إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مدمج : مواضيع الشيخ ياسر الحبيب ..

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مدمج : مواضيع الشيخ ياسر الحبيب ..

    تقرير لمحاضرة الشيخ الحبيب بعنوان: (تحرير الإنسان الشيعي) - الحلقة الأولى



    اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
    القول مني في جميع الاشياء قول آل محمد عليهم السلام فيما اسروا وما اعلنوا وفي مابلغني عنهم ومالم يبلغني

    الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة وازكى السلام على المبعوث رحمة للخلائق اجمين سيدنا المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم وظالميهم وجاحدي أمامتهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين .. آمين .

    (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه و اتبعوا النور الذي أُنزل معه اولائك هم المفلحون)
    إنّ هذه الاية الكريمة من اروع آيات القرآن الحكيم وكل آيات القرآن رائعة. إنها ترسم لنا معالم الحركة النبوية الخاتمة. تلك الحركه التي بشر بها الانبياء السابقون عليهم السلام وجعلوا الامم تترقبها كما تترقب الشمس حينما يبزغ نورها ليشق الظلام لأنه الرسول الأُمي أي المكي الذي يشع اسمه صريحا في التوراة و الإنجيل غير المُحرفين, وهو الرسول الذي تكون معالم حركته بحسب مابشرت به تلك الكتب المقدسه ثلاثة معالم

    1ـ أنّه يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر فكل مافيه ارتقاؤهم وتكاملهم يكون هذا الرسول دائم الدعوة له أمرا ونهيا و ترغيبا وترهيبا حتى يعالج المرضى من حوله, غيرَ مُنتظر لأن يأتوه بل يأتيهم هو ويدور عليهم كما وصفه أمير المؤمنين صلوات الله عليه بقوله (طبيب دوّارٌ بطبه) صلوات الله عليه و اله. هذا أولا.
    2_ أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فيُطيّب بذلك نفوسهم و ارواحهم وعقولهم و ابدانهم حتى يبين لهم أي غذاء يطلبون سواءا كان غذاءا للنفس او الروح او العقل او البدن حتى يتجنبوا الغذاء الخبيث و الدواخل الخبيثه التي تُخبّث نفوسهم وارواحهم وعقولهم و ابدانهم , ومن تلك الطيبات ولعله رأسها أخذ العلم من أهله ومن تلك الخبائث ولعله ايضا رأسها قول من خالف كما جاء في الحديث الشريف عن الامام الباقر صلوات الله عليه. هذا ثانيا
    3_ أنه يضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم. الإصر هو الثقل الذي يأصِرُ صاحبه أي يحبسه عن الحركة بسبب ثقله كما تُؤصَر السفيه حينما تضع اثقالها في قاع البحر. أما الاغلال فهي جمع غل وهي القيود التي يُغل بها المرء في رقبته و في يده كسلاسل من حديد مثلا فتجعله ذليلا أسيرا سجين هذه الآصار والأغلال التي جاء هذا الرسول الخاتم صلوات الله عليه واله لفكها ووضعها عن ظهور و اعناق الناس حتى يجعلهم احرارا يعيشون الحرية, يتنفسون هواء الحرية, والحرية هي أن تكون عبدا لله وحده لا لغيره كما قال أمير البلاغة عليه السلام (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا), سواءا كان ذلك الغير شيطانا أم وثنا ام سلطانا ام حكومة ام حزبا ام دنيا ام شهوةً ام غير ذلك. الحريه هي أن تعبد الله وتكون عبداً له وحده (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا), الحرية هي أن تكون مسقوفا بقوانين السماء لا الارض ,كما أنك حين تمشي تكون مسقوفا بالسماء لا الارض, و إلا اذا كنت تمشي ببدنك هكذا ولكنك تمشي بسلوكك بالعكس بأن تمضي على قوانين الارض الوضعيه الجاهليه فتؤثِر قوانين الارض على قوانين السماء فأنت بهذا تكون مسقوفا بالارض لا بالسماء , تجعل الارض سقفا على رأسك كمن يمشي منكوسا على رأسه مُكبَا على وجهه (أفمن يمشي مُكبّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم). لا عليك إن كان غيرك منكوسا هكذا. لا عليك إن كانت الاكثرية تمضي هكذا.
    كن أنت حرا و إن استلزم ذلك أن تكون غريبا وسط هذا الخلق المنكوس اي المقلوب. لقد قال سيدنا ومولانا باقر علوم النبيين صلوات الله عليه( المؤمن في هذه الدنيا غريب وفي هذا الخَلق المنكوس حتى يخرج من هذه الدار الى الاخرة )
    الذين يؤمنون بهذه الحرية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه و اله و بشر بها الانبياء عليهم السلام, الذين يؤمنون بهذه الحرية فبايعوا النبي صلى الله عليه واله و آزروه أي عضدوه و أعانوه, و عزّروه أي عظّموه ونصروه ببذل المُهج دونه و آمنوا بالنور الذي أُنزل معه وهو علي والأئمة من وُلده عليهم السلام كما جاء في الاحاديث الشريفة, هؤلاء هم الاحرار و هم المفلحون. يُفلحون في الدنيا والاخرة, يكونون احرارا في الدنيا والاخرة, يكونون سادة في الدنيا والاخرة, هل نحن كذلك؟
    أحسب أكثرنا غافلين غير مستشعرين أن السيادة لغيرنا, وأن العلو لغيرنا, ومانحن في وسط و في خضم الأمم بشيء.
    كيف لا ؟ ولا تزال مقدساتنا مدمرة محتلة كما في البقيع مثلا كيف لا؟ ونحن لا نزال نُقتل ونٌعذب ونُضطهد ونُستباح!
    كيف لا؟ ونحن لا نملك أزمّة الأمور في بلادنا ويسودنا غيرنا!

    كيف لا؟ وكيف وكيف.. ولا أظن أني بحاجة لأعدد صور واقعنا الأليم, و أكثر مايؤلم فيه أننا استمرأناه وهضمناه وتكيفنا معه حتى صار عندنا هذا الواقع عاديا طبيعيا لا نتطلع الى تغييره بل إذا دعى أحد منا الى تغييره رمقته نظرات الاستهجان وسلقته ألسنة حداد وكأنه يدعو إلى تبديل الفطرة. مثلا ما الذي جعلنا نستعذب العذاب والهوان؟ انها تلك الآصار والأغلال التي قيّدنا بها انفسنا وحرمنا بها انفسنا من الحرية والسيادة.
    أثقالٌ من الماضي ورثناها بغفلة عن انها ليست بواجبة ولا محتومة علينا, بل و رثناها إما لقصورا أو تقصير ممن سلف وها نحن بدلا من أن نزيحها عن طريق استعلائنا ونهضتنا كما دلتنا عليه تعاليم نبينا وأئمتنا عليهم السلام, فإننا بدلا من ذلك نورثها لمن يخلُفنا من اجيال ليبقى هذا الانسان الشيعي أبد الدهر مغلولا مأصورا مظلوما مغبونا محروما من حقوقه, يُداس على كرامته ويطلب منه مع ذلك أن يفرح ويبتهج.
    كلا بيني وبين الله تعالى لا أجد نفسي مفروغ الذمة إن شاركت في بقاء هذا. لن اقبل في بقاء الانسان الشيعي سجينا بأفكار ومفاهيم مغلوطة ما أنزل الله بها من سلطان فتتعطل طاقاته الجبارة او تتبدد في ما لا طائل من ورائه فتضيع هذه الفرصة الحضارية العظيمة التي لو انتهزتها الأمة الشيعية لاستعادت السيادة على هذا العالم ولقرّبت حتما من اليوم الموعود حيث يظهر مهدي آل محمد صلوات الله عليهم ليقيم دولة الحق والعدل وليملأ الدنيا قسطا وعدلا بعدما مُلئت ظلما وجورا. ألا ليت قومي يعلمون, ليتهم يعلمون أننا على مقربة من عالم يكون فيه الانسان الشيعي سيد نفسه حرا مقتدرا عزيزا لا يعلو عليه احد. إننا على مقربة من هذا العالم, لماذا؟ لأنّ مفاتيح تكوّنه بأيدينا و قد جاءت بها تعاليم أئمتنا عليهم السلام. نحن على مقربة منه لأنه مضافا الى ذلك فإنّ هذا العالم الحالي يعيش مخاضا رائعا تندك فيه الحضارات بعضها ببعض وتتطاحن فيه القوى وتموج فيه التيارات, ومع ذا كله هو مخاض رائع لأنه لا محال سيفضي الى تشكيل عالم جديد يخضع فيه الجميع للأقوى والاعز و الاعلى كما هو الحال في كل مرحلة اندكاك حضاري من مراحل التاريخ الانساني, و إذا أدركنا أننا الاقوى والأعز والاعلى, أو قل اذا اكتشفنا حقيقة ماينطوي عليه تراثنا الحضاري من هذه المقومات التي تؤدي الى ذلك التقدم, المقومات المؤدية الى أن نكون الاقوى والاعز والاعلى, أذا اكتشفنا حقيقة مانمتلكه من موارد هائلة وطاقات جبارة, أذا أدركنا ذلك و اكتشفنا ذلك ثم دخلنا هذا المخاض الحضاري بطموح وعزم وثبات فإنّ النتيجة لا محالة ستكون لصالحنا. أن لم نغدُ بُعيدَ انتهاء المخاض القوة الاولى فلا اقل من أنْ نحجز لأنفسنا مقعدا وسط القوى الكبرى وبين السادة الكبار في هذا العالم ثم إذا مضينا على المنهجية الاستعلائية النهضوية ذاتها فلن نلبث حتى نغدو القوة الأولى المهيمنة على هذا العالم ويُتوج ذلك حتما بظهور سيد هذا العالم بل العوالم مولانا صاحب الزمان الحجة بن الحسن صلى الله وسلم عليهما وعجل الله فرجه الشريف. إنّ هذا أيها الإخوة ليس حلما خياليا
    و إن كان من حق الانسان الشيعي أن يحلم على الاقل.

    كم من حالمٍ تحقق حلمه؟ ودوننا ذلك اليهودي ثيودور هيرتزل الذي عاش ذليلا حقيرا لكنه كان يحلم بدولة يهودية تتحكم في العالم يوما ما. كان يحلم أن يتحرر قومه من الذل والاستعباد والاستحقار الذي ضُرب عليهم آلاف السنين و أن يجتمعوا بعد الشتات ويصبحوا سادة العالم. كان يحلم فتحقق حلمه و إن مات قبل ذلك. أكرر أنّ هذا الذي نقوله ليس حلما وليس تنظيرا خياليا لأنه رؤية تعتمد على ماوعد الله المؤمنين به وهو أن يكونوا هم الاعلون. قال تعالى (ولا تَهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). مهما حاولت جبهات الكفر والخلاف والضلالة في منع التفوق الحضاري الشيعي و مهما جهد اعداؤنا في محاربتنا بكل حيلهم فإنهم لن يفلحوا و سيكون النصر حليفنا حتما لاننا الأعلون. إنظروا حينما خاض النبي العظيم موسى ابن عمران صلوات الله عليهما التحدي مع الجبهات المناوئة له حينما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فخُيل للناس أنها تسعى. هنا جاء الوعد الإلهي لموسى عليه السلام (قلنا لاتخف إنك انت الاعلى) هذا وعد إلهى لموسى عليه السلام. وعد إلهي بماذا؟ بالنصر, بالتفوق لأنه الاعلى. بمثل هذا الخطاب الذي خاطب الله به موسى عليه السلام خاطبنا الله تعالى حين قال (ولاتهنوا ولا تحزنوا و أنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) و لموسى قال ( قلنا لاتخف إنك انت الاعلى) ولنا قال (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون إن كنتم مؤمنين)
    إذاً هذا وعد من الله تعالى لنا بالنصر و التفوق و أن نكون الاعلى ولكن بشرط أن نكون مؤمنين (إن كنتم مؤمنين). مؤمنين حقيقين. المؤمنون إذا عملوا بإيمانهم لن يعلو عليهم احد حتى في الدنيا, لن يكون لأحد عليهم سبيل. هكذا قال الله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)
    المؤمنون إذا عملوا بإيمانهم ستكون العزة لهم والقوة العظمى لهم مصداقا لما بشّر به سبحانه حيث قال (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لايعلمون). إذاً إنّ تطلعاتنا إلى أن نغدو الأمة المهيمنة على الامم في مرحلة الاندكاك الحضاري التي نعيشها هي تطلعات معقولة مشروعة لا خيالية. غاية ماهنالك أنه يجب علينا أن نعمل بإيماننا لا أن نحتفظ به في قلوبنا فقط, فإيمان بلا عمل ليس بإيمان. كم نحن غافلون عن أننا بإمكاننا أن نعلو و نهيمن و أن نمتلك السيادة العظمى على هذا العالم, كم نحن غافلون عما نمتلكه من منهاج نبوي معصومي عظيم إذا طبقناه يتحقق لنا ذلك. إنّ طلب العلو والهيمنة هو من صلب مايدعو اليه ديننا و لا ينبغى أن يكون هنالك دين آخر على وجه الارض يعلو على ديننا, لا ينبغي أن تكون هنالك حضارة أخرى على وجه الارض تعلو على حضارتنا, لا ينبغي أن يتحكم بنا احد بل يجن أن نكون نحن الاحرار, نحن الاسياد, نحن الذين نفرض على هذا العالم قوانيننا, لا نفرضها بالقوة الإكراهية إنما نفرضها بالقوة الحضارية تماما كما نرى أنّ قوانين الحضارة الغربيه بشكل عام هي السائدة علينا وعلى جميع الامم اليوم, و إن كان كثير من تلك القوانين قد فُرض بالقوة الاكراهيه الا إنّ قسما ملحوظا منها خاصة في هذه العقود الأخيرة قد جاء بالقوة الحضارية. فُرض بالقوة الحضارية, أعني أنّ الغرب أبهر بتقدمه وتفوقه الحضاري بقية الشعوب فانساقت من حيث تشعر أو من حيث لا تشعر إلى حيث ثقافته العامة بما في تلك الثقافة من افكار وسلوكيات و أنماط معيشة صحية كانت أم مرضية. في ظل هذا كم هو مؤلم أن نرى انفسنا نحن شيعة ال محمد عليهم السلام منساقين ايضا لا إلى تلك الحضارة الغربيه فقط بل الى حضارات هي ادنى و أدنى و إلى ثقافات هي أخس و أخس كالثقافة البكرية مثلا. حين ترى مَن مُفترض به أن يكون ممثلا للحضارة الشيعيه يتكلم من تحت هذه العمامة بمنطق بكري بل يفكر بمنطق بكري ويخشى من الأقلية وينهزم بل ينبطح امام كل ما هو غير أو آخر. حينما ترى ذلك فعليك حين إذن أن تقرأ على الشيعة والتشيع السلام. قد ذهب أولائك الشيعة الابرار الذين ماكانوا يقبلون أن يستطيل عليهم أحد. قد مضى أولئك الشجعان الذين بلغ بهم الايمان مبلغ أن يتصدوا لكل مناويء ويصكوا بالحق جبهته, و إنْ كان سلطانا جائرا. نعم رحمة الله على أولئك العظماء الذين كانوا يطبقون القاعدة الفقهية العظيمة, القاعدة الذهبية, قاعدة العزة والكرامة والهيمنة, تلك القاعدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه واله حين قال (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه).

    من منّا التفت الى هذه القاعدة العظيمه و أجراها على حياته العملية؟ و أولائك الذين قد يكونون ممن التفت اليها كطلبة العلم والمشتغلين بتحصيل العلم في الحوزات العلمية, هل نظروا إلى هذه القاعدة بعين السعة والشمول؟ أم أبقوها حبيسة التطبيقات المحدودة في بعض الاحكام والفتاوى المتداولة بينهم؟ أو قل هل ادركوا مغزى هذه القاعدة ونقّحوا مناطها الذي يعم سائر مفاصل الحياة العملية للإنسان المؤمن؟ أكون مبالغا إذا قلت أنّ اكثريتنا التفتت الى هذه القاعدة اصلا فضلا عن إدراك مغزاها وادراكها جيدا! نعم إنّ الفقهاء يذكرون هذه القاعدة ويفرعون منها عشرات المسائل والاحكام الفقهية لكن تبقى حقيقة أنّ المشتغلين بالتحصيل يمرون عليها ويتذوقونها بغير تلقف للثمر.
    إنهم حين يُسألون مثلا عن امرأة مسلمة هل يجوز أن ينكحها كافر؟ يقولون كلا لأن الاسلام يعلو ولا يُعلى عليه والمرأة المسلمة تعلو ولا يجوز أن يعلوها الكافر.
    إنهم حين يُسألون عن امرأة اسلمت دون زوجها الكافر ما الحكم هاهُنا؟ يقولون لاسبيل له عليها لأن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا و الاسلام يعلو ولا يُعلى عليه فهذه المرأة تنفصل عن زوجها مادام باقيا على كفره وتَبينُ منه بعد العدة. إنهم حين يُسألون عن عبد كافرا أسلم هل تبقى ولاية سيده الكافر عليه؟ يقولون كلا لان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه فهذا العبد منذ أن اسلم يكون في حكم الحر لاتبقى سيادة للكافر عليه لانّ هذا العبد قد اصبح أعلى من الكافر بإسلامه.
    انهم حين يُسألون انه هل يجوز للحاكم نصبُ والٍ كافر على المسلمين؟ يقولون كلا إنّ الاسلام يعلو ولا يعلى عليه فلا يتأمرنّ كافر على مسلم. أنهم حين يُسألون مات مسلم وله ولد كافر فهل يرث منه الولد الكافر؟ يقولون كلا, ويجيبون بجواب الامام الباقر عليه السلام (ان الله عز وجل لم يزدنا بالاسلام الا عزا) فنحن نرثهم ولا يرثوننا. إنهم أي هؤلاء الطلبة, هؤلاء المنشغلين بالتحصيل حين يسألون هل لكافر أن يستطيل بناؤه على مسلم اي هل له أن يستطيل بناؤه العمراني على المسلم؟ يقولون كلا الاسلام يعلو , المسلم اعز, المسلم اعلى. كل هذه الاحكام ونظائرها ترجع الى هذه القاعدة قاعدة (الاسلام يعلو) وهذه هي مصاديقها المتداولة تجدونها في كتب الفقه والاحكام ولكن وهذا هو الاهم مامغزى هذه القاعدة؟ ماهو هدفها؟ مالحكمة من ورائها, ما الغاية منها؟ إنّ مغزاها نفي كل مامن شأنه علو غير المسلم على المسلم, فلا حكم في الشريعة يبيح ذلك, هذا سلبا و أما إيجابا وهو الهدف من وراء هذه القاعدة و هو تحقيق علو المسلم على غيره, تحقيق التفوق الاسلامي, الهيمنة الاسلامية, السيادة الاسلامية فلا شيء يعلو على الاسلام مطلقا و إن كان في مرحلة من المراحل كالمرحلة التاريخيه التي نعيشها الآن ثمة تفوق وهيمنة لغير الاسلام فهذا يتطلب من المسلمين أن يستنفروا طاقاتهم وجهودهم لتصحيح هذا الاختلال. المسلم الحق لا يخضع لغيره ولا يقبل بأن يعلو عليه غيره, المسلم الحق لا يقبل أن تعلو الحضارات الارضية على حضارة السماء, لا يترك الحضارات الفاسدة الرجعية المريضة تعلو على حضارة الاسلام الانسانية المثلى. إذاً ليست قاعدة الاسلام يعلو منحصرة التطبيق في تلك الاحكام الفرعية المتداولة في المتون الفقهية بل هي تعم سائر مجالات الحياة ولها آفاق تطبيقية لأرحب و أوسع. إنها في الواقع تدخل في كل مجال, في كل ميدان, في الاقتصاد مثلا يجب أن نكون نحن المسيطرون على الاقتصاد العالمي. في الاجتماع كذلك, في السياسة كذلك, في التكنولوجيا كذلك. يجب أن نكون نحن المتفوقين, نحن المهيمنين, نحن المتفوقين دائما ومسؤولية كل فرد منا هي الاسهام في تحقيق هذا التفوق الحضاري الشامل لانه نداء رسول الله صلى الله عليه واله( الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) وهو نداء الله جلا وعلا الذي جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا. الله الذي وعد بأن يُظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون. كم هو رائع إذاً أن نلتفت إلى تطبيق هذه القاعدة العظيمة بهذه الشمولية, بهذا الاتساع وكم هو رائع أن نمتلك الثقة بالنفس والاستعداد النفسي للتحدي الحضاري الكبير و أن نخطو باتجاه تفوقنا الحضاري على جميع الامم. إننا يجب أن نؤمن بذلك, يجب أن نؤمن من اعماق قلوبنا بأننا نحن الاعلى, يجب أن نلهج دوما بهذه الآية الكريمة (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون إن كنتم مؤمنين)
    فيا أيها المؤمنون, ياشيعة علي أنتم الأعلون, انتم الاعلون, إنكم شيعة علي. علي من العلو الذي لا أعلى منه, علي هذا الذي لا اعلى منه الا الله تبارك وتعالى ورسوله الخاتم صلوات الله عليه واله, وانتم شيعة علي الذين لا اعلى منكم في الاسلام, انتم الذين لا اعز منكم في الاسلام, انتم قمة القمم في الاسلام, انما الاسلام يعلو بكم ولا يُعلى عليه. إعرفوا قدر انفسكم, إعرفوا قدر انفسكم,قال إمامنا الصادق صلوات الله عليه (ألا و إنّ لكل شيء عزا وعز الاسلام الشيعة, ألا و إنّ لكل شيء دعامة و دعامة الاسلام الشيعة, ألا و إنّ لكل شيء ذروة و ذروة الإسلام الشيعة, ألا ان لكل شيء شرفا وشرف الاسلام الشيعه ألا و إنّ لكل شيء سيدا وسيد المجالس مجلس الشيعة أو مجالس الشيعه ألا و إنّ لكل شيء إماما و إمام الارض أرض تسكنه الشيعة أو أرض تسكنها الشيعة) يقول امامنا الصادق سلام الله عليه (والله لولا مافي الارض منكم ما رأيتَ بعينٍ عشبا أبدا, والله ـ وهذه كلمة قوية ـ والله لولا مافي الارض منكم ما انعم الله على اهل خلافكم, ولا أصابوا مالهم في الدنيا ولا لهم في الاخرة من نصيب). كل ناصب و إن تعبد واجتهد منسوب الى هذه الايه (عاملةٌ ناصبة تصلى نارا حامية) فكل ناصب مجتهد فعمله هباء.

    دعونا نتأمل قليلا في معاني كلام امامنا. إنه يؤكد أننا نحن الشيعه عز الاسلام ودعامة الاسلام يقول: (ألا و إنّ لكل شيء ذروة وذروة الاسلام الشيعة, ألا و إنّ لكل شيء شرفا وشرف الاسلام الشيعة) ما الذروة و ما الشرف؟ ذروة الشيء أشرف مواضعه و أعلاها, والشرف هو العلو و المكان العالي. فعلى هذا نحن الاعلى بنص صادق ال محمد صلوات الله عليهم, نحن اعلى المسلمين واشرف المسلمين, نحن ذروة الاسلام, شرف الاسلام, فنحن اعلى المسلمين, اشرف المسلمين, نحن السادة, نحن الاعلون, نحن اصحاب الفضل حتى على مخالفينا, نحن اصحاب الفضل حتى على مخالفينا فلولا وجودنا نحن ما انعم الله عليهم بشيء مما يحصلون عليه في دنياهم. إنه عليه السلام يقسم على ذلك فيقول (والله لولا مافي الارض منكم ما انعم الله على اهل خلافكم ولا اصابوا مالهم في الدنيا). هذه الدنيا الذين يتنعمون فيها إنما يتنعمون بها بسبب وجودنا نحن, فإن الله تعالى يرزق بالمؤمن المُخالف كما يرزق بالمسلم الكافر اقتضاءا لحكمته, حكمته في احتياج البشر بعضهم لبعض لانه تعالى ينظر الى مخالفينا بعين الرحمة والرأفة إكراما لنا نحن لذا هم مدينون لنا نحن ساداتهم, نحن اشرافهم. هذا ليس استعلاءا وتكبرا معاذ الله, إنه بيان واقع ولا ينبغي أن يُناقَش في هذا الواقع, اعني الواقع الشرعي, لماذا؟ لانه بعد ثبوت أنّ الاكرمية عند الله تعالى هي للاتقى حيث يقول جل وعلا (إنّ اكرمكم عند الله اتقاكم) بعد ثبوت ذلك فلا محيص عن القول بأنّ الاكرم عند الله تعالى هو الشيعي لانه الاتقى بالنسبة الى غيره حيث التزم هذا الشيعي بأمره في موالاة العترة الطاهرة للنبي الخاتم صلى الله عليه واله, إلتزم بأمر الله تعالى بالإتمام بهم, بمشايعتهم.
    إذاً هو الاتقى, هو الاكرم. الامر واضح.

    إذا كان الامر هكذا فما بالنا ونحن السادة الاعلون نتصاغر امام من هم ادنى منا؟ مابالنا نَهِنُ ونتضعض امامهم؟ لماذا نقبل بأن يستطيل أحد علينا؟ لماذا نقبل بأن يسود أحد علينا؟ لماذا يمتلك غيرنا ازمّة امورنا ويتنعم بمقدراتنا ونقبل نحن الفتات الذي يعطينا إياه؟ لماذا نسمح بأن يفرض غيرنا قوانينه علينا فيتحكم لا في دنيانا فقط بل حتى في ديننا؟, الى متى نبقى انهزاميين أمام الآخر؟, الى متى نبقى نشعر بأننا اقل من الاخرين؟ لماذا نعود انفسنا على اهتضام ظلم و إجحاف الاخرين بحقنا؟ لماذا نقبل بأن يستقوي علينا أحد؟ لماذا نحن نراعي جانب الآخر ونحسب الف حساب لكل حركة خشية أن تؤدي الى انزعاج الاخر بينما هذا الاخر لا يراعي جانبنا مطلقا ولا يحسب لنا حسابا مطلقا؟ اني لا احصر المخالف او الآخر هاهنا بالمخالف البكري بل أعممه الى كل من هو آخر.
    الشيعي في هذا الزمان مع الاسف الشديد يحسب حساب كل أحد ولا يحسب أحد حسابه. يُظلم فيسكت, يُسرق فيسكت, يُصفع فيسكت لانه لاقيمة له, لا حق له في شيء انما هو تبع للكبار , تابع للكبار الذين يتلاعبون بمقدراته ويفرضون احكامهم عليه ولا اريد أن استخدم عبارات اقسى فأقول إّن هذا الشيعي في نظرهم مجرد عبد من العبيد. مالذي اوصلنا الى هذه الحالة؟ ما عِلة تقهقرنا عن موقع السيادة والصدارة الى حيث نحن الآن في الذيل والفناء؟ مع اننا عند الله تعالى وعند رسوله صلوات الله عليه واله وعند الائمة الاطهار عليهم السلام نحن الاكرم والاعلى والاشرف وهكذا ينبغي ان نكون في واقع الحياة الحقيقة.
    إننا قد قتلنا في انفسنا التطلع الى القمة, قتلنا في انفسنا التفكير في السيادة, قتلنا في انفسنا طلب العلو. إنما نسير في حياتنا على النحو السائد, على النحو الجاري دونما تفكيرا بالتغيير وما ذلك إلا لاننا تكيفنا مع هذا الواقع المُذل بحيث لا يطرأ على بال أحد منا إلا مَن ندر بأنّ هاهُنا اختلالا رهيبا ينبغي إصلاحه, هاهُنا تراجعٌ وتقهقرٌ في موقع الشيعة على خريطة توازنات القوى العالمية.
    ينبغي أنْ يُصاحَ بالخلاص من هذا التراجع والتقهقر. هذا لا يخطر على بال أحد, هذا لا يفكر به احد, ويرجع غياب هذا التفكير عنا بل غياب الشعور بهذا الاختلال الرهيب الى ما بدأنا به كلامنا.
    إنها تلك الاغلال والآصار. القيود الفكرية التي فرضناها على انفسنا وصارت جزءا اصيلا في الذهنية العامة الشيعية مع انها طارئة, فقتلت كل تطلع وقيّدت كل همة, لذا أيها الإخوة المؤمنون نحن بحاجة الى تحرير هذه الذهنية من هذه القيود التي ما انزل الله بها من سلطان, نحن بحاجة الى مراجعة و لو اجمالية لثقافتنا العامة, لطبيعة تفكيرنا لنحدد معوقات تقدمنا, لنحدد مثبطات استعلائنا ثم لنعرض كل ذلك على منهج القرآن و أعداله صلوات الله عليهم لنرَ هل أنّ التعايش مع واقعنا هذا أمر مقبول به حسب هذا المنهج أم لا؟ إنّ الانسان الشيعي في عالمنا هذا, في يومنا هذا, هذا الانسان الشيعي سجين لأفكار بالية يحسبها شرعية, ولسلوكيات يحسبها أخلاقية وذلك مايعطل استعلاءه بحيث يصبح هذا الانسان الشيعي صاحب السيادة على هذا العالم. نحن بحاجة الى تخليص هذا الانسان وتحريره من تلك الافكار البالية والسلوكيات الخاطئة, وبعبارة اخرى نحن بحاجة الى أن نفتح أمامه الآفاق ونعيد تأصيل المفاهيم الشرعية فيه بحيث تتبدد تلك المفاهيم المنحولة التي تراكمت على ذهنيته عبر قرون وصارت إصراً يمنعه من الحركة والنهوض, لهذا سنشرع إن شاء الله تعالى في هذه السلسة من المحاضرات بعنوان (تحرير الانسان الشيعي) آملين أن يوفقنا الله تعالى في نفض هذا الغبار المتراكم, سنخوض أو سنجول بعون الله تعالى على محطات في الفكر العام الشيعي السائد اليوم وسنحاول أن نقيس المسافة بينها وبين محطات الفكر الإمامي الرافضي الأصيل الذي أرسى الائمة الاطهار صلوات الله عليهم دعائمه, وحددوا معالمه ودعونا الى تطبيقه على الارض حتى نعلو ولا يُعلى علينا ..
    هذا وصلى الله على نبينا محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين

  • #2
    تقرير لمحاضرة الشيخ الحبيب بعنوان: (تحرير الإنسان الشيعي) - الحلقة الثانية

    تقرير لمحاضرة الشيخ الحبيب بعنوان: (تحرير الإنسان الشيعي) - الحلقة الثانية

    اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    القول مني في جميع الاشياء قول آل محمد عليهم السلام فيما اسروا وما اعلنوا وفي مابلغني عنهم ومالم يبلغني
    الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة وازكى السلام على المبعوث رحمة للخلائق اجمين سيدنا المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم وظالميهم وجاحدي أمامتهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين .. آمين .

    إنّ طلب العلو والهيمنة والتفوق الحضاري الشيعي هو أمر حثت عليه الشريعة المقدسة وأكدت عليه الأدلة القرآنية والحديثية على السواء ، و إنّ الذي يعطل وصولنا لذلك الموقع الذي نتطلع إليه أغلال و آصار وقيود في فكرنا العام أو في ثقافتنا العامة ، وليست تلك الأغلال والآصار والقيود بلازمة علينا بل هي في الواقع أجنبية عن روح الدين والشريعة ، فينبغي أن نتحرر منها لنمتلك السيادة على هذا العالم .

    و قد يُوجه في هذا المقام إشكال ، وهذا الإشكال يعتمد على قوله تعالى:
    ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)

    قد يقول المُشكل إنّ هذه الاية علقت الفوز بالآخرة على عدم إرادة العلو في الأرض
    فليس من صفات المؤمنين المتقين السعي إلى العلو والهيمنة في الدنيا وإنما اهتمامهم يكون منصبا على الدار الاخرة ، فلماذا نسعى للعلو والهيمنة؟ فلنترك الدنيا بما فيها من متاع أيام قلائل ولنتفرغ إلى تقوى الله وعبادة الله لنفوز بالدار الاخرة التي هي اكبر.

    طلب العلو في الدنيا كان مثلا ؛ من صفات إسرائيل التي ذمها الله تعالى حيث يقول سبحانه : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) .
    يقول المشكل أفهل نضاهي بني إسرائيل فنطلب العلو في الدنيا ونعرض أنفسنا لغضب الله تعالى ؟

    بمثل هذا الكلام قد يُشكل على أصل هذه الدعوة, والجواب هو التالي:

    إنّ العلو المذموم بل المحرم هو ذلك الذي حكاه الله عن قول نبي بني إسرائيل موسى عليه السلام حيث قال ( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)

    العلو المذموم المحرم هو العلو على الله بمعنى طلب العلو و الهيمنة مع الكفر او الفساد او الإعراض عما أمر الله تعالى ، العلو الذي يستلزم اعلاء كفر أو ظلم أو فساد أو ضلالة ، العلو لمجرد حب العلو والتجبر و اغتنام الفرصة والهيمنة ، هذا العلو الذي يفعله الطغاة و المتجبرون والمتكبرون اللاهثون وراء السلطة والهيمنه بأي ثمن بلا مبادئ دينية أو أخلاقية .

    هذا العلو الذي وقع فيه بنو إسرائيل فذمهم الله تعالى ، وهذا واضح من نفس الآية التي ذمت علو بني إسرائيل ، حيث في هذه الاية أنّ علوهم كان معطوفا على فسادهم. يقول سبحانه :
    لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أولاً ، ثم ( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً))

    إذاً كان علوهم داميا, مبنيا على الفساد ، على تجاوز الحدود الدينية ، الظلم ، التجبر ، تحريف الكتاب وما شئت فعبر..
    الخلاصة: انه كان علوا على الله تعالى وتحديا او مناجزة له.
    هذا العلو الذي يقود إلى جهنم والعياذ بالله, العلو المعطوف على الفساد ، والمستلزم للفساد والتأمل في نفس الاية التي اعتُمد عليها في الاشكال يوضح لنا ذلك
    يقول الله عز وجل : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)

    اذاً العلو الذي يحرم الانسان من هذه العاقبة الحسنة في الدار الاخرة هو العلو الذي يكتنفه أو يستلزمه الفساد والافساد في الأرض و لذا لم يقل الله تعالى : تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض وسكت! بل أردف بقوله تعالى : (ولا فسادا)
    حتى لا يتوهم أحدٌ أنّ مطلق العلو مذوم و إن لم يكن فيه فساد ، وحتى لا ينساق أحد وراء دعوات الرهبنة والتصوف وما اليها من دعوات تحث على ان يترك المؤمن الدنيا مطلقا ويتفرغ فقط إلى العبادة والتخشع ويصرف اهتمامه عن إقامة حكم الله في الارض ويدعُ مال قيصر لقيصر أو مال عمر لعمر.
    لا ، ان الاسلام دين لا يدعوا الى الانعزال و التقوقع في نطاق العبادات فقط ،
    بل يدعو المسلم الى أنْ يغنم الدارين معاً ، الدنيا والاخرة . وان يعلو بدينه فيهما معا ولذا خُوطب هذا المسلم بقوله سبحانه ( وانتم الاعلون)
    ذلك العلو يكون بإقامة دين الله تعالى حتى يعم كل مجالات الحياة من عبادات و معاملات وتلك وصيته سبحانه للأنبياء جميعا ثم لنا جميعا ، حيث قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدين)

    إقامة الدين لا تعني أن أُقيمه على نفسي فقط ، أو على عائلتي فقط . بل أن أُقيمه على جميع الدنيا بما فيها ، فيصبح كل ما يجري فيها متوافقا مع احكام هذا الدين ، تصبح السيادة للقوانين الدينية كما تصبح الهيمنة للاسلام والمسلمين
    من هنا يُفهم أن طلب العلو الذي ندعو اليه ونحث عليه ليس مذموما بل هو ممدوح ، بل هو في واقع الامر واجب.
    لأنّ الذي ندعو اليه هو طلب علو ديني لا دنيوي بحت. انه ذلك العلو الذي فيه اعلاء لدين الله وإقامة لمنهاج رسول الله و أهل بيته الطاهرين عليهم الصلاة والسلام ، العلو الذي يحقق العزة والكرامة للمؤمنين ، العلو الذي يعم بخيره على جميع البشر من جميع الأديان والملل لانه ينشر العدل والامن والسلام والرفاه. المؤمن في طلبه للعلو لا يطلبه لنفسه إنما يطلبه لدينه ويطلبه لحملة دينه,
    اؤلئك الذين اذا وصلوا الى موقع الصدارة والهيمنة زاد خضوعهم لله تعالى وتواضعهم لعباده ، اقتداءا بمولاهم أمير المؤمنين ، انما هم شيعته ، انما هم أتباعه الذين يقتدون به.
    روي عن ذاذان أنّ المولى امير المؤمنين في فترة حكومته كان يمشي في الاسواق وحده و هو دال يرشد الضال, ويعين الضعيف, ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) . ويقول عليه السلام : (نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس)

    تفسير مولانا أمير المؤمنين يوضح أنه لا تثريب عليك في أن تكون واليا ، حاكما
    إذا عملت بالعدل والتواضع وكان هدفك من تولي هذا المنصب كهدف مولاك أمير المؤمنين
    إعلاء دين الله تعالى وإرشاد الضال ، و إعانة الضعيف لأنك بذلك لا تريد العلو لنفسك بل تريد العلو للدين والحق ، والعدل ، تريد العلو للخير ، تريد العلو حتى تنقذ الناس,
    حين ذاك يجعل الله لك الدار الاخرة والعاقبة الحسنى ويجعلك مع المتقين.
    أرجو أن لا يُفهم كلامي ها هنا على أنهُ دعوة سياسية لإقامة حكومة شيعيه عالمية ،
    أو أنّ قصدي من طلب العلو والهيمنة هو في هذا الاتجاه حصراً, أو
    انه رؤية لمشروع سياسي أو شيء من هذا القبيل,
    وإنما ما أدعو إليه بالأصل و مطلوبي الأساسي هو تحقيق العلو الحضاري ، و الهيمنة الحضارية بكل أبعادها وصورها.

    إني لست من قبيل اولئك الذين قادهم الطموح الى دعوات لتفجير ثورات وانقلابات للسيطرة على الحكم لتصورهم أنّ اقامه دين الله تعالى في الارض لا يتم الا بهذه الثورات والانقلابات والوثبة السريعة على الحكم.
    نعم ! لا شك ان صيرورة الحكم إسلاميا شيعيا هو أمر لازم لإقامة الدين ، إلا أني أرى أن ذلك لا يمكن أن يتحقق بالوجه الصحيح الاكمل ، وبالوجه الذي يضمن الثبات والاستقرار بمثل هكذا خطوات اختزالية تقفز على مراحل التهيئة أو تتجاوز على المقدمات اللازمة . إنّ هؤلاء ، ولست أعني المستعملين آله الدين للدنيا من اصحاب الطموح الشخصي ، بل أعني العلماء المخلصين الذين ولجوا الميدان السياسي وسعوا إلى الحكم من اجل الدين فحسب.
    هؤلاء حيث سئموا الظلم والفساد المتفشي أرادوا تحقيق تغيير أشبه بالفوري ،
    وتصورا أنّ أسرع طريق هو امتلاك زمام الامور في السلطة ولو بغتة ، ثم معالجة واقع الامة بعد ذلك.

    إني أرى هذا إجمالا مشروعا غير مجدٍ كما أظهرت لنا التجارب ، إلا اذا كان هذا المشروع مرتبط بنحو ما بالقوى الاستعمارية أو الكبرى في العالم ، فإنّ هذه القوى تتكلف بتطويع الأوضاع وتكييفها لإيصال الحليف أو لاستبقاء الحليف في السلطة, ولكن يتم عادة على حساب الدين

    إني اطرح ها هنا مشروعا آخرا مختلفا لا يتضيق بدائرة السلطة, إنما يتوسع الى دائرة هي اوسع بكثير.

    هي دائرة الحضارة , وأقول إننا إذا استطعنا أن نهيمن حضاريا فإننا سنهيمن تلقائيا على السلطة ، أي ستكون السلطة التي تتشكل نابعة من نفس الحضارة التي سادت بعد تحقق هذا المشروع فلا يصاحب انتقال السلطة إلينا عندئذٍ أيّ قلاقل أو هزات يمكن أن تنطوي على خسائر في الأرواح مثلا ، لان السلطة تعكس حينئذٍ الحضارة السائدة ؛ بمعنى أننا إذا استطعنا أن نجعل الشيعة هم الأكثرية وأصحاب الهيمنة على مفاصل الحركة الإنسانية العالمية ، و إذا استطعنا أن نجعل الشيعة أصحاب الهيمنة على مفاصل هذه الحركة ، فإنّ السلطة التي ستتشكل حينئذ لن تكون الا نابعة من هذه الاكثرية وتعكس حضارتهم في الشق السياسي, وحتى لو افترضنا أن ثمة حضارات متناثرة ستكون قائمة هنا و هناك فإنّ هذه الحكومات نظرا لهيمنة وسيادة الحضارة الشيعية ستكون خاضعة للتشيع بنحو او بآخرو لن تكون في واقع الحال بعيدة عن التشيع إلا اسماً

    أما في الأعم الأغلب وعلى الأرض فيما يتصل بواقع الانسان والمجتمع الذي تحكمه فإنّ هذه الحكومات ستكون أيضا شيعية بمعنى من المعاني.

    من هنا يظهر أنّ هذا المشروع الذي نطرحه هو مشروع بعيد المدى وليس مشروعا يرقب التغيير الفوري بل هو مشروع ينشد التغيير على المدى الطويل وكأنه يبني هرماً من القاعدة للقمة لا العكس.

    مشروع كهذا هو الذي سيصمد إلا أنه يحتاج الى نفس طويل ، صبر ، مثابرة.
    لا ينبغي أن نتسرع ونتهور ونندفع الى تغيير فوري مفاجئ ، بل ينبغى أن نبني من القاع
    كما كان يفعل الرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليهم السلام. لقد بنوا حضارتهم من القاع .
    ددققوا جيدا في حركة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم, إنه لم يخطُ خطوةً مفاجئة يستولي بها على السلطة مع انه كان بإمكانه ذلك ؛ إما بحركة انقلابية أو بقبول عرض المشركين عليه.

    لقد عرضوا عليه أن يرأسهم وكان بإمكانه أن يقبل ذلك العرض ويتخلى تكتيكياً عن الدعوة إلى دينه إلى أن يُحكم قبضته فيزيحيهم ويدعوا لدينه من جديد ، إلا انّ الرسول صلى الله عليه واله رفض ذلك لأنه اراد ان يبني بناءا حضاريا من القاع.

    لقد عاش ثلاث عشرة سنة في مكة يؤسس لبنيان و تفاعل حضاري إسلامي تكون احدى نتائجه قيام حكومة اسلامية عادلة. وهكذا كانت جهود ثلاث عشرة سنة قد تمخضت في نهاية الأمرعن قيام حكومتين لا حكومة واحده ، أولاهما في الحبشة حين اسلم النجاشي عليه الرحمة ونزل على حكم الإسلام واقره النبي على حكومته ، والثانية في المدينة المنورة حيث تزعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه, ثم تمددت هذه الحكومة لتشمل جميع ارجاء الجزيرة العربية في مدة لا تتجاوز عشر سنين.

    هذا الذي تحقق كان نتيجة لمخاضٍ حضاري بدأه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين جعل الاسلام يسود حضاريا اولاً حتى سارت به الركبان فجعل الهيمنة لهذه الثقافة التي دخل فيها من دخل بإيمان و إخلاص و اقتناع,
    ودخل فيها ايضا من دخل بغير إيمانٍ ولا إخلاص ولا اقتناع .. لماذا ؟

    لانه وجد نفسه غير قادر على الشذوذ عن الحالة السائدة ..فاضطر إلى الدخول في هذا الدين ، لأنّ هذا الدين صار مهيمنا حضارياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ,إلى ما هنالك..
    لا انهُ هيمنَ سياسيا وسلطويا فحسب.
    الذي افهمه من منهاج رسول الله والائمة الطاهرين عليهم السلام هو ان يكون البناء بعيد المدى يهدف بالدرجة الاولى الى تحقيق العلو الحضاري الاسلامي وجعل الاسلام هو الثقافة المهينة السائدة عند البشر ، ولا أرى في منهاج المعصومين القيام بحركة استيلائية مفاجئة تؤخذ بها السلطة قهرا ، الا في مقام الدفاع و وقوع الهرج والمرج.

    ذلك موضوع آخر ويحتاج علاجا آخر أما من حيث الأصل ، فالمعصومون عليهم السلام اهتموا أولاً بتحقيق العلو والهيمنة الحضارية ، تكثير المؤمنين بهداية الناس الى الدين واقناعهم بتطبيقه على انفسهم و على مجتماعتهم ، ثم السيطرة تالياً على مفاصل الحركة الانسانية العامة ، هذا هو أس الأسس و قوام الجهود التي بذلها الأنبياء والأوصياء ليكون الدين كلهُ لله.

    أما السيطرة على الحكومة بغير تلك المقدمات فلا نكاد نلحظها في سيرة المعصومين, فحتى حكومة امير المؤمنين جاءت بعد تلك المقدمات ، بعد صبر دام ربع قرن تقريباً سعى فيها الامير بهذا البناء الحضاري على مستوى الافراد و على مستوى الجماعات ايضا
    لهذا نلاحظ مثلا / في أواخر زمان الطاغية عثمان لعنه الله كانت أكثرية المسلمين تلهج باسم علي خليفةً وحاكما مع أن أغلب تلك الاكثرية لم تكن عارفةً بحقيقة كون علي إماما معصوما وحجة لله على خلقه ، انما اللافت إنها التجأت اليه مع انها من حيث النشأة خرجت من رحم الخلاف على اهل البيت ، وجاءت من خط كان من أشد المحظورات عنده أن تعود السلطة الى اهل البيت عليه السلام ، فعلى هذا لم يكن التجاؤها الى علي عليه السلام رغم ذلك البعد في المسافة الفكرية الا لانها كانت قد خضعت تاليا للفكر الحضاري الشيعي الذي ساد آنذاك في خطوطه العريضة.

    لقد جاء هذا بعد جهود مضنية بذلها تلامذة الإمام وشيعته القلائل ، من أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد و عمار و أبناء سعيد ابن العاص و حكيم ابن جبله ومالك الأشتر ، ومحمد ابن ابي بكر وامثالهم رضوان الله عليهم ..
    الذي طفقوا يلفتون الأمة إلى حق علي عليه السلام ويروجون علمه وتعالميه من جهه ، ويتصدون من جهة أخرى لتصديع البناء الثقافي المنحرف الذي أقامه أبو بكر و عمر وعائشة وعثمان ومعاوية وأبو هريرة وأمثالهم لعنة الله عليهم.

    لقد حمل أولئك الشيعة الاوائل مهمة تصديع بناء هؤلاء المنحرفين والمنافقين حتى تتحقق السيادة الحضارية الشيعية التي تكون هيمنتها على الأجواء كفيلة بإلفات الناس الى حق علي عليه السلام.

    من هنا ساد الشيعي وإن تفاوتت مستويات استيعاب هذا الفكر عند أفراد الامة و قبائلها وجماعاتها ، الا ان المهم انه بعد ربع قرن من الجهود المضنية المتواصلة وبعد سيادة شيعية حضارية امتدت لسنوات قلائل في آخر المطاف وجدنا حكومة عادلة يتزعمها الامام عليه السلام كانت نابعة من الاكثرية التي خضعت لتلك السياده الحضارية.

    إذاً المطلوب أولا وقبل كل شيء ، تحقيق السيادة الحضارية الشيعية وهذا يكون بطلب العلو والاعداد المحكم لوصول الشيعة لأعلى المواقع في شتى الابعاد والمجالات,
    وينبغي أن نكون اصحاب نفس طويل.
    أعني أنه ينبغي لنا لتحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي الكبير أنْ نتحلى بالصبر.

    الاهداف الكبيرة لا تتحقق بين عشية وضحاها كما هو واضح و انما تحتاج الى مراحل ومراحل.
    لا أعني هاهنا .. أن نتباطأ أو نتماهل!

    كلا على العكس من ذلك .. إني ادعو الى تسارع في وتيرة العمل بأقصى طاقة ممكنة ، انما الذي أقصده أنه لا يصح أن نختزل المراحل و ننشد تحولا سريعا ونتوقع نجاحا قريبا بسبب مللنا من بقاء الوضع الحالي.

    لا يصح أن نتجاوز الواقع ونقفز على مراحل العمل لاننا نتأمل ان نشهد النجاح بأنفسنا.

    المهم هو أن نبدأ المسير في هذا الاتجاه بعد وضوح الرؤية فإن لم يتحقق النجاح ولم نصل الى المطلوب في زماننا فسيصل اليه أبناؤنا في زمانهم و إن لم يصلوا فسيصل اليه أحفادنا في زمانهم.

    المهم هو أن يكملوا هم ما بدأناه نحن ، و أن لا يحدث انقطاع في مسيرة العمل على استعاده السيادة الشيعية ، وهذا يتطلب منا بطبيعة الحال أن نربي ابناءنا على هذه الروح الثائرة وأن نزرع فيهم هذا الامل ليكون حاضرا في أذهانهم ، لا ينسونه على مر الايام الى ان يتحقق بإذن الله تعالى.

    مشكلة الكثيرين منا هي عدم وجود مثل هذا الامل في نفوسهم.
    الامل بأن يكون الشيعة سادة العالم..

    بل لعل كثيرا منا اذا طُرح عليهم مثل هذا الطرح يعتبرونه ضربا من الخيال ، وما ذلك الا لانهم يعانون من تلك الآصار والاغلال التي تحبسهم عن التطلع الى القمة بل وتمنعهم عن ايّ خطوة تغيرية للواقع.

    كثيرون يتصورون أنّ السيادة الشيعية لا يمكن ان تتحقق الا مع ظهور مولانا المهدي الموعود ولذلك هم يحرمون أنفسهم من العمل على استعادة السيادة لتوهمهم إ ما حُرمة هذا العمل ، أو انه لا يمكن ان يفضي هذا العمل الى نتيجة ؛ فالسيادة لا تكون الا في زمن الظهور أما قبل ذلك فما علينا الا قبول الوضع السائد والتكيف معه وتحمل الويلات والمصائب و الاحتساب بالإكثار من قولنا حسبنا الله ونعم الوكيل لا اكثر ولا اقل.
    هذا التصور خاطئ على اطلاقه ويحتاج الى تصحيح ، وهو أحد الأغلال التي يجب التخلص منها

    بدايةً لا يمكن إنكار أنّ السيادة الشيعية في صورتها الاكمل لا تتحقق الا بظهور صاحبنا عجل الله فرجه الشريف حين يُذهب الله عن الشيعة عاهة الخوف والجبن والانهزامية والتقية المغلوطة التي حبستهم عن التطلع الى القمم ، ويجعل قلبوهم كزبر الحديد في القوة والبأس فيصبحون إثرَ ذلك حكام الارض.

    هذا المعنى ثابت في الروايات الشريفة ومنها ما رواه شيخنا الصدوق بسنده عن إمامنا زين العابدين يقول : (إذا قام قائمنا أذهب الله عزوجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد ، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلاً ، ويكونون حكام الاَرض وسنامها)
    ومعناه : إذا قام قائمنا أذهب الله عزوجل عن شيعتنا عاهة الانهزام والخوف والجبن ، وجعل قلوبهم كقطع الحديد الكبيرة التي يُضرب بها المثل في القوة و البأس, وجعل قوة الرجل منهم قوة اربعين رجلا, ويكونون حكام الارض وسنامها والسنام هو أعلى ظهر الناقة فالمراد أنهم يمتلكون حينئذٍ السيادة العليا على العالم ويغدون في القمة ،
    وهذا ما يؤكد انّ السيادة في صورتها الاكمل لا تتحقق الا في زمن الظهور وهي تلك السيادة المطلقة, السيادة في صورتها الاكمل, تلك التي تعم كل ارجاء الارض بحيث لا يبقى شبرٌ خارج عن تلك السيادة.

    أما تحقق شيءٍ ولو على نحو الجزئية ، فهذا ممكن في زمان الغيبة وليس محالاً وإلا لما حدثتنا الروايات عن قيام حكومات شيعية قٌبيل الظهور كحكومة اليماني و حكومة المغربي وحكومة الخراساني.
    كثيرون مع الاسف لا يدققون في هذا الامر ، و يتعاملون مع هذه الرويات في اطار ذكر علامات قرب الظهور فقط و يتصورون انّ اليماني مجرد قائد كتيبة وكذلك الخراساني والمغربي و أنّ هؤلاء يبايعون صاحب الامر عند ظهوره, هذا فحسب.

    المطلوب هو التدقيق في مجموع الروايات حول هؤلاء وماذا نستفيد منها؟
    هؤلاء ليسوا الا رجالا صالحين يدعون الى آل محمد صلوات عليهم ويؤلمهم بقاء الشيعة تحت الظلم والجور والاضطهاد فينهضون ثائرين فيؤسس كل واحد منهم حكومة تملك قطعة من الارض ، فاليماني يحكم اليمن وما حولها
    والخراساني يحكم خراسان وما حولها,
    والمغربي يحكم المغرب ــ شمال افريقياــ حتى يصل الى الشرق

    الروايات الشريفة أثنت على هؤلاء واعتبرت راياتهم رايات هدى ، الا أنّ اليماني أهداهم أي أكثرهم صلاحا وإيمانا وقربا من الحق وإن كان الكل على الصلاح والإيمان والحق إلا انه الاقرب.

    الشاهد أنّ هؤلاء كما نرى يتركون التقية وينهضون لاستعادة السيادة الشيعية وتنبؤنا الروايات أنهم سينجحون في ذلك .. كلٌ في نطاقه وحدوده الجغرافية وقد نالوا بذلك الثناء من الائمة الاطهار عليهم السلام بل الحث على مبايعتهم والدخول معهم والزحف اليهم وكل ذلك قُبيل ظهور المهدي عجل الله فرجه ، فكيف يقال بعد هذا بأنّ تحقيق السيادة الشيعية في زمن الغيبة محال؟
    هؤلاء انما يسعون لتحقيقها وسيحققونها ولو في بعض نطاقاتها الجزئية وهم محل ثناء الأئمة الاطهار.
    هكذا أنبأتنا الروايات بل اني أستفيد من مجموع هذه الروايات الشريفه انها في مقام الحض على أن يبني كل منا نفسه ايمانا وعملا ليكون أحد هؤلاء القادة العظام.
    كل شيعي يمني يمكن أن يصبح هو اليماني
    وكل شيعي خراساني يمكن أن يصبح هو الخراساني
    وكل شيعي مغربي يمكن أن يصبح هو المغربي وهكذا
    المطلوب من كل واحد منا أن يسعى لاستكمال حقيقة الايمان ويمهد لظهور مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وليس التمهيد للظهور بمثل هذا العمل على تحقيق السيادة الشيعية. على اننا على ما قلنا آنفا لا نحصر تحقق السيادة بامتلاك حكومة على الارض بل ولا نجعل ذلك هو صلب هذه الأطروحة, إنما نطلب سيادة حضارية يكون فيها الاكثرية شيعة وفكرهم هو السائد وثقافتهم هي السائدة. يعيشون احرار في القمة لا يخشون احدا الا الله ، ينعمون بالتقدم والرفاه في كل المجالات, وهم في كل موقع ديني أو علمي أو دنيوي في القمة دائماً..

    هذا هو الهدف الذي نتجه اليه ، وهو هدف كما بينا معقول ومشروع
    إنّ من حق الانسان ان يتطلع الى التفوق الحضاري ، ومن حق الانسان الشيعي أن يعد نفسه ليكون في موقع القيادة والصدارة ، فهو يحمل معه نور محمد وال محمد صلوات الله عليهم. من حق الامة الشيعيه أن تطرح نفسها امة مهيمنة كما تطرح الامم الاخرى نفسها.
    يبقى أنّ طرح الامة الشيعيه نفسها لا يكون عبر الجبر والاكراه والقهر والغلبة ، انما هو طرح ينبي على القناعة والاقناع.
    نريد أنْ نقنع الامم اننا نملك صياغة جديدة لهذا العالم, هي الصياغه الافضل.
    نريد ان يتعرف العالم على المنهج الحضاري الشيعي الذي هو افضل منهج لمعالجة المشكلات البشرية ولإنقاد البشرية من الدمار والخراب والتخلف والامراض على اختلاف انواعها سواءا كانت امراض بدنية او نفسية أو فكرية او اخلاقية.
    نريد أن يفهم الجميع أنّ هاهنا صياغة فكرية هي المُثلى, تتفوق على ما جاء به الشرق والغرب.
    بمثل هذه الثقة العالية يجب أن نقدم انفسنا الى الامم العالمية. أننا نحن القادة ، نحن المفكرون الذين نحمل معنا الحلول والافكار التي تنهض بالواقع البشري الى اعلى مستوياته.
    لقد جربت البشرية جميع الصياغات والاطروحات الفكرية الاخرى,
    شيوعية ,اشتراكية ,ليبرالية , رأسمالية وغيرها.. ولا اريد أن اسمي الاطروحات البكرية لما فيها من وهن وضعف يجعلها بعيدة عن مضمار السباق الحضاري.
    انما اريد ان اقول أنّ البشرية جربت جميع هذه الصياغات المطروحة ورأت الفشل. لقد فشلت تلك الاطروحات. حتى الليبرالية الرأس مالية الغربية, إنها بشكل عام تترنح ويصيبها التزعزع من حين لآخر. لماذا؟

    لأنها اعتمدت على المادة والمال اساسا لكل شيء, ولولا أنّ أزمة الامور العالمية بيد حكوماتها من جهة ، و لولا انّ فيها شيئا من الانصاف الاجتماعي من جهة اخرى لما استمرت هذه الليبرالية الرأسمالية ولسقطت كما سقطت الشيوعية الاشتراكية, وليس بين هؤلاء وهؤلاء إلا ما أسميه بنظرية الانسان الآلة التي تعتمدها تلك الدول الآسيوية كالصين واليابان وكوريا مثلا . فقد حولت تلك النظرية البشر هناك لمجرد آلآت يعملون ليل نهار في التصنيع والتصنيع إلى ان تنقضي حياتهم ولا مجال لهم للسمو الذاتي ابدا, بل ولا حقوق لهم ولا كرامة انما هم آلات قيمة كل امرءٍ منهم مقدار ما يقضيه في ساعات العمل, في التصنيع ثم يُكب كالنفاية عندما يضعف عن العمل وتنتهي صلاحيته.
    إذاً آن الاوان للبشرية لأن تكتشف أطروحة جديدة ، وتجرب المنهجية الشيعية التي هي منهجية الاسلام الحق المأخوذ عن الرسول الاعظم والعترة الطاهرة. المنهجية التي تعامل الانسان كإنسان لا يُظلم ولا يَظلم ، وتحقق لهذا الانسان السمو الذاتي والرفعة الدنيوية ايضا بلا مصادرة لإنسانيته ولا استعبادٍ له, ولا اغراء له بالقبيح والانفلات عن كل ضابط اخلاقي.
    نحن إذاً نبشر بعالم جديد يسود فيه الشيعة لسيادة حضارتهم, وينعم فيه الجميع في ظل تلك السيادة بالخير والسمو والسعادة و الرفاه . إنّ مهمتنا نحن الشيعة أن ننظر بمثل هذه العين الشمولية إلى آفاق الحياة ولا ننغلق على أنفسنا و مجتمعاتنا المحلية.
    علينا أن نتخلص من العاهات والاغلال التي تمنعنا من أن نتقدم في هذا الركب الحضاري لنسود ونقود.
    وهذا ما سنفصله إن شاء الله تعالى في المحاضرات المقبلة.
    وصلى الله على سيدنا محمد واهل بيته الطيبين الطاهرين..



    تعليق


    • #3
      الحسين عليه الصلاة والسلام.. الماء والدمعة والدم!

      الحسين .. الماء والدمعة والدم!

      على ظهر هذا الكوكب بشر؛ قرابة مليار منهم؛ ما إن يغرف الواحد منهم غرفة من ماء ليرتشفها؛ حتى تعود به الذاكرة إلى مئات من الأعوام خلت لترتسم في ذهنه صورة ذلك الثائر المضحّي الشهيد الذي قُتل ظمآناً، فيتمتم قائلاً : "السلام عليك يا أبا عبدالله الحسين"..
      وأينما نظر المرء منّا إلى الماء فإنّه يجد الحسين وعطشه فيه، فتراه يحدّث نفسه بأنّ هذا الماء قد حُرم منه سيّد الشهداء وأهل بيته وأنصاره صلوات الله عليهم، وقد قتلوا جميعاً عطاشى وألسنتهم تلتهب من شدّة الظمأ فيستذكر ما جرى وما وقع في تلك الفاجعة العظيمة، وتختلج في صدره الأحزان.. وهكذا ظلّ الماء والحسين (عليه الصلاة والسلام) متلازمين في عالم المعاني، والحقّ أنّ هذا الارتباط قد أوجده الله تعالى بحكمته، فقرن بين قضية الحسين (عليه السلام) وعنصر الحياة وجعل بينهما علاقة أزلية لتدوم القضية بدوام الماء الذي لابدّ لكل كائن حي منه حتّى يعيش، فإذا عاش احتاج إلى الماء، وإذا احتاج إلى الماء تذكّر الحسين، وإذا تذكّر الحسين تجدّدت رسالته في نفسه، فيبقى الإسلام وتبقى الولاية على مرّ الزمان. وإذا كان الماء سرّ الحياة المادّية، فإنّ الحسين (عليه الصلاة والسلام) سرّ الحياة المعنوية الحرّة الكريمة الأبيّة. وما ظلّ في الدنيا ماء فسيبقى الحسين حيّاً في الضمائر والقلوب، وحتّى إن نضب وحلّ الجفاف فإنّ جميع أهل الأرض سيتذكّرون عطش الحسين وحرمانه منه.
      أجل.. قد جعل الله (عزّوجلّ) من الماء كلّ شيء حي، وجعل من الحسين (عليه الصلاة والسلام) كلّ مؤمن حرّ.و ثمّة علاقة فطرية أُخرى ليست معنوية فحسب بل تكوينية أيضاً، وهي العلاقة التي تربط بين الحسين (عليه الصلاة والسلام) وبين دمعة الإنسان، أيّاً كانت عقيدته وأيّاً كان انتماؤه، فإنّ لسيّد الشهداء تأثيراً على عيون الناس ودموعهم التي تتقاطر تلقائياً ولا إرادياً في كثير من الأحيان، عند ذكر قصّة استشهاده ومقتله، فتجد حتى غير المعتقدين بولايته كالنواصب والكفّار والملحدين يتأثّرون ويكون، بل إنّ الدموع قد نزلت من عيون قاتليه كيزيد وعمر بن سعد (عليهما اللعنة) ولم يكن ذلك عن قصد واختيار منهم بل عن تأثير تكيوني ودافع فطري لأنّ للحسين (صلوات الله عليه) علاقة حميمة بالدموع والعبرات. فعن سعد بن عبد الله قال: سألت القائم (عليه السلام) عن تأويل كهيعص قال (عليه السلام): هذه الحروف من أنباء الغيب أطّلع الله عليها عبده زكريا ثم قصهاعلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن زكريا سأل الله ربه ان يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمه إيّاها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن (عليهم السلام) سُرِّي عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة، فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته. (بحار الأنوار: ج 44 ص 223).وفي تفسير الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)، أنه رأى ساق العرش وأسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فلقنّه جبرئيل قل: يا حميد بحق محمد، و يا عالي بحق علي، يا فاطر بحق فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه وقال: يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب تصغر عندها المصائب؟ فقال: يا أخي وما هي؟ قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين. (بحار الأنوار: ج 44 ص 245).وقد ورد في صحيح الأخبار عن آل النبي المختار (عليهم السلام) أنّه في يوم عاشوراء بكت جميع الخلائق على أبي عبدالله حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار، بل بكاه أيضاً أهل جهنّم من الكافرين، وما ذلك إلاّ لأنّ الدمعة صنيعة قضية الحسين صلوات الله وسلامه عليه، وأيّاً كانت العين الباكية فإنّ محابس الدموع فيها لا تتمكّن من حبسها عندما تذكر قصّته الحزينة المؤلمة. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أنا قتيل العبرة قتلت مكروباً وحقيق عليّ أن لا يأتيني مكروب قط إلاّ رده الله و أقلبه إلى أهله مسروراً. (كامل الزيارات: ص216).وقال (عليه السلام): أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى. (كامل الزيارات: ص 215). ولنعم ما قال الشاعر: تبكيك عيني لا لأجل مثوبة! لكنّما عيني لأجلك باكية
      ولربما لاحظ البعض أنّ اسم (حسين) هو بحدّ ذاته ذو إيقاع حزين خاص خلافاً لكلّ الأسماء الأُخرى، ولربما لا يجد علماء النفس لذلك سبباً منطقياً وجيهاً، فأن يكون لهذا الاسم إيقاعه الحزين عند الذين يمتلكون الخلفية الثقافية عنه من الشيعة؛ ومن يعرفون قصّة استشهاده وسيرته؛ فذلك أمر ليس بعجيب، ولكن العجيب هو تأثّر من لم يعرفوا عن سيّد الشهداء (عليه السلام) شيئاً وإنّما لمجرد سماعهم باسمه الشريف. إذ كيف يتأثّر من كان كذلك بمجرد إنصاته بهدوء لاسم (حسين) مكررا؟! وكيف يحسّ بتلك المشاعر الحزينة وقد انتابته ما إن تردّد عليه هذه الكلمة؟! إنّ هذا هو ما لا يمكن تفسيره إلاّ بالغيب والفطرة الإلهية حيث قضى الله (تعالى) أن يكون اسم الحسين (عليه الصلاة والسلام) مثيراً للحزن واللوعة والدمعة. ولنضرب مثالاً لذلك فنقول إنّ طائر البومة قد ارتبطت صورته في الذاكرة الإنسانية بالحزن دون سبب علمي وجيه إلاّ أنّ شكل هذا الطائر أعطى هذا الانطباع، فهكذا هو اسم الحسين، يبعث النفس البشرية إلى أن تحزن وتتألّم. فكيف إذا علمنا بأنّ طائر البومة – كما ورد في الروايات – ظلّ حزيناً حقّاً منذ مقتل الحسين بن علي عليهما الصلاة والسلام؟!
      إنّ كلّ من يسمع بقضية أبي عبدالله لا يمكنه إلاّ أن يتأثّر وإلاّ أن تدمع عيناه، حتى وإن كان قلبه من حجر، فإنّ الحجر نفسه بكى على الحسين دماً إذ لم يُرَ حجر في يوم العاشر إلاّ ووجُد أسفله دم عبيط! بل التاريخ يذكر أنّ السماء بكت دماً على الإمام الحسين عليه السلام. وما هذا إلا لأن قضية الحسين (صلوات الله عليه) قضية استثنائية تكوينا وتشريعا، وهنا أمر آخر استثنائي يرتبط بالدم، إنه الدم الذي يتدفق من أجساد الموالين يوم العاشر من محرم كل عام دون أن يُصابوا بالأذى! والدم الذي يتدفق من صخرة في الشام وُضع عليها رأسه الشريف قبل أربعة عشر قرنا! والدم الذي ينسال من شجرة في قزوين حطّت عليها طيور حملت قطرات من دم الحسين الشهيد بأبي هو وأمي!
      فهل هذه إلا خروقات للقواعد الكونية! وهل هذه إلا تعابير حيّة عن قضية استثنائية لا مثيل لها ولن يكون لها مثيل إلى يوم الدين!
      ألا إن الحسين.. ماء الحياة، ودمعة الفؤاد، ودم الثورة!


      منقوووول
      http://sheikh-alhabib.com/edara/index.php?id=140

      تعليق


      • #4
        قبل أن نندم.. لنحسن الاختيار!

        قبل أن نندم.. لنحسن الاختيار !

        هذان نموذجان مهمان؛ أحدهما لحسن التدبير والاختيار، والآخر لخلافه. فلينتبه المؤمنون السائرون في درب الحسين (عليه الصلاة والسلام) إليهما، وليردّاه على واقعهم ليشخّصوا ما هم بصدده في هذه الحياة الفانية.
        النموذج الأول: رجلٌ اسمه حبيب بن مظاهر، ترك عائلته وحيدة معزولة، وذهب والتحق بركب أبي عبد الله (صلوات الله عليه) حتى استشهد معه وأصبح مِن خير مَن أنجبته الأرض، بعد الأئمة والأنبياء والأولياء، أي من المجموعة ذات الثلاثة وسبعين رجلا الذين يقول فيهم صادق آل محمد عليه الصلاة والسلام:".. بأبي أنتم وأمي"!
        النموذج الثاني: رجلٌ اسمه الطرماح بن حكم، لقِيَ الحسين (سلام الله عليه) في طريقه إلى كربلاء، وأراد أن يلتحق به لكنه استذكر عائلته، فعاهد الإمام على أن يعود لنصرته حالما ينتهي من توديع أهله وترتيب بعض شؤون معيشتهم من مِيَرة وما أشبه. ولمّا أن قام بذلك؛ توجّه إلى كربلاء، وبينما هو في الطريق وإذا به يسمع بالخبر المفجع:"قُتِل سيد الشهداء الحسين بن علي وسُبِيَت نساؤه"!!
        فكيف كان شعور الطرماح حينها؟ لقد أحسّ بالندم وقفل راجعا إلى حيث مسكنه خائبا حزينا، لأنه لم يحظَ بشرف الاستشهاد بين يدي سيد شباب أهل الجنة.
        أما حبيب؛ فإنه حََظِي بهذا الشرف الذي ما بعده شرف دون الطرماح، لأنه لم يفكّر بشأن معيشة عائلته بل لم يكترث، وأوكل أمرها إلى الله جل وعلا، ولم يؤخر نفسه عن اللحاق بالركب بدعوى الاكتراء والتجهيز.
        انظروا ودققوا؛ لقد كان كلٌ من الرجلين مستعدا للتضحية والفداء، ونصرة سيد الشهداء عليه السلام، إلا أن أحدهما كان حسن التدبير والتصرف، فقدّر تقديرا حكيما، واختار أن ينزع نفسه من كل ما يربطه بهذه الدنيا، بما في ذلك عائلته، لكي ينال ذلك الفوز العظيم. أما الآخر فإنه أساء الاختيار وأخطأ التدبير الجيد فأوقع نفسه في الندم والحسرة وخسِر الركوب في سفينة النجاة"الأوسع والأسرع"، إذ كان بإمكانه اللحاق منذ البداية، وترك عائلته تتقبل الأمر الواقع فتسيّر شؤون معيشتها بنفسها منذ البداية، فأي فرق بين أن تبقى بلاه منذ اليوم الأول وبين أن تكون كذلك في اليوم الخامس عشر مثلا؟! فما دام الرجل مصمما على الشهادة فأي معنى للتأخير؟! سيما وأن تبرير هذا التأخير حسب ما قال الرجل - وهو صادق - لم يكن إلا توديع الأهل وتموينهم بشيء من الطعام والشراب!
        إنها لحظة من الزمن فارقت بين رجلين، أحدهما وصل إلى أعلى المراتب وهو شافع يشفع للآخرين، والآخر بقي في مرتبته بين صعود ونزول إلى أن تُوِّفي وهو مشفوع يطلب الشفاعة من الآخرين!
        لحظةٌ اختار فيها رجلٌ أن يضحي الآن لا في الغد، ليبقى اسمه متلألئا برّاقا على مرَ الأزمان، يمجّده الناس، ويلثمون ضريحه، ويتوسلون إلى الله تعالى به، ثم يفديه الإمام الصادق (عليه السلام) بأمه وأبيه - تعبيرا عن عظمته وعلوّ شأنه - ويغدو من الثلة المجاهدة التي تسيّدت الخلائق!
        ولحظةٌ اختار فيها رجلٌ أن يضحي في الغد، إذ كان مقتنعا بهذه الخطوة، بيد أن بعض شؤون ما يربطه وعائلتَه بالدنيا صعبت عليه، فآثر أن يؤجل مشروع الفداء والتضحية والاستشهاد إلى أيام قلائل، كانت كافية لأن يخسر الفرصة الذهبية السانحة، ولأن يطويه النسيان! فلا أحد يعرف من يكون الطرماح بن حكم، ولكن الكل يعرف من يكون حبيب، ومن يكون زهير، ومن يكون برير، ومن يكون هاني، ومن يكون جون، ومن يكون الحر، ومن يكون عابس..
        فيا أيها الشيعة! يا مَن تصرخون وتنادون أنصار أبي عبد الله الحسين (عليه الصلاة والسلام) قائلين: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز معكم فوزا عظيما"! إن هؤلاء الأنصار عافوا دنياهم وضحّوا بكل ما يملكون، واختاروا القرار الصعب في الزمن الأصعب، دون تأخير ولا تعطيل ولا مراجعة للنفس، فإن التضحية لا تتطلب مراجعة، لأنها تضحية!
        ألا فاعلموا أن التضحية في دنياكم هذه وعصركم هذا؛ أصبحت نادرة قليلة، لا أحد يقوى عليها إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان، وكان مخلصا صادقا في ولائه لأئمته وسادته الأطهار عليهم الصلاة والسلام.
        أيها الشيعة! قبل أن تندموا ننصحكم: ضحّوا بكل ما تملكون من أجل الحسين عليه السلام. إنه ينتظر منكم مساهمة فعالة ترقى إلى درجة التضحية والبذل العظيم من أجل إيصال صوته وقضيته إلى شعوب العالم. مساهمة لا تتوقف فقط عند حدود الممكن والمعهود والتقليدي. مساهمة تصنع إعجازا يجعل أمما تدخل في الإسلام والتشيّع أفواجا باسم الحسين سيد الشهداء صلوات الله عليه، فليفكر كل واحد في مصداق لذلك.
        قبل أن تندموا كما ندم الطرماح.. فكروا أن تصبحوا كحبيب، لتفوزوا بالدنيا والآخرة. ولا تتريثوا فإن الوقت يمضي، وبعدها لن تنفع الحسرة!


        تعليق


        • #5
          أيها الحسينيون.. أين غيرتكم؟!

          أيها الحسينيون.. أين غيرتكم؟!

          بعدما طعنوه بالرماح، وضربوه بالسيوف، ورشقوه بالسهام والنبال من كل جانب، وثخن جسده الطاهر بجراح جاوزت الألف والتسعمئة جرح، وأخذه الإعياء كل مأخذ؛ سقط على الرمضاء الحارقة وهو يتمتم بلسانه الذابل من شدة العطش: "لا حول ولا قوة إلا بالله"..
          وظل دمه المقدس في سقوطه ينزف وينزف ليروي أرض كربلاء في آخر لحظات حياته الشريفة، تلك اللحظات التي ستغدو محورا يعيد تشكيل تاريخ البشر وأدوارهم في الحياة..
          وبينما كان على هذه الحال، مُستلقيا على الأرض لا يقوى على قيام؛ إذا بأبناء البغايا أرادوا أن يستخبروا خبره، ويعرفوا ما إذا كان سقوطه هذا نهائيا أم لا، حتى يجهزوا عليه ويقتلوه، إذ ما كانوا على مقدرة من مواجهته بالسيف وهو قائم، لشدة بأسه وشجاعته وفروسيته. فعمدوا إلى ذكر رحله وأهله، وهم يعلمون أن في ذلك إذكاءً لغيرته وحميّته، فصاحوا به من بعيد: "يا حسين! لقد هتكت حرمك"!!
          وما إن سمع منهم تلك العبارة الموجعة؛ حتى نهض من جديد، ولكنه سقط! فحاول النهوض ثانية؛ فسقط! وحاول ثالثةً؛ فسقط!!
          في كل مرة كان الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) يحاول القيام والنهوض ليدافع عن حرمه، ولكن قلبه - الذي كان ينزف بغزارة لوقوع السهم المشعّب فيه - لم يكن يسعفه! وجسده المدمي بمئات الطعنات لم يكن يساعده!
          وحينذاك فقط؛ أدرك أبناء البغايا أنه ما عاد يقوى على قتالهم، وأن الحسين عاجز أخيرا، وهو يلفظ أنفاسه! فتجرءوا على التقدّم نحوه لصرعه.. وهكذا كان!!
          لقد كان (بأبي هو وأمي) أبا الغيرة والحميّة حقا، فظل غيورا حتى آخر قطرة دم تسري في عروقه الطاهرة، ولو لم يكن المجرمون يعلمون بذلك؛ لما تجرءوا على قتله، لأنه قد قتل منهم الآلاف المؤلفة في شجاعة لا نظير لها. إنهم يعلمون بأن الحسين (عليه الصلاة والسلام) صاحب الغيرة العظمى، وكيف لا وهو ابن أسد الله علي عليه السلام؟! ولذا استفزوه بادعائهم أن حرمه ونساءه قد هُتكن! ولما رأوه يحاول القيام ولا يستطيع؛ أيقنوا أنه على وشك الموت! فأتموا جريمتهم التي لا تماثلها جريمة منذ بدء الخلق حتى يومنا هذا! عليهم من الله اللعنات تترى وتتوالى..
          فأين هؤلاء الذين يزعمون أنهم بأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) يقتدون وبسيرته يحتذون؟! أين هي غيرتهم تجاه ما يجري على الحرمات من انتهاك؟! وما بالهم يتخاذلون ويتراجعون ولا يبالون بما يجري حولهم؟!
          في يوم الطف؛ شكَّ سهمٌ واحد فقط إزار إحدى النسوة في مخيّم أهل بيت النبوة عليهم السلام، كان ذلك قبل أن يشتبك الحسين (عليه السلام) مع جيش آل أبي سفيان، ولما أن رأى (صلوات الله عليه) ذلك المنظر؛ لم يحتمله، فحمل على القوم كالليث الغضبان، لا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه! وكان ذلك بداية دخوله (عليه الصلاة والسلام) في ساحة المعركة والقتال.. لأن سهما واحدا فقط وقع على إزار إحدى النساء، فهتك الحرمة!
          تُرى.. هل أن "سهما واحدا" فقط وقع على حرمات هذه الأمة اليوم؟! والله لئن كان كذلك لوجب على كل حسيني أن ينهض ويثور، فكيف إذا كانت السهام والطعنات التي وقعت تبلغ عددا ليس بالوسع إحصاؤه ولا عدّه؟!
          إنها أزمة غياب الغيرة والحمية في نفوسنا، إذ تجد الذين يزعمون أنهم "حسينيون"؛ يعيشون حياة رغدة هانئة يتلذذون فيها بكل ما طاب دون أن تستثيرهم الصرخات والاستغاثات التي يطلقها إخوانهم وأخواتهم في الملة والدين، فيهبوا إلى نجدتهم والذب عنهم! ومن العراق، مرورا بالخليج، فباكستان، فإيران، فالبحرين، فمصر، فالجزائر.. وحيثما وُجِد هنالك مؤمنون مضطهدون على مدار العقود الماضية وحتى اليوم؛ لا تكاد تجد أحدا يهتم أو يكترث ممن يعيش في بلدان الرخاء والاسترخاء!!
          لا بل سل نفسك إن كان قد ظهر على هؤلاء "المسترخين" ذرة اهتمام بما يجري من انتهاك للعقيدة نفسها التي تئن وتصرخ! فما بين حملات للنواصب الأنجاس على الأئمة الطاهرين عليهم صلوات المصلين، وما بين مؤامرات ماكرة تحيكها دوائر الاستخبارات في أوساطنا ضد عقائدنا وتراثنا الديني؛ لا ترى أحدا تأخذه الغيرة والحمية فيهب دفاعا عن أئمته وعقيدته.. إلا أقل القليل ممن لا يزال فيهم شيء من الضمير!
          ما سبب كل هذا الجمود والخمول في مشاعرنا وضمائرنا؟! وكيف أصبحت الغيرة مفقودة بين الذين كانوا على مر التاريخ أهل الغيرة والمروءة والإباء؟!
          عندما يتطاول أهل الباطل على النبي الأعظم وسيدة نساء العالمين (صلوات الله عليهما) وينسبون إليهما أنهما كانا يجلسان في مجالس اللهو والغناء فيُطربون؛ ولا نرى لذلك اهتماما يُشار إليه.. فهل مازالت الغيرة باقية في النفوس؟!
          حينما يجري كل ذلك الظلم في العراق ويضج أهله من إرهاب المجرمين الدخلاء، ويشاهد الجميع في وسائل الإعلام أما عجوزا تنتحب أو طفلة تبكي بحرقة؛ فلا يتحرك أحد.. فهل هناك روح حسينية فينا؟!
          وعندما يبقى البقيع الغرقد هكذا، وتُهدم المساجد الأثرية لأهل البيت (عليهم السلام) في المدينة، ويظل شيعتها يطلقون نداءاتهم المتكررة دون جدوى.. فهل هناك حسينيون بيننا حقا؟!
          لقد أصبحنا مع الأسف "شعاراتيين" فقط! نتوجه إلى الحسينيات في كل محرم لنبكي ولنلطم ولنصرخ بأعلى صوتنا بشعار الحسين: "هيهات منا الذلة"! والحال أن الذلة كلها قد وقعت علينا في هذا الزمن الكئيب! إذ يخرج كلٌ منا من حسينيته ليعود إلى منزله وليغط في نوم عميق بينما الأمة من هوان إلى هوان!!
          فمتى نستيقظ ونثور على أنفسنا أولا؟! متى نفتش عن الغيرة الحسينية المفقودة الغائبة بيننا؟! ومتى نتأسى بأبي الغيرة والإباء سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام؟!
          عاشوراء فرصة لذلك..
          هذا لو انتبهنا!

          تعليق


          • #6
            هو الغائب عنا.. أم نحن الغائبون عنه؟!

            هو الغائب عنا.. أم نحن الغائبون عنه؟!

            صاحب الزمان! اسم انحفر في قلوبنا.. ويسري في دمائنا. هو الأمل المتبقي لنا في عالم لم يعد يرحم! نستيقظ فيه كل يوم على أنباء الانفجارات والاغتيالات.. والحروب والمظالم.. والمجاعات والصراعات والأعاصير.. ولم يعد فيه مكان للبسمة والحنان.. أو الشفقة والرحمة!
            نبحث عن الرحمة والأمان، فنستذكر الرحمة المهداة التي قال الله: ”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“ (الانبياء:107) فنرفع الأيادي إلى السماء متضرعين: ”يا ربنا الرحمن الرحيم.. نريد رحمة مهداة منك من جديد.. نريد محمدا جديدا.. نريد خليفة محمد الأول.. نريد خاتم آل محمد.. لينقذنا محمد.. ليدركنا محمد“!!
            وعندما نبحث عن الأمان، نسمع صدى صوته الشريف: ”إني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء“! (البحار ج53 ص181) فنصرخ هاتفين: ”الأمان الأمان يا مولانا يا صاحب الزمان.. الأمان الأمان يا مولانا يا صاحب الزمان“!!
            وهو إذ يسمع استغاثاتنا المتكررة، يتحنّن علينا، فيدعو لنا دائما في قنوت صلاته: ”إلهي بحق من ناجاك، وبحق من دعاك في البر والبحر، صل على محمد وآله، وتفضّل على فقراء المؤمنين والمؤمنات بالغَناء والثروة، وعلى مرضى المؤمنين والمؤمنات بالشفاء والصحة، وعلى أحياء المؤمنين والمؤمنات باللطف والكرامة، وعلى أموات المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، وعلى غرباء المؤمنين والمؤمنات بالرد إلى أوطانهم سالمين غانمين، بمحمد وآله أجمعين“. (مهج الدعوات ص368).
            وهكذا هو – بأبي هو وأمي – يدعو لنا دائما، ويدعو لنا جميعا، يدعو لقضاء حوائجنا وكشف كرباتنا، يدعو لفقرائنا بالثروة، ولمرضانا بالصحة، ولأحيائنا بالكرامة، ولأمواتنا بالرحمة، ولغربائنا بالعودة.. يدعو لنا ليل نهار وفي كل صلاة! فهل نبادله الدعاء؟!
            ربما نقول: نعم نحن نبادله إذ لا ننفك عن الدعاء بتعجيل فرجه صلوات الله عليه..
            لكن لنفكّر قليلا.. هل أن دعاءنا هذا حقيقي؟ بمعنى هل أنه يقترن بالعمل والتطبيق؟ هل نترجمه إلى أفعال؟ أم أنه أضحى مجرد وتيرة راتبة ولقلقة لسان؟!
            هل أننا نفكّر يوميا في كيفية القيام بتعجيل الفرج كما نفكّر في سائر حاجاتنا الملحّة؟ ذلك لأن أمر التمهيد لقيامه المنتظر (صلوات الله عليه) إنما يعتمد علينا.. نحن شيعته، فلو اجتمع منا من الأوفياء المخلصين العدد الذي يفي بنصاب الثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا، لما تأخر إمامنا (عجل الله فرجه الشريف) بالظهور والقيام، إذ قال عليه السلام: ”ولو أن أشياعنا – وفّقهم الله لطاعته – على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا“. (تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص40).
            وحيث لم يظهر إمامنا (صلوات الله عليه) حتى اليوم؛ فإن هذا الحديث السالف يكشف لنا عن واقعنا المأسوي.. هو واقع أننا لا نفكّر تفكيرا جديا حقيقيا نابعا من القلب في تعجيل الفرج وبالمستوى الذي يفكّر فيه الواحد منا في سائر قضاياه الملحّة! فنحن لا نخطو خطوة حقيقية فعلية نحو التمهيد للقيام وإنما نكتفي بالتمني فحسب! مع أننا يتوجب أن ندرك أنه ما نيل المطالب بالتمني..
            هذا الواقع المأسوي يكشف أن في كل أمتنا لم يجتمع – من القلب – الجمع الكافي لظهور الإمام عليه السلام! وهو هذا العدد البسيط من الأوفياء المخلصين المستعدين للنصرة! فكل هذه المبايعات التي تتم كل صباح في دعاء العهد لإمام الزمان (عليه السلام) والتي يقول أصحابها فيها أنهم يبايعونه على النصرة والاستشهاد بين يديه ويطلبون منه التعجيل بالقيام.. إنما هي مبايعات صورية! إلا من القلائل الذين لم يصل عددهم إلى حد النصاب بعد! الثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا كما قال الجواد (صلوات الله عليه) في وصف القائم عجل الله فرجه: ”يجتمع إليه من أصحابه عُدّة أهل بدر – ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا – من أقاصي الأرض، وذلك قول الله عز وجل: (أينما تكونوا يأتِ بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير).. فإذا اجتمعت له هذه العُدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره“. (كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص378).
            فهل بعد هذه مأساة أعظم؟! وماذا عسانا أن نقول تبريرا؟!
            إننا نطلب منه يوميا إنقاذنا.. بيد أننا مازلنا لا نفهم أن هذا الإنقاذ مرهون باستصلاح أنفسنا أولا، فإنه لو تحقق واجتمعنا اجتماعا حقيقيا على بذل الروح في سبيل نهضته المرتقبة (صلوات الله عليه) ولم يكن ذلك منا مجرّد كلام، بل كلاما مقرونا بأفعال، فإنه (أرواحنا فداه) لن يتأخر – كما وعد – في الظهور والخروج من حال الاحتجاب والاستتار.
            والآن.. هل يتحمّل قلب الواحد منا أن يقول له قائل: ”أنت السبب في تأخر ظهور إمامك المنتظر وأنت السبب في بقائه غائبا“؟!
            ما من أحد منا يتحمّل هذه الكلمة.. مع أنها كلمة حق وصدق!
            كيف؟!
            لنرجع قليلا إلى ما جاء في خبر تشرّف علي بن مهزيار (رضوان الله عليه) في موسم الحج بلقاء مولانا صاحب الأمر (صلوات الله عليه)، وهي القصة المشهورة في كتب التاريخ. فعندما آن أوان اللقاء وجاء الإذن من لدن مولانا الإمام (صلوات الله عليه)، بعث أحد خدمته إلى ابن مهزيار ليأخذه ويوصله. كان علي بن مهزيار حينها عند باب الكعبة، يدعو بأن تتحقق أمنيته الموعودة، وإذا بالخادم يأتيه فيقول له: ”ما الذي تريده يا أبا الحسن“؟
            التفت ابن مهزيار بلهفة إلى السائل وقال جوابا: ”الإمام المحجوب عن العالم“!
            هنا لندقق في جواب ذلك الخادم (رضوان الله عليه) والذي لم تكشف لنا الرواية اسمه.. بماذا أجاب ابن مهزيار قبل أن يأخذ بيده ويوصله إلى حيث حجة الله على أرضه؟
            لقد أجابه قائلا: ”ما هو بمحجوب عنكم! ولكن حجبه سوء أعمالكم“!! (البحار ج53 ص321).
            فهكذا إذن! ليس سوانا من جعل بقية الله (صلوات الله عليه) يحتجب ويغيب! وهو أساسا ليس غائبا عنا.. بل نحن الغائبون عنه! فبسبب سوء صنائعنا وأعمالنا حجبناه عن أنفسنا، وإلا فهو حاضر، يطوف بيننا، ولكن لا نراه.
            إنه (صلوات الله وسلامه عليه) يحج معنا كل عام ويقف في عرفة ومع ذلك لا نشخصه ولا نراه! وهو يزور معنا كل إمام ويقف أمام الأضرحة المقدسة زائرا ومع ذلك لا نشخصه ولا نراه! وهو يحضر معنا كل مجلس تُذكر فيه مصائب آبائه (صلوات الله عليهم) ويسير معنا في مواكب الشعائر الحسينية ومع ذلك لا نشخصه ولا نراه! كل هذا بسبب ذنوبنا ومعاصينا وسوء أعمالنا التي حرمتنا من رؤيته وجعلته محجوبا عنا.
            أما أولئك الذين اتقوا الله، وعملوا الصالحات، وجاهدوا الجهاد الأكبر والأصغر، جهاد النفس وجهاد الكفر والظلم والطغيان والضلال.. أولئك الذين استعاذوا بالله من الانزلاق في مهاوي الشيطان.. أولئك الذين ترجموا مبايعاتهم اليومية لإمام زمانهم إلى أفعال حقيقية، فأصلحوا أنفسهم وأصلحوا من حولهم، ودعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. هؤلاء هم الذين لم يحجبوا إمامهم عنهم! فيرونه في تلك المشاهد والمواقف ونحن لا نراه!
            إن هذا هو ما يفسّر تلك الروايات والقصص العديدة التي ورد فيها أن الصالحين كانوا يتشرّفون بلقاء الإمام المهدي (صلوات الله عليه وعجل الله فرجه) ويشخّصونه ويتشرّفون بالتحدث معه، فيما الآخرون المحيطون بهم، وفي المجالس والمواقف نفسها، لا يروْن شيئا ولا يفقهون حديثا!!
            إحدى هذه الشواهد هي قصة المرحوم آية الله السيد محمد مهدي بحر العلوم الشهيرة، عندما كان السيد واقفا على جانب الطريق مع جمع من حاشيته فيما كانت الطريق تغص بجماهير المؤمنين المعزّين اللاطمين في العزاء المعروف بعزاء (طويريج) في كربلاء المقدسة، وكما هو معلوم فإن هذا العزاء بالذات يتميّز بخصوصية ليست في سائر أنواع العزاء والشعائر الحسينية الأخرى، فالجماهير تركض وتصرخ وتضج بطريقة عنفوانية متسارعة حتى تصل إلى حرم أبي عبد الله (صلوات الله عليه)، ولم يكن المراجع والعلماء آنذاك يرون من المناسب أن يشتركوا في هذا النوع من العزاء لأنه قد يخلّ بهيبتهم ووقارهم ومكانتهم الشخصية، إلا أن السيد بحر العلوم – فجأة – خرج عن تلك الحال وانضم إلى الجماهير وفي وسط الطريق ضاجا لاطما راكضا ولم تنفع محاولات كل من حوله من حاشيته في ثنيه عن ذلك!
            وبعد انتهاء مراسم العزاء سئل السيد عن سبب قيامه بذلك الفعل مع ما اقتضاه من تأثيرات قد تكون سلبية في عيون الناس على شخصيته ووقاره، فأجاب بعد إصرار من السائلين: ”إنكم لم تروه! أنا رأيته! لقد كان مولاي صاحب الأمر مشتركا في هذا العزاء بين الجماهير وهو يبكي ويضج على جده الحسين صلوات الله عليه.. فكيف تريدون مني أن لا أشترك فيه“؟!! (راجع تاريخ النياحة للسيد صالح الشهرستاني ج2 ص73).
            وهاهنا شاهدنا: لماذا لم ترَ كل هذه الجماهير المليونية إمامها ورآه فقط هذا السيد الجليل؟!
            الجواب واضح: لو كانت الحجب مرفوعة عن هؤلاء لرأوه كما رآه السيد مهدي بحر العلوم (رضوان الله عليه)، لكنهم إذ لم يرفعوها عن أنفسهم بمزيد من التقوى والعمل الصالح فإنهم حجبوا إمامهم عن أنفسهم!
            إن الموالي الصادق، إذا كان مؤمنا حقا، تقيا مخلصا، عاملا في طاعة إمامه واجتناب نواهيه، فإنه حتى لو كان أعمى البصر فإنه سيتمكن من رؤية الإمام (عجل الله فرجه الشريف)! وإن الموالي المبتعد عن الالتزام بعهد الله وعهد رسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) فحتى لو كانت عيناه تتمكن من رؤية ما وراء الشمس فإنه لن يتمكن من رؤية الإمام الذي حجبه عن نفسه ولو كان الإمام واقفا إلى جانبه!
            وقد وقع هذا بالفعل، عندما شاء إمامنا الباقر (صلوات الله عليه) أن يعطينا مثالا على ذلك، فأخذ بصحبته أبا بصير (رضوان الله عليه) ودخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة. فقال الإمام لأبي بصير: ”سل الناس هل يرونني“؟
            قام أبو بصير بسؤال كل من مرّ عليه برفقة الإمام: ”أرأيت أبا جعفر عليه السلام“؟ وكانت الإجابة من الجميع: ”لا“!! مع أن الإمام (صلوات الله عليه) كان ماثلا أمامهم مباشرة!
            بعد فترة وجيزة، دخل أبو هارون المكفوف، رجل أعمى لا يبصر، فأمر الإمام أبا بصير بأن يسأل هذا، فسأله: ”أرأيت أبا جعفر عليه السلام“؟
            ماذا نتوقع أن يجيب هذا الرجل الضرير؟
            لقد أجاب: ”أليس هو واقفا“؟!
            تعجب أبو بصير من ذلك أشد العجب فسأل أبا هارون: ”وما علمك“؟ فأجاب: ”وكيف لا أعلم وهو نور ساطع“!! (الخرائج والجرائح ج2 ص596).
            هكذا يرى الإمام ذو البصيرة وإن كان فاقدا للبصر! وهكذا يُحرم من رؤية طلعته البهية فاقد البصيرة وإن كان ذا بصر! فمن أي الصنفين أنت؟ من ذوي البصر أم البصيرة؟
            علينا أن نغيّر من مفهومنا لغيبة الإمام المنتظر (صلوات الله عليه) من الآن فصاعدا، فليس هو الغائب عنا، بل هو الحاضر الذي لا تعزب عنه أخبارنا، لكننا نحن الغائبين والبعيدين عنه! فلا نفكّر فيه كما نفكّر في سائر قضايانا وهمومنا الحياتية اليومية! بالله هل يفكّر الواحد منا بالسعي للقاء إمامه قبل أن يموت؟ وحتى إن طرأت على ذهنه هذه الفكرة.. هل يعمل باتجاه تحقيقها كما يعمل باتجاه تحقيق سائر طموحاته في الحياة؟!
            إن الفرد منا إذا أراد أن يصبح تاجرا عملاقا، تجده لا يهدأ ولا يسكن حتى يتحقق أمله، فيعمل من الصباح وحتى آخر لحظة قبل النوم من أجل أن يصل إلى هذا المقام.. فهل منا من يكون على هذه الوضعية من العمل الدؤوب ليل نهار من أجل تحقيق الأمل بلقاء سيد الأكوان إمام العصر والزمان صلوات الله وسلامه عليه وأرواحنا فداه؟!
            إن كان لبان.. وإنه لقليل نادر!
            ثمة توقيع شريف صدر من لدن الناحية المقدسة (صلوات الله على صاحبها) يؤكد بكل وضوح أن اللائمة تقع على الذين انتحلوا التشيع وهم بعيدون عن الوفاء بالعهد الإلهي، وهو العهد الذي يقتضي طاعة أهل البيت طاعة مطلقة، في الأوامر والزواجر..
            هذا التوقيع صادر إلى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) ويقول فيه مولانا الإمام صلوات الله وسلامه عليه: ”.. فإنّا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون“!! (تهذيب الأحكام ج1 ص38).
            هكذا يكشف لنا الإمام عن مأساتنا! نحن الذين نبذنا العهد المأخوذ منا وراء ظهورنا وجنحنا نحو أهوائنا التي كان سلفنا الصالح من الشيعة الأبرار بعيدين كل البعد الشاسع عنها.. فوا أسفاه على حالنا!
            وبعد إذ اتضحت الحقيقة، وهي حقيقة أننا نحن الذين حجبنا عن أنفسنا إمامنا صلوات الله عليه، وأننا نحن السبب في تأخير ظهوره، وأننا نحن الذين تركنا العهد والميثاق وعدلنا عن طريق آبائنا وأجدادنا؛ فما هو العمل الآن لكي نقترب من إمامنا (صلوات الله عليه) أكثر ونصل إليه وننضم إلى كتيبة جنده الموعودة وننقذ أنفسنا؟!
            إن الطريق لذلك رسمها لنا الإمام (عجل الله فرجه الشريف) نفسه وفي نفس التوقيع للشيخ المفيد، حيث قال: ”ليعمل كل امرئ منكم بما يقرّبه من محبتنا، وليجتنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا يبعثه الله فجأة حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة“! (المصدر السابق).
            فهو إذن العمل.. الالتزام بالعمل الصالح الذي ننال به محبة أهل البيت صلوات الله عليهم، والاجتناب عن العمل الفاسد الذي يجلب لنا كراهة وسخط أهل البيت والعياذ بالله. يجب أن نكون كذلك قبل أن يفوت الأوان، فإنه لو ظهر الإمام – كما في النص السابق – فلن ينفع الندم ولا التوبة!
            لنفكّر! لنصحو! لنعمل! عسى أن يرزقنا الله رضى المولى صاحب الأمر أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.



            منقول
            http://sheikh-alhabib.com/edara/index.php?id=71

            تعليق


            • #7
              الزهراء التي.. نطهر بولايتها!

              الزهراء التي.. نطهر بولايتها!
              يسطع نور مولاتنا الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ويشع متلألئا بين أنوار المعصومين الأربعة عشر (عليهم الصلاة والسلام) بشكل فريد ومميز واستثنائي. فمع كامل الإيمان بأنهم جميعا نور واحد كما دلّت عليه الأخبار المتضافرة؛ إلا أنه تبقى للزهراء (سلام الله عليها) مزايا وخصائص ليست لسائر المعصومين (سلام الله عليهم)، تلك المزايا والخصائص التي كلما غاص فيها اللبيب باحثا ومتفكرا؛ كلما وجد نفسه يغوص في بحر الحيرة والتعجب!
              وكيف ينقضي تعجبنا وتتبدد حيرتنا إذا كان ذلك المقام الشامخ العظيم أكبر حتى من مستوى إدراك الأنبياء والملائكة (عليهم السلام) وسائر المعصومين ما خلا رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهم)؟! وكيف نتوقع لعقولنا أن تستوعب أو تدرك أو تحيط بتلك الهالة النورانية المصطفاة التي تدور الأكوان والخلائق على محورها؟!
              يمكننا أن نتحدث عمن نشاء من الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) وما من شك أن كلامنا يظل قاصرا، ولكن هذا القصور يتضاعف تضاعفا هائلا بمجرد أن يصل حديثنا إلى الزهراء البتول (صلوات الله عليها)، فنجد أن العقل يكاد أن يتوقف معلنا عجزه عن تفسير خصائص هذا المقام العظيم للزهراء صلوات الله عليها، لأن ما ورد فيها لم يرد في غيرها. وعلى هذا فكل ما بيدنا أن نفعله هو أن نحاول الاقتراب قدر الإمكان من فهم عظمتها (صلوات الله عليها) مع إقرارنا المسبق بأن عقولنا قاصرة وأفهامنا ناقصة.
              كمثال على ذلك:
              إذا تفحصنا المأثور من زيارات المعصومين الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) وجدناها متقاربة النسق، متشابهة الألفاظ، فتبدأ الزيارة بالسلام عادة، أو بالصلاة، كأن يقال: ”السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله..“ أو ”السلام عليك يا أمين الله في أرضه وحجته على عباده..“ أو ”السلام من الله على محمد رسول الله أمين الله على وحيه ورسالاته..“ أو ”سلام الله وسلام ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعباده الصالحين (...) عليك يابن أمير المؤمنين..“ إلى آخرها من عبارات الزيارات المختلفة للمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، وأقربائهم وأوليائهم وأصحابهم.
              ولا تكاد تجد زيارة لا تبدأ بالصلاة والسلام، ويرد فيها كثيرا ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ”أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر..“ كما كثيرا ما يرد اللعن لأعداء الدين وأعدائهم ”لعن الله من قتلك..“ أو ”اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد..“ وما شابه ذلك.
              ثم نرى الزيارات تأتي على نسق متقارب، فتتدرج بالقارئ لتصف أن هذا الإمام أو الولي المزور (عليه السلام) يرث الأنبياء والمرسلين ومن سبقه من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وأنه قد جاهد في سبيل الله ودعا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. وتأتي الزيارة على ذكر حياته وما عاناه فيها من المحن وصبره عليها، ”السلام عليك يا باب الله، أشهد أنك (...) تلوت الكتاب حق تلاوته وجاهدت في الله حق جهاده وصبرت على الأذى في جنبه محتسبا وعبدته مخلصا حتى أتاك اليقين..“.
              هكذا هي زيارات أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، تأتي على لحن واحد، ونمط متشابه، تجعل الزائر يعيش في أجواء الإمام المزور (عليه السلام) إلى أبعد حد، فيلقّن نفسه بفضائله ومناقبه، ويردّد على لسانه ما تعرّض له من الجور، ويتبرأ من قاتليه ومناوئيه. وما جعل الأئمة (صلوات الله عليهم) الزيارات على هذا النحو إلا حتى تؤثر تأثيرا تربويا على النفوس ليشحنها بالمفاهيم العقائدية والولائية والإيمانية.
              أما عندما يأتي دور فاطمة (أرواحنا فداها) فنجد الأمر مختلفا بكل المقاييس! فوحدها الزهراء (سلام الله عليها) تأتي زيارتها على نمط خاص، ونسق عجيب، وعبارات وألفاظ استثنائية، وإيقاع غريب لا يشابه أيا من زيارات المعصومين الأخرى.
              لحن لا مثيل له، وإيقاع يحار فيه كل من يقرأه ويتدبّر فيه، يجعلك تهيم في بحر من التموّجات الروحية المتمازجة، ويأخذك بعيدا في عالم الغيب والماورائيات، ويزخّ في نفسك زخّات من آفاق الملكوت الإلهي.. كل هذا في كلمات لا تتعدى ثلاثة أسطر! فلعلها من أخصر الزيارات المروية، ومع ذلك فإنها تنطوي على أسرار ومعاني عميقة هائلة، ربما يحتاج المرء لأن يصرف عمره كله في محاولة فهمها وتفسيرها.. ومع هذا فلن يصل إلى غايته!
              هذه الزيارة يرويها الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن الإمام محمد الجواد (صلوات الله وسلامه عليه) (*)، وهذا نصها:
              ”عن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن محمد العريضي قال: حدثني أبو جعفر (عليه السلام) ذات يوم، قال: إذا صرت إلى قبر جدتك فقل: يا ممتحنَة! امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك به صابرة، وزعمنا أنّا لك أولياء ومصدّقون وصابرون لكل ما أتانا به أبوك صلى الله عليه وآله وأتانا به وصيه عليه السلام، فإنّا نسألك إن كنا صدّقناك إلا ألحقتنا بتصديقنا لهما لنبشر أنفسنا بأنا قد طَهُرنا بولايتك“! (التهذيب ج6 ص10).
              الله أكبر!
              هلاّ استطاع أحد أن يفسّر لنا هذه الكلمات العظيمة بشكل تام؟ وهل بمقدور أحد أن يدّعي معرفته بالمعاني والمقاصد التي انطوت عليه هذه الكلمات النورانية؟ بالطبع لا أحد يستطيع.. فكل ما باليد ليس سوى أن نحاول الالتفات إلى بعض المعاني على وجه الملاحظة.
              أول ما نلاحظه في هذه الزيارة أنها جاءت بشكل مختلف كليا عن مجمل زيارات المعصومين الأخرى، إلى درجة أنها لم تبدأ حتى بالسلام، ولم يرد ذكر السلام فيها إطلاقا! وأول كلمة نجدها تفاجئنا في النص هي: ”يا ممتحنَة..“!
              إنه خطاب ذو لهجة مغايرة لا يترك لك مجالا إلا أن تهتز من الأعماق! وبعبارة أخرى؛ فإنك في سائر زيارات المعصومين (عليهم السلام) تجد نفسك ساكنة هادئة إلى مستوى معقول، لأن طبيعة الخطاب الذي توجهه لإمامك يساعد على ذلك. فعلى سبيل المثال: معظم بل كل زيارات المعصومين يتكرر فيها إلقاء السلام خصوصا في العبارات الأولى ”السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله.. السلام عليك يا وارث نوح نبي الله.. السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله..“.
              هذا التكرار يساعد على تحقيق مستوى من الاستقرار النفسي، أما في زيارة الزهراء (صلوات الله عليها) فإن نفسك لا تكون مستقرة! بل تشعر بهزات من الأعماق، لأنك أول ما تبدأ به في خطابك تجاه مولاتك هو قولك لها: ”يا ممتحنَة..“! وهنا يزلزلك الخطاب ويوقد فيك نار الاضطراب! فيستثير فيك عظمة الامتحان الذي تعرّضت له الزهراء (صلوات الله عليها) حتى طغى ذلك على صفتها، لتكون أول كلمة توجهها لها: ”يا ممتحنَة..“ فورا ومن دون أية مقدّمات!
              ولن تترك لك تتمة العبارة الأولى مجالا للهدوء! لأنك إذا جعلت تفسيرك الذهني لتلك الكلمة أنها تعرّضت لتلك البلايا والمصائب في دار الدنيا وكان ذلك امتحانا واختبارا إلهيا لها؛ فإنك بمجرد أن تواصل الخطاب فسيتلاشى عندك هذا التفسير وتراه أصغر من أن تقتنع به! لأنك ستقول: ”يا ممتحنة! امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك..“!!
              فأين سيطوف بك خيالك لتفسير هذه العبارة؟ وأين يسعك أن تعثر على إجابة وافية لها؟
              كيف يمتحنها الله قبل أن يخلقها؟ هل كان ذلك في عالم الأنوار مثلا عندما خلق الله أهل البيت ولا أحد سواهم بعد؟ أم في عالم الذر حيث أشهد الله تعالى بني آدم على أنفسهم قائلا: ”ألست بربكم قالوا بلى..“؟ أم في أي عالم؟!
              وما هي طبيعة الامتحان الذي امتحنها به الله تعالى قبل أن يخلقها؟! هل أن مصائب الزهراء (صلوات الله عليها) في دار الدنيا وما تعرّضت له من الجور على يدي أهل السقيفة ليس هو الاختبار الوحيد وهنالك اختبارات قبله.. وربما بعده؟!
              أم هل نفسّر النص على أن معنى الامتحان الإلهي – قبل الخلقة – إنما يعني أن الله تعالى بعلمه الإحاطي المسبق علم أن الزهراء ستنجح في الامتحان الذي سيعرّضها إليه، فجاء النص على هذا النحو؟
              يمضي بك النص لتزداد عندك التساؤلات وليدور فكرك في دائرة الحيرة، وفي غمرة هذه التساؤلات تنقدح في ذهنك شرارة تساؤل صعب كبير: مهلا! كيف يكون امتحان في غير دار الدنيا أصلا؟! أليست الدنيا دار الامتحان فقط؟! هل أن الزهراء تعرّضت لامتحان استثنائي قبل ذلك.. امتحان من نوع خاص؟!
              ينبئك النص بأن الله تعالى وجد الزهراء صابرة لما امتحنها به قبل أن يخلقها! فلا تجد نفسك إلا عاجزا عن التفسير وإيجاد المعنى الحقيقي لما تقوله بنفسك أثناء زيارتها!
              ولا تكاد تضرب صفحا عن هذه التساؤلات؛ حتى تصعقك كلمة ”وزعمنا أنّا لك أولياء..“!! فتقول في قرارة نفسك: ما معنى هذا؟ هل أن موالاتنا للزهراء (صلوات الله عليها) مجرد زعم؟!
              حسب اللغة؛ فإن الزعم هو الادعاء المحتاج إلى دليل للإثبات، فالأصل فيه الكذب إلا أن يثبت الصدق بدليل. إذا عرفنا ذلك؛ أدركنا مدى خطورة هذه الكلمة وهذه العبارة ”وزعمنا أنّا لك أولياء..“، فالحقيقة هي أننا نزعم أننا موالون للزهراء (صلوات الله عليها) ولكن إثبات أننا مخلصون في موالاتنا يبدو صعبا على نفوس ملوثة بالذنوب مثل نفوسنا!
              ولننتبه إلى ما عبّرت عنه الزهراء (أرواحنا فداها) بنفسها في هذا الشأن، فقد رُوي أن رجلا أرسل امرأته إلى فاطمة (عليها السلام) وقال لها: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاسأليها عني؛ أني من شيعتكم أم ليس من شيعتكم؟ فسألتها فقالت: ”قولي له: إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا، وإلا فلا“! (البحار ج65 ص155).
              وبملاحظة هذا المعنى، يمكن أن نعرف ما ينتابنا عندما نتوجه إلى الزهراء (عليها السلام) بالزيارة ونقرأ هذه العبارة: ”وزعمنا أنّا لك أولياء..“، فإنها حقا صعقة كبرى نوجهها لأنفسنا بأنفسنا! فنعترف بأننا نزعم الموالاة والتشيع – تلك الدرجة العالية الرفيعة – في الحين الذي لا نزال فيه نرتكب الخطايا والذنوب التي تنزع عنا هذه الصفة الجليلة.
              ولا نعترف بذلك، ولا نوجه هذه الصعقة لأنفسنا إلا أثناء زيارتنا للزهراء (سلام الله عليها) دون سائر المعصومين عليهم الصلاة والسلام. لهذا تكون هذه الزيارة مغايرة، ولهذا نقول أنها تحرّك كوامن الضمير وتستثير المشاعر وتدفعنا نحو محاسبة النفس أكثر.
              مع هذا؛ يعطينا نص الزيارة بارقة أمل عندما نمضي بتلاوة سائر الكلمات: ”وزعمنا أنا لك أولياء، ومصدقون وصابرون، لكل ما أتانا به أبوك صلى الله عليه وآله، وأتانا به وصيه عليه السلام، فإنا نسألك إن كنا صدقناك؛ إلا ألحقتنا بتصديقنا لهما، لنبشر أنفسنا بأنّا قد طهرنا بولايتك“!
              سبحان الله!
              تكون الزهراء البتول (صلوات الله وسلامه عليها) هي المسؤولة عن إلحاقنا بأبيها وبعلها (عليهما الصلاة والسلام)، ويكون قيد الشرط في كل ذلك تصديقها هي! فما أروع هذا المقام الفاطمي الشامخ.
              ثم دع خيالك يسرح الآن في أرحب فضاء وأنت تردد: ”لنبشر أنفسنا بأنّا قد طهرنا بولايتك“! وفكّر في سرّ هذا التطهير الإكسيري النابع عن ولاية فاطمة سيدة نساء العالمين! هل أنه تطهير طريقي أم موضوعي بحد ذاته؟ هل أنه تطهير تكويني؟ هل أنه تطهير شرعي حكمي؟ أم هذه كلها مجتمعة؟ أم هو تطهير من جنس خاص يغيب عن محتوى معرفتنا القاصرة؟!
              نحن نعرف أن من يتعدّى حدود الله تعالى، كشرب الخمر مثلا والعياذ بالله، لا بد له من أن يتطهّر، فيكون تطهيره بإقامة الحد عليه، ولهذا نجد في التاريخ أن بعضا من الذين تعدّوا الحدود كانوا يذهبون إلى رسول الله أو أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) ويقولون: ”يا رسول الله طهّرنا.. يا أمير المؤمنين طهّرنا..“ وهم يقصدون إقامة الحد عليهم في الدنيا لئلا تبقى تلك المعصية مسجلة في صحائف أعمالهم يوم القيامة فيؤاخذوا عليها ويزج بهم في النار، نستجير بالله تعالى منها. فهل أن ولاية الزهراء (صلوات الله عليها) ضرب من هذا القبيل، أعني أنها كالحد الذي يطهّر صاحبه مما اقترفه من صغائر وعظائم الذنوب؟
              لعلّ أحدا يشكل على ذلك القول بأن الحد ضرب من العذاب، فكيف يشبه بولاية الزهراء صلوات الله عليها؟ والجواب: إنما كان التشبيه من جهة كونه تطهيرا لا من هذه الجهة، فما ولايتهم إلا أحلى من الشهد والعسل. إلا أن فيها عذابا أيضا! لأن من يواليهم حقا يتعرّض إلى صنوف الجور والظلم في الدنيا، كما ورد عن مولانا الأمير عليه السلام: ”من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء“! (البحار ج8 ص740 والغارات ج2 ص588 وشرح النهج ج1 ص371).
              ورحم الله الفقيه السيد ناصر حسين الموسوي الهندي الذي قال:
              إن كنت من شيعة الهادي أبي حسن
              حقا فأعدد لريب الدهر تجنافا
              إن البلاء نصيب كل شيعته
              فاصبر ولا تك عند الهم منصافا
              نحن ملوّثون بالمعاصي والذنوب والموبقات، فكيف تطهرنا ولاية الزهراء (صلوات الله عليها)؟ هل المعنى من هذا التطهير أن ولايتها تقودنا طريقيا نحو الامتناع عن اقتراف الذنوب والبعد عن المحرّمات بالنظر إلى التزامنا بأوامرها ونواهيها؟ أم هل المعنى أنه مادة موضوع مستقل يحطّ الذنوب حطّا كالاستغفار مثلا؟ أم هل المعنى أنه يغيّر تكوينيا من أرواحنا وينقّيها من نوازع الشر ويغذي نوازع الخير فيتحقق التطهير؟ أم هو حكم شرعي خاص كطهارة المؤمن مقابل نجاسة الكافر؟ أم ماذا.. وماذا؟!
              يبقى الخيال سارحا في هذه الكلمة وهذه البشارة العظيمة، ويبقى الباب مفتوحا أمام جميع التفسيرات والاحتمالات المعنوية، لكنه شيء يأتينا من وراء الغيب.. والأمل هو أن نبشّر أنفسنا بأننا قد طهرنا بولاية فاطمة صلوات الله وسلامه عليها.
              هكذا نجد أن زيارة الزهراء تختلف عن زيارة من عداها، وهكذا نجد أن خطاب الزهراء يختلف عن خطاب من عداها، وهكذا نجد أن المعاني التي جاءت للزهراء تختلف عن المعاني التي جاءت لمن عداها. وإننا لو بحثنا في طول وعرض الأخبار والآثار لما وجدنا لهذه العبارات مثيلا بالنسبة لأي من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).. إلا الزهراء البتول أم أبيها روحي فداها.
              وهذا كان نموذجا واحدا فقط يدلّل على ما ذهبنا إليه في صدر الموضوع من أن شمس الزهراء تتلألأ بشكل استثنائي خاص عن سائر الشموس المحمدية العلوية. وإلا فالأمثلة كثيرة في هذا المضمار، وسنرى مع قليل من البحث والفحص أن ما جاء في الزهراء لم يجئ في غيرها. فهذا الله تعالى قد نادى في الملأ الأعلى: ”أنا الفاطر وهي فاطمة.. وبنورها ظهرت الأشياء من الفاتحة إلى الخاتمة“!! (الخصائص الفاطمية ص1).
              ..صلى الله على البتول الزهراء التي بولايتها تطهر نفوسنا، وعلى أبيها وبعليها وبنيها، ولعنة الله على أعدائها وأعدائهم إلى يوم الفصل والحساب، آمين يا رب الأرباب.
              ________________________________
              (*) مع أن إطلاق كنية (أبي جعفر) تنصرف بالذهن أولا إلى الباقر (عليه السلام) إلا أننا نسبنا الرواية للجواد (عليه السلام) بقرينة الراوي الأخير ”إبراهيم بن محمد بن عيسى بن محمد العريضي“ فهو وإن كان ممن اقتصرت روايته على هذا الخبر وكذا حال من مضى من الرواة قبله عدا محمد بن أحمد بن داود الذي كان من مشايخ القميين، فهم على الترتيب:“محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن وهبان البصري، عن أبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن السيرافي، عن العباس بن الوليد بن العباس المنصوري، عن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن محمد العريضي، عن أبي جعفر عليه السلام..“. أقول: أنه مع هذا إلا أنه يقوى جدا أن تكون الرواية عن الجواد دون الباقر (عليهما السلام) من جهة أن ”العريض“ قرية من قرى أطراف المدينة، وأول من نُسب إليها باسم ”العريضي“ كان علي بن جعفر (ابن الصادق وأخا الكاظم عليهما السلام) فسمي بعلي العريضي وهو جد السادة العلويين الحاملين لهذه النسبة، فحيث أن للراوي جد أعلى ينسب بهذه النسبة ”محمد العريضي“ وأنه سيد لقول الإمام له: ”إذا صرت إلى قبر جدتك..“ فيقوى أن عصره متأخر عن عصر الباقر (عليه السلام) وأنه كان معاصرا للجواد (عليه السلام) فتكون روايته عنه. فتأمل.


              منقول
              http://sheikh-alhabib.com/edara/index.php?id=69

              تعليق


              • #8
                عودوا إلى محمد وعلي.. تعود إليكم القدس بالمهدي!

                عودوا إلى محمد وعلي.. تعود إليكم القدس بالمهدي!

                قبل ثلاثة وثلاثين عاما، تجمهر الجنود الإسرائيليون حول حائط المبكى بعد انتصارهم واقتحامهم مدينة القدس الشريف في حرب 1967 وهتفوا مع قائدهم موشي دايان قائلين: "حطوا المشمش عـ التفاح.. دين محمد ولّى وراح"! وهتفوا أيضا وقد تملكتهم نشوة الانتصار: "محمد مات.. خلّف بنات"، وأضافوا: "هذا يوم بيوم خيبر"!
                وحتى تتضح الصورة أكثر فأكثر، فلندقق في ما كتبه الكاتب الصهيوني (إيرل بوغر) في كتابه "العهد والسيف" حيث اعتبر أن "المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكنا فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذّي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي، وهي عناصر رجعية تتمثل في رجال الدين والمشايخ"! أما (غوريون) رئيس وزراء إسرائيل الأسبق فقال في تصريح: "إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم الإسلامي محمد"!
                هذه إذن طبيعة المواجهة، إنها ليست مواجهة سياسية، بل هي مواجهة دينية عقائدية بالأساس. فالصهاينة اليهود يرون في الإسلام مصدر تهديد حقيقي لأسس بقاء كيانهم الاستعماري وأطماعهم التوسعية ومصالحهم الاستراتيجية. وعلاوة على ذلك، فإنهم يختزنون حقدا كبيرا تجاه المسلمين منذ ذلك اليوم الذي هزموهم فيه بموقعة خيبر، وينصب حقدهم بالدرجة الأولى على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
                إنه "الثأر" الذي يحكم عملية الانتقام المنظمة، ولذا نراهم هتفوا بهذه الهتافات ما إن استولوا على الأقصى الشريف. وباعتبار أن معول القوة والشجاعة والعزة لدى المسلمين يتمثل في علمائهم الربانيين فإن رؤوس حِراب الصهاينة توجهت نحو أولئك العلماء، كما نقلنا عن (بوغر) الذي وصمهم بالعناصر الرجعية التي تحول دون خضوع العرب لإسرائيل، ذلك الخضوع الذي أطلق عليه مسمى "التعاون".. فيا لله وللتعاون!
                وما من شك بأن المخططات الصهيونية ارتكزت على هدفية التفريق بين الشعب المسلم ودينه، ذلك لأن توافر الحالة الإيمانية في ما بين الصفوف من شأنه أن يكون سدا منيعا أمام كل محاولات الهيمنة والاستعباد، في حين أن تفشي ظواهر الانحلال والفساد والأفكار المنحرفة من شأنه أن يمهد طريق الخضوع والخنوع ويسهل عملية الانقياد.
                وحيث ابتعدت هذه الأمة عن دينها وتركت حضارتها وتخلت عن أئمتها وعلمائها، فإن ما حدث ويحدث لها من انحدار وتقهقر ومذلة ليس سوى نتيجة حتمية طالما حذّر منها المخلصون الواعون. وهاهو دم الطفل الفلسطيني والرضيعة الفلسطينية يسجل وصمة عار كبرى على جبين المسلمين الذين مازالوا يخطئون الجادة الصائبة المؤدية إلى استعادة كرامتهم بتحرير أراضيهم المقدسة في فلسطين.
                أما وقد أدركنا ذلك، واستوعبنا أن العلة كامنة فينا، فهل لنا أن نعود إلى صوابنا ورشدنا باتباعنا ما أمر الله تعالى به؟ ألم نقل أنها مواجهة دينية وصراع عقائدي.. فإذا كان الأمر كذلك لزم أن تكون آليتنا الدفاعية أيضا، دينية إيمانية عقائدية في محورها.
                ومن هذا المنطلق، ووفق هذا المنظور، فلنراجع أنفسنا وندقق في أحوالنا، لنكشف مكامن الخلل ونقاط الضعف الذي اعترانا. ولعلنا إن فعلنا ذلك لتيقنّا من أن إسرائيل لا تتحمل وحدها مسؤولية دم المقتولين من الفلسطينيين.. بل نحن أول من يتحمل المسؤولية! ونحن أول من فتح الباب على مصراعيه لوقوع هذه المجازر بحق الفلسطينيين! فما انقيادنا إلى زعماء عملاء وتخاذلنا عن النصرة والجهاد وابتعادنا عن قيمنا وتعاليمنا وقبولنا بحال التفرقة والتشتت التي ألمت بنا.. ليس كل ذلك إلا عوامل قدمت لأعدائنا فرصا ذهبية لإذلالنا واستعبادنا وإهانتنا في عقر دارنا!!
                فما هو سبيلنا الآن بعد إذ أدركنا أن الخلل فينا؟ ألا ينبغي لنا أن نراجع أدواتنا الدفاعية ونرتبها أولويا حتى نصيب الهدف؟ ألا يجدر بنا أن ننظم جهودنا ونصب طاقاتنا في مصب واحد حتى نستعيد كرامتنا ومجدنا؟
                والإجابة عن هذه التساؤلات لا تبدو صعبة، ولربما كانت أوضح من قرص الشمس لكن تعامي الأمة عن الحقيقة جعلها - أي الإجابة - متوارية عن الأنظار، ربما لأن أطرافا منّا أرادت ذلك أيضا، إذ هي تخشى الحقيقة مع الأسف!
                إننا نختصر الإجابة فنقول أن السبيل إلى استعادة الكرامة والعزة إنما يكمن في قيامنا بأمر واحد تتشعب منه كل الأمور الأخرى، ألا وهو "العودة إلى الله.. وآل الله". وهذا ما نعني به ترتيب الخطوات حتى تصب في ما بعد في مصب تحقيق الهدف. ولعل إجابتنا تحتاج إلى تفسير لمعنى العودة، فأية عودة هي وكيف تكون؟
                إن العودة الحقيقية إلى الله تعالى تكمن في الالتزام بما أمر الله، وأهم ما أمر به هو الولاية لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، لأنهم قدموا لنا منهجا إسلاميا صافيا نقيا يوصلنا إلى حيث العزة والكرامة، وغيره من المناهج الناقصة إنما أوصلتنا إلى ما نحن فيه! فلو أن الأمة سلكت منذ البداية سبيل أهل البيت عليهم السلام، وهم الأئمة المبلغون عن الله والهادون لهداه، لعرفت أن طريق النجاة يكمن في تطبيق تلك التعاليم الحضارية والقوانين السامية التي أتوا صلوات الله عليهم بها إلينا، لكننا مع الأسف أهملناها وجعلناها من وراء ظهورنا فتسلط علينا من لا يرحمنا ومن أدخلنا في تسويات تفاوضية وصفقات استسلامية جعلت احتلال الآخرين لمقدساتنا.. تحصيلا حاصلا!
                ويتبادر هاهنا سؤال: لماذا نحصر سبيل النجاة بأهل البيت عليهم السلام؟ هل فقط لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى"؟ بالطبع لا.. ليس هذا هو السبب الأوحد، وإنما لأن الولاء لأهل البيت عليهم السلام والتمسك بهم والتزام تعاليمهم يخلق في الفرد المؤمن الواعي قوة ذاتية فاعلة تحركه باتجاه الظلمة والمفسدين، فتتخلص الأمة أولا من أولئك الذين يعبثون بنا باسم الدين تارة، وبسلاح السلطة أخرى، فتتوجه بعدئذ جهودنا نحو عدونا المشترك وندحره و"ما النصر إلا من عند الله".
                وما من حل لمشاكلنا وأزماتنا إلا عند آل الرسول صلوات الله عليهم، وما الإنقاذ إلا منهم، فإذا رمنا ذلك منهم، فاللازم علينا أن نتحرك باتجاههم، حتى ينهض ذلك المنقذ الغائب معنا ويسترجع لنا حريتنا وكرامتنا. وكما نقلنا عن (غوريون) إذ قال: "إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم الإسلامي محمد"!
                نعم.. إنهم يخافون أن يظهر شخص اسمه محمد وهو يماثل محمدا صلى الله عليه وآله، فمن يكون سوى الحجة بن الحسن المهدي صلوات الله عليه؟! ومن سواه يا ترى؟! هل نظن أن اليهود لا يعلمون أن بقاءهم مرهون بالحيلولة دون ظهور محمد؟! بلى.. إنهم مدركون لذلك تمام الإدراك، وكتبهم المقدسة تشهد بذلك.
                فأفيقوا أيها المسلمون.. إن النصر لا يتحقق إلا بالتمهيد لهذا المهدي عليه السلام الذي سيظهر ليقتلع أولئك الأنجاس من بيت المقدس، ويقيم دولة الحق والعدل والحرية والعزة والكرامة. فإن أردتم أن يتحقق ذلك؛ فعليكم أن تسلكوا سبيل آل محمد عليهم السلام، حتى يدفعكم ذلك إلى اكتشاف دينكم من جديد من منظارهم صلوات الله عليهم، فتأخذوا بأسباب العزة التي أوصونا بها، وتبذلوا قصارى جهدكم لتطبيقها. عندئذ يتحقق التمهيد ويظهر لكم محمد.. عجل الله تعالى فرجه الشريف.
                إن هذا المهدي الحبيب (صلوات الله عليه) لا شك أنه يتألم مما جرى في قدسنا وأقصانا، لكنه يتألم أكثر منا لأنا تركناه وتركنا آباءه الأطهار، وركنا إلى من سواهم، ولم نعد نتقن إلا الهتاف بالشعارات، فنقول "خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سيعود". ونتساءل: من صاحب خيبر؟ من قالع بابها؟ أي جيش سيعود؟
                وكما لم يتحقق النصر في خيبر على يدي أبي بكر وعمر (عليهما اللعنة) اللذين استلما المهمة أولا، ثم تحقق على يدي الذي "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فإن النصر اليوم في فلسطين لن يتحقق إلا على يدي من يقتدي بذلك الذي سمته أمه "حيدرة" صلوات الله عليه. وهل جنوب لبنان إلا دليلا واضحا؟!
                ولنترك الحديث عن الحقيقة لرئيس المخابرات الفرنسية الأسبق (ألكسندر دي مارانش) إذ يقول: "إن أكبر الأخطار التي تواجه الشرق الأوسط هي قيام إمبراطورية شيعية من حدود الهند إلى شواطئ البحر المتوسط، وإن إسرائيل عند قيام هذه الإمبراطورية ستدفع ثمنا غاليا"! (جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 14/10/1986). فهذه إذن مخاوفهم الحقيقية.. ممن يحملون تراث محمد وعلي! لا الذين يحملون تراث أبي بكر وعمر!
                فيا أيها المسلمون! عودوا إلى محمد وعلي، واتركوا أبا بكر وعمر.. لتعود إليكم القدس بالمهدي!
                اللهم عجل الفرج لوليك المنتظر المهدي القائم (صلوات الله وعليه وعلى آبائه الطاهرين) وأخز على يديه كل كافر..




                تعليق


                • #9
                  لئلا يظهر (صدام) جديد.. ارفضوا السقيفة!

                  لئلا يظهر (صدام) جديد.. ارفضوا السقيفة!

                  هذه الأمة بحاجة لأن تسترجع مشهد صعود طاغية بغداد ثم سقوطه أخيرا لكي تستخلص الدروس والعبر، وأول ما يجب أن تدركه في هذا المقام هو أن تسلّط مثل صدام التكريتي عليها لم يأتِ إلا بسبب إرث سياسي دفع باتجاه الخنوع والخضوع والاستسلام للأمر الواقع، بما فيه من مرواغة ومخادعة أعطتا حقا للظالم في أن يظلم!
                  ووصول صدام إلى الحكم واستمراره فيه طوال ما يزيد على ثلاثة عقود لم يكن إلا نتاج هذا الإرث السياسي العكر، الذي صنع له البيئة المناسبة للطغيان، وهي البيئة التي تخلّت فيها الأمة عن الالتزام بقانون "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصََرون". (هود: 113).
                  وكان أيضا من صفات هذه البيئة البالية؛ تزيين الباطل إلى درجة أن يغدو حقا! ونسج التبريرات لكل ممارسة ظالمة أو موقف إجرامي، استنادا إلى أن الضرورة والأولويات تقتضي ذلك! أو أن الظروف حتمته! بل وصل الأمر إلى درجة التشكيك في أصل هذه الممارسة؛ هل أنها ظالمة أم لا!!
                  ومجيء صدام التكريتي إلى الحكم، ثم ممارساته الظالمة التي تكاد لا تُحصى، جاءت وفق هذا السياق. فقيل إن تقارير تعذيبه لشعبه "ترهات صنعتها مرتزقة من عملاء الاستعمار"! وقيل إن إقدامه على حرب إيران "ضرورة لحماية البوابة الشرقية للأمة العربية"! وقيل إن غزوه للكويت "له ما يبرره إذ كان الغرب على مقربة من الاستحواذ على نفط الخليج"!! وهكذا توالت التبريرات الواهية التي حوّلت صدام إلى مظلوم بدل ظالم! ثم إلى بطل قومي وتاريخي لم يبقَ له إلا القليل حتى يدخل فاتحا القدس!
                  وعند تقصّي جذور هذه الحالة، نجد أنها تكوّنت بفعل ذلك الإرث السياسي الذي صنعه مؤتمر السقيفة الأسود، وهو أول مشروع تآمري في تاريخ هذه الأمة لمعاكسة إرادة الرب، وقهر رغبة الشعب. ذلك المشروع الذي أتاح للظالم الفرصة لأن يمارس ظلمه كما يشاء دون أن يلقى محاسبة أو اعتراضا، بل على العكس من ذلك، تجده يلقى ثناء وتمجيدا! فكل ممارسة ظالمة في تلك الحقبة وما تلاها كان لها ما يبررها حتى الآن، وظهرت الأقاويل ذاتها.. وأصبح القتل والإرهاب والإرعاب وهضم الحقوق وانتهاك الحرمات مبرَّرا بمقولة "اجتهد فأخطأ"! ومصطدَما بفرمان "عدالة الصحابة والخلفاء الراشدين"!!
                  ومادام العقل المسلم مقرا بهذه التبريرات الخرافية ومذعنا لتلك الفرمانات الجاهلية؛ فإن من المنطقي جدا أن لا تؤشر مؤشرات عقله ضد الظالم في عصره، أي ظالم كان، لأن الإرث السياسي هذا غيّبه عن رؤية الحقيقة كما هي، وبالتالي فإنه ظل صامتا يتشكك في قرارة نفسه عما يجب أن يفعله، فيما الظالم يسرح ويمرح ويتحكم بالبلاد والعباد دون حسيب ولا رقيب!
                  ولو أن الأمة اتخذت منذ اليوم الأول لمشروع السقيفة التآمري قرارها بالتصدي له، كما فعل الشيعة المؤمنون آنذاك، لما حصل ما حصل من الظلامات حتى اليوم. ولو أن المسلمين وقفوا وقفتهم ضد زعيمي الانقلاب أبي بكر وعمر، واصطفوا خلف قيادتهم الشرعية المتمثلة بآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم؛ لما تمكن صدام وأضرابه من أبناء البغايا من التسلط على شعب مثل الشعب العراقي.
                  فإن أبا بكر وعمر هما اللذان أسسا أساس كل ظلم وجور وقع على هذه الأمة منذ أن تطاولا على مقام النبوة والإمامة، وهما اللذان جاءا بمعاوية ويزيد ومروان والسفاح والمنصور والمتوكل.. وصدام! وهما اللذان مهّدا الطريق للتجبّر والتسلط والطغيان لكل مهووس بالظلم والإرهاب، ولذا فإنهما - بنص الروايات - مشاركان لكل هؤلاء الظَّلَمَة في ظلمهم، وهما اليوم من يتحمّلان - قبل صدام وأمثاله - وزر مظالم البشر، ومسؤولية الدماء التي أريقت بغير ذنب.. لا سيما دماء العراقيين.
                  وهذا المعنى يؤكده إمامنا الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) إذ يقول: "ما اهريق دم، ولا حُكِم بحكم غير موافق لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله، وحكم علي عليه السلام؛ إلا وهو في أعناقهما". (رجال الكشي ص180). وكذلك يؤكد إمامنا الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) بقوله: "ما اهريق في الإسلام محجمة من دم، ولا اكتُسِب مالٌ من غير حلّه، ولا نُكِح فرجٌ حرام؛ إلا وذلك في أعناقهما إلى يوم يقوم قائمنا عليه السلام". (رجال الكشي ص180 وبحار الأنوار ج30 ص266).
                  وحتى لا يظهر في الأمة طاغوت جديد و"صدام" آخر، فإن عليها أولا أن تعي أسباب ما وقعت فيه، والتي مكّنت الطواغيت من التسلط والتجبر. ثم عليها أن تتخلص من هذا الإرث السياسي السيئ الذي جاءها من مؤامرة السقيفة، فترفض كل ظالم، حتى ولو نُسِجت من أجله الأساطير التي جعلته رمزا مقدسا، فمن دون أن ترفض الأمة السقيفة ومجرميها والظالمين الذين تخرجوا منها؛ فإنه ليس بمقدورها أن ترفض أي ظالم اليوم، لأن الازدواجية في المعايير لا يمكنها أن تصل بالمرء إلى شاطئ الأمان.
                  بعد ذلك؛ على الأمة أن تعيد تشكيل وعيها السياسي بناء على منظومة وتراث أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام، فتنقاد إلى أحكام الدين، وقيادة الفقهاء العدول الأتقياء من نواب الإمام عليه السلام، حتى لا تترك الفرصة لأحد من المجرمين لأن يطغى ويتجبّر ويتكبّر. ومن دون ذلك فإن الظلم سيبقى لا محالة! ومن دونه يمكن أن نرى "صدام" آخر.. نعوذ بالله!

                  تعليق


                  • #10
                    حتى لا تتحول التقية إلى انهزام وانكسار!

                    حتى لا تتحول التقية إلى انهزام وانكسار!
                    ليس المراد من ولوج هذا المبحث إثبات مشروعية التقية في سياق محاججة الخصم المخالف، فذلك مما تم تناوله مرارا منا ومن غيرنا حتى ارتفع القلم عن بيان أفحم. وليس المراد تأسيس رأي جديد أو منهج خاص كما قد يظن بعض الذين قد يلتبس عليهم الأمر. وإنما يُراد بهذه المدوّنة إماطة اللثام عمّا اشتبه على بعض المؤمنين في حكم التقية في أصلها وموضوعها، سيما في زماننا هذا. وسنوجز القول ونبسّطه قدر الاستطاعة حتى لا تكون ملالة أو نقصان فهم.
                    "التقية" قاعدة فقهية ثانوية، حكمها هو الجواز الاستثنائي لا الوجوب الإلزامي كما يظن خطأ بعض الناس، وهي تبيح للمكلّف ارتكاب أمر محرّم مخالف للحق التكليفي في الشارع اتقاء للضرر المحتمل وقوعه عليه إنْ امتنع عن المخالفة، أي مخالفة الحق. وقد أجمعت الطائفة المحقة على مشروعيته بالقطع واليقين، كتابا وسنة وإجماعا.
                    أما الكتاب ففيه قوله عز وجل: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعلْ ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذّركم الله نفسه وإلى المصير". (آل عمران:28). وكذلك قوله عزّ من قائل: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم". (النحل:106).
                    وأما السنة المطهرة فقد بلغت الروايات بشأن التقية حد الاستفاضة، ومنها ما عن معمّر بن خلاد قال: "سألت أبا الحسن عليه السلام (الكاظم) عن القيام للولاة؟ (أي العمل في سلك حكومتهم) فقال: قال أبو جعفر عليه السلام (الباقر): التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له". (الكافي ج2 ص219). ومنها ما عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام (الصادق) قال: "اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له". (الكافي ج2 ص218). ومنها ما عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا في حديث أنه قال: "يا أبا عمرو.. أبى الله إلا أن يُعبد سرا، أبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية". (المصدر نفسه). ومنها ما عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: "ولا تستوي الحسنة والسيئة" قال: "الحسنة التقية والإساءة الإذاعة". (المصدر نفسه). ومنها ما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له". (المصدر نفسه) ونكتفي بهذا القدر.
                    وأما الإجماع، أي إجماع علمائنا المتقدمين والمتأخرين، فمعلوم ولا خلاف فيه، وتشهد عليه سيرة المتشرّعة.
                    ·جائزة وليست واجبة بالأصل
                    وتفصيلنا في هذا المقام هو في الحكم، ثم نأتي إلى الموضوع، فنقول أن التقية - على القاعدة - ليست واجبة بل جائزة، ولا يقول أحد بوجوبها إلا في موارد تحقق الضرر، وفي هذا نظر أيضا في إطلاقه، وسنأتي على تفصيل ذلك.
                    فقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في المكاسب بتقسيم التقية إلى الأحكام الخمسة، فقال: "الواجب منها: ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا، وأمثلته كثيرة. والمستحب: ما كان فيه التحرّز عن معارض الضرر، بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر، كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم فإنه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم . والمباح: ما كان التحرّز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع، كالتقية في إظهار كلمه الكفر - على ما ذكره جمع من الأصحاب - ويدل عليه الخبر الوارد في رجُليْن أُخذا بالكوفة وأُمرا بسب أمير المؤمنين عليه السلام. والمكروه: ما كان تركها وتحمّل الضرر أولى من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر، وأن الأولى تركها ممن يقتدي به الناس إعلاءً لكلمة الإسلام. والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل. والمحرم منه: ما كان في الدماء". (المكاسب ص320)
                    كما وذكر الشهيد الأول العاملي (قدس سره) في قواعده: "أن المستحب (من التقية) إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا، ويتوهم ضررا آجلا، أو ضررا سهلا، أو كان تقية في المستحب، كالترتيب في تسبيح الزهراء (صلوات الله عليها) وترك بعض فصول الأذان. والمكروه: التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب. والحرام: التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا، أو في قتل مسلم. والمباح: التقية في بعض المباحات التي يرجّحها العامة ولا يصل بتركها ضرر". (القواعد والفوائد ج2 ص158).
                    فعلى هذا؛ يتضح أن حكم التقية يكون تارة واجبا، وأخرى مستحبا، وثالثة مباحا، ورابعة مكروها، وخامسة حراما. وليس كما يفهمه بعض الناس من أن التقية واجبة على كل حال. بل هي ساقطة إلا إذا قام ما يوجبها من الشرائط الموضوعية، وهي تدور مدار حدوث الضرر ووقوع الشر على النفس أو العرض أو المال أو ما شابه لا محالة، وإلا فلا تقية مطلقا، فلا يجوز للمكلّف أن يعمل بالتقية ويخالف الحق أو يكتمه إلا إذا وجد الضرر ماثلا أمامه، أو إذا احتمل أن ترك التقية سيؤدي إلى وقوع هذا الضرر تدريجا كما قرّروه.
                    وكلامنا هنا هو في ما عدّه الشيخ الأعظم (قدس سره) مباحا من أصناف التقية، وذلك عندما يتساوى الإقدام على الضرر مع عدم الإقدام، وفي ما عدّه أيضا مكروها عندما يكون الامتناع عن التعرّض للضرر في سبيل إعلاء كلمة الإسلام حيث جعل الأولوية في عدم الامتناع ونقلها عن غيره من الأصحاب، ونضيف هنا أنه يستفاد من الروايات الواردة أن التقية ليست إلا رخصة استثنائية من الله سبحانه وتعالى لعباده، وليست إلزامية إلا مع شرط توهّم دفع الضرر عن النفس أو الجماعة بما لا يكون عكسه أفضل، أو إذا رأى المؤمن أن تركها في ظرف ما قد يؤدي إلى هدم الدين أو ما شابه، وهو ما قام به أئمتنا المعصومون (عليهم الصلاة والسلام) الذين عملوا بالتقية ووصّوا أتباعهم - في أزمنتهم - ورغّبوهم بها حفاظا على بيضة الإسلام والتشيّع الحق.
                    ولا يُقال: إن التقية واجبة إلزاما حتى في حال رأى المؤمن نفسه متعرّضا للضرر في سبيل الدين لقوله عليه السلام: "التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له"؛ لأنه يُقال: إنّا لو أخذنا هذا المعنى لكانت مع ذا أيضا معارضة بالروايات الأُخَر الدالة على الرخصة والتخيير، فيبقى الحكم على ما هو من الجواز الاستثنائي لا الوجوب المطلق إذ لم يقل بذلك أحد لا من المتقدّمين ولا من المتأخّرين. وعند مراجعة الآيتين الكريمتين اللتين صدّرنا بهما البحث تتكشّف حقيقة أن التقية استثنائية لحفظ النفس اتقاء لوقوع الضرر البالغ، ولا دليل في الآيتين على الوجوب أو الإلزام كما لا يخفى. وإلى ذلك تشير الروايات الشريفة أيضا كما أسلفنا. ولا يمكن - والحال هذه - القول بأن التقية إلزامية استنادا إلى "لا دين لمن لا تقية له" لأن الإطلاق لا يتم عند المقابلة والمعارضة مع الأدلة الأخرى، والتي تكون - إذ ذاك - أكثر توضيحا للمعنى الشرعي.
                    ·الضرورة حاكمة
                    على أنه قد يُقال بأن اللجوء إلى التقية في مورد الدفاع عن الدين لا يكون إلا في أقصى حالات الضرورة، أي إذا وصل السيف الرقبة أو ما دون ذلك مما يدخل ضمن هذا الإطار، إذا كان ذلك في سياق المصلحة الإسلامية أو النهوض بأمر التبليغ. ذلك لأن الآية الكريمة تشير إلى الإكراه "إلا من أُكره"، والإكراه هنا يوحي بالشدة والقسوة والتيقّن من وقوع الضرر البالغ الأكيد، ويتأكد هذا المعنى عند مراجعة أسباب النزول حيث كان التهديد بالقتل وهو أشدّ ما يقع من الضرر اتفاقا، كما يتأكد إذا لاحظنا أن حكم الاستثناء - أي حكم التقية - قد جاء في الآيتين الكريمتين من مستثنى يعدّ أكبر الكبائر، وهو الكفر بالله جل وعلا، واتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وبهذه المقايسة يمكن القول بأن ما يستلزم اللجوء إلى هذا الحكم الاستثنائي لا يكون إلا وقوع ضرر بالغ أكيد يبرّر الإقدام على هذه الكبيرة الخطيرة. ولكن هذا القول محلّ تأمل من حيثية ورود الوسعة والعموم في اللجوء إلى التقية حيثما كانت ضرورة وذلك في لسان الروايات، وهو - أي ذلك القول السابق - إذ ذاك محلّ إشكال، لكنه لا يخلو من قوة في موضوع توقّف إعلاء كلمة الإسلام أو تحقيق المصلحة الإسلامية، إذ يجوز تارة ويستحب أخرى ترك المكلّف للتقية إنْ وجد أن في تركها مصلحة للدين حتى وإن كان فيها ضرر شخصي يقع عليه.
                    يدل على الجواز في ترك التقية ما رُوي من أن رجلين من أهل الكوفة اعتُقِلا فطالبتهما السلطات الأموية بالبراءة من أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) وإلا قتلتهما، فبرئ أحدهما وأبى الآخر، فأُطلق سراح المتبرئ وقُتل الممتنع. فبلغ ذلك الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) فقال: "أما الذي برئ فرجلٌ فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجلٌ تعجّل الجنة". (بحار الأنوار ج72 ص436).
                    قال العلامة المجلسي في تعليقه على الرواية آنفة الذكر: "يدل على أن تارك التقية جهلا مأجور، ولا ينافي جواز الترك". (المصدر نفسه).
                    كما يدل على الجواز بل والاستحباب في ترك التقية إنْ توقّفت عليها مصلحة الإسلام ما رُوي من أن مسيلمة الكذّاب (لعنة الله عليه) قد أخذ رجليْن من المسلمين وأمرهما بالشهادة له بأنه رسول الله وإلا قتلهما، فأذعن الأول لذلك وشهد فأخلى سبيله، وأبى الآخر فقتله. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئا له". (البحار عن غوالي اللئالي ج72 ص434).
                    ·رخصة يمكن تركها
                    فالتقية إذن رخصة لمن أخذ بها، ومَن تركها يكون معذورا إن كان جاهلا وهو على كل حال مأجور، أما إن توقّفت عليها مصلحة الإسلام وإعلاء كلمته والصدع بالحق والقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا كلام في استحبابه الأكيد، وأعظم دليل عليه ما قام به سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) إذ نهض بوجه الظالمين تاركا للتقية رغم تحقّق شرائطها الموضوعية كما لا يخفى حيث كان على شفا القتل والهلاك، وما ذاك إلا لأن المصلحة الإسلامية الكبرى كانت في ترك التقية والتضحية في سبيل الله حفظا للدين، بينما كانت المصلحة في زمان من تلاه من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في العمل بالتقية حفظا لوجود الأئمة وشيعتهم ولئلا يندثر ذلك الوجود أو ينضمر في ظل الإرهاب والملاحقات الأمنية التي كانت دأب السلطة آنئذ، ما كان يتطلّب إخفاء المؤمنين لأنفسهم وما يعتقدون وما يعملون حتى لا يُعرف أنهم من شيعة علي عليه السلام.
                    وعلى سبيل المثال لو أن مؤمنا وجد نفسه متعرّضا للقتل أو الحبس أو التعذيب أو التشريد أو ما شابه من الضرر، وكان يجد في قبال ذلك نصرةً للدين تستوجب التضحية منه، جاز له، بل استحب له أن يضحي ويعرّض نفسه للضرر، ولا ضير عليه في ذلك، ونقول: لا ضير، ولا نقول: يجب، فتأمّل.
                    قال في التنقيح: "وإذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقيه أشد وأعظم من المفسدة المرتبة على تركها، أو كانت المصلحة في ترك التقية أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها، كما إذا علم بأنه إن عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق، واندراس الدين الحنيف، وظهور الباطل، وترويج الجبت والطاغوت، وإذا ترك التقية ترتب عليه قتله فقط، أو قتله مع جماعة آخرين، ولا اشكال حينئذ في أن الواجب ترك العمل بالتقية، وتوطين النفس للقتل، لان المفسدة الناشئة عن التقية أعظم وأشد من مفسدة قتله.. ولعله من هنا أقدم الحسين عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم على قتال يزيد بن معاوية عليهما اللعنة وعرضوا أنفسهم للشهادة، وتركوا التقية عن يزيد لعنه الله وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام بل بعض علمائنا الابرار قدس الله أرواحهم وجزاهم عن الاسلام خيرا كالشهيدين وغيرهما". (بحث الطهارة لآية الله الخوئي ج4 ص257).
                    ولا أولوية على المكلّف في العمل بالتقية مطلقا، بل في ذلك نظر كما يقول العلامة المجلسي قدس سره، ويدلّ عليه ما وقع من ميثم التمّار (رضوان الله عليه) إذ أبى البراءة من الأمير (عليه السلام) في القصة المشهورة، وإن كان الدليل قائما على نهيه من البراءة من قبل الأمير صلوات الله عليه، لكن النهي ليس خاصا ويستفاد منه العموم.
                    وفي رواية الرجليْن الكوفيين التي مضى الكلام فيها مزيد استفادة، فإن الإمام (عليه السلام) عبّر عن الرجل المتبرئ بالفقيه في دينه، هذا مع ورود النهي عن البراءة في النص إذ قال عليه السلام: "أما السب فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني فإني وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة". (نهج البلاغة: 57). فكيف يكون فقيها وقد ارتكب محرّما منهيا عنه بإبداء البراءة حيث ورد أنه قد تبرّأ فأُطلق سراحه؟
                    الجواب هو أن المنع عن البراءة لم يكن دائميا بل كان هذا التوجيه منه (سلام الله عليه) لأهل عصره ملاحظة لأوضاعهم وظروفهم حيث كانت المصلحة الإسلامية في عدم التبرؤ مهما حصل ووقع حتى تتوكّد أركان التشيّع بعد رحيل رمزه واستشهاده، فإن رحيل القائد يوجب في معظم الأحيان تخلخل القاعدة المؤمنة به فينبغي حينئذ لها ما يدّعمها ويحفظ كينونتها، والإصرار على الموالاة وعدم التبرؤ هو ملاك واضح لذلك الحفظ. أما تعبير الباقر (عليه السلام) عن الرجل بالفقاهة إنما كان لكونه في موقفه ذاك مصيبا تمام الإصابة في اجتهاده الشرعي، عالما بجواز لجوئه إلى التقيّة لحفظ نفسه ولم يكن في تركها ضرر على المصلحة الدينية، أو خدش لكرامة ومقام الإمامة، بينما كان الرجل الآخر خاطئا في اجتهاده ولكنه على كل حال مأجور حسن العاقبة متنعّم في الآخرة. والاستفادة هي في أن التقية لا تكون في كل زمان ومكان، وإلا لكان إبداء البراءة من أمير المؤمنين (عليه السلام) جائزا في كل زمان ومكان والعياذ بالله، وليس ذلك كذلك، بل للقاعدة شواذ واستثناءات كما أوضحنا، فإن اللجوء إلى التقية مرهون بملاحظة الأوضاع العصرية والمكانية حتى يتحقق الموضوع المؤدي إلى حملها عليه حكما. وسنفصّل عما قليل في تطبيق هذا الكلي على جزئي زماننا، إن جاز هذا التعبير في المنطق.
                    ونقول خلاصة لما سبق أن على المؤمن أن يقيّم الوضع والموقف بنفسه، فإذا رأى أن الكفّة تميل لصالح اللجوء إلى رخصة التقية وأن ذلك اللجوء لن يؤثر سلبا على المصلحة الإسلامية جاز له ذلك، بل قد يجب في أحيان. وإذا رأى أن الكفة تميل إلى ترك التقية وأن ذلك أكثر مواءمة للمصلحة الإسلامية جاز له ذلك، بل قد يستحب في أحيان.
                    والاختيار موكول للمؤمن واجتهاده، ويدل عليه ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (الباقر) أنه قال: "التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به". (الكافي ج2 ص219). وهي دالة بوضوح على أن التقية منوطة بتقييم المكلّف لموضوعه وهو أعلم بنفسه كما قال تعالى: "إن الإنسان على نفسه بصيرة". (القيامة: 14). وعلى هذا لا يجوز لأحد أن يتدخّل في تشخيص المكلّف لموضوع التقية بالنسبة إلى نفسه إذا لم يجد ضرورة في اللجوء إليها، إلا أن يخطّئه من جهة عدم سلامة اجتهاده في تطبيق المسألة، إذ لا تقليد في الموضوعات إلا إذا حكم الفقيه فيها على قول القائلين بولاية الفقيه.
                    والذي يبدو جليّا في زماننا هذا أن لا موضوع للتقية إلا ما خرج بالدليل في أمكنة وظروف معيّنة، وهي نادرة. ونقول أنه لا موضوع على الأغلب باعتبار ما نلمسه وما نشاهده من انفتاح العالم على أهله وشعوبه، وتغيّر الظروف السياسية بما يتيح للمؤمن أن يعمل طبق مذهبه، وأن يقيم شعائره، وأن يعبّر عن عقيدته وآرائه. وهذا الحال هو في الجملة، فإذا وقع ضرر على أحد من المؤمنين فالكلام هنا هو في جهتين: الأولى؛ هل أن هذا الضرر مما يمكن التسالم على أنه عام أم أنه ضرر خاص؟ فإذا كان خاصا فالموضوع - بالتبع - خاص وليس عاما وحينها يجب أن لا ينجرّ الجميع للعمل بالتقية لانتفاء الموضوع العام. والثانية؛ هل أن هذا الضرر كانت تقابله مصلحة دينية أكثر رجحانا، فإن كان ذلك سليما فالصواب هو استحباب تحمّل ذلك الضرر والتضحية بالنفس في سبيل استقامة دين الله تعالى أو تبليغه، كما سبق بيانه.
                    قال في القواعد الفقهية: "وهذا الذي قلنا من استحباب التقية أو وجوبها كان في الأزمنة السابقة في أيام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجرّ إلى قتل الإمام عليه السلام، أو إلى قتل جماعة من المؤمنين، وأما في هذه الأزمنة - بحمد الله - حيث لا محذور في العمل بما هو الحق ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات، فلا يوجد موضوع للتقية". (القواعد الفقهية لآية الله البجنوردي ج5 ص54).
                    هذا والمؤّمل في المؤمن أن يسعى لتجنّب التقية بخلق الظروف التي تسمح له بممارسة شعائره التعبّدية والصدع بالحق كما أمر الله تعالى، فإن ذلك يدخل في إطار الاستقامة المطلوبة شرعا. بمعنى أن على المؤمن أن يسأل من الله تعالى أن لا يلجأ إلى التقيّة يوما ما، لأنها استثناء وليست أصلا، ولذا فإننا نقرأ في دعاء الغيبة: "واجعلنا يا رب.. ممن لا حاجة به إلى التقية من خلقك". (مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص415 وبحار الأنوار ج53 ص190 وسائر كتب الأدعية).
                    وهذا الدعاء مروي عن إمامنا الحجة المنتظر (أرواحنا فداه) عبر نائبه الأول عثمان بن سعيد الأسدي العمْري سلام الله عليه. وهو تعليم لنا بضرورة السعي لترك التقية وعدم الاحتياج إليها، فإن ذلك قد يمهّد في قيام القائم صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه، وإن كان يرد على ذلك بورود رواية مضمونها أنه كلما اقترب هذا الأمر كان الاحتياج إلى التقية أشد، وهي محلّ بحث عندي ليس هنا محلّه.
                    ·التقية لا تعني ترك التبليغ
                    وما يتوهّمه بعض الناس من أن التقية معناها ترك التبليغ الديني لئلا تقع مشاحنة مع الطرف الآخر الذي يرفض بعض الخصوصيات العقائدية للتشيع كالبراءة من أعداء الله هو خطأ كبير، فمجرّد المشاحنة لا يحقق موضوعا كافيا للتقية في هذا الزمان بناء على مقتضى الأدلة، إذ لا ضرر، إلا إذا قلنا بأنها - أي المشاحنة - تستلزم التنفير فيكون البحث فيها في جهة أخرى، غير أن ذلك إذا وُزِن في قبال أمرين؛ ارتفع: أولهما؛ أن سمة الأطراف العقيدية المتقابلة في زماننا هي المشاحنة حتى أصبح ذلك من المعتاد في ساحات المناظرة والجدال، فكل طرف يتحدث بطلاقة وصراحة عما يعتقده في الآخر وهو عالم بأن كلامه قد يستوجب التنفير بضميمة ما في العقائد ذاتها من التناقض والتعاكس، وقد أصبح ذلك سمة اعتيادية، وعليه فلا شذوذ في ذلك حتى نقبّحه، بل قد نقول بأن التنفيز منتفٍ بفعل الاعتياد، أو بلحاظ أنه يأتي كردّ فعل على ما بدأه المخالف، وقد قال تعالى: "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه"، وأن ذلك هو مقتضى التوازن في مجابهة الخصم. وثانيهما؛ أن التصريح بالبراءة في ظل قوة الأدلة يحقق ما قرّرناه آنفا في بعض المحاضرات من أنه يمثّل صعقة الاستيقاظ - إن جاز التعبير - التي يقوم بها الأطباء كهربائيا لإنقاذ المريض الذي يدنو من الموت، فرغم أن في تلك الصعقة أضرار لكنها تهون في قبال الأهم، وهو إنقاذ المريض. وهكذا فإن إعلان البراءة من أعداء الله تعالى وإيراد الأدلة على كفرهم وظلمهم لأهل بيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام) رغم أنه يوجع ابتداءً كتلك الصعقة، لكنه ضمن قاعدة (الأهم والمهم) أولى نتيجةً.
                    يجب على المؤمنين أن لا يفكروا يوما ما في التخلي عن فضح وتعرية أعداء أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بحجة أن ذلك يثير سخطا عند الطرف المخدوع بهؤلاء، لأن ذلك التخلي عدا عن كونه مخالفة شرعية خطيرة إذ يجب إظهار البراءة من أعداء الله على ما أفتى به فقهاؤنا؛ فإنه يعني عمليا المشاركة في تغييب أبناء العامة عن معرفة الحقيقة وعرقلة وصولهم إلى الحق وصدّهم عن الإيمان بولاية أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.
                    ولا يخفى أنه لا إيمان بالولاية بلا إيمان بالبراءة، ولن يركب أحد سفينة النجاة دون أن يتخلص من طحالب رجال السقيفة المتراكمة منذ مئات الأعوام. وليس مهما أن نتفق على أسلوب الفضح والتعرية فإن لكل أسلوبه وذوقه على أن تكون كل تلك الأساليب تحت ضابطة شرعية، ولكن المهم هو المبدأ الذي ينبغي عدم التخلي عنه مطلقا خاصة في ظل عدم وجود ما يبرّر ذلك تقيّة. وإن من أشد ما ينبغي أن يُستهجن في هذا العصر قيام البعض بتعطيل هذا المبدأ حتى لا يقع في إحراجات أمام الطرف المخدوع، في حين أنه لم يكترث بوقوعه في إحراجات أمام مولاتنا الزهراء (صلوات الله عليها) وسائر الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم!!
                    إن نزع أستار الباطل وكشف قتلة أهل البيت على حقيقتهم المروعة ليس محرجا بل مورد افتخار واعتزاز، ومخطئ من يقول أنه كما أننا لا نرضى بأن يتعرضوا لأئمتنا فكذلك يجب أن لا نتعرض لأئمتهم، لأن هذه المقارنة مجحفة وغير عادلة لعدة أسباب من أهمها أننا عندما نوجه نقدنا للخلفاء ومن تلاهم فإن ذلك مبني على حقائق تاريخية موضوعية وليس هو من نسج الخيال، وحين نقول أن فلانا مثلا ظالم فإن لنا الأدلة الكافية على ذلك، وكل منصف ليس أمامه من خيار سوى قبول هذه الأدلة وبالتالي قبول توجيه النقد بعد ثبوت انتفاء قداسة هذه الشخصية، أما الحال مع آل محمد (صلوات الله عليهم) فمختلف جذرا وأساسا، في الصغرى والكبرى، ففضلا عن أن الأمة قد أجمعت على قداستهم وعدم جواز التعرض لهم إطلاقا؛ فإنه ليس هناك في طول التاريخ الإسلامي وعرضه ما يمكن أن يعتبر دليلا يقدح في ذواتهم المقدسة أو يطعن في سيرتهم الطاهرة، فلا يمكن للمنصف والحال هذه أن يقبل بمسهم أو التجرؤ عليهم لأن كل تجرؤ يكون مبنيا على غير الحقيقة وعلى التجني الفاحش، وهذا مرفوض شرعا قبيح عقلا.
                    أما أن تستمر حالة إخفاء وكتمان الحقائق هذه، فذلك مما نأباه ولا نريده لأحد من المؤمنين، فليس هو بتقية، بل هو الانهزام والانكسار والتصاغر بعينه، وقد اشتبه على بعض المؤمنين أمر التقية حتى ظنّوه ذلك، فوجب علينا التنبيه، سائلين المولى أن يزيدهم وعيا، وأن يرفع غشاوة الخديعة عن أعين بقية المسلمين من البكرية وغيرهم حتى يتبعوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتبرؤوا من أعدائهم عليهم اللعنة والعذاب.

                    تعليق


                    • #11
                      نعم.. نحن الرافضة!

                      نعم.. نحن الرافضة!
                      في زمان من الأزمان.. اتشحت الدنيا بسواد مطبق، إثر حروب ونزاعات، وعصبيات وجهالات، سيطرت على الأذهان وعطلتها، بل أعطبتها، فجعلت أصحابها يئدون بناتهم، وينغمسون في شهواتهم، حتى بلغت بهم الجهالة، أن عبدوا الحجر والصنم، بل يأكلون إلههم عند الحاجة، فلا عقل لهم ولا كرامة، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا. وبينما هم على هذه الحال المنحدرة، بزغ فجر الإسلام بنبي، بُعِث لهم وللعالمين رحمة، بشرهم وأنذرهم، ودعاهم إلى ما فيه خيرهم، حتى ينتشلهم من وحلهم، ويعلي شأنهم، إلى رقي وحضارة، ليس أعظم منها حضارة، لكنهم صموا آذانهم، وأعموا أبصارهم، فما التفتوا إلى النصيحة وأهملوها، واستمرئوا الغيّ والجهل والضلالة واعتنقوها. وما اكتفوا بذلك؛ بل أمعنوا في الإيذاء والجحود والعدوان، فلمّا لم يجد تهديدهم نفعا، فاوضوا على المساومة، بأن يتنازلوا عن الملك والسيادة، أو المال والجاه، مقابل التراجع عن الدعوة الإلهية. ظنوا أن بإمكانهم أن يعادلوا تلك بهذه، لكن كلمة عظيمة نطق بها سيد العظماء صلى الله عليه وآله كانت جوابا، فقال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شِمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"!
                      رفض نبينا هذه المساومة.. واقتدينا به، فنحن الرافضة!

                      ومرت الأيام، وإذا بالدعوة تنتشر وتسود، وتدخل الأمم في دين الله أفواجا، وينتصر النبي، بعضد الوصي، على الشرك والإلحاد، فتطهر الأرض من منابت الكفر، ويعم السلام العالم. لكن شرذمة من أهل النفاق بقت، على ملتها الجاهلية، واندست في الصفوف، ديدنها الوقيعة، والتآمر على الشريعة، دافعهم في ذلك أحقادهم، وهي أحقاد بدرية وخيبرية وحنينية. فوجهوا سهامهم إلى نفس الرسول، وزوج البتول، منذ أن شعروا بأنه الوريث الشرعي، والولي الذي لا سواه ولي، إذ قال سيد الأنبياء عليه وآله وعليهم السلام: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه". وأبى أولئك أمر السماء، كما أباه من كان قبلهم مع الأنبياء، فاجتهدوا بالتحضير لانقلاب، يزيح عليا عليه السلام عن منصبه. وما إن سُمَّ الرسول صلى الله عليه وآله، ومرض مرضه الذي استشهد فيه، حتى بدأ تنفيذ المؤامرة، وكلٌ يسعى لأن يكون له في الأمر حظ ونصيب، فيما اللعن عمّن يتخلف عن السرية ماثل، حتى بلغت جرأتهم في التطاول على مقام الرسالة أن قالوا: "إن النبي ليهجر"! وارتحل النبي غاضبا ساخطا، والوصي في حال تغسيل وتكفين وتجهيز، وهم إلى السقيفة مسارعون، على الدنيا مقبلون، وعن الآخرة معرضون، يتكالبون على السلطان، فأي ذلٍ وهوان! واحتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة، لا عهدا لرسول الله حفظوه، والدليل بعد إتيان الحطب "وإن؟"، ووقع الانقلاب، وسل إن شئت الحائط والباب! وقد قال تعالى: "أ فئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم". وحتى يستتب لهم الأمر، دعوا الإمام إلى القبول بالحكم الجديد، والرضوخ مع التهديد والوعيد، ظنوا أنهم يخيفون بذلك سيف الله الغالب، علي بن أبي طالب! فأجابهم صلوات الله عليه قائلا: "لسريع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وآله، أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي"!
                      رفض إمامنا هذا التنازل.. واقتدينا به، فنحن الرافضة!

                      واستتب الأمر لطالبيه، على خطوات السامري وعجله، وتخاذل الناس وتقاعسوا، عن نصرة أخي الرسول وصنوه، بل لم تقم حميتهم لما جرى على ابنته البضعة منه، من ظلم وإجهاض وكسر ضلع! بل لم تتحرك ضمائرهم وهي صلوات الله عليها تناشدهم النصرة، بعد إذ سلبوها نحلة أبيها، وميراث بعلها وبنيها، فانقلبوا على أعقابهم، ويلا لهم وتعسا! أما أولئك، فجاءوا إليها بقناع الاعتذار، وبدعوى الاستغفار، يطلبون العفو عما سلف، ولو كانوا صادقين لأعادوا الحق لأهله، ولكنها السياسة والسلطان، وما تقتضيه أعراف الرياسة، والكياسة، من امتصاص غضب تولّد في النفوس، فأي دهاء هو ذلك الذي جعلهم يتجاسرون في طلب تناسي الماضي، من التي قتلوا جنينها! إلا أنها سلام الله عليها أجابتهم قائلة: "لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما"!
                      رفضت سيدتنا الصفح عمن ظلم وتمادى.. واقتدينا بها، فنحن الرافضة!

                      وبعد أيام وليالي، مضى فيها كلٌ لسبيله، اجتمعوا للشورى، فيا لله وللشورى! أرادوا بها إذلال الأمير، ويأبى الله ورسوله والمؤمنون، فعرضوا عليه خلافة مشروطة، بأن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة اثنين، أ فقدوا عقولهم؟ أم على قلوب أقفالها؟! كلا.. بل هم يعلمون، فمتى اعترض الريب فيه مع الأول منهم حتى صار يُقرن إلى هذه النظائر؟! فأجابهم صلوات الله عليه: "أما كتاب الله وسنة رسوله فنعم، وأما سيرة الشيخين فلا"!
                      رفض وليّنا هذه السيرة.. والتزمنا برفضها، فنحن الرافضة!

                      ومضت أعوام قليلة، وإذا بالصراع بين الحق والباطل يتجدد، بين حزب الله وحزب الشيطان، فمحمد عليه وآله السلام حاربه أبو سفيان، وعلي عليه السلام بغى عليه معاوية، والحسين عليه السلام قتله يزيد! وكيف لا والأخير وريث أهل الكفر والجحود والعدوان من الطلقاء؟ وكيف لا والحسين صلوات الله عليه وريث أهل بيت الوحي والرسالة من النجباء؟ لقد ساوموه كما ساوموا جده، عرضوا عليه بيعة لمن يزني بمحارمه ويلاعب القردة! أ فيرضخ الحسين وأستاذه في الثورة الحسن؟! لقد أجابهم: "إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"!
                      رفض إمامنا هذه المذلة.. واقتدينا به، فنحن الرافضة!

                      ومرت الأزمان، وتشكلت فرقتان، أحدهما كانت للسلاطين منصاعة، ولأئمة الجور منقادة، بذريعة حرمة شق عصا الطاعة، والأخرى تمردت وناهضت ونهضت، بثورات وثورات، ضد الظلم والظلمة، وأهل الفسق والفجور، صابرة محتسبة، من آل بيت الرسول مقتربة، ولولايتهم معتنقة، وبإمامتهم ملتزمة، "لا حكم إلا لمحمد وآله" كان شعارهم، و"يا لثارات الحسين" كان هتافهم. فإذا بهم يشكلون جبهة التحدي والعصيان، لمن كان همه السلطان، فرفضوا الرضوخ للحكام، وتحملوا ما أصابهم، لأن كلمة عظيمة كانت ترن في آذانهم تقول: "هيهات منا الذلة"!
                      رفض أولئك حكام الجور.. وكذلك نحن، فنحن الرافضة!

                      واختلق قسم من فريق الخنوع، والخضوع، نكاية لأهل الإباء، والولاء، قصة مزعومة، بزيد الشهيد سلام الله عليه ملصوقة، فقالوا أن ظهور "الرافضة" كان في زمانه، إثر سجال بينه وبين جماعة من أتباعه، لكنهم أغفلوا أن "الرافضة" أقدم من ذلك بكثير، فهي عنوان للملتزم بالدين وأئمته، الرافض للكفر وجلاوزته، وإن أرادوا دليلا، فها هو معاوية إمامهم يقول في رسالة وجهها إلى الداهية عمرو بن العاص عندما هرعت الأمة إلى مبايعة الوصي: "إن علي بن أبي طالب قد اجتمع إليه رافضة أهل الحجاز وأهل اليمن والبصرة والكوفة" (الفتوح لابن أعثم 382:2). فها هو معاوية يصرح بأن الرافضة ليسوا سوى شيعة علي! فإذا كان هذا اللقب ظهر قبل ثورة زيد الشهيد - البريء من مقالتهم - بسنوات طوال، فعلى مَ إذن ينسبون ما اختلقوه إليه؟!
                      والله لقد أرادوا أن يذموا فمدحوا، وأن يقدحوا فأثنوا، عندما وصموا أهل الولاية بالرفض! وعليهم نعيد ما قاله إمامهم الشافعي: "إن كان رفضا حب آل محمد، فليشهد الثقلان أني رافضي"! وإليهم نبلغ ما شهد لنا به إمامنا الصادق صلوات وسلامه عليه إذ قال له أبو بصير: "جعلت فداك! فإنا قد نبزنا نبزا انكسرت له ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت به الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم. فقال عليه السلام: الرافضة؟ قلت: نعم! قال (الإمام الصادق عليه السلام): لا والله ما هم سموكم بل الله سماكم به. أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلا من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم فلحقوا بموسى عليه السلام لما استبان لهم هداه، فسموا في عسكر موسى عليه السلام (الرافضة) لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أكثر أهل ذلك العسكر عبادة وأشدهم حبا لموسى وهارون وذريتهما عليهما السلام. فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني سميتهم به ونحلتهم إياه. فأثبت موسى عليه السلام الاسم لهم، ثم ذخر الله لكم هذا الاسم حتى نحلكموه. يا أبا محمد، رفضوا الخير ورفضتم الشر! افترق الناس كل فرقة وتشعبوا كل شعبة فانشعبتم مع أهل بيت نبيكم صلى الله عليه وآله، وذهبتم حيث ذهبوا واخترتم من اختاره الله لكم".
                      نعم، رفضنا كل حكم إلا حكم الله وأوليائه.. فنحن الرافضة!

                      تعليق


                      • #12
                        التكلم والاتكال على المهدي الكثير والمبالغ به يعيق ويجعل المسلم يتواكل ولا يعد نفسه ويجهزها للجهاد والعمل
                        لا يوجد نهج لعمر ولابوبكر ولعلي بل يوجد نهج واحد هو للنبي محمد وكل شيء يعود له من تحضير النفس للجهاد والعمل

                        تعليق


                        • #13
                          اللهم صلِّ على محمد و آل محمد .,
                          :
                          لا أبتغي أن أناقش المقال آعلاه لـكثرةِ ما علمنا من صاحبه من آنحراف فكري .,أرى أن لا مبرر له سوى جوانب نفسية (مريضة) تجعل من صاحبها "مركز الكون" والناظر بقطبية العين الواحدة الى سعةِ هذا الكون لـ (يـُّنظر) و(يـُّفقه) من خلالها .,
                          وليس لي سوى هذا الآقتباس البسيط من قوله :
                          فإن النصر اليوم في فلسطين لن يتحقق إلا على يدي من يقتدي بذلك الذي سمته أمه "حيدرة" صلوات الله عليه. وهل جنوب لبنان إلا دليلا واضحا؟
                          عجيب آمرك ..!!
                          ألست أنت يا ياسر حبيب ..نفسه الشخص المجيب
                          عن هذا السؤال :
                          ما رأيكم في سماحة السيد حسن نصر الله و حزب الله ؟
                          فكان جوابك :
                          أن هناك مؤاخذات شرعية عديدة على المذكور وحزبه لأنه لا يُطاع الله من حيث يُعصى كما ورد في الحديث الشريف.
                          و تتسألون مرة آخرى :
                          ما هو رأي سماحة الشيخ بالعقيدة الجهادية لدى حزب الله اللبناني؟ وكيف يوصف السيد حسن نصرالله؟
                          فـ تجيب ..عنه يا ياسر حبيب :
                          بالنسبة للمذكور فهو محل تحفظ شرعاً، أما مسألة العقيدة الجهادية فالشيخ عموما مع مقاومة الكيان الصيهوني وإن كان يختلف على الأسلوب والطريقة.

                          أما ما يسمى جهاد عندهم فدوافعه سياسية في الأغلب وليست دينية.

                          :
                          فـ كيف النصر هو النصر في جنوب لبنان ...وهناك يعصى الله كما تقول !!
                          وكيف يكون قادة النصر (محل تحفظ) والانتماء الى الحزب الوحيد المقاتل(جائز بعناوين ثانوية) !!..هناك مؤاخذات شرعية كثيرة لا حصر لها ..!!
                          :
                          تناقض نفسك من حيث تدري ومن حيث لا تدري .,!
                          وان كانت الدوافع سياسية وليست دينية -حسبما تزعمون- فكيف يحسب هذا انه لراية (حيدرة) !!
                          :
                          اكتفي بهذا !!

                          تعليق


                          • #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة علي الدرويش
                            اللهم صلِّ على محمد و آل محمد .,
                            :
                            لا أبتغي أن أناقش المقال آعلاه لـكثرةِ ما علمنا من صاحبه من آنحراف فكري .,أرى أن لا مبرر له سوى جوانب نفسية (مريضة) تجعل من صاحبها "مركز الكون" والناظر بقطبية العين الواحدة الى سعةِ هذا الكون لـ (يـُّنظر) و(يـُّفقه) من خلالها .,
                            وليس لي سوى هذا الآقتباس البسيط من قوله :

                            عجيب آمرك ..!!
                            ألست أنت يا ياسر حبيب ..نفسه الشخص المجيب
                            عن هذا السؤال :
                            ما رأيكم في سماحة السيد حسن نصر الله و حزب الله ؟
                            فكان جوابك :
                            أن هناك مؤاخذات شرعية عديدة على المذكور وحزبه لأنه لا يُطاع الله من حيث يُعصى كما ورد في الحديث الشريف.
                            و تتسألون مرة آخرى :
                            ما هو رأي سماحة الشيخ بالعقيدة الجهادية لدى حزب الله اللبناني؟ وكيف يوصف السيد حسن نصرالله؟
                            فـ تجيب ..عنه يا ياسر حبيب :
                            بالنسبة للمذكور فهو محل تحفظ شرعاً، أما مسألة العقيدة الجهادية فالشيخ عموما مع مقاومة الكيان الصيهوني وإن كان يختلف على الأسلوب والطريقة.

                            أما ما يسمى جهاد عندهم فدوافعه سياسية في الأغلب وليست دينية.

                            :
                            فـ كيف النصر هو النصر في جنوب لبنان ...وهناك يعصى الله كما تقول !!
                            وكيف يكون قادة النصر (محل تحفظ) والانتماء الى الحزب الوحيد المقاتل(جائز بعناوين ثانوية) !!..هناك مؤاخذات شرعية كثيرة لا حصر لها ..!!
                            :
                            تناقض نفسك من حيث تدري ومن حيث لا تدري .,!
                            وان كانت الدوافع سياسية وليست دينية -حسبما تزعمون- فكيف يحسب هذا انه لراية (حيدرة) !!
                            :
                            اكتفي بهذا !!

                            تعليق


                            • #15
                              تقرير محاضرة: تحرير الإنسان الشيعي - الحلقة الثالثة (3)

                              تقرير لمحاضرة الشيخ الحبيب بعنوان: (تحرير الإنسان الشيعي) - الحلقة الثالثة

                              أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              (القول مني في جميع الأشياء قول آل محمد عليهم السلام فيما أسروا وما أعلنوا و فيما بلغني عنهم وما لم يبلغنِ)
                              الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أزكى السلام على المبعوث رحمة للخلائق أجمعين سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين و لعنة الله على قتلتهم و أعدائهم و جاحدي إمامتهم و منكري فضائلهم و مناقبهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين آمين .
                              بدهي أن الأمة التي لا يستشعر أفرادها في أنفسهم الحرية و السيادة لا يمكن لمثل هذه الأمة أن تتقدم و تعلو لأنه إذا كانت النفسية الطاغية على أفراد هده الأمة هي نفسية الانهزام و الضعف و الذلة فإن هذه الأمة لامحالة تتأخر و تتقهقر و تتسافل حتى تصل إلى الحضيض, و لا ينفع أن تملك هذه الأمة من العناوين السيادية ما تملك فإذا كانت تلك العناوين لا انطباق لها على أرض الواقع فإن هذه الأمة تبقى أمة ذليلة يكون بين واقعها و عناوينها أو شعاراتها التكاذب, تماما كالقصير الذي يصر على أنه طويل أو كالصغير الذي يصر على أنه كبير, أو كالدولة المحتلة أو الخاضعة لهيمنة دولة أخرى و هي مع ذلك تصر على أنها ذات سيادة.
                              دعونا نسمي الأشياء بمسمياتها, نحن نرفع شعار الإسلام يعلو و لا يُعلى عليه إلا أننا في واقعنا ندنوا و لا نعلوا , ونستمرء هذا الدنو و نتعايش معه كحالة طبيعية أو عادية, فيبقى ذلك الشعار الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه مجرد شعار ليس إلا, نوظفه فقط في الخطب الكلامية و الافتخارات الإنشائية و ما أشبه, والمضحك المبكي أننا صرنا كآخر سلاطين العثمانيين ذلك الأحمق عبد الحميد الثاني الذي كان قد نصب في أعلى مكتبه لوحة نُقشت عليها عبارة (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) , لوحة نُقشت عليها هذه العبارة و علقها فوق مكتبه, ويُنقل أنه لما كان يأتيه من يأتيه مخبرا إياه أنّ روسيا و الدول الغربية قد تعاظمت قوتها الصناعية و العسكرية و تفوقت علينا كثيرا, لما كانوا يأتون إليه و يخبرونه بمثل هذه الأخبار و ينبؤنه بمثل هذه الأنباء كان يكتفي بأن يشير بإصبعه إلى هذه اللافتة فوق رأسه و كأنّ العنوان أو الشعار يكفي لتحقق العلو وهزيمة العدو حتى وإن لم يُترجم هذا الشعار فعليا وعلى ارض الواقع. نحن كذلك كهذا الاحمق نرفع فوق رؤسنا شعارا عظيما و عنوانا كبيرا هو (هيهات منا الذلة) هذه الكلمة المقدسة التي نطق بها سيد الشهداء صلوات الله عليه يوم عاشوراء رافضا أن يبايع يزيد عليه اللعنة و ينزل على حكمه ذليلا مقهورا , هذه الكلمة المقدسة نصيح بها و نرفعها فوق المنابر في كل عام حين تطل علينا أيام عاشوراء إلا أننا لا نترجم هذه الكلمة فعليا على أرض الواقع فواقعنا أبعد ما يكون عن هذه الكلمة المقدسة و هذا الشعار العظيم بل إننا في سلوكنا العام كأننا نطبق شعارا آخر أصلا هو شعار(هيهات منا الإباء) أو شعار (هيهات منا العز), وا أسفاه حين نستمرء مثلا أن تبقى مراقد أئمتنا عليهم السلام بالبقيع مسواة بالأرض وبدلا من أن نعلنها انتقاضة أو ثورة, بدلا من ذلك نركن إلى السكون و الدعة بحجة أنه لا قبل لنا بالنظام السعودي المجرم الذي هدم هذه الأبنية المقدسة! ما معنى هذا؟ هذا معناه أننا قد قبلنا الذلة فإنه حتى لو سلمنا بأنه لا قِبَل لنا بهذا النظام الإجرامي ــ مع أن بمقدورنا إجبار هذا النظام على السماح بإعادة بناء البقيع بوسائل عديدة قد نذكرها لاحقا ــ أقول حتى لو سلمنا بأنه لا قبل لنا بهذا النظام الإجرامي فلا أقل من أن نعمل على تحصيل ما يجعلنا قِبلاً له و لو في المستقبل أي أن نمضي في إعداد ما استطعنا من قوة تجعلنا كفؤا للمواجهة و إن قل العدد فإنه (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين و إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا) فإن ضعفنا عن ذلك فـ(الآن خفف الله عنكم و علم أنّ فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله و الله مع الصابرين).
                              أيها الإخوة الأمة التي تُنسف مقدساتها و تحتج لتبرير خمولها بعدم القدرة على مواجهة عدوها, هذه الأمة هي أمة ذليلة, نعم مثل هذه الأمة هي أمة ذليلة لأنها لو كانت عزيزة أبية لما خملت و لرآها العالم تتحرك لتحصيل أسباب القوة التي تستعيد بها مقدساتها ولو بعد حين. هذا التحرك الفاعل هو الذي يُظهر أنّ هذه الأمة أمة تستشعر العز و الكرامة و الإباء, و أنها إنما تنتظر أن يحين موعد المواجهة لتستعيد ما سُلب منها. دعوني أكون صريحا أكثر و إن كان كلامي قاسيا بعض الشيء لكن هذا هو الواقع الذي لا بد من الاعتراف به, إنكم لو تفحصتم أحوال الأمم في عالمنا الحالي لما وجدتم أمة ذليلة كأمتنا. لا توجد في العالم أمة سويت قبور عظمائها بالأرض ليس عليها إلا التراب بلا حتى شاهد, لا توجد أمة هكذا إلا أمتنا نحن, كل الأمم الأخرى ترى قبور عظمائها محترمة مشيدة, لا توجد في العالم أمة تُمنع من زيارة عظمائها و الوصول إلى مقدساتها بالتنكيل و الإذلال, ذلك التنكيل و الإذلال الذي وصل إلى حد التعدي على النساء و الأطفال, لا تجد أمة هكذا إلا أمتنا نحن, كل الأمم الأخرى يُحترم حقها ولو إجمالا في الوصول إلى مقدساتها و زيارة عظمائها و أداء شعائرهم التعبدية في تلك المناطق, لا توجد في العالم أمة رضيت ببقاء مقدساتها في يد غيرها إلا أمتنا نحن, كل الأمم الأخرى تُشرف على مقدساتها بنفسها ولو إجمالا حتى و إن كانت تلك المواقع المقدسة واقعة جغرافيا في نطاق حكم معاد. مثلا القدس وهي كما نعلم محتلة من حكومة معادية و هي الحكومة الصهيونية إلا أنّ مواقع ومقدسات المسلمين في القدس المسجد الأقصى و قبة الصخرة, هذه المواقع تتبع إداريا مجلسا للأوقاف الإسلامية داخل القدس و تتبع أيضا في بعض الجوانب الأخرى وزارة الأوقاف الأردنية خارج القدس, صحيح أنّ هذه التابعية الإدارية منقوصة بما يفرضه الاحتلال إلا أنها على أقل تقدير تعني في جملة ما تعني أن هاهُنا إدارة من أصحاب الشأن لمقدساتهم وإن كانت تلك الإدارة منقوصة بل و إن كانت إسمية, أما نحن في المقابل فلا إدارة لنا للمسجد النبوي الشريف و لا للبقيع حتى و إن كانت تلك الإدارة منقوصة أو إسمية, لا إدارة لنا مطلقا, لا تابعية لهذه المواقع الشريفة لنا مطلقا, إنما تقع مقدساتنا هذه في يد غيرنا من النواصب الأجلاف. اقرؤوا عن تاريخ الهند, الهند التي يسيطر عليها الهندوس و انظروا كيف قامت طائفة السيخ أو السيك حين دخل بعض الجنود الهندوس معبدهم, ذلك المعبد الذهبي المقدس, معبد مشهور عندهم يقع على ضفاف ما هو أشبه ببحيرة . انظروا كيف قامت تلك الطائفة (طائفة السيخ) بثورة عارمة لدخول هؤلاء الجنود الهندوس معبدهم الذهبي المقدس عندهم, تلك الثورة و القلاقل أدت لاغتيال رئيسة الوزراء الهندية آنذاك أنديرا غاندي انتقاما . تلك الثورة أدت إلى زلزلة وضع الهند بأكمله, كل ذلك لماذا؟ لأنهم اعتبروا دخول شخص كافر في نظرهم وهو الهندوسي إلى معبدهم انتهاكا لمقدساتهم مع أن المعبد يقع أصلا تحت إشرافهم و تحت إدارتهم المستقلة و لم يكن دخول أولائك الجنود إليه إلا لإخماد قلاقل كان السيخ أنفسهم قد بدؤوها من هناك ضد الحكومة الهندية. هكذا تعامل السيخ لما استشعروا انتهاك مقدساتهم. نحن في المقابل قام هذا النظام الوهابي المجرم لا بدخول مقدساتنا فحسب, بل قام بنسفها و تسويتها بالأرض و مع دلك لم يكن لنا من ردة فعل يصح الافتخار بها لا سابقا و لا لاحقا. حين نرى مراقد أئمتنا عليهم السلام مسوات بالأرض ولا نحرك ساكنا حتى على مستوى إعداد العدة لإعادة البناء فليس هنالك معنى لهذا سوى أننا قبلنا الذلة, بل الذلة عندنا أبشع من ذلة غيرنا, إنه ينبغي لنا أن ننكس رؤوسنا حياءا و خجلا لأن التاريخ لم يعرف أمة انتُهكت مقدساتها و عاشت ذليلة إلى هذا الحد. إعذروني على كلامي القاسي إنه الواقع, إننا لم ننم عن استعادة مقدساتنا فحسب بل باركنا من يدعونا إلى النوم عنها, و دونك أولائك الجبناء ممن جعلوا أنفسهم في مواقع قيادية وانساق لهم الناس, هؤلاء بدلا من أن يقوموا بواجبهم في تصعيد الضغط في اتجاه إعادة بناء البقيع, بدلا من ذلك نراهم يصرحون في وسائل الإعلام بكل سفالة بأن هذا الموضوع إعادة بناء البقيع لا أولوية له و يدعون إلى التخلي عن طرحه و الاهتمام بهذا الموضوع. يدعوننا إلى أن لا نهتم و لا نكترث, ولما نسألهم لماذا تريدوننا أن لا نهتم يقولون اهتموا بدل ذلك ببناء اللحمة الوطنية و التعايش الأهلي, و كأنّ اللحمة الوطنية و التعايش الأهلي لا يتحققان إلا أن يدوس العدو على مقدساتنا و كرامتنا و نسكت.من الطبيعي أن تجد أصواتا نشازا في كل امة, أصوات من باع نفسه للسلطان و الحاكم حتى ينال منه ثروة و جاها و ما أشبه, أصوات العملاء الأذلاء, هذا من الطبيعي أن تجده في كل أمة إلا أنه من غير الطبيعي و لا العادي أن يبقى هؤلاء وسط مجتمعاتهم بلا عقاب أو بلا عزل على أقل تقدير. الأمم الأبية تعاقب عادة الأصوات النشاز التي تدعوها إلى الخنوع و الخضوع, تعاقبها بأن تعزلها عن المحيط العام و تغدو منبوذة لا وجاهة لها, فالعجب كل العجب من أمتنا المنكوبة هذه بدلا من أن تصفع هذا السامري الذي يجازف بكرامتها من أجل مصالحه, بدلا من أن تركله إلى خارج المحيط العام صاغرا منبوذا فإنها بدلا من ذلك تبقيه مكرما معززا, بل و تقوم شريحة من هذه الأمة بالثناء عليه بأنه ذو حكمة و بصيرة حتى حين يستقدم هذا ألسامري أجلاف النواصب لديارنا ليمرغ أنوفنا بالتراب, حينما يهاجمون عقائدنا و يسفهون تشيعنا و يقوم هو مع ذلك كله بتكريمهم في و لائم طعام ,حتى حين يقع مثل هذا يبقى هذا السامري في محله لا يُقطع لسانه و لا تُخلع عمامته و لا يلفظه المجتمع, بل يتعاطى معه و كأن شيئا لم يكن, اللهم إلا من عتاب هنا و بعض الضجيج هناك لا يغير من الأمر شيئا و لا يُوقف أمثال هؤلاء الذين أذلونا كل هذا الذل, لا يكون الضجيج بذلك المستوى. حين يقع مثل هذا و يمر مرور الكرام فإن على العزة و الكرامة و الإباء السلام. حقا إنا لا نجد أمة أذل من هذه الأمة, إنها أمة تستعذب الذل و تقول ما أروعه, إنها أمة تدعو لمن يدعو بالذل و تقول ما أحكمه. هذا المثال الذي أذكره عن سامري القطيف هين بالنسبة إلى غيره و لا أريد أن أعدد الآن أمثلة أخرى توجع القلب أكثر كطبيعة تعاملنا مع من يسحق كرامتنا و يتلاعب بمبادئنا حين يظهر على وسائل الإعلام مادحا لأعداء و قتلة رسولنا و أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم فيثني عليهم و يترضى عنهم و يتقيأ على رؤوسنا بذلك دون أن يتلقى صفعة من أحد منا تجعله يبلع قيأه و يتوقف عند حده.
                              أعلمتم الآن كيف أننا مثل هذا العبد الحميد الثاني العثماني؟ نرفع شعار (هيهات منا الذلة ) و الحال أننا نطبق شعار (هيهات منا العز).أين هي المشكلة؟إنها في نفوسنا,نحن لا نستشعر الحرية و الكرامة و السيادة, نحن نستذل أنفسنا لأن أفكارا بالية تسيطر على عقولنا و تبعدنا عن الطريق الذي يجب أن نسلكه لاستعادة حقوقنا و النهوض بأمتنا بدلا من أن نمضي في هذا الطريق, نمضي في طريق آخر نبدد فيه الطاقات التي كان يجب صرفها في الأولويات ولا أولوية اهم من تحرير المقدسات . هذه أولى الأولويات, و أولى الأولويات هذا النظام السعودي الوهابي الجائر الذي أعلن الحرب علينا مند ما يقرب من تسعين سنة حين هدم المراقد المقدسة في البقيع و ضرب طوقا يمنع من الوصول إلى ضريح النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم, هذا الطوق الذي يمنعنا من زيارته و تقبيل ضريحه المقدس و دعاء الله تبارك و تعالى من عنده هناك. مند ذلك الحين أعلن هذا النظام الجائر الحرب علينا و كل المحاولات التفاوضية التي بُذلت من أجل إعادة بناء البقيع باءت بالفشل بلا نتيجة. بقيت حكومة آل سعود على تعنتها و وقاحتها و ظلت وفية في عهدها لمناصبة العداء لآل محمد صلى الله عليه و آله والبقاء على سيرة الأشياخ أبي بكر و عمر و أبي سفيان و آل حرب و آل زياد و آل مروان, بقيت وفية لعهدها , لم تتزحزح فكل المحاولات التفاوضية معها باءت بالفشل. إذاً لم يعد مجال للتفاوض و الدبلوماسية فلا بد من سلوك الطريق الآخر. أي طريق ذاك؟ هو طريق التصعيد و لا أعني هنا بالضرورة قيام حرب مسلحة, إنما أعني على أقل تقدير رفع صوت جمعي جماعي, صوت جمعي واحد يُرفع و يُناجز آل سعود في كل المحافل الدولية في شأن البقيع, يترافق مع هذا الصوت العالي في الداخل عصيان مدني شامل. إذا طبقنا هذين الأمرين فقط, لن يعدوَ الأمر أياما معدودة حتى نرى هذه الحكومة تضطر صاغرة للسماح بإعادة بناء البقيع و إعادة هيكلة إدارة الحرمين الشريفين. هذا يمكن أن يتحقق بلا إراقة قطرة دم واحدة, إنما هي الثقة بالنفس و التخطيط الجيد و الاستفادة من وسائل الإعلام المؤثرة و التصعيد الدولي عبر المحافل و التحشيد الشعبي لا غير. هذا من وسائل التصعيد, هذه كفيلة بتحقيق الهدف في عالم اليوم,عالم اليوم له موازين, له أسباب, له وسائل, هذه هي الأسباب و الوسائل. لماذا إذاً لم نسلك هذا السبيل حتى الآن؟
                              قد يقال إنها مسؤولية القيادات النائمة الجبانة فإذا كان رب البيت نائما فشيمة أهل البيت كلهم النوم, كما أنه إدا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص. أقول قد يُعتذر بهذا عن حالة النوم و الذل التي نعيشها إلا أن هذه القيادات و إن كانت تتحمل قسطا كبيرا في ذلك إلا أنّ الأمة جمعاء تتحمل القسط الأكبر و الأوفر لأن المسؤولية مسؤولية الجميع, أنا و أنت و هو وهي, جميعنا مسؤولون محاسبون و لا يسع أحدنا الاعتذار بأن القائد الفلاني لم يتحرك ولذلك نمت أنا. إنها مسؤوليتك أيضا إذا وجدته نائما فاتركه واذهب للمتيقظ كي يقودك و إن وجدت هذا نائما أيضا فانهض بنفسك, لبَّ نداء نبيك و أئمتك عليهم السلام بنفسك, إسعَ بقدر جهدك و طاقتك في أداء تكليفك. أم أنّ صيحات لبيك يا محمد, لبيك يا علي, لبيك يا زهراء و أمثال هذه الصيحات لا تعدو كونها هي الأخرى شعارات مرفوعة بلا إنطاق على أرض الواقع؟ كلا فلنطبق حقا هذا الشعار العظيم (هيهات منا الذلة) فلا نقبل بذلة أبدا و هذا يتطلب منا أولا أن نستشعر أننا أحرار سادة ونُشعر بهذا أبناءنا و إخواننا و أصحابنا, فيمضي الشيعي في طريقه لاستعادة مجده و هو واثق من نفسه عزيز في إرادته حر في سلوكه, لا يرضخ لأحد سوى الله تعالى و إمامه عليه السلام.لا يعرف للذل و الهوان معنى في قاموس حياته أبدا. هكذا ينبغي أن يكون الإنسان الشيعي حرا في جميع أحواله حتى و إن نابته النوائب و المصائب فإنه يبقى حرا لا يقبل وهو في المصيبة أن ينكسر أو تضعف عزيمته, بل يصبر و يجتهد لأن يعود ويبقى مرفوع الرأس كريما عزيزا. هكذا يكون الإنسان الشيعي.. يروي شيخنا الكليني رضوان الله تعالى عليه بسنده عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : ( إنّ الحُر حرٌ على جميع أحواله، إن نابتة نائبة صبر لها, وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره, وإن أُسر وقُهر واستُبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات الله عليه لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر, ولم تضرره ظلمة الجب و وحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد إذ كان له مالكا، فأرسله ورحم به أُمة وكذلك الصبر يعقب خيرا، فاصبروا و وطنوا أنفسكم على الصبر تُؤجروا)

                              إذاً كما يقول إمامنا الصادق صلوات الله عليه , الحُر حر في جميع أحواله لا ينكسر أمام المصائب حتى و إن تم كسره و قهره , لا يضر ذلك حريته لأنه في نفسه حر يصبر على البلاء و ذلك الصبر يعقُب خيرا له فيعود سيدا لمن استعبده فترة ما فإنّ الله تعالى لما يرى من عبده الصبر ينزل عليه النصر كما حصل مع يوسف الصديق عليه السلام. ولكن أي صبر يجب أن نتحلى به أهو ذلك الذي يعني الاستسلام لمن يريد استعبادنا و قهرنا و العلو علينا؟ كلا فإنّ هذا هو قبول الذل بعينه و هيهات منا الذلة, إنما الصبر هاهنا هو بمعنى الرضا بقضاء الله تعالى من جهة, و بذل الوسع ما أمكن لدفع العدو و الانتصار عليه من جهة أخرى. إذا لم يتمكن منك العدو بعد فإنك مكلف شرعا أن تدفعه ما أمكنك, فإذا افترضنا أنه تمكن منك فإنك مكلف شرعا أيضا بأن تبذل ما بوسعك لكي تتخلص منه. في كلتا الحالتين أنت مطالب بالصبر فلا تجزع و لا تتذمر و لا تضعف أو تنتكس بل تسلم أمرك كله لله ولكن تعمل بوظيفتك الشرعية في دفع العدو أو التخلص منه و يقترن ذلك بالصبر أي الرضا بقضاء الله تبارك و تعالى و عدم الجزع أو التذمر. هذا هو معنى الصبر في هذه الرواية الشريفة, ليس معنى الصبر أن ترضى ببقاء الوضع الراهن إذا كان فيه ذلة لك, لأنه ليس من حقك شرعا أن تذل نفسك, هذا ليس من حقك.لاحظوا هذه الرواية الشريفة. روى شيخنا الكليني أيضا رضوان الله تعالى عليه بسنده عن أبي الحسن الأحمسي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا, أما تسمع قول الله عز وجل يقول: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"؟

                              فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا, ثم قال: إنّ المؤمن أعز من الجبل, إنّ الجبل يُستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يُستقل من دينه شئ . لذلك المؤمن أعز من الجبل, ما أروع هدا الحديث الصادقي, إنه يصف حال المؤمن و يؤكد أنه لا يمكن أن يكون ذليلا لأن الله تعالى جعل له العزة ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا, لم يسمح له بذلك فعليه إنّ من يذل نفسه يكون خارجا عن الإيمان بهذا المعنى الدقيق تماما, كالذي يشرب الخمر مثلا فإنه يخرج عن الإيمان لأن إذلال المؤمن نفسه حرام بمنزلة شرب الخمر, كما أنّ شرب الخمر حرام إذلال المؤمن نفسه حرام. إنّ الله أباح لك أمورك كلها لكنه لم يبح لك إطلاقا أن تعرض نفسك للمذلة أو تُقر بالمذلة. إفعل ما شئت من المباحات الشخصية لكن عليك أن تعلم أنّ كل فعل يمكن أن يؤدي إلى الإذلال هو محرم عليك تحريما قاطعا. لا ينبغي أن تكون مُستضعفا ذليلا بل ينبغي أن تكون كالجبل في الشدة و القوة بل اعز من الجبل لأن الجبل يُنقص منه بالمعاول لكن المؤمن لا ينقص من دينه شيء, مهما تكالب عليه الظالمون يكون صامدا, أكثر صمودا من الجبل, المؤمن حر دائما على جميع أحواله, المؤمن عزيز دائما على جميع أحواله, و على فرض أنه في حين من الأحيان ذل هذا المؤمن أو تعرض للمهانة قهرا, على فرض أنه حصل ذلك, إنه حين يحصل ذلك لا يستقر له قرار ولا يهدأ حتى يثور و يعيد اعتباره. لماذا؟ لأنه دققوا جيدا إن أقر بالذل استكانت نفسه للذل فيكون بذلك قد خرج عن التشيع و الانتساب لأهل بيت المصطفى صلى الله عليه و آله. هذا هو النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم يقول في كلمة رائعة مقدسة : (من أقر بالذل طائعا فليس منا أهل البيت)
                              الله أكبر.. هكذا يعلمنا نبينا و الأئمة من آله عليهم السلام كيف نكون أحرارا نسود العالم بعزنا و كرامتنا, هكذا يلقنونا كيف لا نرضى بالذل أبدا ولا نقر به, و معنى عدم الإقرار بالذل أنه لو اتفق في حين من الأحيان حصول الذل قهرا كأن تتكالب قوى الشر علينا مثلا فإننا حين ذاك لا نَقِر ولا يهدأ لنا بال حتى نرفع هذا الذل عنا ونُلبسه أعداءنا سيما أولائك السفلة المشركين الذين احتلوا المدينة المنورة و ضربوا فيها حصارا إرهابيا على مرقد النبي الخاتم صلى الله عليه و آله, و منعوا المسلمين من زيارته و الابتهال إلى الله عند ضريحه المقدس طالبين شفاعته, هؤلاء السفلة الوهابيين إنما استقووا لتوانينا عن مواجهتهم وغدا حين ينتشر هذا الفكر الجديد المصحح للمسيرة الشيعية في هذا العصر, هذا الفكر الذي يعيد تأصيل الإباء في نفوس أبنائنا و يدفعهم إلى أن يعلوا و لا يُعلى عليهم, سيرى العالم من هو العزيز ومن هو الذليل حقا. سنرجع إلى المدينة لنطهرها من هؤلاء الأجلاف المحتلين و لنعيد بناء آثارها المقدسة المهدومة ولله العزة و لرسوله و للمؤمنين الشيعة لكن المنافقين النواصب الوهابيين لا يعلمون.
                              المطلوب إذاً أن نعود لمدرسة سيد الشهداء سيد أهل العزة و الحرية و الإباء الحسين بن علي صلوات الله عليهما, تلك المدرسة التي عناوينها (هيهات منا الذلة), (كونوا أحرارا في دنياكم) , (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أقر لكم إقرارَ العبيد). هذه عناوين مدرسة سيد الشهداء عليه السلام, نحن معنيون بتطبيق عناوين هذه المدرسة الحسينية العظيمة لا أن نرددها على ألسنتنا فقط! فلنجعلها تُترجم على أرض الواقع وإن كان فيها فناء النفس فليس فناؤها بشيء في سبيل إعزاز دين الله والدفاع عن أهل البيت عليهم السلام. نحن أحياء إذا قهرنا أعداءنا حتى وإن متنا, أما إذا صرنا مقهورين وقبلنا بالذل فما نحن إلا أموات و إن كنا أحياء. هكذا قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم صفين حين استولى معاوية و أصحابه لعنهم الله على شريعة الفرات في يوم صفين و منعوا جيش الإمام من الماء و أرادوا إذلالهم بذلك, حين ذاك ماذا قال الإمام أمير المؤمنين صلوت الله و سلامه عليه؟ إقرؤوا نهج البلاغة, تدبروا في نهج البلاغة, قال عليه السلام لأفراد جيشه: (قد إستطعموكم القتال, فأقروا على مذلة و تأخير محلة, أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء). حينما لا يكون مجال إلا استعمال القوة في مواجهة المعتدي فلا سبيل إلا إستعمال القوة. ( قد إستطعموكم القتال, فأقروا على مذلة و تأخير محلة, أو رووا سيوفكم من الدماء ترووا من الماء, فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين) .
                              الحياة في الموت قاهرا, إقهر عدوك ومُت, إعلم أنك حي ولست ميتا. أما إن قهرك عدوك و إن كنت حيا فأنت ميت. (ألا إنّ معاوية قاد لُمة من الغواة وعمّس عليهم الخبر(ضللهم) حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية)
                              لقد أحسن أبو الحسن صلوات الله عليه تربية أهل بيته و شيعته المخلصين, كما أحسن أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه تربية أهل بيته و أصحابه الشهداء الأبرار صلوات الله عليهم أجمعين فظهرت منهم آيات الإباء و البطولة يوم كربلاء, لم يستسلم أحد منهم للذلة و لم يقبل الدنية و لم يضعف أو ينكسر, كانوا كالأسود الضارية التي لا تهاب الموت و ترى فيه الحياة لأن الواحد منهم كان يمضي شهيدا و ينتقل من هذه الدنيا و ليس في عنقه بيعة ذل لطاغية مثل يزيد لعنه الله. هكذا ينبغي أن نكون, هكذا نمتلك العزة و الكرامة و السيادة, هكذا نعلوا و لا يُعلى علينا, تلك هي مدرسة سيد الشهداء صلوات الله عليه, تلك هي مدرسة علي صلوات الله عليه, تلك هي مدرسة محمد صلى الله عليه و آله. الإسلام يعلو و لا يُعلى عليه. نحن بحاجة إلى أن نتأمل في هذه التعاليم, في هذه المآثر, أن نعتبر, أن نتدارس هذه السيرة العظيمة العطرة لأئمتنا الأطهار عليهم السلام و أصحابهم الأبرار. إنها هُنا دروسا و عبرا لو أنها طُبقت لوصلنا إلى مبتغانا و لأصبحنا سادة العالم. للحديث بقية نوكلها إلى ما تبقى من محاضرات إن شاء الله تعالى .هذا و صلى الله على سيدنا محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.



                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X