا لله... ليست نفْسك الشفافة الراضية المرضية سوى تمدُّد لنور الله... الآن أسرار قُل هو الله أحد...
    الآن لا إله إلا الله... لا أحد موجود إلا الله وما عداه وهمٌ ولهوٌ وحلُم...
    في هذه اللحظة قال المسيح إلهي وأنا، كلانا واحد... في هذه اللحظة صرخ منصور الحلاج قائلاً أنا الحق... هذه اللحظة هي التجربة الكونية الإلهية الوحيدة التي اختبرها كل نبي وكل حكيم ومنها تفرّعت ونمَت الأديان لتُرشِد الإنسان إلى النبع الذي شرب منه الأنبياء والحكماء هذا الماء الصافي العذب... لكن مَن منّا مشى الطريق؟ جميعنا وقفنا عند الباب، عند الشرائع وبدأنا بعضنا نقاتل وكلٌّ منّا يريد أن يتفاخر بأن دينه الأفضل وكتابه الأفضل وكأسه الأجمل دون أن ينظر حتى لما في داخل الكأس وما حواه... دون أن ينظر ليرى أن الماء التي في كأسه هي نفْسها الماء التي في كأس جاره... الكؤوس اختلفت لكن الماء واحد... لكننا لا نريد أن نشرب الماء بصمت... وماذا ستفعل الأنا حينها؟ ستموت.. لا، نحن نريد أن نتكلم ونتحدث ونجادل ونحاوِر لتشبَع عقولنا وترتوي أفكارنا ومعتقداتنا ولا يهمَنا جوع الروح وعطشها لعيْش حقيقتها... لا تهمّنا الحقيقة أصلاً... نحن نحيا ونتغذى على الأكاذيب والباطل... وأكثرنا للحق كارهون.

    هذا هو قدَر الله الذي كتبه لنا... وهذا هو معنى جملة الحكيم المستنير... قدَرنا أن نصل بيتنا القديم وأن نعبُر كل الشرائع والطرق والتقنيات والأبواب والمفاتيح ونرتاح في واحة إلهية أبدية لا وجود فيها سوى لواحد أحد، فجميعها كان هدفها توحيدنا في الله أخوة ومن ثم توحيدنا مع الواحد الجامع لنجتمع على الحق والحقيقة لا كما تجتمع تجمّعاتنا ومجتمعاتنا اليوم على الوهم والباطل...
    هناك نوعان من البشر يحييون في هذا الوجود... هؤلاء المنغمسون في الرغبة المادية الملموسة... فوضويون يرغبون ويستمتعون وهُم يرغبون، وهُم في رغباتهم يلهون، سواء أكانت رغباتهم عبارة عن ولائم وعزائم أو سهرات ومجاملات وزيارات أو جنس وبارات وحانات، إلخ... هؤلاء ضاعوا على الطريق وضلّوا البيت العتيق...
    النوع الآخر هُم البشر الذين يعشقون النظام، القانون ومَن يقول لهم ما يفعلون وما لا يفعلون.. وتراهم الوصايا يتبَعون. هؤلاء هُم أتباع الوصايا العشر الذين يسمعون للعادات، وللنصوص والكتب يميلون.. للمجتمع والدولة.. يتبعون النظام والوصايا ولأجلها هُم مستعدون لتجاهل أصوات أفكارهم وأجسادهم.. يستمعون لصوت السلطة، لصوت الأمة على حساب أصواتهم هُم.

    والآن...
    إذا اخترت يا صديقي أن تحيا حياة الفوضى، حياة أصحاب الرغبات والشهوات والسهرات والحانات فقد اخترتَ أن تحيا ميتاً لا روح فيك داخل أسوار حياة الضلال والجُهَّال... ماتت الألوهية فيك ولم يبقَ منكَ سوى جسد يأكل ويشرب ويتلذّذ..
    وإذا اخترتَ أن تحيا حياة أصحاب القوانين والعادات والتقاليد فسوف تحيا أيضاً ميتاً لا روح فيك... هذه المرة لن تقتلك شهواتك ورغباتك لأنك ستحاول قتْلَها... هذه المرة ستقتُلك السلطة التي تتبعَها فلا أحد بإمكانه إعطائك الوصايا... لا أحد بإمكانه قولَبَتَك وتشكيلك وتحجيمك لتُناسب القانون الذي فصّلَه على مقاسه... فالحياة طبيعية عفوية تنساب وتتغير مع كل نفَس وفي كل لحظة فكيف للقانون أن يكون فعالاً وسط نهر الحياة الجاري؟ أنت ميّت ما إن تتبع قانوناً ميتاً لم يعُد يحوي سوى الكلام... فالكلام يموت أيضاً بعد أن ترحل الروح منه وتفارقه ومن هي الروح؟ هي حكمة مَن وضع الكلام... الحقيقة حيّة في النفوس لا في النصوص... نهرَك تجمّد ولم يعُد يجري ويجاري نهر الحياة الطبيعي الفطري... نهرك عن الجريان والإنسياب والحياة توقّف فأصبح بحيرة من الوحل جامدة دون حراك... الوعي يا صديقي هو الأهم في ميزان الوجود...
    راقِب الحياة بكل تفاصيلها، صغيرها وكبيرها... راقِب جسدَك كيف يتحرك، راقب نفْسك وأنت تتحدث، من الذي يتحدث؟ راقب نفْسك وأنت تسمع، من الذي يسمع؟ راقِب مَن حولَك... راقِب نفَسَك كيف يدخل وكيف يخرج..
    راقب وشاهِد فالرقيب والشهيد فيك هو المفتاح. راقِب وشاهِد فالإنغماس في الملذات ليس سوى وليد عقل لاواعي، عقل طفح كأسه بالأفكار تأخذه هنا وهناك. راقِب فالرقيب داخلك واعي وما الهوَس بالجنس والتفكير به، ما الشهوة للسلطة والمنصب والمركز سوى إنذار بأنك تحيا حالة مظلمة من اللاوعي... أنت في الظلمات تظلم نفْسَك... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين... أنت في الظلمات، ظلمات اللاوعي حيث تستولي عليك المخاوف أو الرغبات وتستبدّ بك وتقودك إلى الجنون. تحيا حياتك يومياً على هذا المنوال ثم يأتي اليوم الأخير فتشعر بأنك لم تفعل شيئاً في حياتك وأنك للشفقة مثير.
    ربما تكون نجحْتَ في المجتمع وبين الناس وصيتك كان عالياً لكن لا شيء يا صديقي يفشل كالنجاح... ماذا سيفعل لكَ نجاحك إن لم تكُن واعياً شاهِداً حاضراً مطمئناً لحظة مفارقتك جسدك؟ أو ما تسميها لحظة الموت؟ ربما تكون قد جمَعْتَ المال ثم ترحل ويبقى المال... المال للورثة ولا يجتمعون بعد الممات إلا لتقسيم الإرث فماذا فعلَ لك مالك؟ ربما تكون أحبَبْت وتفاخرت بعلاقاتك بالنساء أو علاقاتكِ بالرجال.. من رجل إلى رجل أو من إمرأة إلى إمرأة ثم ماذا؟ لقد ضيّعْتَ وبدَّدْتَ طاقاتك فأصبحت صحراء جافة لا طاقة ولا حياة فيها فالطاقة هي الحياة. قضيتَ رحلتك الصغيرة القصيرة على هذه الأرض وأمضيتها تلاحق اللحظات ونسيت الأبدية... والوقت الذي يضيع لا يعود... الطاقة التي تتبدّد وتُهدَر لا تعود... لا شيء يعود... من كابوس لآخر وها أنت تخرج خالي اليدين فقيراً مُعدماً...
    وحدَه مَن خرج مِن الدنيا حاملاً معه شهادَته على فكره ورغباته ومشاعره وانفعالاته هو الغني الحقيقي، هو الفائز بالفوز العظيم...
    الناس التي تتبع القواعد والعادات والأعراف ليسوا أقل غباءً من أتباع الشهوات... فالغباء هو ذاته... ظاهر طريقهم أكثر احتراماً لكن الظاهر مجرد مظاهر تخدع من لا يرى بنور الله، فالغباء هو ذاته. هؤلاء الناس أتباع المبادىء والأخلاق التي يفرضها عليهم المجتمع ويعلّمها لهم. هؤلاء يسحقون رغباتهم لأجل رضى المجتمع عليهم... وإذا كانت الرغبة صادرة من ظلمات اللاوعي فالأوامر الإجتماعية التي تتبعَها يا أخي هي وليدة لاوعي المجتمع المُظلِم وليست وليدة وعيَك المشرق...
    لتفهم يا صديقي جيداً... لا علاقة للشرائع في زماننا بحياة وتعاليم الأنبياء والحكماء فهذه الشرائع كانت حيّة بحضورهم لكنها اليوم أصبحَت محرّفة ومفصَّلة حسب الأهواء ومختلف المصالح والمقاسات. وحين أقول أن الشرائع وليدة لاوعي مظلم فأنا أعني أن الشرائع في يومنا هذا تُطبَّق دون فهم ودون علم... تُطبَّق في لاوعي شديد بالأسرار وقمم والوعي الشديد التي أشرقَت منها معاني هذه الشرائع... هو ليس تطبيق جاهل فقط، بل تطبيق بعد التحريف والقص والتلزيق والتزييف... لم يبقَ لنا شيئاً سوى أن ندخل النفوس لنقرأ نحن بأنفسنا ما بين النصوص ونستفتِ قلوبنا حتى ولو أفتونا...

    يسعى المجتمع خلال السبع سنوات الأولى إلى تشفير الطفل وتعليبه... تشفير الطفل يتمّ من خلال قوْلَبَة العقل، من خلال بثّ أفكار معيّنة تخدم الطائفة التي وُلِد فيها... المذهب الذي ولِد فيه، عائلته، بيئته، وطنه أو الأرض التي وُلِد فيها والسلطة الحاكمة عليها... باختصار هي أفكار تُشفِّر الطفل لأجل أن يكبر ويكون خادماً أو عبداً تابعاً لمجتمعه. هذه الأفكار تدخل لاوعي الطفل مباشرة فلا وعي لديه بَعد، وتصبح أداة قوية للسيطرة عليه والتحكّم به فيما بعد. مسكين المجتمع فهو يقوم بعمل شاق لأجل تدريب الطفل وتعليبه وتشفيره وتدميره... لكن الأمر في المستقبل القريب لن يكون بهذه الصعوبة... قريباً سيتمكنون من زرع قطب كهربائي في دماغ الطفل وعندها بإمكان أي سياسي أن يتحكم به وبطريقة تفكيره من أيّ مكان كان في العالم. السياسي يأمر والشعب عليه السَّمَع والطاعة. لن يتمكن الشعب من معرفة الفرق فهذا يحتاج لوعي كبير... أن تعرف من الذي يعطيك الأوامر. هل أنت عبد مأمور أو على نفسك سيّد وآمِر؟ أن تميّز وتقول هذا ما درّبني وشفّرني رجل الدين والسياسي على قوله وعمله، أم هذا قلبي استفتيته فأفتاني؟...
    الشعوب تعتقد بأنها سيّدة على نفْسها وهذا هو التنويم المغناطيسي... شعوبنا العربية على وجه التحديد ليست سوى أداة لتنفيذ مخططات رجال السياسة والدين الذين يلعبون على ذات الحبل منذ قرون... شعوبنا مجرد دُمى تتحرك بين أيديهم لكنهم بتنويمهم لا يشعرون...
    لكنهم يظنون أن آرائهم ملكهم، أنها حق حصري لهم... يعتقدون أن حياتهم من اختيارهم وأنهم هُم من اختار حكامهم وخطبائهم ووُعّاظِهم...
    هُم لا يعرفون أنهم لم يختاروا شيء فالشيء الذي يظنون أنهم اختاروه قد دُرِّبوا وشُفِّروا على اختياره منذ الصغر... أنت لم تختار فالجميع اختار لك وعنك وبدلاً منك حين شفَّرَك المجتمع ونسَبَك إلى طائفة ومذهب ووطن ومجتمع أنت لا تعرف عنهم شيئاً....
    هذا هو السرّ... سرّ التنويم الناجح والتغييب الفالِح... إن أردْتَ إبقاء الشعوب عبيد وأغنام فلْتوهِمُهم بأنهم هُم من اختاروا الحكام، بأن حياتهم ملك أيديهم وأن لهم حق الإختيار من لقمة العيش التي يأكلونها مروراً بالثياب التي يلبسونها وصولاً إلى الأفكار التي يعتنقونها وانتهاءً بالمعتقدات الدينية التي يعتقدونها.
    كلاهما سواء... صاحب الملذات، فهو تحت قيد البيولوجيا... وصاحب القواعد والعادات، فهو تحت قيد السلطة والمجتمع...
    أتباع السلطة والأعراف الإجتماعية هُم المحترمون المبجّلون من قِبَل المجتمع لأنهم السلطة وأصحاب الأمر والنهي يحترمون... لأنهم يسمعون ويطيعون، أو لأنّ عليهم أن يسمعوا ويطيعوا فلا خيار لديهم ولم يُخيِّرهم أحد حتى وإن خُيِّروا...
    حتى وإن خيَّروك فأنت سوف تختار بين خياريْن أعدّوهما لك سلفاً دون أن تعلم، فإن اخترت فأنت في كل الأحوال تختار ما اختاروه هُم لك... أتباع السياسيين والحكام وأصحاب الشرائع هم كالمومياوات يتحركون دون أن يلامسهم نفَس الله الكوني ومنه يتنشّقون.

    لكن لا تحوِّر كلامي يا صديقي...
    أنا لا أقول لك بأن تذهب وتخرُق القوانين أو تشتم العادات والتقاليد فاحذر سوء الفهم فهو مشكلة أمّتنا وعلّتنا... أنا أقول لك بأن تكون وعياً إلهياً خالصاً... أن تنظر إلى الوجود بعين الواعي الشهيد الرقيب لا بعين الفكر الإجتماعي الجماعي، ولا بعين الشهواني الجَموح الطَّموح عبْد الدنيا... أدخل في التأمل وتأمَّل وابحث في نفسك والفهم الذي سيلامس وعيك هو الذي سيوَجِّهَك ويكون مُرشِدَك. عندها فقط بالإمكان أن تصل إلى لحظة الشهادة والقيامة. الله يتجاوز المجتمع والطبيعة... وحتى تتجاوز المجتمع والطبيعة عليك أن تمشي طريق المخاطرة والمغامرة... عليك أن تصغي لهمس قلبك الرقيق، أن تستفتي قلبك وتتبَعه لأنه وحدَه الصديق والرفيق على طول الدرب والطريق.
    المجتمع أفسد القلوب وأصبحت القلوب متقلِّبة بسبب تعاليم وتعليم وتشفير نما في لاوعينا دون أن ندري حتى أصبحنا لا نفرِّق بين صوت ضميرنا وصوت الظلم فينا... أهُوَ صوت المجتمع أم أنه صوتي؟ وكيف لي أن أدري؟ وحتى أدري وأعلم وأعرف فالتأمل هو مصيري وقدري إذ وحده التأمل يُعرّي اللاوعي ويكشفه تحت شمس الوعي الإلهي...
    وحده التأمل يحرر من الفكر والعقل والأوهام والألعاب فترتفع إلى مقام الروح فهي ليست ملكاً لأحد، الروح التي لا يملكها أحد والتي لا تُشَفَّر ولا تُعلَّب... كل ما في الأمر أنها تنتظر فكّ شيفرة الفكر حتى تبوح بعطورها وأسرارها.
    لهذا تجِد اختلاف في ضمائر البشر...
    إختلاف في أصوات البشر ومن أين أتى هذا الإختلاف؟ فصوت الله واحد فينا لكن من هو السبب؟
    ضمير المسلم غير ضمير البوذي، وضمير البوذي غير ضمير المسيحي، وضمير المسيحي غير ضمير اليهودي... لماذا؟ كيف للضمير أن يختلف من أمة إلى أمة ومن مذهب إلى آخر ومن وطن إلى آخر؟ لكن هذا الضمير مزيف... هو ليس الضمير الكوني، بل ضمير مصنوع على مقاس مجتمع معيّن... الضمير الكوني واحد في كل نفْس... الأخلاق الحقيقية ... الخُلق القويم واحد سواء وُلِدْتَ في الشرق أو في الغرب... سواء وُلِدْتَ بين السود أو بين البيض... لا فرق... لا أحد يملك حقاً حصرياً لِمَا يملكه الوجود... أنت تملك حقاً حصرياً لبضاعتك أو لتجارتك وكل ما هو مصنوع ومادي ويزول... أنت لا تملك الحقيقة والضمير بل هي التي تملُكَك وإليها المصير...
    إن وجدْتَ يوماً اختلاف بين ضميرك وضمير غيرك من إخوَتَك البشر فتذكَّر... تذكّر أن المجتمع هو من زرع هذا الإختلاف بينكم... تذكّر أنه اختلاف واهِم... مجرد كذبة وخدعة ووَهم باطل. المجتمع يحاول أن يتحكم بك من هذا المكان... هو يملك المفتاح لكن إلى متى؟... ما معنى الفتّاح؟ وكيف تُفتَح كل الحدود وتُزال بينك وبين إخوتَك البشر لتكونوا حقاَ في الله إخوة؟
    إذاً يا صديقي لا تكُن عبداً لشهواتك ولا تكُن عبداً لمجتمعك... وبعدها ستدخل الدين من باب العلم والوعي لا الطوائف والمذاهب وتديّن الحشود والمجتمعات والإحتفالات والمناسبات والوعظات... فتتجاوز الأسامي والعناوين فلا تقول مسلم ولا مسيحي ولا سني ولا شيعي فالحقيقة لا تعرف لقب ولا إسم ولكن الأسامي مجرد كلمات ورموز كي تساعدنا على الفهم ليس أكثر... هكذا يولَد الدين الحقيقي فيك... كما وُلِد في قلب الرسول في الغار وفي قلب المسيح وقلب إبراهيم...
    هل تذكُر قصة أبينا إبراهيم؟ هيا بنا نحيا لحظات ولمحات منها كافية لإحيائنا لحيوات وحيوات...
    إنها حكاية تعود بكل نفسٍ تواقة ولمعرفة نور الحق مشتاقة، إلى البداية... وبداية الحكاية تبعُد عنّا حوالي أربعة آلاف عام لتسافر بنا إلى مدينة أور السومرية، تحديداً في وادي نهر الفرات حيث عاش هناك شاب يُدعى إبراهيم. أهل هذا البلَد ابتعدوا عن الصراط المستقيم فعبدوا وعشقوا أصناماً وتماثيلاً مصنوعة من الخشب والطين وبعضها من الحجر الثمين. عبدوا أصناماً بعد أن كانوا يعبدون الله ويذكرونه في قلوبهم بعيداً عن أيّ صورة أو شكل محدود له بداية وعمّا قريب تكون له نهاية.
    لم يكن إبراهيم ذلك الفتى الصغير يفهم سرّ الغشاوة التي حلّت على القلوب فجعلَت الشعوب تنحَت تماثيلها بأيديها ثم بالآلهة تسمّيها وبعدها تقوم بعبادتها وتبجيلها. لم يكُن يفهم سرّ الغشاوة التي حلّت على قلوبهم وعلى قلب والده بالذات، فاعتزلهم وما يعبدون وأنار وحدته وعزلته بحضرة نور البيت المعمور وبدأ رحلة حجّه وحده صادقاً أميناً على نفْسه وكل نفْس، فكان التأمل في الوجود والإصغاء لأسرار الأكوان بقلبٍ صافٍ بابه وحياته.
    لطالما مشى كل باحثٍ عن الحق طريقه وحدَه غريباً عن أهل الدنيا قريباً من أهل النور. صِدْقه وصمته هما شعلة قنديله وحضرة صاحب الحق تُؤنِس وِحدته وتُرشده في سبيله. وفي ليلة من الليالي الصافية، جلس إبراهيم يتأمل السماء فرأى نجماً جميلاً برّاقاً... جمال النجم ملأ كيان إبراهيم فصَاح قائلاً لا بدّ أنه الله... تأمله في دهشة لوقت قليل لكن النجم بدأ بالغياب وابتعد عن الأنظار حتى اختفى وكأن لم يكُن له وجود... قبل قليل كان موجوداً وعمّا قليل يصبح غير موجوداً فكأنه لم يكُن من الأساس موجوداً، فخاب ظن إبراهيم فهو لا يحبّ الأشياء التي تُشارِف على المغيب.
    وفي ليلةٍ أخرى جلس إبراهيم يتأمل السماء بصمت وإصغاء فرأى القمر كبيراً مُنيراً... نوره يشعّ لدرجة شعر إبراهيم معها بأنه قادر على لمسِه، فقال في نفسه: هذا هو ربي. ولم يمضِ سوى وقت قليل حتى همّ القمر بالرحيل تاركاً السماء وكأن لم يكُن لبريقه ونوره وجود. فحدّث إبراهيم نفسه بأن لا سبيل سوى بهداية من الإله العظيم نور الوجود وكل موجود. ثم رأى إبراهيم الشمس عند شروقها في مشهد ساحر خلاب لا تحدّ سحره حدود، فقال لنفْسه بأنها الشمس... لا بدّ وأنها أقوى وأكبر قوة في الوجود. للمرة الثالثة لم يكن ظنّ إبراهيم في مكانه فقد رحلت الشمس وفارقت مكانها وفي نهاية يومها لم يعُد لها بعد لحظة المغيب وجود. وأشرق نور الصحوة في قلب إبراهيم وعلِم بعلمٍ من العليم أن مصدر وأصل النجوم والشمس والقمر واحدٌ أحد أكبر من كل كبير وأحكم من كل حكيم، لم يولَد فتكون له بداية ولا يموت فتكون له نهاية... فحلّ في قلبه الرضى والتسليم فهو الآن يحيا الحقيقة الكونية بقلبٍ سليم لا يساوره شكّ بل خشوع وعلم غاية في التعليم.
    بشار عبدالله
    موقع بيت الصياد

  • #2
    هذا هو السرّ - 2 -

    هكذا يولَد الدين الحقيقي فيك
    جوهر الدين وفطرة أبينا إبراهيم
    ________________________________________
    هكذا يولَد الدين الحقيقي فيك... كما وُلِد في قلب الرسول في الغار وفي قلب المسيح وقلب إبراهيم...
    الدين الحقيقي التجاوزي الأبعد من أي إسم يساوي بينك وبين الوجود... لا أعلى ولا أدنى، لا أكبر ولا أصغر، لا أذكى ولا أغبى...
    كنت أقول ولا زلت أقول وسأظلّ أقول أن الرجل والمرأة لم يكونوا يوماً في علاقة إنسانية من أيّ نوع. لازال المجتمع يعتقد في لاوعيه ويؤمن بأن المرأة أقلّ من الرجل، ولا يمكن للعلاقة الإنسانية أن تقوم بين فردين غير متساويين إنسانياً ووجودياً... لا يمكن للعلاقة الإنسانية أن تقوم بين أعلى وأدنى، بين سيِّد وعبْد، بين حاكم ومحكوم أو بين سيِّد ومسود. وما لم تستعيد المرأة حريتها دون أي شروط أو قيود أو حدود، ما لم تستعيد المساواة المُطلقة بالرجل فلا تتوقع حدوث علاقة إنسانية بينها وبين الرجل... لن يحدث... علاقاتنا ليست بالعلاقات بعد... نُحِب ونحن لا نعرف ما هو الحب ونتزوج وننجب وجميعنا لسنا بشراً بعد ولسنا أحياء وما هذه العلاقات والزيجات إذاً؟ جميعها بلاء وجنون وانتحار جماعي فلا وجود للإنسان بعد وأين أنتِ أيتها الأنْسَنة الإلهية الساكنة فينا؟
    إلى الآن لم يفعل الرجل شيئاً سوى سلْب المرأة حقوقها ومحاولة السيطرة عليها وخيانتها وغدرها وتفصيل الشرائع والدين والقوانين على مقاسه وعلى هواه، تحت شعارات وعناوين مثل الزواج والحب والأبوة والأخوة وكل هذه الأوهام... أهذا ما تسميه علاقة؟ ليست علاقة ولا يمكن أن تكون علاقة... فقط بين فردين متساويين تماماً ينمو الحب ليس قبل ذلك... قبل ذلك خوف وأقنعة وكره وحقد... مع المساواة ينمو الحب ويفتح القلب أبوابه فيبوح بصدق بما يشعر به ويحسّه...
    الحب والخوف لا يلتقيان... لقائهما في ذات الكيان مستحيل... ومتى رحل الخوف وغادر قلب الإنسان، دخل الحب وعطّر كيانه ورفَع الميزان.
    ماذا يعني الجحيم أو جهنم؟؟؟ هي الخوف الموجود داخل الإنسان... الخوف وقد اتخذ شكلاً ثلاثيّ الأبعاد... الخوف صوّرَته المخيّلة...
    وماذا تعني الجنة؟؟؟ هي الطمع الموجود داخل الإنسان... الطمع وقد اتخذ شكلاً ثلاثيّ الأبعاد... الطمع ترجَمَته المخيّلة.
    إن كنتَ تفكّر بالجنة أو الجحيم... إن كنت تتصرف من هذا المنطلق فأنت كما أنت ولم تتغيّر أبداً... لازلت مادياً شرِهاً تسعى خلف مصالحك ورغباتك ونزواتك... اللهم ما عبدْتك خوفاً من نارك ولا طمعاً بجنّتك لكني عبدتك لأني وجدتك أهلاً للعبادة... أين نحن من هذه الحقيقة التي نطق بها الإمام عليّ ورابعة العدوية وكل حكيم ومستنير... عبدْتك لأني وجدتك أهلاً للحب... صاحب الفهم لا يفكر من باب الثواب أو العقاب، مكانه هنا وزمانه الآن.
    رجل الدين يعمل على الجحيم والنعيم تماماً كما يعمل السياسي وصاحب السلطة في المجتمع على التشفير والتقسيم والتعليب... رجل الدين ماهر في مهنته... يرسم لك الجحيم ويصوّر ألوانه وأشكاله وأبوابه... أولاً يحوّل طبيعتك وفطرتك إلى إثم وخطأ وكفر وحرام ووووو...
    ثم يولَد إحساسك بالذنب... أنت مُجبَر على عيْش فطرتك وطبيعتك لكنك تشعر بالذنب في نفس الوقت فرجل الدين حذّرك من جسدك، من أحاسيسه ولذّته... وما إن تأكل هذا الطُّعم وتُصدِّق حتى تدخل المصيدة... تقع في الفخ ويرتفع ويعلو خوفك من الجحيم...
    هنا يُكمِل رجل الدين مهنته فيشرح ويصف لك جهنم ويُخبرك بأن الخلاص الوحيد يكون باتّباع دينه وشريعته... لن تنجو إن كنت تابعاً لغير ملّة ودين... لن تنجو إلا إن خلّصك الإسم الذي يسمّيه لك بحسب الدين الذي يتبعه هو... إما المسيح أو كريشنا أو بوذا أو أو أو... وأنت تريد الخلاص فالموت يقترب يوماً بعد يوم... فتقع في الأسر وتتبعه..
    في الحقيقة لا يُمكن أن ينقذك أحد ما لم تُنقِذ نفْسك وتتجاوز فكرك وتتخلّى عن الطمع والخوف. لا مسلم ولا مسيحي ولا بوذي ولا يهودي بإمكانه إنقاذك فالخوف والطمع، فكرك هو جحيمك الأكبر...
    الجنة والجحيم ليسا بأماكن جغرافية موجودة في مكان ما في السماء.. الجنة والجحيم كما صوّروها لك ووصفوها هي أماكن نفسية لا جغرافية... بمجرد أن يختفي خوفك وطمعك ستختفي جنّتك وجحيمك. وما إن يختفي خوفك وجحيمك، طمعك وجنّتك ستظهر الجنة الحقيقية... سيظهر لك الفردوس الحقيقي... الجنة التي عناها الرسول الحبيب والمسيح وإبراهيم وبوذا وكل مستنير لكنهم لم يبوحوا بأسرارها لأحد، وهل يوجد أحد مستعد لأن يفهم ويسمع؟ لم يبوحوا بأسرارها إلا لأهل الصمت... لأخوتهم العارفين بالله.
    الجنة والجحيم أماكن نفسية وبعد أن تتجاوز حالتك وأحوالك وتقلّباتك النفسية ستعي أسرار الوجود الروحية... ستفهم ما هي جنة الروح يا أخي في الروح... جنة هي هنا الآن وفي كل مكان وزمان... جنة قوامها الوعي الروحي والسلام الداخلي لا الطمع ولا الخوف فهذه حالات نفسية مرَضيّة تستدعي الشفاء... هذا هو سرّ علم التأمل ولهذا قال الرسول الحبيب تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام... وحده التأمل يُبلوِر وعيك الإلهي فتعي الحقائق والأسرار التي لا تُقال بلسان ولا يحويها كتاب... حينها سيوجّهك وعيك وستعلم أنك لست الفاعل بل الله من خلالك يفعل وقدّر الله وما شاء فعَل... حين تستسلم أنت... حين تصبح ناياً فارغاً على شفاه الوجود... حينها يُعزف من خلالك اللحن الإلهي...
    مشكلتنا يا صديقي أننا ندَع فكرنا يرى ويسمع ويتكلم... نادراً ما أجد إنساناً سمَح للبصير بداخله أن يرى، للسميع في أعماقه أن يسمع، وللشهيد في معبده بأن يتحدث. المجتمع يتحدث، الشيطان يتحدث ويحيا من خلاله وليس الله... لذا نحيا كالأموات ولسنا أحياء.

    الآن تجربتي هي التي تخاطِبَك... لا تحكم... لا توافق ولا ترفض ولا تحتار... لا تتّخِذ موقفاً... وهل توافق على صوت مياه النهر الجارية أم ترفضه؟ هل تحكم على صوت الريح فتقول بأنه على حق أو على صواب؟...
    لكني أخاف المجهول وأجهل اللامعلوم وأشعر أنني سأترك دار الأمان للأبد وأدخل دوامة الترحال والمجهول وأنا أخاف الدخول في ما لا يستطيع عقلي أن يتصوّره أو يُمسك زمام أمره.. ماذا أفعل؟
    إن خفْتَ من شيء يا صديقي فادخل فيه... ما هو الأمان الذي تتحدث عنه؟ لا أمان إلا بالله لكن هذا الأمان لا علاقة له بحساباتك في البنوك ومالك وعيالك وعزوتك... هو حياة من نوع آخر. حياة لا تستحقها إلا بعد أن تجاهد لأجلها.. لا لأجل كَسْبها بل لأجل إعادة اكتشافها فهي داخلك الآن وهنا. الخوف مانع... الخوف حجاب وغشاوة على البصيرة التي تدرك ما لا تدركه الأبصار. في الواقع لست أنت من يخاف المجهول، بل عقلك الذي يخشى أن يتلاشى و يزول.. الفناء بالله الذي تحدث عنه الأنبياء هو موت العقل... موت الرغبة والهوس والقلق والخوف وكلها طاقات سلبية تتخذ من العقل مسْكناً ومقرّاً... إعقَل وتوكَّل أي إعقل بعقل صافٍ خالٍ من الأفكار... عقل لا تشغله أفكار بل نعمة الأذكار والإستذكار...
    نقول موْت ومن بعده نَمَوْت، أي موت يتبعه نموّ وقيامة وولادة روحية من الروح القدس... تخلي عن عالم الأشياء، صيام عن كل ما هو دون الله، وفناء في عالم اللاشيء مصدر وأصل كل شيء.
    ليس التديّن يا صديقي وعظات وواجبات وشعائر وانتهى... التدين هو حالة تكون فيها عند مفترق طرق... حالة ترى فيها وتشعر معها كَم أتعبَك حِمْل اللقب والشخصية... كَمْ أتعبَتك الهوية المزيفة وها أنت تتوق للعودة إلى أحضان ورحْم الألوهية الكونية... أولاً سترمي الحاجز بينك وبين حقيقتك الراضية المرضية... سترمي الفكرة الإجتماعية والإعتقادية والفلسفية لتعبُر نحو الأمجاد السماوية... لست كائن إجتماعي بل كائن كوني يحيا الجماعة لا المجتمع ويذكر أنه إبن الكون أجمع.
    التدين حالة وجود إلهية... خُلْقُه القرآن... أنت موصول بأجسادك السماوية وتتلقى معارف وإشارات إلهية من عوالم نورانية... أقل من هذا فهو ليس بتديّن... التدين رحلة جديّة وليس تمثيلية.
    اللهم تقبَّل منا هذا القربان... الحصاد كثير ولكنّ العمّال قليلون، فاسألوا ربّ الحصاد أن يرسل عمّال إلى حصاده...
    المستعدّ للعمَل، لجهاد النفْس سيرسل الله له حصاده... وحصاده ليس شيئاً يجنيه، بل خسارة حمولة ثقيلة وإزالة وزن ثقيل أتعبَه وعن رؤية الحقيقة حجَبَ نفْسَه. حصادك أن تخسَر نفْسك اللوامة لتتجلّى نفْسك الشفافة خاشعة مطمئنة فترى الوجود جميلاً إلهياً مقدساً، فهو لم يكُن قبيحاً تعيساً ونجِساً إلا بسببك... بسبب فكرك الذي تنظر عبر نافذته إلى الوجود.


    بشار عبدالله
    موقع بيت الصياد

    تعليق


    • #3
      حياك الله من جديد أخي الفاضل فرج
      وأهلاً وسهلاً بك

      تعليق


      • #4



















































































































        عشت وبوركت لعرض الموضوع ولعودتك من جديد اخي الفاضل
        فرج المطري وشكرا لك


        تعليق


        • #5
          ما أجملها من عودة وما أروعه من لقاء اشتقت لكم جميعا

          فكل الشكر والتقدير لكم جميعا علي بصيرتك ونوركم و علي تفاعلكم ومشاعركم الطيبة

          محبتي

          تعليق


          • #6
            عشت وبوركت لعرضك الموضوع ومرحبا بك ولعودتك يا اخي الفاضل فرج وشكرا لك

            تعليق


            • #7
              ماأجمله من موضوع صادق ومعبر
              تحياتي ...

              تعليق


              • #8
                سبحان الله
                بشار عبدالله صاير أصدق من التراث الذي بين أيدينا
                كلامه صحيح وما بين أيدينا هـــــــــــــــراءءءءءءء
                ــــــــــــــــــــــــ
                عموماً
                عوداً حميدا
                وأسفرت وأنورت
                ولا تزعل من النقد
                تحياتي يا غالي

                تعليق

                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                حفظ-تلقائي
                x

                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                صورة التسجيل تحديث الصورة

                اقرأ في منتديات يا حسين

                تقليص

                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
                استجابة 1
                10 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                بواسطة ibrahim aly awaly
                 
                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
                ردود 2
                12 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                بواسطة ibrahim aly awaly
                 
                يعمل...
                X