بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
كثيراً ما نجد خصوم الشيعة، وحتى بعض أصدقائهم، يتساءلون: لماذا لا يوجد كتاب صحيح عند الشيعة؟ فأهل السنة عندهم صحيح البخاري وصحيح مسلم وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني... وغيرها، ولكن هل يوجد كتاب صحيح عند الشيعة؟
وهو ما نعالجه وندرسه في هذا الموضوع باختصار.
الكتاب الصحيح يمكن أن يراد به أحد ثلاثة معان:
المعنى الأول: الكتاب الصحيح الانتساب إلى مؤلفه إضافة إلى احتوائه على جهد كاف لتنقية التراث الحديثي من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة، وجمع ما أمكن من الصحاح سنداً أو متناً، بحيث إذا نظرنا إلى حديث فيه يغلب الظن بصدوره عن المعصوم، ولا يغلب الظن بكونه من الكذب المفترى.
المعنى الثاني: الكتاب الصحيح بمعنى الذي كتبه أحد أساطين المذهب وتوخَّى فيه ما صحَّ عنده من الأحاديث وكان في نظره حجة بينه وبين ربه بمعنى أنه يفتي على ضوئه ويلتزم بمفاده.
المعنى الثالث: الكتاب الصحيح بمعنى الذي احتوى على المعنى الثاني من الصحة بالإضافة إلى كونه صحيحاً وحجة أيضاً عند غير مؤلفه، أي عند سائر علماء مذهبه، فأحاديث هذا الكتاب ليست صحيحة عند جامعها فحسب، بل هي كذلك عند جميع علماء المذهب الذي ينتمي إليه جامع الكتاب.
فإذا عرفنا وفهمنا الفرق بين هذه المعاني الثلاثة لـ (الكتاب الصحيح) ؛ حان لنا أن نقول:
1 ـ إن كان المقصود بالكتاب الصحيح هو المعنى الأول، فلا ريب أن الشيعة الإمامية لديهم العديد من الكتب الصحيحة بهذا المعنى، وأساساً التنقية والجمع والتأليف الحديثي عند علماء الشيعة الإمامية منذ القدم كان يعتمد على تحقيق هذا المعنى من الكتاب الصحيح. وكثيراً ما نسمع عبارة (كتاب معتبر) على لسان علماء الشيعة، وهم يقصدون بذلك هذا المعنى من الصحة، والذي يمكن أن نعبر عنه بقولنا: كتاب معتمد عليه. وكتاب المحاسن وكتاب بصائر الدرجات وكتاب الكافي وكتاب من لايحضره الفقيه وكتاب تهذيب الأحكام وكتاب كامل الزيارات وكتاب كفاية الأثر.. وغيرها من الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية هي كتب معتبرة عندهم، أي هي كتب صحيحة بهذا المعنى الذي بيناه.
2 ـ أما إن كان المقصود من الصحة هو المعنى الثاني، فالشيعة أيضاً عندهم كتب صحيحة بهذا المعنى، فمثلاً كتاب الكافي يمكن القول بكونه صحيحاً عند الشيخ الكليني الذي اعتبر كتابه ـ كما نص في المقدمة ـ تحقيقاً لـ (كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله) ، كما أن كتاب من لا يحضره الفقيه كذلك أيضاً لأن مؤلفه ـ الشيخ الصدوق ـ قال في مقدمته: (لم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي) ، وهكذا كتاب كامل الزيارات لابن قولويه الذي قال في مقدمة كتابه: (جمعته عن الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين من أحاديثهم، ولم أخرج فيه حديثاً رُوي عن غيرهم إذا كان فيما روينا عنهم من حديثهم صلوات الله عليهم كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم) .
3 ـ أما الكتاب الصحيح بالمعنى الثالث فمختلف في وجوده عند الشيعة الإمامية، فالأخباريون منهم يعتقدون أن الكتب الأربعة (الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار) صحيحة بهذا المعنى، ولكن معظم الأصوليين يختلفون معهم في ذلك.
وعلى هامش ما تم ذكره أعلاه نذكر ما يلي من التنبيهات:
التنبيه الأول: إنَّ الكتاب الصحيح عند مؤلفه لا يعني أنه صحيح حقيقة في جميع جزئياته ومفرداته؛ لأن العصمة لأهلها، ولو قدر للمؤلف أن يستمع إلى انتقادات أهل العلم مرة بعد أخرى لربما انكشف له أن بعض ما صححه ليس صحيحاً حتى على الأسس التي يؤمن هو بها.
التنبيه الثاني: إنَّ الأسس التي يقوم عليها الحكم بالصحة مختلف فيها، فمثلاً يعتقد الشيخ الصدوق أن أي رواية يرويها (محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن) فهي رواية ضعيفة، بينما لا يوافقه على هذه النظرية الشيخ الكليني المتقدم عليه، كما لا يوافقه عليها من تأخر عنه من الأعلام، ولذا تلاحظ كثرة الروايات بهذا السند في الكافي، بينما لا تجد رواية واحدة بهذا السند في كتاب من لا يحضره الفقيه، وهناك أنماط أخرى من الاختلاف في الرؤى العلمية في علم الرجال، وهذه الاختلافات هي ظاهرة طبيعية في الإطار العلمي لأي مذهب لم تغادره الحياة والحيوية العلمية بالمعنى الصحيح. ونتيجة هذه الاختلافات أن تكون روايات الكافي ـ مثلاً ـ ليست صحيحة بتمامها عند الشيخ الصدوق.
التنبيه الثالث: إن عدم وجود الاختلاف وبالتالي وجود الكتاب الصحيح بالمعنى الثالث، يعني أن هناك حالة من الخمول والموت العلمي في الإطار العلمائي؛ فإن الكتاب الذي صححه الشيخ الصدوق، إذا صح عند جميع علماء المذهب، فهذا يعني أن جميع علماء المذهب أصبحوا في سبات علمي بعد الشيخ الصدوق، وإلا لكانوا يختلفون معه ويناقشونه وينتقدونه، فإن الاختلاف والنقد هما ظاهرة صحية في الإطار العلمي. ومن هنا ندرك السر في عدم شهرة (الكتاب الصحيح) بالمعنى الثالث عند الشيعة الإمامية؛ فإن الإمامية تميزوا بأنهم لا يجمدون على التراث بغير تفكير وحيوية فكرية، بل هم يحترمون التراث إذا كان صحيحاً بالمعنى الأول، فيسمون الكتاب معتبراً بهذا المعنى، ولكنهم يمنعون من أن تصادر حقوق الخلف في النقد والتصحيح والتضعيف لصالح هيمنة السلف ووصايتهم على التراث.. فالسلف مشكورون على خدماتهم الجليلة لجمع وتنقية التراث، إلا أن الخلف أيضاً لهم الحق في تمييز الصحيح من الضعيف.
التنبيه الرابع: إن التصحيح والتضعيف عملية تخصصية دقيقة تتطلب ـ غالباً ـ مهارةً وقدراتٍ خاصةً لا يتوفر عليها إلا أهل الاجتهاد ومن قاربهم في المستوى، ولما كان غير المختص مطالباً بالرجوع إلى المتخصص؛ كان لزاماً على المكلف أن يرجع إلى من يقلِّده للتمييز بين الصحيح والضعيف، وحينئذ لا معنى لمطالبة المكلف (غير المجتهد) بالكتاب الصحيح؛ لأن الصحيح هو ما صححه مرجع التقليد، وليس ما وُجد في كتاب صحيح بأي معنى من المعاني الثلاثة؛ لأن الكتاب الصحيح على بالمعنى الثالث يمكن أن يكون محل نقد في نظر مرجع التقليد.
التنبيه الخامس: أنَّ الحديث الصحيح ـ حتى في نظر مرجع التقليد ـ كثيراً ما يعجز عن الاستناد إليه المكلف غير المختص؛ لأن عملية الاستنباط من المتون الدينية الصحيحة تتوقف على دقة علمية ومهارة علمية عالية يكتسبها المجتهد عبر جهود مضنية من ممارسة الدراسات العلمية في الحوزة العلمية، وبهذه المهارة والقدرة يتميز المجتهد عن المقلد، وبناء عليه: إذا رجع المكلف بنفسه إلى الحديث الصحيح فإنه كثيراً ما يخطئ في الفهم الصحيح إلا أن يعلمه المجتهد المعنى الصحيح وكيفية استنباطه. وفي ضوء ذلك: تقل جداً ثمرة المطالبة بالكتاب الصحيح؛ فإن المجتهد يستطيع التمييز بين الصحيح والضعيف ولو لم يكن الصحيح مجموعاً في كتاب مستقل، وأما غير المجتهد فليس مخولاً لاستنباط أحكام الدين من الأحاديث مباشرة.
التنبيه السادس: أنَّ الصحيح الذي يلزم الرجوع إليه في الفقه يختلف عن الصحيح الذي يلزم الرجوع إليه في العقيدة، ثم قد يميَّز بين مسائل أصول العقيدة ومسائل فروع العقيدة في ذلك. فمثلاً: الصحيح الذي لم يبلغ مرتبة التواتر، أي أنه لا يفيد القطع، لا يفيد إلا في الفقه، بينما يشترط في مسائل أصول العقيدة أن يكون الحديث قطعي الثبوت.
التنبيه السابع ـ وهو مكمل للتنبيه السادس ـ : أنَّ علماء الشيعة اهتموا بالتبويب الموضوعي للأحاديث، كما صنع الشيخ الصفار في بصائر الدرجات، وكما صنع الشيخ الكليني في الكافي، وكذا غيرهم.. ومن أفضل التبويبات الموضوعية: كتاب بحار الأنوار، وفائدة هذا التبويب هو إعطاء صورة واضحة عن الجانب الكمي للأسانيد في كل موضوع، وبهذا استغنى علماء الشيعة عن تسمية كتاب معين بالصحيح؛ لأن معظم الأبواب قد تواترت فيها الأحاديث، فمثلاً: حين نتصفح أحاديث الإمامة في كتاب بحار الأنوار، مع ثقافة متوسطة، نستطيع أن ندرك أن هناك تواتر في موضوع الإمامة، بل في كثير من تفاصيل الإمامة وفروعها، فمثلاً: هناك تواتر واضح في النصوص الدالة على أن الأئمة بعد الحسين ـ عليه السلام ـ تسعة، وهكذا الأمر في معظم الأبواب الفقهية، لاحظ ـ على سبيل المثال ـ كتاب وسائل الشيعة، وهذه الكثرة والتواتر من مزايا مذهب الشيعة الإمامية، وهو من بركات وجود الأئمة عليهم السلام ورعايتهم لمسيرة الشيعة بصورة مباشرة لفترة تجاوزت الـ 200 سنة غذوا الشيعة فيها بتراث غني من الأحاديث في مختلف المجالات الدينية.
التنبيه الثامن: أن المجالين العقدي والأخلاقي، كثيراً ما يستغنى فيهما عن السند، حتى المتواتر؛ لأن الحديث إذا أرشد إلى فائدة قرآنية أو عقلية أو فطرية؛ فإن الحديث يعتبر صحيح المعنى، ويمكن الإفادة منه، بغير حاجة إلى التدقيق على البعد السندي، ومن هنا يكون من المضر الاقتصار على الأحاديث الصحيحة سنداً في البعدين العقائدي والأخلاقي.
فالخلاصة ـ ولا غنى عن قراءة التفاصيل أعلاه ـ : هناك كتب صحيحة عند مؤلفيها، ولكن لما كان باب النظر والاجتهاد والنقد والتصحيح مفتوحاً في التاريخ العلمي للشيعة، أبوا أن يجمدوا على تصحيح وتضعيف السلف، فلم يسموا أي كتاب بـ (الصحيح) تجنباً للوقوع في تقليد العالم للعالم في المجال الحديثي، على أن الشيعة في المجال العقائدي لديهم أحاديث متواترة، والمتواتر فوق الصحيح، والتبويب في كتبهم الحديثية المعتبرة يعطيهم صورة واضحة عن المتواتر، فهم في غنى في معظم الأبواب العقائدية وكثير من الأبواب الفقهية عن الصحيح. وأما في القسم غير المتواتر في الأبواب الفقهية، فالذي يميز الصحيح من الضعيف هو مرجع التقليد، ولا معنى لأن يطالب غير المجتهد بالحديث الصحيح وهو لا يملك أدوات الاستنباط والدقة العلمية التي تعينه على استخراج حكم الله تعالى من النص بمأمن من المزالق.
والحمد لله أولاً وآخراً.
وهو ما نعالجه وندرسه في هذا الموضوع باختصار.
الكتاب الصحيح يمكن أن يراد به أحد ثلاثة معان:
المعنى الأول: الكتاب الصحيح الانتساب إلى مؤلفه إضافة إلى احتوائه على جهد كاف لتنقية التراث الحديثي من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة، وجمع ما أمكن من الصحاح سنداً أو متناً، بحيث إذا نظرنا إلى حديث فيه يغلب الظن بصدوره عن المعصوم، ولا يغلب الظن بكونه من الكذب المفترى.
المعنى الثاني: الكتاب الصحيح بمعنى الذي كتبه أحد أساطين المذهب وتوخَّى فيه ما صحَّ عنده من الأحاديث وكان في نظره حجة بينه وبين ربه بمعنى أنه يفتي على ضوئه ويلتزم بمفاده.
المعنى الثالث: الكتاب الصحيح بمعنى الذي احتوى على المعنى الثاني من الصحة بالإضافة إلى كونه صحيحاً وحجة أيضاً عند غير مؤلفه، أي عند سائر علماء مذهبه، فأحاديث هذا الكتاب ليست صحيحة عند جامعها فحسب، بل هي كذلك عند جميع علماء المذهب الذي ينتمي إليه جامع الكتاب.
فإذا عرفنا وفهمنا الفرق بين هذه المعاني الثلاثة لـ (الكتاب الصحيح) ؛ حان لنا أن نقول:
1 ـ إن كان المقصود بالكتاب الصحيح هو المعنى الأول، فلا ريب أن الشيعة الإمامية لديهم العديد من الكتب الصحيحة بهذا المعنى، وأساساً التنقية والجمع والتأليف الحديثي عند علماء الشيعة الإمامية منذ القدم كان يعتمد على تحقيق هذا المعنى من الكتاب الصحيح. وكثيراً ما نسمع عبارة (كتاب معتبر) على لسان علماء الشيعة، وهم يقصدون بذلك هذا المعنى من الصحة، والذي يمكن أن نعبر عنه بقولنا: كتاب معتمد عليه. وكتاب المحاسن وكتاب بصائر الدرجات وكتاب الكافي وكتاب من لايحضره الفقيه وكتاب تهذيب الأحكام وكتاب كامل الزيارات وكتاب كفاية الأثر.. وغيرها من الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية هي كتب معتبرة عندهم، أي هي كتب صحيحة بهذا المعنى الذي بيناه.
2 ـ أما إن كان المقصود من الصحة هو المعنى الثاني، فالشيعة أيضاً عندهم كتب صحيحة بهذا المعنى، فمثلاً كتاب الكافي يمكن القول بكونه صحيحاً عند الشيخ الكليني الذي اعتبر كتابه ـ كما نص في المقدمة ـ تحقيقاً لـ (كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله) ، كما أن كتاب من لا يحضره الفقيه كذلك أيضاً لأن مؤلفه ـ الشيخ الصدوق ـ قال في مقدمته: (لم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي) ، وهكذا كتاب كامل الزيارات لابن قولويه الذي قال في مقدمة كتابه: (جمعته عن الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين من أحاديثهم، ولم أخرج فيه حديثاً رُوي عن غيرهم إذا كان فيما روينا عنهم من حديثهم صلوات الله عليهم كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم) .
3 ـ أما الكتاب الصحيح بالمعنى الثالث فمختلف في وجوده عند الشيعة الإمامية، فالأخباريون منهم يعتقدون أن الكتب الأربعة (الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار) صحيحة بهذا المعنى، ولكن معظم الأصوليين يختلفون معهم في ذلك.
وعلى هامش ما تم ذكره أعلاه نذكر ما يلي من التنبيهات:
التنبيه الأول: إنَّ الكتاب الصحيح عند مؤلفه لا يعني أنه صحيح حقيقة في جميع جزئياته ومفرداته؛ لأن العصمة لأهلها، ولو قدر للمؤلف أن يستمع إلى انتقادات أهل العلم مرة بعد أخرى لربما انكشف له أن بعض ما صححه ليس صحيحاً حتى على الأسس التي يؤمن هو بها.
التنبيه الثاني: إنَّ الأسس التي يقوم عليها الحكم بالصحة مختلف فيها، فمثلاً يعتقد الشيخ الصدوق أن أي رواية يرويها (محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن) فهي رواية ضعيفة، بينما لا يوافقه على هذه النظرية الشيخ الكليني المتقدم عليه، كما لا يوافقه عليها من تأخر عنه من الأعلام، ولذا تلاحظ كثرة الروايات بهذا السند في الكافي، بينما لا تجد رواية واحدة بهذا السند في كتاب من لا يحضره الفقيه، وهناك أنماط أخرى من الاختلاف في الرؤى العلمية في علم الرجال، وهذه الاختلافات هي ظاهرة طبيعية في الإطار العلمي لأي مذهب لم تغادره الحياة والحيوية العلمية بالمعنى الصحيح. ونتيجة هذه الاختلافات أن تكون روايات الكافي ـ مثلاً ـ ليست صحيحة بتمامها عند الشيخ الصدوق.
التنبيه الثالث: إن عدم وجود الاختلاف وبالتالي وجود الكتاب الصحيح بالمعنى الثالث، يعني أن هناك حالة من الخمول والموت العلمي في الإطار العلمائي؛ فإن الكتاب الذي صححه الشيخ الصدوق، إذا صح عند جميع علماء المذهب، فهذا يعني أن جميع علماء المذهب أصبحوا في سبات علمي بعد الشيخ الصدوق، وإلا لكانوا يختلفون معه ويناقشونه وينتقدونه، فإن الاختلاف والنقد هما ظاهرة صحية في الإطار العلمي. ومن هنا ندرك السر في عدم شهرة (الكتاب الصحيح) بالمعنى الثالث عند الشيعة الإمامية؛ فإن الإمامية تميزوا بأنهم لا يجمدون على التراث بغير تفكير وحيوية فكرية، بل هم يحترمون التراث إذا كان صحيحاً بالمعنى الأول، فيسمون الكتاب معتبراً بهذا المعنى، ولكنهم يمنعون من أن تصادر حقوق الخلف في النقد والتصحيح والتضعيف لصالح هيمنة السلف ووصايتهم على التراث.. فالسلف مشكورون على خدماتهم الجليلة لجمع وتنقية التراث، إلا أن الخلف أيضاً لهم الحق في تمييز الصحيح من الضعيف.
التنبيه الرابع: إن التصحيح والتضعيف عملية تخصصية دقيقة تتطلب ـ غالباً ـ مهارةً وقدراتٍ خاصةً لا يتوفر عليها إلا أهل الاجتهاد ومن قاربهم في المستوى، ولما كان غير المختص مطالباً بالرجوع إلى المتخصص؛ كان لزاماً على المكلف أن يرجع إلى من يقلِّده للتمييز بين الصحيح والضعيف، وحينئذ لا معنى لمطالبة المكلف (غير المجتهد) بالكتاب الصحيح؛ لأن الصحيح هو ما صححه مرجع التقليد، وليس ما وُجد في كتاب صحيح بأي معنى من المعاني الثلاثة؛ لأن الكتاب الصحيح على بالمعنى الثالث يمكن أن يكون محل نقد في نظر مرجع التقليد.
التنبيه الخامس: أنَّ الحديث الصحيح ـ حتى في نظر مرجع التقليد ـ كثيراً ما يعجز عن الاستناد إليه المكلف غير المختص؛ لأن عملية الاستنباط من المتون الدينية الصحيحة تتوقف على دقة علمية ومهارة علمية عالية يكتسبها المجتهد عبر جهود مضنية من ممارسة الدراسات العلمية في الحوزة العلمية، وبهذه المهارة والقدرة يتميز المجتهد عن المقلد، وبناء عليه: إذا رجع المكلف بنفسه إلى الحديث الصحيح فإنه كثيراً ما يخطئ في الفهم الصحيح إلا أن يعلمه المجتهد المعنى الصحيح وكيفية استنباطه. وفي ضوء ذلك: تقل جداً ثمرة المطالبة بالكتاب الصحيح؛ فإن المجتهد يستطيع التمييز بين الصحيح والضعيف ولو لم يكن الصحيح مجموعاً في كتاب مستقل، وأما غير المجتهد فليس مخولاً لاستنباط أحكام الدين من الأحاديث مباشرة.
التنبيه السادس: أنَّ الصحيح الذي يلزم الرجوع إليه في الفقه يختلف عن الصحيح الذي يلزم الرجوع إليه في العقيدة، ثم قد يميَّز بين مسائل أصول العقيدة ومسائل فروع العقيدة في ذلك. فمثلاً: الصحيح الذي لم يبلغ مرتبة التواتر، أي أنه لا يفيد القطع، لا يفيد إلا في الفقه، بينما يشترط في مسائل أصول العقيدة أن يكون الحديث قطعي الثبوت.
التنبيه السابع ـ وهو مكمل للتنبيه السادس ـ : أنَّ علماء الشيعة اهتموا بالتبويب الموضوعي للأحاديث، كما صنع الشيخ الصفار في بصائر الدرجات، وكما صنع الشيخ الكليني في الكافي، وكذا غيرهم.. ومن أفضل التبويبات الموضوعية: كتاب بحار الأنوار، وفائدة هذا التبويب هو إعطاء صورة واضحة عن الجانب الكمي للأسانيد في كل موضوع، وبهذا استغنى علماء الشيعة عن تسمية كتاب معين بالصحيح؛ لأن معظم الأبواب قد تواترت فيها الأحاديث، فمثلاً: حين نتصفح أحاديث الإمامة في كتاب بحار الأنوار، مع ثقافة متوسطة، نستطيع أن ندرك أن هناك تواتر في موضوع الإمامة، بل في كثير من تفاصيل الإمامة وفروعها، فمثلاً: هناك تواتر واضح في النصوص الدالة على أن الأئمة بعد الحسين ـ عليه السلام ـ تسعة، وهكذا الأمر في معظم الأبواب الفقهية، لاحظ ـ على سبيل المثال ـ كتاب وسائل الشيعة، وهذه الكثرة والتواتر من مزايا مذهب الشيعة الإمامية، وهو من بركات وجود الأئمة عليهم السلام ورعايتهم لمسيرة الشيعة بصورة مباشرة لفترة تجاوزت الـ 200 سنة غذوا الشيعة فيها بتراث غني من الأحاديث في مختلف المجالات الدينية.
التنبيه الثامن: أن المجالين العقدي والأخلاقي، كثيراً ما يستغنى فيهما عن السند، حتى المتواتر؛ لأن الحديث إذا أرشد إلى فائدة قرآنية أو عقلية أو فطرية؛ فإن الحديث يعتبر صحيح المعنى، ويمكن الإفادة منه، بغير حاجة إلى التدقيق على البعد السندي، ومن هنا يكون من المضر الاقتصار على الأحاديث الصحيحة سنداً في البعدين العقائدي والأخلاقي.
فالخلاصة ـ ولا غنى عن قراءة التفاصيل أعلاه ـ : هناك كتب صحيحة عند مؤلفيها، ولكن لما كان باب النظر والاجتهاد والنقد والتصحيح مفتوحاً في التاريخ العلمي للشيعة، أبوا أن يجمدوا على تصحيح وتضعيف السلف، فلم يسموا أي كتاب بـ (الصحيح) تجنباً للوقوع في تقليد العالم للعالم في المجال الحديثي، على أن الشيعة في المجال العقائدي لديهم أحاديث متواترة، والمتواتر فوق الصحيح، والتبويب في كتبهم الحديثية المعتبرة يعطيهم صورة واضحة عن المتواتر، فهم في غنى في معظم الأبواب العقائدية وكثير من الأبواب الفقهية عن الصحيح. وأما في القسم غير المتواتر في الأبواب الفقهية، فالذي يميز الصحيح من الضعيف هو مرجع التقليد، ولا معنى لأن يطالب غير المجتهد بالحديث الصحيح وهو لا يملك أدوات الاستنباط والدقة العلمية التي تعينه على استخراج حكم الله تعالى من النص بمأمن من المزالق.
والحمد لله أولاً وآخراً.
تعليق