موقعة النهروان
و
أهواء المؤرخين
تأليف : عبدالله القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
موقعة النهروان وأهواء المؤرخين
تمهيد: ـ
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على المصطفى وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
هذه قراءة في جزءٍ من الفتنة التي ثارت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم أكن لأتعرض لها لولا جرأة بعض المخالفين في الرأي خلال حوار دار بيننا وبينهم ، فتعرضوا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والسباب ، وقد دعموا طعنهم بشيء مما ورد في بعض المصادر التأريخية الإسلامية .
هذه القراءة هدفها تحذير المسلمين من الخوض في هذه الفتنة المظلمة التي وقعت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مبنية على حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي شَرٍّ فَذَهَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَجَاءَ بِالْخَيْرِ عَلَى يَدَيْكَ ، فَهَلْ بَعْدَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً كَوُجُوهِ الْبَقَرِ ، لا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ . رواه أحمد
فإن كانت هذه الفتن مشتبهة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يدروا أياً من أيٍّ ، فكيف تكون علينا نحن الذين أتينا في زمان بعيد عنهم ؟!
إنني لم أكن لأدخل في هذا الأمر لو لا أن جرَّني البعض إليه جرَّا ، فقمت بمحاولة للدفاع عن أصحاب رسول الله ، وأحتسب أجري على الله.
منهج البحث: ـ
هدفنا الأسمى هو توحيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهجنا هو عدم التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحكام شخصية ، وإذا ذكرنا شيئاً من الأحكام فإنما هو نقلٌ لأقوال كبار الصحابة أنفسهم ، أو لأحد من كبار التابعين القريب لتلك الفترة ، والذي يؤخذ قوله بالقبول من جميع الأطراف ، وكذلك من مصادر يقبلها المخالف في الرأي ما استطعت ، وفي ذلك أولاً غمطٌ كبير للمصادر الإباضية رغم شهادة المخالفين لهم بالنـزاهة عن الكذب ، وثانياً في ذلك ترك للكثير من الحقائق والحجج التي لو اعتمدت عليها لأغنتني عن الكثير من النقل.
محور دراستنا هم أهل النهروان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين تعرَّض لهم بعض المتهورين بالطعن والتفسيق ، وهذا يحتَّم علينا بطبيعة الحال التعرض للفتنة ، والدخول في متاهاتها ، نسأل الله أن يجعل لنا نوراً يمكننا من الخروج من ظلمائها سالمين .
سأحاول جاهداً أن أعرض فقط ما يكون ذكره ضرورةً من أحداث الفتنة ، والتي تعني أهل النهروان مباشرة .
مثار الفتنة: ـ
مثار الفتنة هو مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، ومطالبة بعض الصحابة بتعجيل القصاص من قَتَلته ، وهذا موضوع لن ندخل في تفصيلاته ، ولكن في خلافة الإمام علي ابن أبي طالب ، انشقَّ معاوية بن أبي سفيان ، ولم يسلِّم للإمام علي بن أبي طالب القياد ، واستأثر ببلاد الشام ، وكان مؤازره صحابي آخر هو عمرو بن العاص ، من جانب آخر خرج الصحابة طلحة والزبير على الإمام علي وانضمت إليهم أم المؤمنين عائشة ومعهم خلق كثير فتمت المواجهة في ما سمي بموقعة الجمل وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين يقدَّر بالآلاف ، وكانت الغلبة للإمام علي ، فتوجه بعدها لإخضاع معاوية فكانت موقعة صفين حيث قُتل مرةً أخرى ألوفٌ من المسلمين ، وكاد جيش معاوية أن ينهزم لولا خروج عمرو بن العاص داهية العرب بخطة جديدة ، وهي رفع المصاحف طلباً للتحكيم ، فكانت أول نتيجة أن انقسم جيش علي إلى قسمين أحدهما يرى وجوب وقف القتال حقناً للدماء ، وآخر يتزعمه بعض الصحابة يرى أنَّ هذه من دواهي عمرو عندما رأى الهزيمة بين عينيه ، ونادَوا أنْ (لا حكم إلا لله) ؛ وحكم الله واضح في قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله بانضوائها تحت راية الخليفة المنتخب ، ولكنْ مع ميل الإمام علي للرأي الثاني فإن رضوخه كان للرأي الحاقن للدماء ، وهنا نشبت الفتنة الجديدة وانقسم جيش الإمام علي ، فانحاز الكثير من الصحابة – وفيهم رجالٌ من أهل بدر وأهل بيعة الشجرة- وتبعهم خلقٌ كثير ممن لم يرتضوا التحكيم إلى منطقة تدعى حروراء ، ونصبوا إماماً جديداً عليهم بعد أن خلع الإمام عليّ البيعة من عنقه بارتضائه للتحكيم ، وذلك اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في صحيح مسلم في كتاب الإمارة : {..وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً }، وكانت الفتنة فعلي بن أبي طالب لم ير هؤلاء إلا فئة باغية اغتصبت الخلافة منه مثلهم في ذلك مثل معاوية ، فاقتتل جيش الإمام علي في موقعة النهروان ، وسقط من المسلمين مرةً ثالثةً أعداد كبيرة ، فيهم بقية الله في أرضه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا متفق عليه بين كلِّ المصادر التأريخية باختلاف مشاربها.
قراءة الأحداث: ـ
هذه فتنة عمياء ، اقتتل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحقُّ أنه لم يقم المسلمون بعدها إلا على ضلع أعوج ، فتحزبوا أحزاباً ومذاهب شتى ، كلٌ يتأول هذه الأحداث على طريقته والخلفية التأريخية التي ينظر من خلالها ، ولم يخل كاتبٌ من التحيُّز لفريق دون آخر ، وهذا ليس بالعجيب ، فهي كما وصفها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فتنٌ كقطَع الليل المظلم ، كيف لنا أن نبصر فيها ، ولكن كانت هنالك سبيل السلامة ؛ تلك التي أصَّلها الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز بقوله (تلك دماءٌ طهَّر الله منها سيوفَنا ، أفلا نُطَهِّر منها ألسنتنا) ، والتي استلهمها من قوله تعالى {تلك أمةٌ قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكمْ ما كسبتمْ ولا تُسألون عمَّا كانُوا يَعملون} وما أسلمها من طريق ! كيف لا ونحن لا نصل مُدَّ أحد أولئك الصحابة ولا نصيفه ، ولو أنفقنا مثل أحدٍ ذهبا ، وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء في قوله (ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال)!
التحكيم ونتيجته المباشرة :ـ
الحكمان هما الصحابيان أبو موسى الأشعري يمثل علياً ، وعمرو بن العاص يمثل معاوية ، وكانت النتيجة المتَّفق عليها باختصار أن خدع عمرو الداهية أبا موسى الأشعري فجعله يصعد على المنبر فيخلع علياً من الخلافة ثمَّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاويةَ وسلموا عليه بالخلافة كما تتفق كل المصادر على ذلك وقد أحسَّ جند الإمام علي بالندم لأنهم ضربوا عمرو بن العاص بالسوط فقط ولم يضربوه بالسيف في ذلك الموقف. (1)
علي ونتيجة التحكيم : ـ
لم يرض علي بن أبي طالب بنتيجة التحكيم ، فمما قاله في إحدى خطبه في أهل الكوفة-والرواية للطبري-( ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ، ولا سنَّةٍ ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئَ الله منهما ورسولُه وصالحُ المؤمنين)(2) ، وقد ذكر ذلك عينه في رسالته لأهل النهروان التي سننقلها لاحقاً في هذا الجواب.
فهذا رأي علي ويتضح فيه تقييمه للتحكيم من مبتدأه ، والعصمة لأنبياء الله فهو من هو عقلاً وحكمة لم يرض بنتيجة التحكيم ثُمَّ لم يرض عن أصحابه الذين لم يرتضوا بالتحكيم!.
مشاهير الصحابة من غير أهل النهروان يرون هذا الرأي أيضاً: ـ
ينقل الطبري أيضاً قول ابن عباس ( قَبَّحَ اللهُ رأيَ أبي موسى ! حذَّرتُه وأمرتُه بالرأي فما عقل ) ويستمر الطبري ليروي قول أبي موسى نفسه (حذَّرني ابن عبَّاس غدرةَ الفاسق ، ولكني اطمأننتُ إليه ، وظننتُ أنه لن يُؤثرَ شيئاً على نصيحة الأمة )(3)
الخلاصة في مسألة التحكيم: ـ
يتضح من استقراء النصوص السابقة ، أنَّ التحكيم خطة من عمرو ، استجاب لها الإمام علي رضوخاً لنداء الأغلبية من الناس ، أما علي والجمع الأكبر من الصحابة فكانوا جميعاً يدركون خطورتها ، ويكفي على ذلك دليلاً أنه كرَّم الله وجهه قرر مواصلة قتال معاوية بعد خدعة التحكيم مباشرة ، ورسالته لعبدالله بن وهب الراسبي عند الطبري خير شاهد على ذلك.
تقييم من ألسنة الصحابة والتابعين لمعاوية وعمرو: ـ
أما عمرو فيكفي ما نقلناه من كلام علي وابن عباس وأبي موسى فيه ، أما معاوية فإننا سننقل حكم جهة محايدة فيه ، فاسمع كلام الحسن البصري يقول ( أربع خصالٍ كُنَّ في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة ، وذوو الفضيلة ، واستخلافه من بعده ابنه سكِّيراً خمِّيراً ، يلبس الحرير ويضرب الطنابير ، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الولد للفِراش ، وللعاهر الحَجَر} وقتاله حُجْراً وأصحاب حجر فياويلاً له من حجر وأصحاب حجر)(4) ، وحجر هو صحابي دُفن حياً لأنه أبى لعن علي على المنابر. (5)
إذاً فأهل النهروان ليسوا نشازاً في تقييمهم هذا وعدم رضاهم بمسلك معاوية.
و
أهواء المؤرخين
تأليف : عبدالله القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
موقعة النهروان وأهواء المؤرخين
تمهيد: ـ
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على المصطفى وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
هذه قراءة في جزءٍ من الفتنة التي ثارت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم أكن لأتعرض لها لولا جرأة بعض المخالفين في الرأي خلال حوار دار بيننا وبينهم ، فتعرضوا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والسباب ، وقد دعموا طعنهم بشيء مما ورد في بعض المصادر التأريخية الإسلامية .
هذه القراءة هدفها تحذير المسلمين من الخوض في هذه الفتنة المظلمة التي وقعت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مبنية على حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي شَرٍّ فَذَهَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَجَاءَ بِالْخَيْرِ عَلَى يَدَيْكَ ، فَهَلْ بَعْدَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً كَوُجُوهِ الْبَقَرِ ، لا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ . رواه أحمد
فإن كانت هذه الفتن مشتبهة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يدروا أياً من أيٍّ ، فكيف تكون علينا نحن الذين أتينا في زمان بعيد عنهم ؟!
إنني لم أكن لأدخل في هذا الأمر لو لا أن جرَّني البعض إليه جرَّا ، فقمت بمحاولة للدفاع عن أصحاب رسول الله ، وأحتسب أجري على الله.
منهج البحث: ـ
هدفنا الأسمى هو توحيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهجنا هو عدم التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحكام شخصية ، وإذا ذكرنا شيئاً من الأحكام فإنما هو نقلٌ لأقوال كبار الصحابة أنفسهم ، أو لأحد من كبار التابعين القريب لتلك الفترة ، والذي يؤخذ قوله بالقبول من جميع الأطراف ، وكذلك من مصادر يقبلها المخالف في الرأي ما استطعت ، وفي ذلك أولاً غمطٌ كبير للمصادر الإباضية رغم شهادة المخالفين لهم بالنـزاهة عن الكذب ، وثانياً في ذلك ترك للكثير من الحقائق والحجج التي لو اعتمدت عليها لأغنتني عن الكثير من النقل.
محور دراستنا هم أهل النهروان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين تعرَّض لهم بعض المتهورين بالطعن والتفسيق ، وهذا يحتَّم علينا بطبيعة الحال التعرض للفتنة ، والدخول في متاهاتها ، نسأل الله أن يجعل لنا نوراً يمكننا من الخروج من ظلمائها سالمين .
سأحاول جاهداً أن أعرض فقط ما يكون ذكره ضرورةً من أحداث الفتنة ، والتي تعني أهل النهروان مباشرة .
مثار الفتنة: ـ
مثار الفتنة هو مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، ومطالبة بعض الصحابة بتعجيل القصاص من قَتَلته ، وهذا موضوع لن ندخل في تفصيلاته ، ولكن في خلافة الإمام علي ابن أبي طالب ، انشقَّ معاوية بن أبي سفيان ، ولم يسلِّم للإمام علي بن أبي طالب القياد ، واستأثر ببلاد الشام ، وكان مؤازره صحابي آخر هو عمرو بن العاص ، من جانب آخر خرج الصحابة طلحة والزبير على الإمام علي وانضمت إليهم أم المؤمنين عائشة ومعهم خلق كثير فتمت المواجهة في ما سمي بموقعة الجمل وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين يقدَّر بالآلاف ، وكانت الغلبة للإمام علي ، فتوجه بعدها لإخضاع معاوية فكانت موقعة صفين حيث قُتل مرةً أخرى ألوفٌ من المسلمين ، وكاد جيش معاوية أن ينهزم لولا خروج عمرو بن العاص داهية العرب بخطة جديدة ، وهي رفع المصاحف طلباً للتحكيم ، فكانت أول نتيجة أن انقسم جيش علي إلى قسمين أحدهما يرى وجوب وقف القتال حقناً للدماء ، وآخر يتزعمه بعض الصحابة يرى أنَّ هذه من دواهي عمرو عندما رأى الهزيمة بين عينيه ، ونادَوا أنْ (لا حكم إلا لله) ؛ وحكم الله واضح في قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله بانضوائها تحت راية الخليفة المنتخب ، ولكنْ مع ميل الإمام علي للرأي الثاني فإن رضوخه كان للرأي الحاقن للدماء ، وهنا نشبت الفتنة الجديدة وانقسم جيش الإمام علي ، فانحاز الكثير من الصحابة – وفيهم رجالٌ من أهل بدر وأهل بيعة الشجرة- وتبعهم خلقٌ كثير ممن لم يرتضوا التحكيم إلى منطقة تدعى حروراء ، ونصبوا إماماً جديداً عليهم بعد أن خلع الإمام عليّ البيعة من عنقه بارتضائه للتحكيم ، وذلك اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في صحيح مسلم في كتاب الإمارة : {..وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً }، وكانت الفتنة فعلي بن أبي طالب لم ير هؤلاء إلا فئة باغية اغتصبت الخلافة منه مثلهم في ذلك مثل معاوية ، فاقتتل جيش الإمام علي في موقعة النهروان ، وسقط من المسلمين مرةً ثالثةً أعداد كبيرة ، فيهم بقية الله في أرضه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا متفق عليه بين كلِّ المصادر التأريخية باختلاف مشاربها.
قراءة الأحداث: ـ
هذه فتنة عمياء ، اقتتل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحقُّ أنه لم يقم المسلمون بعدها إلا على ضلع أعوج ، فتحزبوا أحزاباً ومذاهب شتى ، كلٌ يتأول هذه الأحداث على طريقته والخلفية التأريخية التي ينظر من خلالها ، ولم يخل كاتبٌ من التحيُّز لفريق دون آخر ، وهذا ليس بالعجيب ، فهي كما وصفها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فتنٌ كقطَع الليل المظلم ، كيف لنا أن نبصر فيها ، ولكن كانت هنالك سبيل السلامة ؛ تلك التي أصَّلها الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز بقوله (تلك دماءٌ طهَّر الله منها سيوفَنا ، أفلا نُطَهِّر منها ألسنتنا) ، والتي استلهمها من قوله تعالى {تلك أمةٌ قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكمْ ما كسبتمْ ولا تُسألون عمَّا كانُوا يَعملون} وما أسلمها من طريق ! كيف لا ونحن لا نصل مُدَّ أحد أولئك الصحابة ولا نصيفه ، ولو أنفقنا مثل أحدٍ ذهبا ، وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء في قوله (ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال)!
التحكيم ونتيجته المباشرة :ـ
الحكمان هما الصحابيان أبو موسى الأشعري يمثل علياً ، وعمرو بن العاص يمثل معاوية ، وكانت النتيجة المتَّفق عليها باختصار أن خدع عمرو الداهية أبا موسى الأشعري فجعله يصعد على المنبر فيخلع علياً من الخلافة ثمَّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاويةَ وسلموا عليه بالخلافة كما تتفق كل المصادر على ذلك وقد أحسَّ جند الإمام علي بالندم لأنهم ضربوا عمرو بن العاص بالسوط فقط ولم يضربوه بالسيف في ذلك الموقف. (1)
علي ونتيجة التحكيم : ـ
لم يرض علي بن أبي طالب بنتيجة التحكيم ، فمما قاله في إحدى خطبه في أهل الكوفة-والرواية للطبري-( ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ، ولا سنَّةٍ ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئَ الله منهما ورسولُه وصالحُ المؤمنين)(2) ، وقد ذكر ذلك عينه في رسالته لأهل النهروان التي سننقلها لاحقاً في هذا الجواب.
فهذا رأي علي ويتضح فيه تقييمه للتحكيم من مبتدأه ، والعصمة لأنبياء الله فهو من هو عقلاً وحكمة لم يرض بنتيجة التحكيم ثُمَّ لم يرض عن أصحابه الذين لم يرتضوا بالتحكيم!.
مشاهير الصحابة من غير أهل النهروان يرون هذا الرأي أيضاً: ـ
ينقل الطبري أيضاً قول ابن عباس ( قَبَّحَ اللهُ رأيَ أبي موسى ! حذَّرتُه وأمرتُه بالرأي فما عقل ) ويستمر الطبري ليروي قول أبي موسى نفسه (حذَّرني ابن عبَّاس غدرةَ الفاسق ، ولكني اطمأننتُ إليه ، وظننتُ أنه لن يُؤثرَ شيئاً على نصيحة الأمة )(3)
الخلاصة في مسألة التحكيم: ـ
يتضح من استقراء النصوص السابقة ، أنَّ التحكيم خطة من عمرو ، استجاب لها الإمام علي رضوخاً لنداء الأغلبية من الناس ، أما علي والجمع الأكبر من الصحابة فكانوا جميعاً يدركون خطورتها ، ويكفي على ذلك دليلاً أنه كرَّم الله وجهه قرر مواصلة قتال معاوية بعد خدعة التحكيم مباشرة ، ورسالته لعبدالله بن وهب الراسبي عند الطبري خير شاهد على ذلك.
تقييم من ألسنة الصحابة والتابعين لمعاوية وعمرو: ـ
أما عمرو فيكفي ما نقلناه من كلام علي وابن عباس وأبي موسى فيه ، أما معاوية فإننا سننقل حكم جهة محايدة فيه ، فاسمع كلام الحسن البصري يقول ( أربع خصالٍ كُنَّ في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة ، وذوو الفضيلة ، واستخلافه من بعده ابنه سكِّيراً خمِّيراً ، يلبس الحرير ويضرب الطنابير ، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الولد للفِراش ، وللعاهر الحَجَر} وقتاله حُجْراً وأصحاب حجر فياويلاً له من حجر وأصحاب حجر)(4) ، وحجر هو صحابي دُفن حياً لأنه أبى لعن علي على المنابر. (5)
إذاً فأهل النهروان ليسوا نشازاً في تقييمهم هذا وعدم رضاهم بمسلك معاوية.
تعليق