العقيدة بين تشيع العوام وتشيع الخواص - الحلقة الثانية
أسطرة الرمز!
تقدم فيما سبق الحديث عن بعض ملامح التشيع التقليدي (العوام) والتشيع النموذج (الخواص) ومواضع الافتراق .. ونحاول ان نكمل في هذه المقالة البحثية ما قد بدأناه من المقارنة بين هذين التشيعين..
إن مما يتسم به التشيع التقليدي الابتعاد عن التعقل في إيمانه بالأئمّة فيما يتصوره العوام من شخصية أسطورية وفوق بشرية للإمام، وكلما استغرق في الاسطورة وتحرك من موقع الخوارق والمعجزات التي تنقل عن الأئمّة إزداد إيمانه أكثر؛ مثلاً إيمانه بالإمام علي لا يرتكز على منطق عقلائي فيما يمثله الإمام من حق وعدالة وإيمان بالله، بل بما يسمع من مواقف خارقة وكرامات عجيبة من قبيل ولادته بالكعبة وردّ الشمس له وتكلمه مع الثعبان وحديثه مع الجن وما ورد في الروايات من قول الإمام أنا الأوّل أنا الآخر وأنا حملت سفينة نوح وأنقذت إبراهيم من النار! وأنا قسيم الجنّة والنار! وأنا القرآن كلّه والفاتحة كلها.. في البسملة والبسملة كلها وأنا النقطة تحت الباء!! وعشرات ومئات من الأقاويل التي لا تمثّل امتيازاً حقيقياً في الطبيعة البشرية للإمام علي الذي يكفي أنّ النبي قال في حقّه: «علي مع الحق والحق مع علي» وأنّه أبرز للبشرية النموذج الأكمل والمثال الأعلى للنزاهة والعدالة في الحكم وفي الوقت ذاته كان يعيش التحرق على المحرومين والدفاع عن المستضعفين وشدة الإيمان والتقوى والاخلاص لله والرسالة.
ومثال آخر قراءة العوام لنهضة الإمام الحسين، حيث تبتعد هذه القراءة عن النموذج العظيم الذي تركه الإمام الحسين للبشرية في دائرة التصدي لقوى الظلام والشر والانحراف وملامح التضحية في هذا السبيل بكل شيء وتستغرق في الجانب الغيبي منها، وكلما توغل الحسين وثورته في عالم الماورائيات أكثر ازداد إيمان العوام بهذا الإمام أكثر، من قبيل أنّ الحسين عندما ولد من بطن اُمه بكى عليه جدّه وأبيه واُمّه والملائكة والجن وأنّ ملكآ مكسور الجناح جاء إلى مهده وتمسح به ونال الشفاء وأن ملكآ كان يهزّ مهده وأنّ الجن بايعوه في كربلاء وأنّ رأسه كان يتكلّم على الرمح وأنّه بكت عليه السماء دماً، ولم يرفع حجر يوم عاشوراء إلا ووجد تحته دماً عبيطاً، وأنّ الحيوانات والوحوش تجتمع كل عام في مثل هذا اليوم للنياحة والبكاء على مصابه وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى، ولا تختص هذه الحالة بعوام الشيعة في الارتفاع بأهل البيت إلى مراتب غيبية وماورائية، بل نجد مثل هذه الموارد في العوام من كل دين ومذهب فيما يخص رموزهم الدينية والشخصيات المقدّسة لديهم والسبب في ذلك هو أنّ الناس لا يتحركون في دائرة الإيمان والتدين من موقع العقل غالباً لأنّهم يريدون من هذه الرموز الدينية أن تحقق لهم الانفتاح على عالم الغيب الذي يتحرك في وعي المتدين من خلال النموذج البشري الماورائي، فلا يمكن التوصل إلى الله إلا من خلال الإنسان الإلهي الذي تتجلى فيه صفات الاُلوهية التي تنتزعه من اُفقه المحدود وصفاته البشرية الضيقة، وهذه الحاجة النفسية لرموز دينية مقدسة متوفرة في تشيع الخواص أيضآ مع فارق أنّ الخواص وإن كانوا يؤمنون بأن الإمام أو النبي يملك صفات وحالات فوق بشرية بما يهبهم الله تعالى من مواهب روحية ومراتب معنوية، إلا أنّ إيمانهم بهم ليس نتاج هذه الكرامات والخوارق، بل لمجرّد دعوتهم الإنسانية ومواقفهم الرسالية في خط الإيمان والخير والعبودية لله تعالى.
النفعية والإخلاص!
وآخر ما نورده من ميزات لهذين النوعين من التشيع هو أنّ تشيع العوام ناظر إلى المنفعة وما يحققه الالتزام بأهل البيت وحبّهم وولايتهم من فوائد ومعطيات لهذا الفرد الشيعي، أي أنّ علاقته بأهل البيت مصلحته من أجل قضاء حوائجه الدنيوية والاُخروية كالشفاء من المرض وقضاء الحاجات والشفاعة وغير ذلك، بينما يتحرك الخواص في إيمانهم بأهل البيت من موقع ذوبانهم في الحق وعشقهم للإنسانية لا من موقع المصالح الشخصية، وربّما يتصور البعض أنّ كل إنسان يتحرك من موقع حبّ الذات حتى أكثر المؤمنين إخلاصآ وخلوصآ مع تفاوت في الدرجة لا في النوعية، أي الفارق بينهما كميّ لا كيفي، إلا أنّ التأمل في عمق هذه المسألة يظهر لنا سطحية هذا التصور، ففرق بين نافذة الوجدان والذات الأصيلة في الإنسان، فالأول مازال يعيش في عتمة الأنا الفردية ويريد الدين لحماية مصالحه الشخصية، والثاني قد خرج من أجواء الأنا إلى أجواء الحق وأذاب نفسه في الله، فهو ينظر إلى الإمام من هذه الزاوية ولا يريد منه شيئآ من أمور الدنيا والآخرة، بل يريد أن يعطي ويبذل من نفسه وماله كما أعطى الإمام وبذل في سبيل الله، وبعبارة أخرى يتخذ من الإمام اُسوة وقدوة في حركة الحياة ويريد أن يحاكيه في أعماله وسلوكياته كيما يحقق في نفسه الانسجام مع روح الإمام والتناسب مع شخصيته ويكون من شيعته على هذا الأساس، وعلى ضوء ذلك يكون حبّه للإمام أو النبي صادقاً ونابعاً من أعماق الذات لوجود انسجام في الروح والشخصية بينه وبين الإمام، ومعلوم أنّ هذا الانسجام هو الذي يحقق التجاذب بين شخصين، فالخيّر ينجذب للأخيار والشرير ينسجم مع الأشرار «والطيور على أشكالها تقع» كما يقول المثل.
ومن هنا نقول بأنّ تشيع الخواص يبدأ في حركته الإنسانية من الأعلى أي من الله من شدّة العلاقة العاطفية معه وترشحها على مفرداد العقيدة الاُخرى ا لنبوة والإمامة، وهذا هو ما نقرأه في الدعاء: «اللّهم عرفني نفسک فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهم عرفني رسولك فإنّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف وليك...» بينمايبدأ العوام في حركتهم الإيمانية من الأسفل إلى الأعلى فيتصل بالإمام أولاً ليوصله إلى الله، ويتعرف على الإمام أوّلاً ليعرفه بالله، وهذا الاتصال بالإمام ومعرفته لا يقوم على أساس الانسجام المنطقي في البعد العقلاني للالتزام بالرمز، بل ـ كما قلنا ـ يقوم على أساس الخوارق والحالات الغيبية التي لا تمثّل بعداً عقلائياً في تبرير الإيمان، لأنّ القوة الخيالية تتسع وتنمو في هؤلاء على حساب القوّة العقلية، فيؤمن بالإمام أولاً، ثم يفكر ثانياً، فإذا جاء الفكر على الضد من الإيمان ألقى الفكر جانباً والتزم بالإمام، فلو قلنا مثلاً للعوام من المسيحيين كيف تؤمن بأنّ المسيح ابن الله، أو أنّ الخمر في العشاء الرباني هو دم المسيح والخبز هو لحمه؟ فسوف يقول إنّ هذه من أمورالغيب التي لا تدركها عقولنا ونحن نؤمن بها وإن لم نجد مبررات معقولة! أو مثلاً لو قلنا للسني: كيف يكون جميع الصحابة عدول وهم قد اختلفوا فيما بينهم حتى وصل الأمر بينهم إلى حدّ الاقتتال كما في الحرب الجمل وكان أحدهم يكفر الآخر ويلعنه بل قد لعن القرآن بعضهم وسماهم بالمنافقين؟ فسوف يقول: لا ينبغي لنا التدخل في هذه الأمور من موقع التحقيق والنقد بل يجب الإيمان بهذه الحقيقة بدون تأكد! ولو قلنا لأحد العوام من الشيعة كيف تعتقد بأن التطبير وضرب السلاسل وإلحاق الأذى بالبدن من خلال المشي مئات الكيلومترات لزيارة مرقد الإمام، يوجب لك الشفاعة غداً وما هي العلاقة بين التطبير واحياء نهضة الإمام الحسين، أو العلاقة بين اللطم وبين الشفاعة؟ ولماذا لا تطلب حاجاتك من الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد وتطلبها من الإمام الذي مات قبل أكثر من ألف عام؟ فسوف ينظر إليك شزرآ وربّما قال في نفسه:يالك من وهابي ليئم!
التقليد والتحقيق!
وفي مثل هذا التشيع تكون العقيدة الذهنية المستوحاة من المحيط والاُسرة هي المحور للحق والنجاة في الآخرة بينما يكون العمل الصالح هم المعيار للمعاينة والنجاة في تشيع الخواص، ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان القلب صالحاً وسليماً، ومن هنا يهتم الخواص من الشيعة بتطهير القلب والتحرك في خط الفضائل والأخلاق والاهتمام بخدمة الآخرين وقضاء حاجاتهم والتخفيف من معاناتهم، فكل من كان سليم القلب من النوازع الشريرة ويتحرك في حياته وتعامله مع الغير من موقع الحبّ والشفقة والصدق فهو على حق ومن أهل النجاة و إن لم يكن شيعيآ في الفكر والمعتقد، لأنّ العقيدة ليست هي الهدف والملاك في النجاة والسعادة في الآخرة كما هو السائد في تشيع العوام، بل هي وسيلة لتحقيق وتقوية عنصر الخير في واقع الإنسان أي أنّ العقيدة الذهنية ما لم تتحول إلى عنصر وجودي خيّر في واقع الإنسان وروحه، وما لم تنقل الإنسان من أجواء الذات والأنانية والمصالح الشخصية إلى أجواء الفضيلة وحبّ الإنسانية، فسوف تتحول إلى حقائق محنطة في الذهن تفرض على الإنسان الالتزام بالقشور دون التحلي بالمضمون ومعلوم أنّ التحلي بالمضمون وسلوك طريق الالتزام الحقيقي بالقيم التي دعا لها أهل البيت يستلزم الحركة في خط المسؤولية والانفتاح على الرسالة من موقع العمق الوجداني والسير ضد التيار أحياناً وضد الأهواء والاعتباريات والعناوين، بينما لا يكلّف تشيع العوام صاحبه أكثر من القناعة بالمعتقد والاكتفاء بما سمعه من الآباء والمحيط الاجتماعي من وجود الله والنبي واثني عشر إماماً معصوماً يشفعون له يوم القيامة مع ممارسة الشعائر والاستمرار في توليهم والتبري من أعدائهم على مستوى اللفظ والفكرة فحسب، أي لا يطلب منه تغيير محتواه وباطنه ولا تغيير المجتمع وتحمل مسؤولية إصلاح أشكال الخلل في العقائد والافكار والسلوكيات، لأنّ المفروض أنّه على حق وأنّ المجتمع الذي يعيش فيه على حق في الدين والعقيدة فلا يرى مشكلة في هذا المجال لأنّه يسير مع التيار ومذهبه يتطابق مع مذهب عامة الناس وسلوكه مع سلوكهم، بل يستوحي كونه على حق من مشابهة معتقده لمعتقدات سائر الناس، فدين الناس هو المعيار للحق والباطل، وبما أنّ تشيع مثل هذا الشخص يمثّل هويته الشخصية، وتقدم أنّ الهوية مقتبسة من المحيط والتلازم مع البيئة، فلذلك يخاف من أي تغيير يحصل في عقائد الناس حيث يؤثر على عقيدته هو، ومن هنا نرى المشايخ يخافون الأفكار الجديدة وحالات النقد لبعض مظاهر الانحراف الديني خوفآ منهم على عقائد العوام، وفي الحقيقة يخافون على عقائدهم من الاهتزاز والتزلزل لأنّها مرتبطة بعقيدة العوام ولا تملك استقلالاً في الوعي أو ثباتاً في الذات، وهذا هو حال دين الهوية الجمعية.
ومن ذلك نعلم لماذا يعيش الخواص القلّة والغربة والتفرد والمعاناة في حركة الحياة، فالتشيع الحقيقي يطلب من صاحبه أن يعيش كأبي ذر في مواجهة الانحراف والزيغ بكل أشكاله وألوانه ولا يقنع بالاسم والانتماء والعقيدة الصحيحة.
إلى هنا تبيّن أنّ التشيع التقليدي مدخل في اللاعقلانية والتبعية في الفكر والمعتقد ولا يلبّي حاجات الإنسان الروحية إلى المعنوية والقيم الأخلاقية وبعبارة أخرى أنّ هذا النمط من التدين لا عقلاني وغير واقعي، وغير نافع، ومضر بعكس التشيع الوجداني الذي يتسم بكونه عقلانياً وواقعياً ونافعاً للإنسان على جميع المستويات أمّا كون التشيع التقليدي غير عقلاني فلأنّه لا معنى للقول بأنّ من يعتقد بأنّ الإمام علي هو الاُولى بالخلافة بعد النبي وأنّ عدد الأئمّة اثنا عشر فإنّه من أهل النجاة والسعادة في الآخرة، ولا معنى لأن يلطم الإنسان على الحسين أو يقيم مجالس البكاء والنياحة ويكون من أهل النجاة والسعادة أو يلعن الخلفاء الغاصبين حق أهل البيت ويكون من أهل النجاة والسعادة من جهة أنّ كل هذه الأمور لا ربط لها من ناحية منطقية مع طبيعة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، نعم قد تمارس النفس «الأنا» تغطية لا شعورية على العقل فيما توحيه إلى الإنسان بأنّ سينال الشفاعة في الآخرة وأنّ الله قد رضي عنه بهذه الأعمال الدينية، إلا أنّ أدنى تأمل في هذه المسألة يكشف زيف هذا الايحاء والتلقين الوهمي ويعيد ذلك السؤال أيضاً، فأي علاقة بين هذه الأعمال وبين الشفاعة ورضى الله تعالى؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ اللاعقلانية في تشيع العوام تتحرك من خلال قيام هذا الشيعي بتجميد عقله والتبعية المطلقة للموروث الديني ولمايقول المشايخ وأصحاب المنابر دون العمل على غربلته وتمحيصه لمعرفة الصواب عن الخطأ والحق من الباطل، بل إنّه يلبس هذه التبعية وتجميد العقل لباسآ شرعيآ ويسميه بـ «التقليد»، في حين أنّ «تشيع الخواص» يتمتع بالعقلانية في الرؤية وفي المنهج والسلوك، فالتشيع للإمام علي لا يعني الاعتقاد بأنّه الخليفة الأوّل بعد النبي ولا حقانيته بالخلافة والرئاسة الدينوية، بل بمعنى الإمام الذي تقتدي به في طريق الحق والعدالة والإيمان والانفتاح على الله والفضيلة، والتشيع للإمام الحسين لا يعني إقامة مآتم البكاء والنياحة واللطم على مصابه أو شج الرؤوس والمشي مئات الكيلومترات لزيارته، بل الاستلهام من نهضته في سبيل اعلاء كلمة الحق وعدم الخضوع لقوى الزيف والانحراف في واقع الحياة والمجتمع، والإيمان بالمهدي لا يعني التسليم لكل من يرفع لواء النيابة عن الإمام وتقليده والإذعان لأوامره في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية وتسليمه الحقوق الشرعية وما إلى ذلك ممّا يعيشه الشيعة من أشكال التبعية والاستبداد الديني والسياسي، بل يعني الأمل بالغد المشرق وحالة الانتظار الإيجابي الفعّال لظهور معالم العدالة وسيادة المعنوية والفضيلة في المجتمع البشري.
أمّا كون التشيع التقليدي غير واقعي فمن جهة كونه لا ينطلق من إيمانه بأهل البيت من موقع فكري ولا يقوم على أساس واقعي بل على أساس المعجزات والموهومات والحاجات النفسية وتلقين المحيط الاجتماعي الذي يلبس الأوهام ثياب الحقائق، ولهذا تسود في أجواء الشيعة الخرافات والتمسك بالخيالات والمنامات والتصديق بالاساطير والغيبيات من قبيل تصديقهم بحضور الزهراء في مجالس العزاء! أو حضور المهدي في مجلس فلان من السادة حيث يقوم على سجادة للصلاة ويصلي هو وجميع الحضور خلفه على أساس أنّ الإمام المهدي يصلي عليها من حيث لا يرونه أو الاعتقاد بالحوبة وأنّ السيد «يشوّر» أي يلاقي المسيء إليه جزاءه الفوري باشدّ ما يكون الجزاء والعقوبة!! بينما لا يؤمن الشيعي من الخواص بأي من هذه المقولات والموهومات بل يبني إيمانه على أساس معطيات الواقع والعقل.
أحمد القبانجي
http://www.alwjdan.org/index.php?opt...-21&Itemid=459
أسطرة الرمز!
تقدم فيما سبق الحديث عن بعض ملامح التشيع التقليدي (العوام) والتشيع النموذج (الخواص) ومواضع الافتراق .. ونحاول ان نكمل في هذه المقالة البحثية ما قد بدأناه من المقارنة بين هذين التشيعين..
إن مما يتسم به التشيع التقليدي الابتعاد عن التعقل في إيمانه بالأئمّة فيما يتصوره العوام من شخصية أسطورية وفوق بشرية للإمام، وكلما استغرق في الاسطورة وتحرك من موقع الخوارق والمعجزات التي تنقل عن الأئمّة إزداد إيمانه أكثر؛ مثلاً إيمانه بالإمام علي لا يرتكز على منطق عقلائي فيما يمثله الإمام من حق وعدالة وإيمان بالله، بل بما يسمع من مواقف خارقة وكرامات عجيبة من قبيل ولادته بالكعبة وردّ الشمس له وتكلمه مع الثعبان وحديثه مع الجن وما ورد في الروايات من قول الإمام أنا الأوّل أنا الآخر وأنا حملت سفينة نوح وأنقذت إبراهيم من النار! وأنا قسيم الجنّة والنار! وأنا القرآن كلّه والفاتحة كلها.. في البسملة والبسملة كلها وأنا النقطة تحت الباء!! وعشرات ومئات من الأقاويل التي لا تمثّل امتيازاً حقيقياً في الطبيعة البشرية للإمام علي الذي يكفي أنّ النبي قال في حقّه: «علي مع الحق والحق مع علي» وأنّه أبرز للبشرية النموذج الأكمل والمثال الأعلى للنزاهة والعدالة في الحكم وفي الوقت ذاته كان يعيش التحرق على المحرومين والدفاع عن المستضعفين وشدة الإيمان والتقوى والاخلاص لله والرسالة.
ومثال آخر قراءة العوام لنهضة الإمام الحسين، حيث تبتعد هذه القراءة عن النموذج العظيم الذي تركه الإمام الحسين للبشرية في دائرة التصدي لقوى الظلام والشر والانحراف وملامح التضحية في هذا السبيل بكل شيء وتستغرق في الجانب الغيبي منها، وكلما توغل الحسين وثورته في عالم الماورائيات أكثر ازداد إيمان العوام بهذا الإمام أكثر، من قبيل أنّ الحسين عندما ولد من بطن اُمه بكى عليه جدّه وأبيه واُمّه والملائكة والجن وأنّ ملكآ مكسور الجناح جاء إلى مهده وتمسح به ونال الشفاء وأن ملكآ كان يهزّ مهده وأنّ الجن بايعوه في كربلاء وأنّ رأسه كان يتكلّم على الرمح وأنّه بكت عليه السماء دماً، ولم يرفع حجر يوم عاشوراء إلا ووجد تحته دماً عبيطاً، وأنّ الحيوانات والوحوش تجتمع كل عام في مثل هذا اليوم للنياحة والبكاء على مصابه وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى، ولا تختص هذه الحالة بعوام الشيعة في الارتفاع بأهل البيت إلى مراتب غيبية وماورائية، بل نجد مثل هذه الموارد في العوام من كل دين ومذهب فيما يخص رموزهم الدينية والشخصيات المقدّسة لديهم والسبب في ذلك هو أنّ الناس لا يتحركون في دائرة الإيمان والتدين من موقع العقل غالباً لأنّهم يريدون من هذه الرموز الدينية أن تحقق لهم الانفتاح على عالم الغيب الذي يتحرك في وعي المتدين من خلال النموذج البشري الماورائي، فلا يمكن التوصل إلى الله إلا من خلال الإنسان الإلهي الذي تتجلى فيه صفات الاُلوهية التي تنتزعه من اُفقه المحدود وصفاته البشرية الضيقة، وهذه الحاجة النفسية لرموز دينية مقدسة متوفرة في تشيع الخواص أيضآ مع فارق أنّ الخواص وإن كانوا يؤمنون بأن الإمام أو النبي يملك صفات وحالات فوق بشرية بما يهبهم الله تعالى من مواهب روحية ومراتب معنوية، إلا أنّ إيمانهم بهم ليس نتاج هذه الكرامات والخوارق، بل لمجرّد دعوتهم الإنسانية ومواقفهم الرسالية في خط الإيمان والخير والعبودية لله تعالى.
النفعية والإخلاص!
وآخر ما نورده من ميزات لهذين النوعين من التشيع هو أنّ تشيع العوام ناظر إلى المنفعة وما يحققه الالتزام بأهل البيت وحبّهم وولايتهم من فوائد ومعطيات لهذا الفرد الشيعي، أي أنّ علاقته بأهل البيت مصلحته من أجل قضاء حوائجه الدنيوية والاُخروية كالشفاء من المرض وقضاء الحاجات والشفاعة وغير ذلك، بينما يتحرك الخواص في إيمانهم بأهل البيت من موقع ذوبانهم في الحق وعشقهم للإنسانية لا من موقع المصالح الشخصية، وربّما يتصور البعض أنّ كل إنسان يتحرك من موقع حبّ الذات حتى أكثر المؤمنين إخلاصآ وخلوصآ مع تفاوت في الدرجة لا في النوعية، أي الفارق بينهما كميّ لا كيفي، إلا أنّ التأمل في عمق هذه المسألة يظهر لنا سطحية هذا التصور، ففرق بين نافذة الوجدان والذات الأصيلة في الإنسان، فالأول مازال يعيش في عتمة الأنا الفردية ويريد الدين لحماية مصالحه الشخصية، والثاني قد خرج من أجواء الأنا إلى أجواء الحق وأذاب نفسه في الله، فهو ينظر إلى الإمام من هذه الزاوية ولا يريد منه شيئآ من أمور الدنيا والآخرة، بل يريد أن يعطي ويبذل من نفسه وماله كما أعطى الإمام وبذل في سبيل الله، وبعبارة أخرى يتخذ من الإمام اُسوة وقدوة في حركة الحياة ويريد أن يحاكيه في أعماله وسلوكياته كيما يحقق في نفسه الانسجام مع روح الإمام والتناسب مع شخصيته ويكون من شيعته على هذا الأساس، وعلى ضوء ذلك يكون حبّه للإمام أو النبي صادقاً ونابعاً من أعماق الذات لوجود انسجام في الروح والشخصية بينه وبين الإمام، ومعلوم أنّ هذا الانسجام هو الذي يحقق التجاذب بين شخصين، فالخيّر ينجذب للأخيار والشرير ينسجم مع الأشرار «والطيور على أشكالها تقع» كما يقول المثل.
ومن هنا نقول بأنّ تشيع الخواص يبدأ في حركته الإنسانية من الأعلى أي من الله من شدّة العلاقة العاطفية معه وترشحها على مفرداد العقيدة الاُخرى ا لنبوة والإمامة، وهذا هو ما نقرأه في الدعاء: «اللّهم عرفني نفسک فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهم عرفني رسولك فإنّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف وليك...» بينمايبدأ العوام في حركتهم الإيمانية من الأسفل إلى الأعلى فيتصل بالإمام أولاً ليوصله إلى الله، ويتعرف على الإمام أوّلاً ليعرفه بالله، وهذا الاتصال بالإمام ومعرفته لا يقوم على أساس الانسجام المنطقي في البعد العقلاني للالتزام بالرمز، بل ـ كما قلنا ـ يقوم على أساس الخوارق والحالات الغيبية التي لا تمثّل بعداً عقلائياً في تبرير الإيمان، لأنّ القوة الخيالية تتسع وتنمو في هؤلاء على حساب القوّة العقلية، فيؤمن بالإمام أولاً، ثم يفكر ثانياً، فإذا جاء الفكر على الضد من الإيمان ألقى الفكر جانباً والتزم بالإمام، فلو قلنا مثلاً للعوام من المسيحيين كيف تؤمن بأنّ المسيح ابن الله، أو أنّ الخمر في العشاء الرباني هو دم المسيح والخبز هو لحمه؟ فسوف يقول إنّ هذه من أمورالغيب التي لا تدركها عقولنا ونحن نؤمن بها وإن لم نجد مبررات معقولة! أو مثلاً لو قلنا للسني: كيف يكون جميع الصحابة عدول وهم قد اختلفوا فيما بينهم حتى وصل الأمر بينهم إلى حدّ الاقتتال كما في الحرب الجمل وكان أحدهم يكفر الآخر ويلعنه بل قد لعن القرآن بعضهم وسماهم بالمنافقين؟ فسوف يقول: لا ينبغي لنا التدخل في هذه الأمور من موقع التحقيق والنقد بل يجب الإيمان بهذه الحقيقة بدون تأكد! ولو قلنا لأحد العوام من الشيعة كيف تعتقد بأن التطبير وضرب السلاسل وإلحاق الأذى بالبدن من خلال المشي مئات الكيلومترات لزيارة مرقد الإمام، يوجب لك الشفاعة غداً وما هي العلاقة بين التطبير واحياء نهضة الإمام الحسين، أو العلاقة بين اللطم وبين الشفاعة؟ ولماذا لا تطلب حاجاتك من الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد وتطلبها من الإمام الذي مات قبل أكثر من ألف عام؟ فسوف ينظر إليك شزرآ وربّما قال في نفسه:يالك من وهابي ليئم!
التقليد والتحقيق!
وفي مثل هذا التشيع تكون العقيدة الذهنية المستوحاة من المحيط والاُسرة هي المحور للحق والنجاة في الآخرة بينما يكون العمل الصالح هم المعيار للمعاينة والنجاة في تشيع الخواص، ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان القلب صالحاً وسليماً، ومن هنا يهتم الخواص من الشيعة بتطهير القلب والتحرك في خط الفضائل والأخلاق والاهتمام بخدمة الآخرين وقضاء حاجاتهم والتخفيف من معاناتهم، فكل من كان سليم القلب من النوازع الشريرة ويتحرك في حياته وتعامله مع الغير من موقع الحبّ والشفقة والصدق فهو على حق ومن أهل النجاة و إن لم يكن شيعيآ في الفكر والمعتقد، لأنّ العقيدة ليست هي الهدف والملاك في النجاة والسعادة في الآخرة كما هو السائد في تشيع العوام، بل هي وسيلة لتحقيق وتقوية عنصر الخير في واقع الإنسان أي أنّ العقيدة الذهنية ما لم تتحول إلى عنصر وجودي خيّر في واقع الإنسان وروحه، وما لم تنقل الإنسان من أجواء الذات والأنانية والمصالح الشخصية إلى أجواء الفضيلة وحبّ الإنسانية، فسوف تتحول إلى حقائق محنطة في الذهن تفرض على الإنسان الالتزام بالقشور دون التحلي بالمضمون ومعلوم أنّ التحلي بالمضمون وسلوك طريق الالتزام الحقيقي بالقيم التي دعا لها أهل البيت يستلزم الحركة في خط المسؤولية والانفتاح على الرسالة من موقع العمق الوجداني والسير ضد التيار أحياناً وضد الأهواء والاعتباريات والعناوين، بينما لا يكلّف تشيع العوام صاحبه أكثر من القناعة بالمعتقد والاكتفاء بما سمعه من الآباء والمحيط الاجتماعي من وجود الله والنبي واثني عشر إماماً معصوماً يشفعون له يوم القيامة مع ممارسة الشعائر والاستمرار في توليهم والتبري من أعدائهم على مستوى اللفظ والفكرة فحسب، أي لا يطلب منه تغيير محتواه وباطنه ولا تغيير المجتمع وتحمل مسؤولية إصلاح أشكال الخلل في العقائد والافكار والسلوكيات، لأنّ المفروض أنّه على حق وأنّ المجتمع الذي يعيش فيه على حق في الدين والعقيدة فلا يرى مشكلة في هذا المجال لأنّه يسير مع التيار ومذهبه يتطابق مع مذهب عامة الناس وسلوكه مع سلوكهم، بل يستوحي كونه على حق من مشابهة معتقده لمعتقدات سائر الناس، فدين الناس هو المعيار للحق والباطل، وبما أنّ تشيع مثل هذا الشخص يمثّل هويته الشخصية، وتقدم أنّ الهوية مقتبسة من المحيط والتلازم مع البيئة، فلذلك يخاف من أي تغيير يحصل في عقائد الناس حيث يؤثر على عقيدته هو، ومن هنا نرى المشايخ يخافون الأفكار الجديدة وحالات النقد لبعض مظاهر الانحراف الديني خوفآ منهم على عقائد العوام، وفي الحقيقة يخافون على عقائدهم من الاهتزاز والتزلزل لأنّها مرتبطة بعقيدة العوام ولا تملك استقلالاً في الوعي أو ثباتاً في الذات، وهذا هو حال دين الهوية الجمعية.
ومن ذلك نعلم لماذا يعيش الخواص القلّة والغربة والتفرد والمعاناة في حركة الحياة، فالتشيع الحقيقي يطلب من صاحبه أن يعيش كأبي ذر في مواجهة الانحراف والزيغ بكل أشكاله وألوانه ولا يقنع بالاسم والانتماء والعقيدة الصحيحة.
إلى هنا تبيّن أنّ التشيع التقليدي مدخل في اللاعقلانية والتبعية في الفكر والمعتقد ولا يلبّي حاجات الإنسان الروحية إلى المعنوية والقيم الأخلاقية وبعبارة أخرى أنّ هذا النمط من التدين لا عقلاني وغير واقعي، وغير نافع، ومضر بعكس التشيع الوجداني الذي يتسم بكونه عقلانياً وواقعياً ونافعاً للإنسان على جميع المستويات أمّا كون التشيع التقليدي غير عقلاني فلأنّه لا معنى للقول بأنّ من يعتقد بأنّ الإمام علي هو الاُولى بالخلافة بعد النبي وأنّ عدد الأئمّة اثنا عشر فإنّه من أهل النجاة والسعادة في الآخرة، ولا معنى لأن يلطم الإنسان على الحسين أو يقيم مجالس البكاء والنياحة ويكون من أهل النجاة والسعادة أو يلعن الخلفاء الغاصبين حق أهل البيت ويكون من أهل النجاة والسعادة من جهة أنّ كل هذه الأمور لا ربط لها من ناحية منطقية مع طبيعة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، نعم قد تمارس النفس «الأنا» تغطية لا شعورية على العقل فيما توحيه إلى الإنسان بأنّ سينال الشفاعة في الآخرة وأنّ الله قد رضي عنه بهذه الأعمال الدينية، إلا أنّ أدنى تأمل في هذه المسألة يكشف زيف هذا الايحاء والتلقين الوهمي ويعيد ذلك السؤال أيضاً، فأي علاقة بين هذه الأعمال وبين الشفاعة ورضى الله تعالى؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ اللاعقلانية في تشيع العوام تتحرك من خلال قيام هذا الشيعي بتجميد عقله والتبعية المطلقة للموروث الديني ولمايقول المشايخ وأصحاب المنابر دون العمل على غربلته وتمحيصه لمعرفة الصواب عن الخطأ والحق من الباطل، بل إنّه يلبس هذه التبعية وتجميد العقل لباسآ شرعيآ ويسميه بـ «التقليد»، في حين أنّ «تشيع الخواص» يتمتع بالعقلانية في الرؤية وفي المنهج والسلوك، فالتشيع للإمام علي لا يعني الاعتقاد بأنّه الخليفة الأوّل بعد النبي ولا حقانيته بالخلافة والرئاسة الدينوية، بل بمعنى الإمام الذي تقتدي به في طريق الحق والعدالة والإيمان والانفتاح على الله والفضيلة، والتشيع للإمام الحسين لا يعني إقامة مآتم البكاء والنياحة واللطم على مصابه أو شج الرؤوس والمشي مئات الكيلومترات لزيارته، بل الاستلهام من نهضته في سبيل اعلاء كلمة الحق وعدم الخضوع لقوى الزيف والانحراف في واقع الحياة والمجتمع، والإيمان بالمهدي لا يعني التسليم لكل من يرفع لواء النيابة عن الإمام وتقليده والإذعان لأوامره في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية وتسليمه الحقوق الشرعية وما إلى ذلك ممّا يعيشه الشيعة من أشكال التبعية والاستبداد الديني والسياسي، بل يعني الأمل بالغد المشرق وحالة الانتظار الإيجابي الفعّال لظهور معالم العدالة وسيادة المعنوية والفضيلة في المجتمع البشري.
أمّا كون التشيع التقليدي غير واقعي فمن جهة كونه لا ينطلق من إيمانه بأهل البيت من موقع فكري ولا يقوم على أساس واقعي بل على أساس المعجزات والموهومات والحاجات النفسية وتلقين المحيط الاجتماعي الذي يلبس الأوهام ثياب الحقائق، ولهذا تسود في أجواء الشيعة الخرافات والتمسك بالخيالات والمنامات والتصديق بالاساطير والغيبيات من قبيل تصديقهم بحضور الزهراء في مجالس العزاء! أو حضور المهدي في مجلس فلان من السادة حيث يقوم على سجادة للصلاة ويصلي هو وجميع الحضور خلفه على أساس أنّ الإمام المهدي يصلي عليها من حيث لا يرونه أو الاعتقاد بالحوبة وأنّ السيد «يشوّر» أي يلاقي المسيء إليه جزاءه الفوري باشدّ ما يكون الجزاء والعقوبة!! بينما لا يؤمن الشيعي من الخواص بأي من هذه المقولات والموهومات بل يبني إيمانه على أساس معطيات الواقع والعقل.
أحمد القبانجي
http://www.alwjdan.org/index.php?opt...-21&Itemid=459
تعليق