اللهم صل على محمد وآل محمد

الاستاذ الباحث السيد علي المؤمن
رئيس مركز دراسات المشرق العربي في لبنان
من الشروق الى السطوع
حزب الدعوة وإشكاليات التأسيس والإنتشار والسلطة
مراكمة الإشكاليات
حين برز إسم حزب الدعوة الإسلامية بعد عام 2003 كأحد أبرز الأحزاب الإسلامية الشيعية الايديولوجية الحاكمة في العراق؛ كثر الحديث عنه في الأوساط البحثية والصحفية والإعلامية؛ بصورة غير مسبوقة. وأحتفظ في مكتبتي وارشيفي بعشرات الكتب والدوريات والدراسات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والعربية التي درست تاريخه ومسيرته وسلوكه، وكان معظمها يعتمد في جانب كبير على ماكتبته عن الحزب في كتبي ودراساتي. ولكن وجود المصادر المتعارضة والمعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة الاخرى؛ جعل معظم ماكتب يثير إشكاليات وتساؤلات حول الحزب اكثر من كونه يقدم مقاربات حقيقية وإجابات.
وظلت غالبية الإشكاليات تدور حول تاريخ التأسيس والمؤسسين وطبيعة الإنتشار وعبور الحزب لحدود العراق باعتباره حزباً عالمياً، وعلاقته بالموضوع المذهبي والطائفي، أو مايعرف بالعبور على المذهبية، والتحولات في الفكر التنظيمي والسياسي للحزب، والإنشقاقات التي أدت الى تقسيم التنظيم والدعاة، وتنظيمات حزب الدعوة غير العراقية وأسباب انهيارها، وسلوك الدعوة والدعاة داخل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وتحول الدعاة الى حاكمين.
وتزامن هذا مع إثارة الاحزاب والجماعات العراقية؛ سواء المنافسة داخل العملية السياسية في العراق الجديد، او المعارضة للعملية السياسية، لمعلومات دعائية عن حزب الدعوة؛ ساهمت في عملية رفع منسوب الإشكاليات وإثارة التساؤلات.
وساهمت أيضاً بعض مقولات الدعاة الأوائل ومذكراتهم؛ ممن انشقوا عن الحزب أو خرجوا على نظريته، ودخلوا في حالات عداء مع قيادات الحزب؛ في تراكم الحالة الضبابية على مسيرة الحزب؛ لأنها مقولات ـ في التقويم الأكاديمي ـ تتسم بالإسقاطات الشخصية غالباً.
فضلاً عن ان كثيراً من الدعاة؛ من خارج التنظيم وداخله؛ برزت لديهم أيضاً إشكاليات فكرية وسياسية؛ ترتبط بأداء حزب الدعوة بعد استلام السلطة، وعلاقة هذا الأداء بالفكر الروحي والتربوي والعقائدي والتنظيمي والسياسي للحزب، وهي إشكاليات يرون في صلبها تعارضاً بين هذا الأداء والسلوك من جهة، ونظرية حزب الدعوة وفلسفة وجوده من جهة أخرى.
ومن هنا؛ وجدت أن الأمانة العلمية والمسؤولية التاريخية تدفعاني للكتابة حول هذه الإشكاليات، ومحاولة تقديم مقاربات موضوعية حولها؛ زعماَ مني بأنني أكثر من لاحق هذه الإشكاليات ودرسها وتعمق فيها، واستطاع تفكيك معظمها؛ وهو عمل أعده تخصصياً، وقد خضت فيه منذ عام 1983؛ فكانت باكورة نتاجاتي مقالات نشرتها في العام نفسه، ثم دراسات نشرت في أواسط الثمانينات ونهاياتها، ثم ثلاثة مؤلفات كبيرة؛ صدر الأول منها «سنوات الجمر» عام 1993، وهو يعالج الفترة من 1957 وحتى 1986، والثاني «سنوات الرماد»، ويعالج الفترة من 1987 وحتى 2002، والثالث «سنوات الحصاد» ويعالج الفترة من 2003 وحتى 2006؛ اي ان المجلدات الثلاثة تدرس نصف قرن من تاريخ الحركة الإسلامية العراقية. مع الإشارة الى ان منهج الكتاب الاول «سنوات الجمر» كان منهجاً توصيفياً تحليلياً، اما منهج الكتابين الثاني والثالث «سنوات الرماد وسنوات الحصاد» فهو منهج مركب، اعتمدت فيه تركيباً من المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المعياري والمنهج المقارن. ولعل هذا المنهج ونوعية المعلومات وطبيعة المادة والتحليل والتقويم؛ هي بالمجمل لاتزال تحول دون نشري للكتابين الاخيرين؛ بالرغم من انني انتهيت من الأول عام 2005، ومن تفييش الثاني عام 2009، ولاأزال اتابع اي مادة ومعلومة وتحليل له علاقة بالمرحلتين. ولكني سأرجئ نشرهما الى وقت يسمح فيه الواقع ويتحمل ماينشر. وقد ذكرت جزءاً من الأسباب في مقدمة الطبعة الرابعة من كتاب سنوات الجمر.
فضلاً عن ذلك، فان مراجعة كثير من الباحثين لي؛ عراقيين وغير عراقيين؛ ممن يريدون الكتابة عن حزب الدعوة خصوصاً، والحركة الإسلامية العراقية او مرحلة مابعد 2003 عوماً، كان دافعا آخر للمتابعة الدقيقة، الى مستوى المعلومات والمعطيات التفصيلية التي قد لاتنفع أحدا؛ سوى باحثين حفريين وصحفيين فضوليين أو دعاة بعدد أصابع اليد الواحدة. وقد قدر لي بحكم إقامتي في لبنان؛ أن أكون مرجعاً معلوماتياً وتحليلياً أساسياً لعدد من أطاريح الدكتوراه والماجستير حول الحركات الإسلامية وحزب الدعوة وبعض مؤسسيه وقادته ومرحلة العراق الجديد.
في هذه الدراسة أو الحلقات؛ سأقارب مجموعة من الإشكاليات الأساسية؛ أهمها:
1 - مراحل انبثاق فكرة حزب الدعوة، وتأسيسه، ومؤسسيه، ودعاته الاوائل، ولاسيما الفترة الممتدة حتى عام 1965، وخروج بعضهم من التنظيم وخروج آخرين على النظرية، ومساحات الإنتشار الجغرافي والتخصصي للحزب في سنواته الأولى، سواء داخل العراق أو خارجه، أو في أوساط الحوزات العلمية والجامعات.
2 - التحولات في فكر حزب الدعوة الفقهي والعقيدي والسياسي والتنظيمي، وعلاقة ذلك بفكر وأداء الشخصيات التي تسلمت قيادة الحزب، أو التي كانت الأكثر تأثيراً في مرحلة من المراحل، وهي:
مرحلة السيد محمد باقر الصدر «التأصيل الفقهي والعقيدي لنظرية الشورى»،
مرحلة السيد مرتضى العسكري «الشد والجذب بين مبدإ قيادة علماء الدين وقيادة المثقفين»،
مرحلة الثنائي عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي «التحول من كون الدعوة قيادة في الأمة الى قيادة للأمة»،
مرحلة محمد هادي السبيتي «الإنفتاح المذهبي»،
مرحلة الشيخ محمد مهدي الآصفي «مرحلة تبني نظرية ولاية الفقية ومبايعة مصداقها»،
مرحلة الدكتور ابراهيم الجعفري «التشتت الفكري»،
وأخيراً مرحلة السيد نوري المالكي «ممارسة السلطة».
3 - إنشقاقات حزب الدعوة، وعلاقة ذلك بمجموعة من العوامل؛ أهمها: طبيعة القيادة الجماعية ونوعية الهيكلية التنظيمية، وتأثير الفكر التربوي للدعوة على الدعاة، وأساليب صقل شخصياتهم كـ «قادة للأمة» كما تقول الدعوة، وخلق حالة المسؤولية لديهم تجاه الدعوة. إضافة الى العامل الخارجي المهم، والذي برز بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
4 - الأداء الحكومي والسياسي والتنظيمي والثقافي لحزب الدعوة وسلوك أعضائه بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ومدى انسجام ذلك مع فلسفة وجود حزب الدعوة ونظريته الايديولوجية وفكره العقيدي والسياسي تحديداً. وهذه الإشكالية يطرحها الدعاة غالباً، سواء المنتظمين أو المنقطعين.
5 - إمكانيات التجديد في نظرية حزب الدعوة، والموائمة الموضوعية بين «الحزب السياسي» و«الدعوة الإسلامية» في المرحلة الحالية، أي بين حزب الدعوة كحزب سياسي، والدعوة الإسلامية كمنظومة عقائدية تبليغية؛ وذلك بسبب بروز إشكالية تقول إن «الحزب» نمى على حساب «الدعوة» بعد عام 2003، او إرتفاع منسوب «الحزب» وإنخفاض منسوب «الدعوة».
6 - إمكانيات استعادة حزب الدعوة لبعده التنظيمي العالمي، وإعادة بناء تنظيماته وأقاليمه ومناطقه غير العراقية داخل البلدان الاخرى، كما في مرحلة قبل عام 1984؛ سواء بأسماء أخرى أو بالإسم نفسه؛ مستفيداً من وجوده في السلطة ومن إمكاناته الجديدة الفاعلة؛ ليشكل ذلك سنداً متبادلاً لكل وجودات الحزب؛ وصولاً الى دخولها العمل السياسي العلني وحصولها على التراخيص الرسمية.
7 - علاقات حزب الدعوة؛ في جانبه النظري والتطبيقي، بالمنظومة الدينية الشيعية، وتحديداً المرجعية الدينية النجفية والحوزة النجفية ومبدإ ولاية الفقيه ومصداقه، لأن هذه العلاقات من أساسيات موقفه الفكري، ويترتب عليهما كثير من الإشكاليات، التي بدأت مع نشوء الحزب، وتحولت الى قضية القضايا بعد انتقال قيادة الدعوة ومعظم كوادرها وعملها المركزي الى ايران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية فيها. أي ان مبدأ العلاقة وتطبيقه بين الدعوة والمنظومة الدينية الشيعية؛ سيؤثر تأثيراً مباشراً في قوة حزب الدعوة وضعفه.
وقد أتطرق أيضاً الى إشكاليات ثانوية أو أجيب على تساؤلات ترد من بعض الباحثين؛ كما يحصل غالباً، بعد نشر الدراسة. وستكون المحصلة بإذن الله كتاباً تقويمياً لمسيرة حزب الدعوة الفكرية والسياسية؛ مكملاً للكتب الثلاثة، مع اختلاف في المنهج؛ لأن هذه الدراسة او الكتاب لن يؤرخ الى مراحل ويحللها؛ بل يقارب الإشكاليات التي رافقت حزب الدعوة ويفككها ويعالجها موضوعياً؛ منذ انبثاق فكرته «عام 1956» وحتى مرحلة الفراغ من الكتاب «عام 2012 تقريباً».
الدوافع الواقعية لانبثاق فكرة حزب الدعوة
قبل أن تنبثق فكرة حزب الدعوة وتتحول الى نظرية بدائية، ثم تنظيم، ثم حزب واقعي؛ كانت مجرد فكرة في أواسط الخمسينات في رؤوس عدد من الشباب الإسلامي الشيعي الناشط؛ ممن هم في العشرينات من عمرهم أو دون ذلك. وكان وراء الفكرة مزيج من الدوافع العقلية والعاطفية التي تحفزها هموم الساحة الدينية العراقية ومنظوماتها وأساليب تفكيرها، والواقع الإجتماعي، وحالة القهر السياسي، والتمييز الطائفي، والتقهقر الميداني والثقافي لحالة الإصلاح الإسلامي، ووجود التنظيمات العلمانية الجماهيرية الفاعلة. وربما كان من أبرز حملة هذه الفكرة: السيد محمد مهدي الحكيم، والناشط الدعوي عبد الصاحب دخيل والمحامي السيد حسن شبر والشاعر محمد صادق القاموسي والسيد طالب الرفاعي والمهندس محمد صالح الاديب، وغيرهم. وكان كل منهم يبحث عمن يشاركه الفكرة.
ومن هنا؛ فإن مجمل دوافع هؤلاء الشباب كان وراءها الشعور باللوعة والهم الكبيرين؛ بسبب التراجع الذي عاشه التيار الإسلامي الإصلاحي والتغييري في العراق؛ منذ منتصف العقد الثالث وحتى أواسط العقد السادس من القرن الماضي، والذي كان يقابله جو مشحون بالتيارات والأفكار الوضعية الوافدة، ووسط مهرجان من الحركات والأحزاب والتنظيمات العلمانية؛ والتي يبرز من بينها التيار الماركسي الذي يمثله الحزب الشيوعي، والتيار القومي الذي يعد حزب البعث أهم أركانه، ومايعرف بالتيار الوطني، الذي يعد الحزب الوطني أحد أهم قواه. وماتبقى فقد كانت أحزاب سلطة. وكان انكماش الإسلام الحركي؛ يمثل فرصة مهمة للتيارات العلمانية، ولاسيما الجماهيرية؛ بالإمساك بالساحة السياسية والإجتماعية؛ حتى في المدن التي تمثل قلاع دينية حضارية؛ كالنجف الأشرف.
وهذا لايعني إن الإنجازات الفردية وبعض الأعمال الجماعية المتواضعة كانت غائبة، إلاّ أن الذي كان غائباً هو العمل المنظم الشامل الذي يتبني عملية التغيير الشاملة في كيان الأمة؛ ولاسيما في الوسط الشيعي؛ إذ ان الحاجة إلى مثل هذا العمل كانت تبرز في أوساط المسلمين الشيعة على الخصوص؛ لأن المسلمين السنة سبقوهم إليه، فقد برزت في أوساطهم منذ نهاية العشرينات تنظيمات وتجمعات إسلامية كبيرة، كالأخوان المسلمين في مصر، وحزب التحرير في بلاد الشام، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا وغيرها. ومن جانب آخر فإن الوجودات الشيعية الرائدة كجمعية النهضة الإسلامية وحزب النجف والجمعية الإسلامية الوطنية وغيرها؛ كانت تجمعات آنية تشكلت لأغراض محدودة وانتهت حال ارتفاع هذه الأغراض. أما الجماعات الإسلامية الشيعية التي تأسست في أوائل وأواسط الخمسينات؛ كحركة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين وغيرهما؛ فكانت هي الأخرى محدودة وذات إمكانات متواضعة تنسجم مع أهدافها، ولم تسمح لها ظروفها باستيعاب الساحة؛ وبالتالي لم تكن قادرة على القيام بمهمة إحداث تغيير شامل في الواقع الإسلامي الشيعي، لأسباب وظروف تتعلق بقيادة هذه الجماعات وخصوصيات يتميز بها العراق بشكل عام، ووضع الوسط الديني العراقي بشكل خاص.
هذا الهم الكبير الذي كان يحمله هؤلاء الشباب من علماء الدين والناشطين الإسلاميين المثقفين؛ دفعهم للتوصل الى مقاربة لعلاج للواقع؛ من خلال تبني أسلوب العمل التغييري المنظّم الشامل، بعد دراسة نظرية العمل السياسي في الإسلام، وتأريخ الأمة الإسلامية عموماً والعراق خصوصاً، وتجارب الشعوب وحركات المصلحين والوجودات الإسلامية السياسية السابقة. فكان الناتج بعد دراسة الفكرة؛ تأسيس حركة منظمة، تتحرك في المجالات كافة، وقد أسموها بـ «الدعوة الإسلامية»، بعد مخاض عسير، استمر فترة طويلة.
وكانت الشخصية الأبرز التي ارتبط هذا التحرك الجديد «حزب الدعوة الإسلامية» باسمها؛ هو الفقيه والمفكر الشاب السيد محمد باقر الصدر، الذي مثّل نموذجاً نادراً لعلماء الدين. أما السيد محمد مهدي الحكيم الى جانب مجموعة الحزب الجعفري: عبد الصاحب دخيل، محمد صادق القاموسي وحسن شبر، إضافة الى السيد طالب الرفاعي؛ فهم أصحاب فكرة انشاء الحزب الاسلامي الشيعي، والذي حمل اسم حزب الدعوة الإسلامية فيما بعد؛ إذ يقول السيد محمد مهدي الحكيم: أن فكرة تأسيس حزب اسلامي طرحت خلال عام 1956، واستمرت التحركات والاجتماعات التحضيرية أكثر من سنة، تباعدت فيها الأفكار وتقاربت، وتراجعت شخصيات وثبتت أخرى، وحتى تم في النهاية الاتفاق على شكل العمل وطبيعة تحرّكه. وكانت أول قضية طرحت على طاولة البحث «قبل التأسيس» هي مشروعية قيام الحكومة الإسلامية في «عصر الغيبة»، فكتب آية الله السيد محمد باقر الصدر «وهو الفقيه الوحيد بين المؤسسين» دراسة فقهية برهن فيها على شرعية قيام الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة، وكانت هذه الدراسة أول نشرة حزبية يتبناها " حزب الدعوة". ويضيف السيد محمد مهدي الحيكم: أنه عرض فكرة تأسيس الحزب في عام 1956 على السيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي؛ فكان الاربعة يعقدون الاجتماعات التداولية الأولى لفكرة لحزب، ثم اقترح السيد طالب الرفاعي مفاتحة السيد محمد باقر الصدر؛ فوافق على الفور حين فاتحه السيد مهدي، ثم اقترح السيد الصدر ضم السيد مرتضى العسكري للعمل «وكان يقيم في الكاظمية»، حيث فاتحه بذلك من خلال رسالة حملها إليه السيد مهدي الحكيم.
تعليق