مراتب الإيمان في دائرة الوعي الشيعي:
في تقسيم اجمالي لمراتب الايمان يمكننا تقسيمها إلى ثلاث مراتب: «شعيرة، شريعة، شعور» ومع ضمّ المقدمة والنتيجة تتحصل لدينا خمس مراتب للايمان: (شعار، شعيرة، شريعة، شعور، فناء).
1 ـ مرتبة ايمان الشعار:
وهي اول ما يضع الإنسان قدمه على طريق الدين والرسالة السماوية، وذلك بأن يتشهد الشهادتين التي هي شعار الاسلام، ومعلوم أن هذه المرتبة ليست من الايمان، بل تقع كمقدمة لازمة للمراتب البعدية للإيمان، لأن الله تعالى ينفي الايمان عن بعض المسلمين الذين يكتفون بالشهادتين ويقول لهم:
(قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم)( ).
ولكن لماذا قلنا أن هذه المقدمة لازمة للإيمان؟
الا يمكن للإنسان أن يرتقي في عالم المعنويات والكمالات والسلوك إلى الله من دون هذه المقدمة، اي من دون النطق بالشهادتين؟
واذا كان هدف الاسلام هو خلق الإنسان الكامل في الصفات والسلوكيات، فما هو دخل هذه الكلمات في هذا السلوك الاخلاقي بحيث لا يقبل منه شيء الاّ بعد تلفظه بهذه الكلمات؟
الحقيقة أن الجواب على هذا السؤال يستدعي منا دراسة جوانب الموضوع في فلسفة الدين وبحث المسألة من زاوية فلسفية، وقد يخرجنا هذا البحث عن موضوعنا الاساسي، ولكن خلاصة ما يمكن قوله هنا ولو على سبيل الاشارة، هو أن السلوك المعنوي إلى الله تعالى يحتاج في بداية الامر إلى قدوة بشرية ودليل ومرشد قد وصل في مرحلة سابقة لتلك الكمالات المعنوية، وله نوع ارتباط مع الله تعالى كيما يقيم الإنسان المبتديء علاقة اخذ وعطاء وتفاعل روحي مع هذه الواسطة أو القدوة، ويقيم معها علاقة عاطفية على مستوى الحب والولاء تكفل له الارتفاع بمستواه المعنوي والصعود بسلوكه الاخلاقي في الإنسان البدائي المتوقف إلى الإنسان السالك، ولو لا هذه القدوة لضاع عليه الطريق ولما عرف من أين يبدأ وأين ينتهي في دائرة السلوك والمعتقد، ولأضحى يخبط في الظلماء لا يهتدي على شيء، لأن نور الفطرة ضعيف جداً عند الإنسان في بداية الحال، ولابد له من مرشد ودليل يأخذ بيده إلى الطريق، وهذا المرشد والدليل لابد وأن يكون نبياً أو اماماً ليتسنى للإنسان اقامة تلك الرابطة العاطفية المقدسة معه، أي أن يكون حجة عليه ويعتقد به هذا الإنسان من موقع القداسة والنيابة عن الله تعالى.
وبعبارة اُحرى : لما كان الإنسان في بداية سلوكه المعنوي متمحضاً في المادية والطبيعة من جهة، والله عزوجل متمحض في التجرد والغيبية المطلقة، فمن العسير جداً أن يتمكن هذا الإنسان من السير لوحده في طريق الهداية، الاّ من شذّ وندر، كما جاءت الاخبار عن أفراد من العرب في زمن الجاهلية توجهوا إلى الله لوحدهم وبدافع من فطرتهم، أو كما يشهد لذلك سلوك بعض الانبياء هذا الطريق في وسط جاهلي ومن دون دليل ومرشد، الاّ أن هؤلاء يعدون بالاصابع ولا يمثلون عدّة يعتد بها مقابل ملايين البشر الذين ليس لهم طريق الاّ من خلال الايمان بالوسائط البشرية، وهذا هو السبب في أن الاسلام سمح لأهل الكتاب البقاء على دينهم وألغى دين الشرك والوثنية، من حيث وجود القدوة السماوية لديهم دون المشركين، اي أنه باستطاعتهم سلوك السبيل إلى الله تعالى من خلال الاقتداء بالنبي المرسل اليهم.
2 ـ ايمان الشعيرة:
الكثير من الناس يبقون في سلوكهم الديني والمعنوي في مرتبة الشعار فقط، اي يقنعون من الاسلام بالاسم، فلا صلوة ولا صوم ولا شعائر دينية ولا التزام ديني، فكل ما هناك هو طلب الدنيا والتفكير في المعيشة والرزق والمقامات الدنيوية لا اكثر. ولكن هناك الكثير من الناس ايضاً من تتحرك فيهم العاطفة الدينية من موقع الايمان بالاخرة والثواب والعقاب، فيمارسون الشعائر الدينية خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، ولا أقل من التزامهم ببعض السلوكيات الدينية من منطلق شعورهم بأنهم مسلمون وشيعة، وهذا الانتماء الديني يفرض عليهم بعض الواجبات والسلوكيات الخاصة، وهي التي نسميها بالشعائر جمع «شعيرة» كالاتيان بالصلاة والصيام ولو احياناً، وكذلك المشاركة في المراسم الدينية والشعائر المذهبية التي تقام في محرم ورمضان ومجالس الذكر والوعظ والهيئات والمواكب الحسينية وأمثال ذلك، وهذا هو حال اغلبية العوام من المسلمين الشيعة.
من الملاحظ على هذا النوع من الايمان أنه شديد الشغف والميل نحو الغيبيات والاساطير والكرامات لدعم وتثبيت ايمانه بائمة الدين ويضفي على تلك الحكايات طابع القداسة والاصالة بحيث تغدو من اسس الايمان التي لا يجوز مسها بالنقد، أي تصير «تابو» وخطوطاً حمراء للعقيدة يمنع من التشكيك بها أو اثارة علامات الاستفهام حولها، ومثل هذه الامور تكاد تكون طبيعية لدى عوام الناس من كل دين ومذهب، الاّ أنها لدى الشيعة تشكل ظاهرة بارزة وطاغية على معطيات العقيدة الحقة لدى هذا الصنف من الناس، من قبيل:
ـ إنّ الجن بايعوا الحسين(عليه السلام) وارادوا نصرته في كربلاء...
ـ إنّ الوحوش اجتمعت للبكاء والنياحة على الحسين في عاشوراء...
ـ إنّ رأس الحسين كان يتكلم على الرمح...
ـ إنّ الإمام علي قاتل الجن ونزل وسيفه يقطر دماً...
ـ إنّ ثعباناً اسوداً اقترب من منبر امير المؤمنين(عليه السلام) في الكوفة وهو يخطب في الناس وسأله بعض المسائل وانصرف...
ـ إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) تناول تفاحة من الجنة وواقع خديجة فحملت بفاطمة..
ـ إنّ جبرائيل وميكائيل كانا يهزان مهد الحسين(عليه السلام)...
ـ إنّ السماء امطرت دماً يوم عاشوراء، ولم يرفع حجر الاّ وكان تحته دم عبيط...
ـ إنّ غزالة كلمت الامام(عليه السلام) في أن يشفع لها لدى الصياد ليترك طفليها لترضعهما...
ـ إن النبي(صلى الله عليه وآله) دخل يوماً على فاطمة ووجد عندها طعام من الجنة...
ـ إن الامام علي أخّر صلاته يوماً حتى غابت الشمس فدعا الله فردها عليه وصلّى ثم غابت مرة ثانية...
وعشرات ومئات من هذه الوقائع والاساطير التي نسمعها دائماً من اصحاب المنابر ورواة الاحاديث بدون تنقيح وتدبّر ونقد ولعل فيها ما يخدش بحرمة المعصومين ايضاً، الاّ انه من يتجرأ على المساس بهذه المفردات الغريبة التي اضفى عليها الزمن الطويل طابع القداسة وجعل الناس يتصورون أنها من العقيدة، بل من اصولها.
الكثير من المثقفين يقفون موقفاً سلبياً من هذه الامور ويعدون الاعتقاد بمثل هذه الحوادث والكرامات خرافة وأن المصدق بها انسان خرافي، وقد يشنّون على هذا النوع من الايمان حملة ضارية رغم علمهم بعدم جدواها، بل قد تؤدي إلى عزلهم عن الجمهور وانزوائهم في حركة الواقع الاجتماعي، والسبب في ذلك أنهم ظنوا أن المسألة هي مسألة معرفية فحسب، وما عليهم الاّ بيان الحقائق للناس ليتركوا ما هم عليه ويثوبوا إلى رشدهم وعقلهم، والحال أن المسألة متوغلة في اعماق النفس وفي عالم اللاشعور وتسترفد قوتها وديمومتها من نوازع نفسانية ودوافع لا شعورية قبل أن تكون عقيدة على مستوى الفكر والعقل.
الإنسان وهو على عتبة الايمان يجد نفسه محتاجاً إلى هذا اللون من الغلو والتوغل في الغيبات ودعم اعتقاده بالأئمة بالكرامات والمعاجز كيما يتوغل هذا الاعتقاد إلى عالم القلب والوجدان، ويرتبط بالتالي بالدين برباط عاطفي وثيق يكفل له الامن والطمأنينة القلبية بصحة معتقده وانه من اهل النجاة غداً يوم القيامة، والأئمة أنفسهم كانوا يدركون هذا الضعف في طبيعة الإنسان، فكانوا احياناً يظهرون من الكرامات لأتباعهم ما تطمئن اليه قلوبهم، فحتى لو كانت مثل هذه الروايات ضعيفة السند كما يقول المتجددون، الاّ أننا نعلم بصدور بعضها على نحو الاجمال قطعاً، بل قد يكون صدورها من الامام المعصوم ضرورياً كالمعجزة بالنسبة إلى النبي لاثبات صدقه وحقانية دعواه.
على هذا الاساس، لا معنى للوقوف من هذه الأخبار موقفاً سلبياً والتعامل معها بلغة الرفض والاستنكار كما يفعل اخواننا المثقفون بعد أن تبين جدواها وفائدتها الكبيرة في تعميق العلاقة بين الإنسان وأئمة الدين في مراحله الاولى...
نعم، قد ينقلب هذا اللون من الايمان إلى حالة سلبية مضرة فيما لو توقف الشخص عند هذه المرتبة وتصور أن هذا الايمان هو المطلوب منه ويكفيه على مستوى النجاة يوم القيامة، وخاصة اذا كان هذا اللون من الايمان مدعوماً ومؤيداً من قبل علماء الدين والمبلّغين وأهل المنبر على أساس أن هذه الشعائر هي الدين، وأن الإنسان اذا اراد الايمان والنجاة والشفاعة، فما عليه الاّ أن يعتقد بأهل البيت(عليهم السلام) ويقيم المأتم في ايام عاشوراء ويشارك في المواكب الحسينية، ويلطم ويبكي ويلعن اعداء أهل البيت(عليهم السلام)، واذا اضاف لها التطبير والنباح والمشي على الاربع كهيئة الكلاب عند زيارة مراقد الأئمة فهو نور على نور، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فليفعل بعدها ما يشاء، فان أهل البيت(عليهم السلام)سوف ينتظرونه على باب الجنة على أحرّ من الجمر!!
هذا هو المنزلق الذي ينتظر هؤلاء الذين يختزلون الدين بالشعائر، والولاء لأهل البيت(عليهم السلام) بالنياحة على مصائبهم ولعن اعدائهم، دون محاولة الصعود بهذه الممارسات الدينية من الظاهر إلى المحتوى، ومن الشكل إلى المضمون، ومن الجوارح إلى الجوانح، ومن البدن إلى القلب...
على الإنسان المؤمن أن لا يتوقف عند هذه المرحلة ويكتفي بهذا الايمان التقليدي المكتسب من المحيط والاسرة والمجتمع، فالايمان الحقيقي لا يعني العقيدة الذهنية بمباديء الدين واصول المذهب، ولا هو مجرد ممارسات جوفاء وسلوكيات خاوية لشعائر الدين، بل إن دور المعتقد والشعائر كمقدمة لتعميق الايمان بالله وبأهل البيت(عليهم السلام) في عالم القلب والوجدان ولتفعيل عناصر الخير في النفس والتحرك في عملية التفاعل الاجتماعي من موقع المسؤولية والالتزام بالقيم الاخلاقية والمثل الانسانية لا من موقع الذات والانانية...
3 ـ ايمان الشريعة:
وقد يتحرك المؤمن في ايمانه من المرتبة السابقة إلى الايمان بالشريعة ومعطياتها الفردية والاجتماعية كافة، وذلك من خلال توسيع الثقافة الدينية والتعامل مع مفردات العقيدة والدين من موقع الالتزام الواعي والاهتمام بقراءة كتب التفسير والتاريخ الاسلامي والعقائد الاسلامية بما يكفل له حصيلة ثقافية دينية تتولى صياغة شخصيتة من جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، أي يتحول الدين في وعيه إلى ايديولوجية ترسم له سلوكه وعواطفه وافكاره في حركة الحياة.
وهذا هو الاسلام الاصولي..
الاسلام في ذهنية المسلم الواعي لا يتلخص في مجموعة من الشعائر والممارسات الدينية كما في المرتبة السابقة، بل يمتد إلى مساحات اُخرى من شخصية الفرد وأبعاده المعرفية والسلوكية، فيعيش الهدف الرسالي والهم للمسلمين والتعاطف مع المظلومين والتحرك على المستوى السياسي لاقامة الحكومة الاسلامية وتشييد الدولة العادلة التي تأخذ على عاتقها اجراء احكام الشريعة ونشر وترسيخ قيم السماء ومباديء الدين الحنيف.
كل هذه الامور تعتبر من ايجابيات هذه المرحلة، ولكن التوسع الثقافي والامتداد الديني الذي يعيشه الإنسان في ايمان الشريعة هذا انما يشكّل امتداداً افقياً فحسب، ولا يؤمن معه من الاصابة بمرض الجزمية أو استيلاء «الأنا» على معطيات هذا الايمان ومصادرة العقيدة وادلجتها على حساب اهتزاز القيم الاخلاقية والانسانية، فيتحرك هذا المسلم الاصولي في سبيل نصرة المسلمين لكونه مسلماً، والدفاع عن الشيعة والتشيع لكونه شيعياً، اي أن «الا نا الشيعي» في ذهنه هو الذي يرسم له سلوكه وتعامله مع الغير من موقع الانانية الخفية والحساسية المذهبية لا من موقع الحق والحقيقة، فتتحول الشريعة هنا إلى شيء وموضع لا إلى مباديء سماوية تتولى اثارة دوافع الخير والصلاح في اعماق الوجدان..
اذا توقف الإنسان في مسيرته الايمانية والمعنوية على هذه المرتبة من الايمان، وتصور أن الدين هو الايديولوجية وغفل عن تعميق اتصاله القلبي بالله تعالى وتقوية شعوره الوجداني بالقيم والمثل الانسانية، فان خطر استيلاء «الانا» على معطيات العقيدة الذهنية حتمي، وعندها تحل العداوة محل المحبة ،والقساوة محل الرحمة، والخشونة محل التسامح، ويتحول هذا المسلم الاصولي إلى ارهابي سلفي يروع الآمنين ويتعامل مع الآخرين من موقع الشرطي المفوض من ربّ السماء لحراسة الشريعة والدين.
هذا هو مرض «الدوغماتية» والجزمية، وهو المرض الذي يبتلى به اكثر المتدينين من جميع المذاهب والفرق، اي أن مثل هذا الشخص يتصور أنه على الحق، وسائر الاقوام البشرية ومن يخالفه في المذهب على باطل، ويترتب على ذلك أن يتحرك من هذا المنطلق في عملية محاربة الافكار المخالفة لفكره ويتهمهم بالارتداد والمروق والانحراف عن جادة الحق والصواب حتى من داخل دائرة مذهبة، ولا يقتصر هذا الامر على المتدينين من الشيعة أو السنّة، فحتى الشيوعي تراه يتهم غير الشيوعي من سائر البشر بالرجعية والبرجوازية، وأرباب الكنيسة المسيحية يتهمون غيرهم بأنهم اتباع الشيطان وأن الشيطان قد استولى على عقولهم، وأهل السنة يتهمون الشيعة بالفارسية والمجوسية وأن عقيدة الشيعة خليط من الاسلام والمجوسية، والوهابية يتهمون من عداهم من المذاهب الاسلامية بالشرك، ونحن فيما بيننا يتهم أحدنا الآخر بأنه امريكي، ليبرالي، غربي، منحرف، لأدنى خلاف فكري معه. دون أن يحاول تفهم مقالة الطرف الآخر والاستماع لأدلته، والحال أن المؤمن الواقعي نفسه عنده ظنون ولا يهتم الاّ باصلاح نفسه وتطهير قلبه من الدرن والمرض ويحترم الآخرين حتى من اتباع الديانات الاخرى، فلعلهم كانوا من أهل النجاة غداً دونه بالرغم من اعتقاده بصحة مذهبه ودينه، الاّ أنه لا يكتفي بأن يكون معتقده صحيحاً ما لم يترجمه على مستوى السلوك والعمل، فقد يشمل الله تعالى الآخرين برحمته ومغفرته ولا يشمله هو...
4 ـ ايمان الشعور:
وهي مرتبة الايمان القلبي بالوسائط في العلاقة مع الله تعالى، أي أن الشخص في هذه المرحلة يشعر بوجود أهل البيت في قلبه ويسعى لتعميق اتصاله بهم من خلال التحلّي بالفضائل ومكارم الاخلاق والعمل الصالح وتطهير قلبه من الشوائب والرذائل بما يكفل له التجانس مع أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون حسينياً في سلوكه وعواطفه وحركاته وسكناته، أي يدخل الحسين إلى قلبه وروحه ويشعر بأن الحسين معه وفي قلبه بعد أن كان في المرتبة السابقة منفصلاً عنه ولا يعيش معه في وجدانه وروحه، فالحسين له وجود خارجي كان يعيش قبل اكثر من الف عام، وهو الذي استشهد في كربلاء، والشخص في المراتب السابقة يتعامل مع ذلك الحسين، أما في هذه المرتبة فانه يتعامل مع الحسين الحي الموجود والحاضر الان في قلبه يأمره بالخيرات وينهاه عن المنكرات، وهذا المعنى هو المقصود من الشفاعة بمعناها الحقيقي.
«الشفاعة» في الآخرة هي صورة وانعكاس لما حدث في الدنيا من شفاعة النبي أو الامام لذلك المذنب، والشفيع هو القرين والزوج المقترن بزوجه، فما لم يقترن حضور النبي أو الامام مع الشخص في قلبه، أي ما لم يشفع له في الدنيا ويحل في قلبه ويرشده على طريق الخير والصلاح، لا يشفع له في الآخرة ولا معنى لتحقق الشفاعة في الاخرة حينئذ، فالإنسان الذي كان منفصلاً عن أهل البيت(عليهم السلام) في الدنيا لا يمكن أن يقترن معهم في الآخرة، أي ما لم يستجب لهم في الدنيا ويتحرك في سلوكه على مستوى اداء العبادات والتحلي بمكارم الاخلاق والفضائل وترك السيئات والرذائل، فسوف لا يتمكن من الاستجابة لهم عندما يدعونه يوم القيامة للتوجه إلى الجنة والخروج من النار، كما يتحدث القرآن الكريم عن الاشخاص الذين لم يسجدوا لله في الدنيا بأنهم لا يستطعيون السجود في الآخرة (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ)( ).
الإنسان الحسيني في مرتبة ايمان الشعائر وفي العرف السائد هو من يشترك دائماً في المواكب الحسينية ويخدم زوّار الحسين ويوزع الماء والشاي في الهيئات الحسينية ويلطم على الحسين أو يتبرع بالمال الكثير لإطعام المشاركين في العزاء وأمثال ذلك، الاّ أن الحسيني بالمعنى الاخير هو المتحلي بصفات الحسين والسالك طريقه في الالتزام بالدين ومناهضة الظالمين والدفاع عن المحرومين وأمثال ذلك، فالحسيني الاول يقيم الشعائر الحسينية حتى وان كان قلبه فارغاً من الدين والاخلاق والفضائل، كما نرى هذا المعنى في الكثير من هؤلاء الاشخاص الذين يدّعون أنهم حسينيون!!
هذه هي العلامة الاولى للايمان في هذه المرتبة.
ويترتب على ذلك أن مثل هذا الإنسان يشتغل دائماً باصلاح نفسه وتطهير قلبه من الرذائل وتحسين سلوكه من المعايب ولا ينظر إلى عيوب الآخرين، فلا يبتلي بمرض «الدوغماتية» المذكور. فلا يتحرك في علاقاته مع الاخرين من موقع العداوة والخصومة والعقدة والتهمة، لأنه يتهّم نفسه أولاً ويتحرك في سبيل اصلاح الخلل في نفسه وسلوكه، فلا تحين له فرصة للطعن في سلوك الآخرين وأفكارهم ومذاهبهم. بل يرى أن جميع الناس على اختلاف آرائهم وسلوكياتهم أفضل منه وأقرب إلى النجاة منه، وحتى في مجال مناقشته لأفكار الآخرين ومذاهبهم الباطلة، فانه يتحرك في ذلك من موقع الدليل والبرهان العقلي والنقلي، ولا يتعداه إلى اسلوب التسقيط والاتهام والسبّ واللعن وأمثال ذلك مما نراه في افراد الطائفة الاولى، أي أنه قد يختلف معك في الفكر والعقيدة، ويرى أنه على حق وانك على باطل. وهذا شيء طبيعي لكل انسان يحمل فكراً خاصاً وعقيدة معينة. وقد يسعى لاقناعك بفكره وعقيدته وترك ما أنت عليه من الفكر والعقيدة، وكما هو الحال في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يسعى الإنسان المؤمن في نهي الاخرين عن المنكر، الاّ أن ذلك لا يلازم أن يرى نفسه افضل من ذلك الشخص. ففي المرتبة الاولى نرى أن الشخص الذي يدافع عن عقيدته ويدحض الفكر المخالف وقد ينهى عن المنكر، الاّ أن ذلك يقترن مع رؤيته نفسه افضل من الطرف الآخر، وهنا تكمن نقطة الداء ومرض الدوغماتية.
يذكر عن حالات العارف «الميرزا ملكي» التبريزي أنه بعد سنتين من حضوره عند استاذه المولى «حسين قلي الهمداني» لم ير في نفسه تحسناً وتكاملاً في عالم السلوك والمعرفة، فشكى ذلك لاستاذه، فسأله الاستاذ الهمداني عن اسمه ولقبه، فتعجب الميرزا من ذلك، وأخبره باسمه ولقبه، فسأله الهمداني عن بعض الاشخاص من اقربائه ومعارفه، وبما أن الميرزا كان يعرفهم بعدم التدين وسوء الاخلاق فشرع بانتقادهم وأنه ليس مثل اولئك وإن كانوا من أقربائه، فأجابه الهمداني: عندما تتمكن من احضار أحذيتهم ووضعها أمامهم فانا سوف أجيء اليك واعطيك برنامجاً للسلوك.
فامتثل الميرزا ذلك الأمر وسعى إلى التقرب والتودد اليهم وخدمتهم والتواضع لهم حتى استطاع أن يكسب قلوبهم نحوه إلى أن وصل أن يضع أحذيتهم امامهم، ويقال أن هذا العمل وصل خبره إلى تبريز، فزالت آثار الشحناء والعداء التي كانت موجودة بين أهاليهم.
5 ـ مرتبة الفناء:
وهي مرتبة الوصول إلى الله حيث يشرق نور الله في قلبه فيقطعه عمن سواه حتى من الوسائط فلا يرى حينئذ سوى الله تعالى كما قال الامام علي(عليه السلام): «ما رأيت شيئاً الاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده». وبعض المفسرين يرى أن حالات ابراهيم(عليه السلام) التي ذكرها القرآن مع النجوم والقمر والشمس هي اشارة إلى هذا المعنى حتى كان آخرها أن تجلى الله تعالى في قلبه فطغى نوره على نور الوسائط فقال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)( )، أو كما تجلى الله لموسى فخرّ موسى صعقاً، ويذكر أهل المعرفة بأن المراد من الجبل هنا هو جبل الانانية عندما قال الله تعالى: (فلما تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً)( )، فعندما يشرق نور الله في قلب العبد يتلاشى كل ما عداه من الشخصية ورؤية الذات والانا والاحساس بالوجود المستقل وما إلى ذلك. ومن هنا يرى بعض أهل المعرفة في قوله تعالى حكاية على لسان ملكة سبأ حينما قالت
إنّ الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)( ) فهذا شأن الملوك بمقتضى حالة المُلك، وهذا يعنى أن ملك الملوك وهو الله تعالى اذا دخل قلب الإنسان (وهي قرية بالمعنى الباطني) أفسد شخصية الإنسان واعتداده بنفسه وحطّم غروره وجعل عناصر القوة والعزة فيه ذليلة، فيشعر الشخص حينها بالذلّة والعجز والفقر والحقارة، بل لا يرى لنفسه وجوداً أمام الله تعالى، وهو حال الانبياء والاولياء، فانهم وصلوا إلى مقام العبودية المطلقة، وهو اعلى مقام يناله الإنسان في سيرة المعنوي والتكاملي إلى الله تعالى.
يقول أحد العرفاء: «بأن لي عشرين عاماً وأنا لا اتكلم الاّ مع الله، ولم اسمع الاّ من الله» وهذا لا يعني أنه كان منعزلاً عن الخلائق، بل كان يشعر بوجود الله في كل وجوده وفي كل شيء حوله، وهذا هو الايمان بصورته الحقيقية، وهو ما يعبّر عنه في علم الكلام الجديد بالتجربة الدينية، اي يسمع خطاب الله له في قلبه، وأما العبادات واداء الواجبات وترك المحرمات فهي تجليات لذلك الايمان القلبي والخطاب الإلهي، لا أنّها هي الإيمان كما هو واضح، وما لم تكن العبادات صادرة من حديث الله مع الإنسان، اي صادرة من التجربة الدينية، فلا يؤمن معها أن تؤدي عكس المطلوب كما هو الحال في الخوارج الذين اشتهروا بعبادتهم، حيث يظن هذا الشخص نفسه من أهل الله ومن اصحاب الجنة وأنه على حق وسائر الناس على باطل، فتورثه العبادة الغرور والعجب وتعمل على تقوية الانا في نفسه، بينما المطلوب من العبادة في الاصل هو اضعاف الانا وترشيد عناصر الخير في النفس، ولا تكون كذلك الاّ اذا كانت صادرة من قلب مخلص ونزيه، ولذلك قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين)( ).
ومن هنا ندرك الخطأ الذي وقع فيه بعض المتصوفة حيث قالوا بأن الإنسان اذا وصل إلى الله فلا يحتاج بعدها إلى العبادة والصلاة والصوم، لأنها تنفعه في سلوكه إلى الله وفي الطريق إلى الله فقط، والخطأ هنا هو أنّهم تصوروا أن العبادة لا تكون إلاّ وسيلة للوصول، فبعد الوصول لا معنى إلى الوسيلة، والحال أن العبادة الحقيقية لا تكون الاّ بعد الوصول، اي عندما تكون نابعة من قلب نقي وخالص، لأنها تقع حينئذ بدافع الحب والمعرفة لله تعالى كما قال امير المؤمنين(عليه السلام): «الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك»، فلا تكون العبادة من الصلاة والصوم والجهاد ثقيلة على النفس كما في المرحلة السابقة للوصول، بل يكون الإنسان عاشقاً للعبادة، ويؤدي صلاته وصومه وعباداته بشوق بالغ اعترافاً منه بالجميل وشوقاً إلى التحدث مع الله والانقطاع عما سواه.
وبعبارة اُحرى : إنّ العبادة قبل الوصول إلى هذه المرتبة تقع علّة وسبباً للوصول، وبعد الوصول والفناء تقع معلولة لذلك المقام، فالانبياء والاولياء يعبدون الله تعالى شكراً وحبّاً له لا لغرض آخر.
والحمد لله رب العالمين
احمد القبانچي
قم 1423 هـ ـ 2002 م.
في تقسيم اجمالي لمراتب الايمان يمكننا تقسيمها إلى ثلاث مراتب: «شعيرة، شريعة، شعور» ومع ضمّ المقدمة والنتيجة تتحصل لدينا خمس مراتب للايمان: (شعار، شعيرة، شريعة، شعور، فناء).
1 ـ مرتبة ايمان الشعار:
وهي اول ما يضع الإنسان قدمه على طريق الدين والرسالة السماوية، وذلك بأن يتشهد الشهادتين التي هي شعار الاسلام، ومعلوم أن هذه المرتبة ليست من الايمان، بل تقع كمقدمة لازمة للمراتب البعدية للإيمان، لأن الله تعالى ينفي الايمان عن بعض المسلمين الذين يكتفون بالشهادتين ويقول لهم:
(قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم)( ).
ولكن لماذا قلنا أن هذه المقدمة لازمة للإيمان؟
الا يمكن للإنسان أن يرتقي في عالم المعنويات والكمالات والسلوك إلى الله من دون هذه المقدمة، اي من دون النطق بالشهادتين؟
واذا كان هدف الاسلام هو خلق الإنسان الكامل في الصفات والسلوكيات، فما هو دخل هذه الكلمات في هذا السلوك الاخلاقي بحيث لا يقبل منه شيء الاّ بعد تلفظه بهذه الكلمات؟
الحقيقة أن الجواب على هذا السؤال يستدعي منا دراسة جوانب الموضوع في فلسفة الدين وبحث المسألة من زاوية فلسفية، وقد يخرجنا هذا البحث عن موضوعنا الاساسي، ولكن خلاصة ما يمكن قوله هنا ولو على سبيل الاشارة، هو أن السلوك المعنوي إلى الله تعالى يحتاج في بداية الامر إلى قدوة بشرية ودليل ومرشد قد وصل في مرحلة سابقة لتلك الكمالات المعنوية، وله نوع ارتباط مع الله تعالى كيما يقيم الإنسان المبتديء علاقة اخذ وعطاء وتفاعل روحي مع هذه الواسطة أو القدوة، ويقيم معها علاقة عاطفية على مستوى الحب والولاء تكفل له الارتفاع بمستواه المعنوي والصعود بسلوكه الاخلاقي في الإنسان البدائي المتوقف إلى الإنسان السالك، ولو لا هذه القدوة لضاع عليه الطريق ولما عرف من أين يبدأ وأين ينتهي في دائرة السلوك والمعتقد، ولأضحى يخبط في الظلماء لا يهتدي على شيء، لأن نور الفطرة ضعيف جداً عند الإنسان في بداية الحال، ولابد له من مرشد ودليل يأخذ بيده إلى الطريق، وهذا المرشد والدليل لابد وأن يكون نبياً أو اماماً ليتسنى للإنسان اقامة تلك الرابطة العاطفية المقدسة معه، أي أن يكون حجة عليه ويعتقد به هذا الإنسان من موقع القداسة والنيابة عن الله تعالى.
وبعبارة اُحرى : لما كان الإنسان في بداية سلوكه المعنوي متمحضاً في المادية والطبيعة من جهة، والله عزوجل متمحض في التجرد والغيبية المطلقة، فمن العسير جداً أن يتمكن هذا الإنسان من السير لوحده في طريق الهداية، الاّ من شذّ وندر، كما جاءت الاخبار عن أفراد من العرب في زمن الجاهلية توجهوا إلى الله لوحدهم وبدافع من فطرتهم، أو كما يشهد لذلك سلوك بعض الانبياء هذا الطريق في وسط جاهلي ومن دون دليل ومرشد، الاّ أن هؤلاء يعدون بالاصابع ولا يمثلون عدّة يعتد بها مقابل ملايين البشر الذين ليس لهم طريق الاّ من خلال الايمان بالوسائط البشرية، وهذا هو السبب في أن الاسلام سمح لأهل الكتاب البقاء على دينهم وألغى دين الشرك والوثنية، من حيث وجود القدوة السماوية لديهم دون المشركين، اي أنه باستطاعتهم سلوك السبيل إلى الله تعالى من خلال الاقتداء بالنبي المرسل اليهم.
2 ـ ايمان الشعيرة:
الكثير من الناس يبقون في سلوكهم الديني والمعنوي في مرتبة الشعار فقط، اي يقنعون من الاسلام بالاسم، فلا صلوة ولا صوم ولا شعائر دينية ولا التزام ديني، فكل ما هناك هو طلب الدنيا والتفكير في المعيشة والرزق والمقامات الدنيوية لا اكثر. ولكن هناك الكثير من الناس ايضاً من تتحرك فيهم العاطفة الدينية من موقع الايمان بالاخرة والثواب والعقاب، فيمارسون الشعائر الدينية خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، ولا أقل من التزامهم ببعض السلوكيات الدينية من منطلق شعورهم بأنهم مسلمون وشيعة، وهذا الانتماء الديني يفرض عليهم بعض الواجبات والسلوكيات الخاصة، وهي التي نسميها بالشعائر جمع «شعيرة» كالاتيان بالصلاة والصيام ولو احياناً، وكذلك المشاركة في المراسم الدينية والشعائر المذهبية التي تقام في محرم ورمضان ومجالس الذكر والوعظ والهيئات والمواكب الحسينية وأمثال ذلك، وهذا هو حال اغلبية العوام من المسلمين الشيعة.
من الملاحظ على هذا النوع من الايمان أنه شديد الشغف والميل نحو الغيبيات والاساطير والكرامات لدعم وتثبيت ايمانه بائمة الدين ويضفي على تلك الحكايات طابع القداسة والاصالة بحيث تغدو من اسس الايمان التي لا يجوز مسها بالنقد، أي تصير «تابو» وخطوطاً حمراء للعقيدة يمنع من التشكيك بها أو اثارة علامات الاستفهام حولها، ومثل هذه الامور تكاد تكون طبيعية لدى عوام الناس من كل دين ومذهب، الاّ أنها لدى الشيعة تشكل ظاهرة بارزة وطاغية على معطيات العقيدة الحقة لدى هذا الصنف من الناس، من قبيل:
ـ إنّ الجن بايعوا الحسين(عليه السلام) وارادوا نصرته في كربلاء...
ـ إنّ الوحوش اجتمعت للبكاء والنياحة على الحسين في عاشوراء...
ـ إنّ رأس الحسين كان يتكلم على الرمح...
ـ إنّ الإمام علي قاتل الجن ونزل وسيفه يقطر دماً...
ـ إنّ ثعباناً اسوداً اقترب من منبر امير المؤمنين(عليه السلام) في الكوفة وهو يخطب في الناس وسأله بعض المسائل وانصرف...
ـ إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) تناول تفاحة من الجنة وواقع خديجة فحملت بفاطمة..
ـ إنّ جبرائيل وميكائيل كانا يهزان مهد الحسين(عليه السلام)...
ـ إنّ السماء امطرت دماً يوم عاشوراء، ولم يرفع حجر الاّ وكان تحته دم عبيط...
ـ إنّ غزالة كلمت الامام(عليه السلام) في أن يشفع لها لدى الصياد ليترك طفليها لترضعهما...
ـ إن النبي(صلى الله عليه وآله) دخل يوماً على فاطمة ووجد عندها طعام من الجنة...
ـ إن الامام علي أخّر صلاته يوماً حتى غابت الشمس فدعا الله فردها عليه وصلّى ثم غابت مرة ثانية...
وعشرات ومئات من هذه الوقائع والاساطير التي نسمعها دائماً من اصحاب المنابر ورواة الاحاديث بدون تنقيح وتدبّر ونقد ولعل فيها ما يخدش بحرمة المعصومين ايضاً، الاّ انه من يتجرأ على المساس بهذه المفردات الغريبة التي اضفى عليها الزمن الطويل طابع القداسة وجعل الناس يتصورون أنها من العقيدة، بل من اصولها.
الكثير من المثقفين يقفون موقفاً سلبياً من هذه الامور ويعدون الاعتقاد بمثل هذه الحوادث والكرامات خرافة وأن المصدق بها انسان خرافي، وقد يشنّون على هذا النوع من الايمان حملة ضارية رغم علمهم بعدم جدواها، بل قد تؤدي إلى عزلهم عن الجمهور وانزوائهم في حركة الواقع الاجتماعي، والسبب في ذلك أنهم ظنوا أن المسألة هي مسألة معرفية فحسب، وما عليهم الاّ بيان الحقائق للناس ليتركوا ما هم عليه ويثوبوا إلى رشدهم وعقلهم، والحال أن المسألة متوغلة في اعماق النفس وفي عالم اللاشعور وتسترفد قوتها وديمومتها من نوازع نفسانية ودوافع لا شعورية قبل أن تكون عقيدة على مستوى الفكر والعقل.
الإنسان وهو على عتبة الايمان يجد نفسه محتاجاً إلى هذا اللون من الغلو والتوغل في الغيبات ودعم اعتقاده بالأئمة بالكرامات والمعاجز كيما يتوغل هذا الاعتقاد إلى عالم القلب والوجدان، ويرتبط بالتالي بالدين برباط عاطفي وثيق يكفل له الامن والطمأنينة القلبية بصحة معتقده وانه من اهل النجاة غداً يوم القيامة، والأئمة أنفسهم كانوا يدركون هذا الضعف في طبيعة الإنسان، فكانوا احياناً يظهرون من الكرامات لأتباعهم ما تطمئن اليه قلوبهم، فحتى لو كانت مثل هذه الروايات ضعيفة السند كما يقول المتجددون، الاّ أننا نعلم بصدور بعضها على نحو الاجمال قطعاً، بل قد يكون صدورها من الامام المعصوم ضرورياً كالمعجزة بالنسبة إلى النبي لاثبات صدقه وحقانية دعواه.
على هذا الاساس، لا معنى للوقوف من هذه الأخبار موقفاً سلبياً والتعامل معها بلغة الرفض والاستنكار كما يفعل اخواننا المثقفون بعد أن تبين جدواها وفائدتها الكبيرة في تعميق العلاقة بين الإنسان وأئمة الدين في مراحله الاولى...
نعم، قد ينقلب هذا اللون من الايمان إلى حالة سلبية مضرة فيما لو توقف الشخص عند هذه المرتبة وتصور أن هذا الايمان هو المطلوب منه ويكفيه على مستوى النجاة يوم القيامة، وخاصة اذا كان هذا اللون من الايمان مدعوماً ومؤيداً من قبل علماء الدين والمبلّغين وأهل المنبر على أساس أن هذه الشعائر هي الدين، وأن الإنسان اذا اراد الايمان والنجاة والشفاعة، فما عليه الاّ أن يعتقد بأهل البيت(عليهم السلام) ويقيم المأتم في ايام عاشوراء ويشارك في المواكب الحسينية، ويلطم ويبكي ويلعن اعداء أهل البيت(عليهم السلام)، واذا اضاف لها التطبير والنباح والمشي على الاربع كهيئة الكلاب عند زيارة مراقد الأئمة فهو نور على نور، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فليفعل بعدها ما يشاء، فان أهل البيت(عليهم السلام)سوف ينتظرونه على باب الجنة على أحرّ من الجمر!!
هذا هو المنزلق الذي ينتظر هؤلاء الذين يختزلون الدين بالشعائر، والولاء لأهل البيت(عليهم السلام) بالنياحة على مصائبهم ولعن اعدائهم، دون محاولة الصعود بهذه الممارسات الدينية من الظاهر إلى المحتوى، ومن الشكل إلى المضمون، ومن الجوارح إلى الجوانح، ومن البدن إلى القلب...
على الإنسان المؤمن أن لا يتوقف عند هذه المرحلة ويكتفي بهذا الايمان التقليدي المكتسب من المحيط والاسرة والمجتمع، فالايمان الحقيقي لا يعني العقيدة الذهنية بمباديء الدين واصول المذهب، ولا هو مجرد ممارسات جوفاء وسلوكيات خاوية لشعائر الدين، بل إن دور المعتقد والشعائر كمقدمة لتعميق الايمان بالله وبأهل البيت(عليهم السلام) في عالم القلب والوجدان ولتفعيل عناصر الخير في النفس والتحرك في عملية التفاعل الاجتماعي من موقع المسؤولية والالتزام بالقيم الاخلاقية والمثل الانسانية لا من موقع الذات والانانية...
3 ـ ايمان الشريعة:
وقد يتحرك المؤمن في ايمانه من المرتبة السابقة إلى الايمان بالشريعة ومعطياتها الفردية والاجتماعية كافة، وذلك من خلال توسيع الثقافة الدينية والتعامل مع مفردات العقيدة والدين من موقع الالتزام الواعي والاهتمام بقراءة كتب التفسير والتاريخ الاسلامي والعقائد الاسلامية بما يكفل له حصيلة ثقافية دينية تتولى صياغة شخصيتة من جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، أي يتحول الدين في وعيه إلى ايديولوجية ترسم له سلوكه وعواطفه وافكاره في حركة الحياة.
وهذا هو الاسلام الاصولي..
الاسلام في ذهنية المسلم الواعي لا يتلخص في مجموعة من الشعائر والممارسات الدينية كما في المرتبة السابقة، بل يمتد إلى مساحات اُخرى من شخصية الفرد وأبعاده المعرفية والسلوكية، فيعيش الهدف الرسالي والهم للمسلمين والتعاطف مع المظلومين والتحرك على المستوى السياسي لاقامة الحكومة الاسلامية وتشييد الدولة العادلة التي تأخذ على عاتقها اجراء احكام الشريعة ونشر وترسيخ قيم السماء ومباديء الدين الحنيف.
كل هذه الامور تعتبر من ايجابيات هذه المرحلة، ولكن التوسع الثقافي والامتداد الديني الذي يعيشه الإنسان في ايمان الشريعة هذا انما يشكّل امتداداً افقياً فحسب، ولا يؤمن معه من الاصابة بمرض الجزمية أو استيلاء «الأنا» على معطيات هذا الايمان ومصادرة العقيدة وادلجتها على حساب اهتزاز القيم الاخلاقية والانسانية، فيتحرك هذا المسلم الاصولي في سبيل نصرة المسلمين لكونه مسلماً، والدفاع عن الشيعة والتشيع لكونه شيعياً، اي أن «الا نا الشيعي» في ذهنه هو الذي يرسم له سلوكه وتعامله مع الغير من موقع الانانية الخفية والحساسية المذهبية لا من موقع الحق والحقيقة، فتتحول الشريعة هنا إلى شيء وموضع لا إلى مباديء سماوية تتولى اثارة دوافع الخير والصلاح في اعماق الوجدان..
اذا توقف الإنسان في مسيرته الايمانية والمعنوية على هذه المرتبة من الايمان، وتصور أن الدين هو الايديولوجية وغفل عن تعميق اتصاله القلبي بالله تعالى وتقوية شعوره الوجداني بالقيم والمثل الانسانية، فان خطر استيلاء «الانا» على معطيات العقيدة الذهنية حتمي، وعندها تحل العداوة محل المحبة ،والقساوة محل الرحمة، والخشونة محل التسامح، ويتحول هذا المسلم الاصولي إلى ارهابي سلفي يروع الآمنين ويتعامل مع الآخرين من موقع الشرطي المفوض من ربّ السماء لحراسة الشريعة والدين.
هذا هو مرض «الدوغماتية» والجزمية، وهو المرض الذي يبتلى به اكثر المتدينين من جميع المذاهب والفرق، اي أن مثل هذا الشخص يتصور أنه على الحق، وسائر الاقوام البشرية ومن يخالفه في المذهب على باطل، ويترتب على ذلك أن يتحرك من هذا المنطلق في عملية محاربة الافكار المخالفة لفكره ويتهمهم بالارتداد والمروق والانحراف عن جادة الحق والصواب حتى من داخل دائرة مذهبة، ولا يقتصر هذا الامر على المتدينين من الشيعة أو السنّة، فحتى الشيوعي تراه يتهم غير الشيوعي من سائر البشر بالرجعية والبرجوازية، وأرباب الكنيسة المسيحية يتهمون غيرهم بأنهم اتباع الشيطان وأن الشيطان قد استولى على عقولهم، وأهل السنة يتهمون الشيعة بالفارسية والمجوسية وأن عقيدة الشيعة خليط من الاسلام والمجوسية، والوهابية يتهمون من عداهم من المذاهب الاسلامية بالشرك، ونحن فيما بيننا يتهم أحدنا الآخر بأنه امريكي، ليبرالي، غربي، منحرف، لأدنى خلاف فكري معه. دون أن يحاول تفهم مقالة الطرف الآخر والاستماع لأدلته، والحال أن المؤمن الواقعي نفسه عنده ظنون ولا يهتم الاّ باصلاح نفسه وتطهير قلبه من الدرن والمرض ويحترم الآخرين حتى من اتباع الديانات الاخرى، فلعلهم كانوا من أهل النجاة غداً دونه بالرغم من اعتقاده بصحة مذهبه ودينه، الاّ أنه لا يكتفي بأن يكون معتقده صحيحاً ما لم يترجمه على مستوى السلوك والعمل، فقد يشمل الله تعالى الآخرين برحمته ومغفرته ولا يشمله هو...
4 ـ ايمان الشعور:
وهي مرتبة الايمان القلبي بالوسائط في العلاقة مع الله تعالى، أي أن الشخص في هذه المرحلة يشعر بوجود أهل البيت في قلبه ويسعى لتعميق اتصاله بهم من خلال التحلّي بالفضائل ومكارم الاخلاق والعمل الصالح وتطهير قلبه من الشوائب والرذائل بما يكفل له التجانس مع أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون حسينياً في سلوكه وعواطفه وحركاته وسكناته، أي يدخل الحسين إلى قلبه وروحه ويشعر بأن الحسين معه وفي قلبه بعد أن كان في المرتبة السابقة منفصلاً عنه ولا يعيش معه في وجدانه وروحه، فالحسين له وجود خارجي كان يعيش قبل اكثر من الف عام، وهو الذي استشهد في كربلاء، والشخص في المراتب السابقة يتعامل مع ذلك الحسين، أما في هذه المرتبة فانه يتعامل مع الحسين الحي الموجود والحاضر الان في قلبه يأمره بالخيرات وينهاه عن المنكرات، وهذا المعنى هو المقصود من الشفاعة بمعناها الحقيقي.
«الشفاعة» في الآخرة هي صورة وانعكاس لما حدث في الدنيا من شفاعة النبي أو الامام لذلك المذنب، والشفيع هو القرين والزوج المقترن بزوجه، فما لم يقترن حضور النبي أو الامام مع الشخص في قلبه، أي ما لم يشفع له في الدنيا ويحل في قلبه ويرشده على طريق الخير والصلاح، لا يشفع له في الآخرة ولا معنى لتحقق الشفاعة في الاخرة حينئذ، فالإنسان الذي كان منفصلاً عن أهل البيت(عليهم السلام) في الدنيا لا يمكن أن يقترن معهم في الآخرة، أي ما لم يستجب لهم في الدنيا ويتحرك في سلوكه على مستوى اداء العبادات والتحلي بمكارم الاخلاق والفضائل وترك السيئات والرذائل، فسوف لا يتمكن من الاستجابة لهم عندما يدعونه يوم القيامة للتوجه إلى الجنة والخروج من النار، كما يتحدث القرآن الكريم عن الاشخاص الذين لم يسجدوا لله في الدنيا بأنهم لا يستطعيون السجود في الآخرة (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ)( ).
الإنسان الحسيني في مرتبة ايمان الشعائر وفي العرف السائد هو من يشترك دائماً في المواكب الحسينية ويخدم زوّار الحسين ويوزع الماء والشاي في الهيئات الحسينية ويلطم على الحسين أو يتبرع بالمال الكثير لإطعام المشاركين في العزاء وأمثال ذلك، الاّ أن الحسيني بالمعنى الاخير هو المتحلي بصفات الحسين والسالك طريقه في الالتزام بالدين ومناهضة الظالمين والدفاع عن المحرومين وأمثال ذلك، فالحسيني الاول يقيم الشعائر الحسينية حتى وان كان قلبه فارغاً من الدين والاخلاق والفضائل، كما نرى هذا المعنى في الكثير من هؤلاء الاشخاص الذين يدّعون أنهم حسينيون!!
هذه هي العلامة الاولى للايمان في هذه المرتبة.
ويترتب على ذلك أن مثل هذا الإنسان يشتغل دائماً باصلاح نفسه وتطهير قلبه من الرذائل وتحسين سلوكه من المعايب ولا ينظر إلى عيوب الآخرين، فلا يبتلي بمرض «الدوغماتية» المذكور. فلا يتحرك في علاقاته مع الاخرين من موقع العداوة والخصومة والعقدة والتهمة، لأنه يتهّم نفسه أولاً ويتحرك في سبيل اصلاح الخلل في نفسه وسلوكه، فلا تحين له فرصة للطعن في سلوك الآخرين وأفكارهم ومذاهبهم. بل يرى أن جميع الناس على اختلاف آرائهم وسلوكياتهم أفضل منه وأقرب إلى النجاة منه، وحتى في مجال مناقشته لأفكار الآخرين ومذاهبهم الباطلة، فانه يتحرك في ذلك من موقع الدليل والبرهان العقلي والنقلي، ولا يتعداه إلى اسلوب التسقيط والاتهام والسبّ واللعن وأمثال ذلك مما نراه في افراد الطائفة الاولى، أي أنه قد يختلف معك في الفكر والعقيدة، ويرى أنه على حق وانك على باطل. وهذا شيء طبيعي لكل انسان يحمل فكراً خاصاً وعقيدة معينة. وقد يسعى لاقناعك بفكره وعقيدته وترك ما أنت عليه من الفكر والعقيدة، وكما هو الحال في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يسعى الإنسان المؤمن في نهي الاخرين عن المنكر، الاّ أن ذلك لا يلازم أن يرى نفسه افضل من ذلك الشخص. ففي المرتبة الاولى نرى أن الشخص الذي يدافع عن عقيدته ويدحض الفكر المخالف وقد ينهى عن المنكر، الاّ أن ذلك يقترن مع رؤيته نفسه افضل من الطرف الآخر، وهنا تكمن نقطة الداء ومرض الدوغماتية.
يذكر عن حالات العارف «الميرزا ملكي» التبريزي أنه بعد سنتين من حضوره عند استاذه المولى «حسين قلي الهمداني» لم ير في نفسه تحسناً وتكاملاً في عالم السلوك والمعرفة، فشكى ذلك لاستاذه، فسأله الاستاذ الهمداني عن اسمه ولقبه، فتعجب الميرزا من ذلك، وأخبره باسمه ولقبه، فسأله الهمداني عن بعض الاشخاص من اقربائه ومعارفه، وبما أن الميرزا كان يعرفهم بعدم التدين وسوء الاخلاق فشرع بانتقادهم وأنه ليس مثل اولئك وإن كانوا من أقربائه، فأجابه الهمداني: عندما تتمكن من احضار أحذيتهم ووضعها أمامهم فانا سوف أجيء اليك واعطيك برنامجاً للسلوك.
فامتثل الميرزا ذلك الأمر وسعى إلى التقرب والتودد اليهم وخدمتهم والتواضع لهم حتى استطاع أن يكسب قلوبهم نحوه إلى أن وصل أن يضع أحذيتهم امامهم، ويقال أن هذا العمل وصل خبره إلى تبريز، فزالت آثار الشحناء والعداء التي كانت موجودة بين أهاليهم.
5 ـ مرتبة الفناء:
وهي مرتبة الوصول إلى الله حيث يشرق نور الله في قلبه فيقطعه عمن سواه حتى من الوسائط فلا يرى حينئذ سوى الله تعالى كما قال الامام علي(عليه السلام): «ما رأيت شيئاً الاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده». وبعض المفسرين يرى أن حالات ابراهيم(عليه السلام) التي ذكرها القرآن مع النجوم والقمر والشمس هي اشارة إلى هذا المعنى حتى كان آخرها أن تجلى الله تعالى في قلبه فطغى نوره على نور الوسائط فقال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)( )، أو كما تجلى الله لموسى فخرّ موسى صعقاً، ويذكر أهل المعرفة بأن المراد من الجبل هنا هو جبل الانانية عندما قال الله تعالى: (فلما تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً)( )، فعندما يشرق نور الله في قلب العبد يتلاشى كل ما عداه من الشخصية ورؤية الذات والانا والاحساس بالوجود المستقل وما إلى ذلك. ومن هنا يرى بعض أهل المعرفة في قوله تعالى حكاية على لسان ملكة سبأ حينما قالت

يقول أحد العرفاء: «بأن لي عشرين عاماً وأنا لا اتكلم الاّ مع الله، ولم اسمع الاّ من الله» وهذا لا يعني أنه كان منعزلاً عن الخلائق، بل كان يشعر بوجود الله في كل وجوده وفي كل شيء حوله، وهذا هو الايمان بصورته الحقيقية، وهو ما يعبّر عنه في علم الكلام الجديد بالتجربة الدينية، اي يسمع خطاب الله له في قلبه، وأما العبادات واداء الواجبات وترك المحرمات فهي تجليات لذلك الايمان القلبي والخطاب الإلهي، لا أنّها هي الإيمان كما هو واضح، وما لم تكن العبادات صادرة من حديث الله مع الإنسان، اي صادرة من التجربة الدينية، فلا يؤمن معها أن تؤدي عكس المطلوب كما هو الحال في الخوارج الذين اشتهروا بعبادتهم، حيث يظن هذا الشخص نفسه من أهل الله ومن اصحاب الجنة وأنه على حق وسائر الناس على باطل، فتورثه العبادة الغرور والعجب وتعمل على تقوية الانا في نفسه، بينما المطلوب من العبادة في الاصل هو اضعاف الانا وترشيد عناصر الخير في النفس، ولا تكون كذلك الاّ اذا كانت صادرة من قلب مخلص ونزيه، ولذلك قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين)( ).
ومن هنا ندرك الخطأ الذي وقع فيه بعض المتصوفة حيث قالوا بأن الإنسان اذا وصل إلى الله فلا يحتاج بعدها إلى العبادة والصلاة والصوم، لأنها تنفعه في سلوكه إلى الله وفي الطريق إلى الله فقط، والخطأ هنا هو أنّهم تصوروا أن العبادة لا تكون إلاّ وسيلة للوصول، فبعد الوصول لا معنى إلى الوسيلة، والحال أن العبادة الحقيقية لا تكون الاّ بعد الوصول، اي عندما تكون نابعة من قلب نقي وخالص، لأنها تقع حينئذ بدافع الحب والمعرفة لله تعالى كما قال امير المؤمنين(عليه السلام): «الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك»، فلا تكون العبادة من الصلاة والصوم والجهاد ثقيلة على النفس كما في المرحلة السابقة للوصول، بل يكون الإنسان عاشقاً للعبادة، ويؤدي صلاته وصومه وعباداته بشوق بالغ اعترافاً منه بالجميل وشوقاً إلى التحدث مع الله والانقطاع عما سواه.
وبعبارة اُحرى : إنّ العبادة قبل الوصول إلى هذه المرتبة تقع علّة وسبباً للوصول، وبعد الوصول والفناء تقع معلولة لذلك المقام، فالانبياء والاولياء يعبدون الله تعالى شكراً وحبّاً له لا لغرض آخر.
والحمد لله رب العالمين
احمد القبانچي
قم 1423 هـ ـ 2002 م.