سلمان عبد الأعلى * - 26 / 9 / 2011م - 1:38 ص

أجدني مضطراً بعد الهرج والمرج الذي أحدثه التسجيل الصوتي المنسوب للسيد كمال الحيدري، والذي يتناول فيه مشروعه المرجعي، لئن أوضح وأبين وجهة نظري في هذه المسألة، خصوصاً وأن بعض ردود الأفعال حوله كانت غير متزنة.. وعلى الرغم من أن السيد حفظه الله قد نفى صحة ما جاء في التسجيل المنسوب له من إساءة للمرجعية الدينية ببيان مكتوب، وكذلك قد أوضح وجهة نظره بالتفصيل - في مشروع المرجعية الدينية الذي يتبناه - بتسجيل مصور «فيديو» إلا أن البعض تجاهل هذا كلياً، ولا زال يتحدث عن التسجيل الصوتي «الأول» المنسوب له، وما فيه من إساءات للمرجعية الدينية.
ويا ليت هؤلاء تحدثوا ولو قليلاً عن الأفكار التي قالها السيد في التسجيل الثاني «المصور» بدلاً من التركيز على تسجيل منسوب تبرأ من بعضه - الإساءات - ولم يؤكده بأكمله، وذلك لأن السيد حفظه الله أكد فيه - أي في التسجيل الثاني - بعض وجهات نظره حول هذه القضية بشكل واضح وتام ومقصود، ولكن ما نشاهده هو التجاهل التام لهذه الأفكار، وكأن الهدف من وراء هذه الزوبعة، هو إسقاط السيد الحيدري وليس أمراً آخر، وكأن لسان حال البعض يقول: إن هذه الفرصة إذا ما مرت دون إسقاطه فإنها لن تعوض أبداً!
ولهذا آليت على نفسي، أن أقدم توضيحاً لمشروع السيد كمال الحيدري حفظه الله للمرجعية الدينية، معتمداً في ذلك على أقواله وتصريحاته في التسجيل الثاني المصور، ومتجاهلاً كلياً وعن إرادة وقصد ما جاء في التسجيل الصوتي الأول، وذلك لأنه نفى جزءاً منه، «وهو الجزء الذي يتناول الإساءة لبعض المرجعيات الدينية»، وهذا الجزء هو ما سبب هذه المشكلة.
وقد يشكك البعض بصدق السيد الحيدري وبصحة كلامه ويقول: بأن التسجيل الأول بكامله صادر منه وليس مفبركاً، وليس فيه أي تقديم أو تأخير كما يدعي، ولهؤلاء أقول: أنني لن ألتفت لذلك لسببين: أولاً: مادام أنه نفى ذلك فسأصدقه لأن ثقافتنا الدينية تحثنا على ذلك، والأمر الآخر لو سلمنا جدلاً بأن التسجيل الأول صادر منه فعلاً، ولكنه تراجع عنه ولم يصر عليه، فما فائدة التركيز عليه بهذا الشكل مع تجاهل الأفكار التي ما زال مقتنعاً بها ولم يتراجع عنها، كما أنني لست قاضياً أو محققاً أو ذا خبرة في هذه الميادين حتى أثبت أن الشريط مفبرك فعلاً أم لا، بالإضافة إلى ذلك أن هذا الأمر ليس ذا أهمية عندي.
أسس المشروع المرجعي للسيد الحيدري:
بعد مقدمة قصيرة بدأ السيد كمال الحيدري حديثه في التسجيل الثاني المصور حول التسجيل المنسوب له بالسؤال التالي: «ما هو المقصود بالفقه القرآني والفقه الاصطلاحي؟ وقال: لا يتبادر إلى ذهن أحد أن هذه القضية أطرحها في الآونة الأخيرة، هذه القضية بشكل واضح وتفصيلي أشرت إليها في بحث التفقه في الدين في كتابي التفقه في الدين ص 40 وهو تحت عنوان تحديد دائرة التفقه، ما هو المقصود بالفقه في المعنى القرآني؟ ما هي الفروق بين المعنى الرائج للفقه والمعنى القرآني؟ أشرت إلى فريقين في هذا المجال، فلا يتبادر إلى ذهن الأعزاء أننا طرحنا هذا البحث جديداً، هذه واحدة من المفاصل التي اعتقدها في منظومة فكر مدرسة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة السلام، وهي أنني أعتقد أن العالم الديني لا بد أن يتوفر على مجموعة من الأمور».
وأردف قائلاً: «وقبل أن أشير إلى تلك الأمور التي لا بد أن يتوفر عليها - «عالم الدين» - في اعتقادي أن أشير إلى أن الاصطلاح القرآني والاصطلاح الروائي بشكل عام، وكذلك كلمات الأعلام في مدرسة أهل البيت
«تؤكد» أن الفقه كلفظ، كاصطلاح، كمفهوم، لا يختص بالحلال والحرام، وإن كان الرائج الآن في أذهاننا سواءً في العرف الحوزوي أو العرف المتشرعي أو لعله حتى في العرف العام بين الناس عندما يقال فقه يذهب الذهن إلى مسائل الحلال والحرام، يذهب الذهن إلى الرسالة العملية التي كتبها أو يكتبها علمائنا، لا ليس الأمر كذلك».
الفقه في القرآن الكريم:
ولتوضيح المعنى القرآني للفقه، يقول السيد الحيدري: «عندما ترجعون إلى القرآن الكريم بشكل واضح وصريح قال: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ هذه الآية المباركة في سورة التوبة الآية، 122 واضحة تشير إلى هذه الحقيقة، ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ بودي لو أن الأعزة يتصفحوا كلمات المفسرين في ذيل هذه الآية المباركة، تجد حتى أولئك الذين قالوا ينصرف - «أي الفقه» - إلى الحلال والحرام، قالوا هذا خصص عرفياً، وإلا «فإن» معناه القرآني أوسع من ذلك».
بعدها ينقل السيد الحيدري بعض آراء المفسرين في هذا الصدد، إذ يقول: «أنظروا على سبيل المثال «إلى» شيخ الطائفة الشيخ الطوسي في التبيان المجلد الخامس في صفحة 322، هذه عبارته هنا يقول: والتفقه تعلم الفقه، والفقه فهم موجبات المعنى المضمنة بها من غير تصريح، وصار بالعرف - أي أن الاصطلاح القرآني له معنى آخر - مختصاً بمعرفة الحلال والحرام».
ومن ثم ذكر السيد الحيدري كلمات السيد الطباطبائي رحمه الله تعالى، حيث يقول «أي الطباطبائي»: «ومن هنا يظهر أن المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية، من أصول وفروع، لا خصوص الأحكام العملية، وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه أولاً: ليتفقوا في الدين، ثانياً: ولينذروا أهليهم، فإن الإنذار إنما يتم بالتفقه في جميع الدين، ومنه ما يتعلق بالثواب والعقاب الأخروي». بعدها يعقب السيد كمال حفظه الله بوضع هذا التساؤل بقوله: «ومن الواضح أن المعاد هل هو مرتبط بالحلال والحرام أم مرتبط بالأبحاث العقدية والرؤية الكونية؟!».
الفقه في الروايات:
بعدها ينتقل السيد كمال الحيدري للاستدلال ببعض الروايات على رأيه حيث قال: «وأما على مستوى الروايات، فعندما تأتي للروايات الوارد في الأصول من الكافي الطبعة الحديثة مركز بحوث دار الحديث المجلد الأول ص114 باب كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به، الرواية «عن الإمام الصادق» عن أبي عبد الله الصادق قال: "قال رسول الله الفقهاء أمناء الرسل"».
ومن ثم يتساءل بقوله: «سؤال: هل أن الرسل جاءوا إلى أممهم فقط بالحلال والحرام، أم جاءوا إلى أممهم بهذه المنظومة الكاملة من المعارف، ولا يمكن أن يقول أحد أن المراد من الفقه هو فقط الحلال والحرام، وإلا لما أمكن أن يكون الفقيه أميناً للرسل بنحو كامل، وإنما كان في بعد من الأبعاد أميناً للرسل».
واستدل براوية ثانية على وجهة نظره وهي كما يقول: جاءت في نفس الجزء الأول من أصول الكافي في ص92 كتاب فضل العلم باب فقد العلماء، وهي، سمعت أبي الحسن موسى ابن جعفر
يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمه لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها».
بعد هذه الرواية أيضاً يتساءل السيد حفظه الله قائلاً: «سؤال: الدين إذا كان «المقصود به» خصوص الحلال والحرام، فالفقيه سوف يكون حصناً بهذا القدر، أما إذا كان مجموعة منظومة المعارف الدينية... فلا بد للفقيه حتى يكون حصناً وسوراً أن يقف على منظومة هذه المعارف بكاملها، وإلا لما كان حصناً وسوراً لجميع المعارف».
ويوضح رأيه بقوله: «بعبارةً أخرى، يغلق باباً ويكون سداً أمام بُعد - أي عالم الفقه - ولكن تبقى الأبعاد الأخرى من الدين مفتوحة لئن يخترقها الأعداء، فكرياً وعقائدياً ودينياً، إذاً لكي يكون السور كاملاً والحصن تاماً، لابد أن يكون واقفاً على جميع المعارف الدينية، وإلا لما كان حصناً تاماً».
وبعدها ينتقل للاستدلال برواية ثالثة، وهي كما يقول: «ما ورد في كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله الرواية عن الإمام الصادق
: "إن العلماء ورثة الأنبياء"».
ثم يقول: «سؤال: ماذا ورث الأنبياء؟ هل ورثوا الحلال والحرام فقط؟ أو ورثوا كل المنظومة الدينية من توحيد ومعاد ومن نبوة ومن إمامة ومن عدل؟ مضافاً في كل باب من هذه الأبواب مئات بل آلاف المسائل، هذه كلها لا بد أن يتوفر عليها العالم حتى يكون من ورثة الأنبياء.. نقول - والكلام للسيد الحيدري - إذا اختص الإنسان في قضايا الحلال والحرام والرسالة العملية أليس بعالم؟ نعم عالم «ولكن» في ذلك البعد. لا يكون عالم دين، «ولكن» يكون عالم بالمعنى المختص فيه، كعالم فقه، والفقه جزء من الدين، أو عالم عقائد، أو عالم أخلاق، «أما» إذا وقف الإنسان على جميع المنظومة الدينية يكون عند ذلك عالم دين ومن ورثة الأنبياء».
وبعدها يقول: «أما على مستوى سيرة أئمة أهل البيت
، أئمة أهل البيت
، هل ورثونا فقط فروع الكافي أم ورثونا فروع الكافي وأصوله؟ أي منهما؟ لذا تجد أن أمير المؤمنين
قال: أول الدين معرفته «ولم يقل كتاب الطهارة، التقليد، المعاملات»».
الفقه في الإصطلاح:
ولإثبات صحة ما يدعيه السيد الحيدري استشهد على كلامه أيضاً بالاصطلاح، حيث نقل عن كتاب المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، المجلد الأول ص 81 كتاب العلم بيان ما بدل من ألفاظ العلوم ما يلي: حيث قال أي الكاشاني: «اللفظ الأول الفقه، فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ خصصوه بمعرفة الفروع في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقاً فيها، وأكثر اشتغالا بها، يقال هو الأفقه، ولقد كان أسم الفقه في العصر الأول مطلقاً - أي يطلق - على علم الطريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك على ذلك، قوله: «ليتفقهوا ولينذروا» وما به الإنذار والتخويف هو هذا العلم، وهذا الفقه دون تفريعات الطلاق واللعان والسلم، والإجارة، فذاك لا يحصل به إنذار ولا تخويف».
وفي نهاية حديثه عن هذه النقطة لخص السيد كمال الحيدري رأيه بقوله: «أننا نعتقد أننا لا بد أن نميز بشكل واضح بين المرجع الديني بالمعنى الذي أشرت إليه، وبين المرجع في مسائل الحلال والحرام، فهذا يقوم بدور، وذاك يقوم بدور آخر، ولا داعي لهذا اللغط الذي سمعتموه في الآونة الأخيرة».
المناقشة:
لا أجد أي استنكار على ما قاله السيد كمال الحيدري حفظه الله في هذه النقطة بالخصوص، فلماذا نجد الحساسية الكبيرة على كلماته في تمييزه بين عالم الدين، وعالم الفقه بالمعنى الاصطلاحي للفقه، خصوصاً وأنه أستدل على رأيه بالقرآن الكريم وببعض كلمات المفسرين، وببعض الرويات، وبالاصطلاح، حيث نقل عن الفيض الكاشاني أنه قال: أن الفقه هو من المصطلحات التي بدلت.. فهل هناك يا ترى أي إشكال على ما أورده في كلامه هذا؟
مع العلم بأن السيد كمال حفظه الله ليس منفرداً في هذا الرأي، حيث أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين يرى نفس هذا الرأي في كتابه تجديد الفكر الإسلامي، إذ يقول: «المرجعية في الدين أمر أكبر وأجل من أن يكون مرجعية في الشريعة. المرجع في الشريعة مجتهد جامع للشرائط، وهذا يكفي. أما المرجع في الدين. فهو تجاوز مستوى الحكم الشرعي إلى المفهوم الشرعي. معرفة المفاهيم. والمرجعية في المفاهيم تحتاج إلى مستوى من الإحاطة والعمق، والشمولية تتجاوز كفاءات الفقيه. وهذه النقطة غامضة. يجب أن نفرق بين المرجع في الشريعة، وبين المرجع في الدين. المرجع في الدين هو أوسع دائرة وأعم مسؤوليةً من المرجع في الشريعة» [1] . إن هذا الكلام لا يختلف عن كلام السيد كمال الحيدري سوى في الألفاظ فقط، وإلا فهو من ناحية المضمون واحد، حيث يستخدم الشيخ شمس الدين عبارة المرجع في الدين مقابل المرجع في الشريعة، ويستعمل السيد الحيدري عبارة المرجعي الديني، مقابل المرجع الفقهي أو المرجع في الحلال والحرام، وكلاهما يؤديان إلى نتيجة واحدة.
قد يقول قائل: المشكلة أن السيد الحيدري كان يقصد بكلامه هذا بأن علمائنا الأعلام ومراجعنا الكرام هم ليسوا مراجع دين بل مراجع فقه بالمعنى الاصطلاحي للفقه، وهنا تكمن المشكلة؟ ولهؤلاء أقول: أننا إذا كنا نعتقد أن المرجعية الدينية التي ننتسب إليها هي مرجعية دينية شاملة وليست مرجعية فقهية بالمعنى الاصطلاحي، فإن علينا أن نثبت ذلك - على الأقل لأنفسنا - حتى نتأكد ونطمئن، ولا علينا بعدها من ما يقصده السيد بكلامه، ولكن المشكلة أن كثيراً من المرجعيات الدينية لو راجعنا تراثها، فإننا لن نجد تركيزاً واهتماما إلا في الفقه بالمعنى الاصطلاحي "مسائل الحلال والحرام" بتعبير السيد الحيدري أو في "الشريعة" بتعبير الشيخ شمس الدين.
لذا فلنترك السيد كمال وتأويلات كلامه جانباً، ولا نتعجل الحكم عليه، ولنبحث عن واقع مرجعياتنا الدينية من حيث دروسها وأبحاثها وتأليفاتها واهتماماتها، هل هي منصبة فقط على الفقه بالمعنى الاصطلاحي أم هي منصبة على جميع الجوانب الدينية الأخرى؟! لأن هذا الموضوع هو الأهم، وبعدها علينا أن نقرر ونقيم صحة كلامه من عدمه.

أجدني مضطراً بعد الهرج والمرج الذي أحدثه التسجيل الصوتي المنسوب للسيد كمال الحيدري، والذي يتناول فيه مشروعه المرجعي، لئن أوضح وأبين وجهة نظري في هذه المسألة، خصوصاً وأن بعض ردود الأفعال حوله كانت غير متزنة.. وعلى الرغم من أن السيد حفظه الله قد نفى صحة ما جاء في التسجيل المنسوب له من إساءة للمرجعية الدينية ببيان مكتوب، وكذلك قد أوضح وجهة نظره بالتفصيل - في مشروع المرجعية الدينية الذي يتبناه - بتسجيل مصور «فيديو» إلا أن البعض تجاهل هذا كلياً، ولا زال يتحدث عن التسجيل الصوتي «الأول» المنسوب له، وما فيه من إساءات للمرجعية الدينية.
ويا ليت هؤلاء تحدثوا ولو قليلاً عن الأفكار التي قالها السيد في التسجيل الثاني «المصور» بدلاً من التركيز على تسجيل منسوب تبرأ من بعضه - الإساءات - ولم يؤكده بأكمله، وذلك لأن السيد حفظه الله أكد فيه - أي في التسجيل الثاني - بعض وجهات نظره حول هذه القضية بشكل واضح وتام ومقصود، ولكن ما نشاهده هو التجاهل التام لهذه الأفكار، وكأن الهدف من وراء هذه الزوبعة، هو إسقاط السيد الحيدري وليس أمراً آخر، وكأن لسان حال البعض يقول: إن هذه الفرصة إذا ما مرت دون إسقاطه فإنها لن تعوض أبداً!
ولهذا آليت على نفسي، أن أقدم توضيحاً لمشروع السيد كمال الحيدري حفظه الله للمرجعية الدينية، معتمداً في ذلك على أقواله وتصريحاته في التسجيل الثاني المصور، ومتجاهلاً كلياً وعن إرادة وقصد ما جاء في التسجيل الصوتي الأول، وذلك لأنه نفى جزءاً منه، «وهو الجزء الذي يتناول الإساءة لبعض المرجعيات الدينية»، وهذا الجزء هو ما سبب هذه المشكلة.
وقد يشكك البعض بصدق السيد الحيدري وبصحة كلامه ويقول: بأن التسجيل الأول بكامله صادر منه وليس مفبركاً، وليس فيه أي تقديم أو تأخير كما يدعي، ولهؤلاء أقول: أنني لن ألتفت لذلك لسببين: أولاً: مادام أنه نفى ذلك فسأصدقه لأن ثقافتنا الدينية تحثنا على ذلك، والأمر الآخر لو سلمنا جدلاً بأن التسجيل الأول صادر منه فعلاً، ولكنه تراجع عنه ولم يصر عليه، فما فائدة التركيز عليه بهذا الشكل مع تجاهل الأفكار التي ما زال مقتنعاً بها ولم يتراجع عنها، كما أنني لست قاضياً أو محققاً أو ذا خبرة في هذه الميادين حتى أثبت أن الشريط مفبرك فعلاً أم لا، بالإضافة إلى ذلك أن هذا الأمر ليس ذا أهمية عندي.

بعد مقدمة قصيرة بدأ السيد كمال الحيدري حديثه في التسجيل الثاني المصور حول التسجيل المنسوب له بالسؤال التالي: «ما هو المقصود بالفقه القرآني والفقه الاصطلاحي؟ وقال: لا يتبادر إلى ذهن أحد أن هذه القضية أطرحها في الآونة الأخيرة، هذه القضية بشكل واضح وتفصيلي أشرت إليها في بحث التفقه في الدين في كتابي التفقه في الدين ص 40 وهو تحت عنوان تحديد دائرة التفقه، ما هو المقصود بالفقه في المعنى القرآني؟ ما هي الفروق بين المعنى الرائج للفقه والمعنى القرآني؟ أشرت إلى فريقين في هذا المجال، فلا يتبادر إلى ذهن الأعزاء أننا طرحنا هذا البحث جديداً، هذه واحدة من المفاصل التي اعتقدها في منظومة فكر مدرسة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة السلام، وهي أنني أعتقد أن العالم الديني لا بد أن يتوفر على مجموعة من الأمور».
وأردف قائلاً: «وقبل أن أشير إلى تلك الأمور التي لا بد أن يتوفر عليها - «عالم الدين» - في اعتقادي أن أشير إلى أن الاصطلاح القرآني والاصطلاح الروائي بشكل عام، وكذلك كلمات الأعلام في مدرسة أهل البيت

الفقه في القرآن الكريم:
ولتوضيح المعنى القرآني للفقه، يقول السيد الحيدري: «عندما ترجعون إلى القرآن الكريم بشكل واضح وصريح قال: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ هذه الآية المباركة في سورة التوبة الآية، 122 واضحة تشير إلى هذه الحقيقة، ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ بودي لو أن الأعزة يتصفحوا كلمات المفسرين في ذيل هذه الآية المباركة، تجد حتى أولئك الذين قالوا ينصرف - «أي الفقه» - إلى الحلال والحرام، قالوا هذا خصص عرفياً، وإلا «فإن» معناه القرآني أوسع من ذلك».
بعدها ينقل السيد الحيدري بعض آراء المفسرين في هذا الصدد، إذ يقول: «أنظروا على سبيل المثال «إلى» شيخ الطائفة الشيخ الطوسي في التبيان المجلد الخامس في صفحة 322، هذه عبارته هنا يقول: والتفقه تعلم الفقه، والفقه فهم موجبات المعنى المضمنة بها من غير تصريح، وصار بالعرف - أي أن الاصطلاح القرآني له معنى آخر - مختصاً بمعرفة الحلال والحرام».
ومن ثم ذكر السيد الحيدري كلمات السيد الطباطبائي رحمه الله تعالى، حيث يقول «أي الطباطبائي»: «ومن هنا يظهر أن المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية، من أصول وفروع، لا خصوص الأحكام العملية، وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه أولاً: ليتفقوا في الدين، ثانياً: ولينذروا أهليهم، فإن الإنذار إنما يتم بالتفقه في جميع الدين، ومنه ما يتعلق بالثواب والعقاب الأخروي». بعدها يعقب السيد كمال حفظه الله بوضع هذا التساؤل بقوله: «ومن الواضح أن المعاد هل هو مرتبط بالحلال والحرام أم مرتبط بالأبحاث العقدية والرؤية الكونية؟!».
الفقه في الروايات:
بعدها ينتقل السيد كمال الحيدري للاستدلال ببعض الروايات على رأيه حيث قال: «وأما على مستوى الروايات، فعندما تأتي للروايات الوارد في الأصول من الكافي الطبعة الحديثة مركز بحوث دار الحديث المجلد الأول ص114 باب كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به، الرواية «عن الإمام الصادق» عن أبي عبد الله الصادق قال: "قال رسول الله الفقهاء أمناء الرسل"».
ومن ثم يتساءل بقوله: «سؤال: هل أن الرسل جاءوا إلى أممهم فقط بالحلال والحرام، أم جاءوا إلى أممهم بهذه المنظومة الكاملة من المعارف، ولا يمكن أن يقول أحد أن المراد من الفقه هو فقط الحلال والحرام، وإلا لما أمكن أن يكون الفقيه أميناً للرسل بنحو كامل، وإنما كان في بعد من الأبعاد أميناً للرسل».
واستدل براوية ثانية على وجهة نظره وهي كما يقول: جاءت في نفس الجزء الأول من أصول الكافي في ص92 كتاب فضل العلم باب فقد العلماء، وهي، سمعت أبي الحسن موسى ابن جعفر

بعد هذه الرواية أيضاً يتساءل السيد حفظه الله قائلاً: «سؤال: الدين إذا كان «المقصود به» خصوص الحلال والحرام، فالفقيه سوف يكون حصناً بهذا القدر، أما إذا كان مجموعة منظومة المعارف الدينية... فلا بد للفقيه حتى يكون حصناً وسوراً أن يقف على منظومة هذه المعارف بكاملها، وإلا لما كان حصناً وسوراً لجميع المعارف».
ويوضح رأيه بقوله: «بعبارةً أخرى، يغلق باباً ويكون سداً أمام بُعد - أي عالم الفقه - ولكن تبقى الأبعاد الأخرى من الدين مفتوحة لئن يخترقها الأعداء، فكرياً وعقائدياً ودينياً، إذاً لكي يكون السور كاملاً والحصن تاماً، لابد أن يكون واقفاً على جميع المعارف الدينية، وإلا لما كان حصناً تاماً».
وبعدها ينتقل للاستدلال برواية ثالثة، وهي كما يقول: «ما ورد في كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله الرواية عن الإمام الصادق

ثم يقول: «سؤال: ماذا ورث الأنبياء؟ هل ورثوا الحلال والحرام فقط؟ أو ورثوا كل المنظومة الدينية من توحيد ومعاد ومن نبوة ومن إمامة ومن عدل؟ مضافاً في كل باب من هذه الأبواب مئات بل آلاف المسائل، هذه كلها لا بد أن يتوفر عليها العالم حتى يكون من ورثة الأنبياء.. نقول - والكلام للسيد الحيدري - إذا اختص الإنسان في قضايا الحلال والحرام والرسالة العملية أليس بعالم؟ نعم عالم «ولكن» في ذلك البعد. لا يكون عالم دين، «ولكن» يكون عالم بالمعنى المختص فيه، كعالم فقه، والفقه جزء من الدين، أو عالم عقائد، أو عالم أخلاق، «أما» إذا وقف الإنسان على جميع المنظومة الدينية يكون عند ذلك عالم دين ومن ورثة الأنبياء».
وبعدها يقول: «أما على مستوى سيرة أئمة أهل البيت



الفقه في الإصطلاح:
ولإثبات صحة ما يدعيه السيد الحيدري استشهد على كلامه أيضاً بالاصطلاح، حيث نقل عن كتاب المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، المجلد الأول ص 81 كتاب العلم بيان ما بدل من ألفاظ العلوم ما يلي: حيث قال أي الكاشاني: «اللفظ الأول الفقه، فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ خصصوه بمعرفة الفروع في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقاً فيها، وأكثر اشتغالا بها، يقال هو الأفقه، ولقد كان أسم الفقه في العصر الأول مطلقاً - أي يطلق - على علم الطريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك على ذلك، قوله: «ليتفقهوا ولينذروا» وما به الإنذار والتخويف هو هذا العلم، وهذا الفقه دون تفريعات الطلاق واللعان والسلم، والإجارة، فذاك لا يحصل به إنذار ولا تخويف».
وفي نهاية حديثه عن هذه النقطة لخص السيد كمال الحيدري رأيه بقوله: «أننا نعتقد أننا لا بد أن نميز بشكل واضح بين المرجع الديني بالمعنى الذي أشرت إليه، وبين المرجع في مسائل الحلال والحرام، فهذا يقوم بدور، وذاك يقوم بدور آخر، ولا داعي لهذا اللغط الذي سمعتموه في الآونة الأخيرة».
المناقشة:
لا أجد أي استنكار على ما قاله السيد كمال الحيدري حفظه الله في هذه النقطة بالخصوص، فلماذا نجد الحساسية الكبيرة على كلماته في تمييزه بين عالم الدين، وعالم الفقه بالمعنى الاصطلاحي للفقه، خصوصاً وأنه أستدل على رأيه بالقرآن الكريم وببعض كلمات المفسرين، وببعض الرويات، وبالاصطلاح، حيث نقل عن الفيض الكاشاني أنه قال: أن الفقه هو من المصطلحات التي بدلت.. فهل هناك يا ترى أي إشكال على ما أورده في كلامه هذا؟
مع العلم بأن السيد كمال حفظه الله ليس منفرداً في هذا الرأي، حيث أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين يرى نفس هذا الرأي في كتابه تجديد الفكر الإسلامي، إذ يقول: «المرجعية في الدين أمر أكبر وأجل من أن يكون مرجعية في الشريعة. المرجع في الشريعة مجتهد جامع للشرائط، وهذا يكفي. أما المرجع في الدين. فهو تجاوز مستوى الحكم الشرعي إلى المفهوم الشرعي. معرفة المفاهيم. والمرجعية في المفاهيم تحتاج إلى مستوى من الإحاطة والعمق، والشمولية تتجاوز كفاءات الفقيه. وهذه النقطة غامضة. يجب أن نفرق بين المرجع في الشريعة، وبين المرجع في الدين. المرجع في الدين هو أوسع دائرة وأعم مسؤوليةً من المرجع في الشريعة» [1] . إن هذا الكلام لا يختلف عن كلام السيد كمال الحيدري سوى في الألفاظ فقط، وإلا فهو من ناحية المضمون واحد، حيث يستخدم الشيخ شمس الدين عبارة المرجع في الدين مقابل المرجع في الشريعة، ويستعمل السيد الحيدري عبارة المرجعي الديني، مقابل المرجع الفقهي أو المرجع في الحلال والحرام، وكلاهما يؤديان إلى نتيجة واحدة.
قد يقول قائل: المشكلة أن السيد الحيدري كان يقصد بكلامه هذا بأن علمائنا الأعلام ومراجعنا الكرام هم ليسوا مراجع دين بل مراجع فقه بالمعنى الاصطلاحي للفقه، وهنا تكمن المشكلة؟ ولهؤلاء أقول: أننا إذا كنا نعتقد أن المرجعية الدينية التي ننتسب إليها هي مرجعية دينية شاملة وليست مرجعية فقهية بالمعنى الاصطلاحي، فإن علينا أن نثبت ذلك - على الأقل لأنفسنا - حتى نتأكد ونطمئن، ولا علينا بعدها من ما يقصده السيد بكلامه، ولكن المشكلة أن كثيراً من المرجعيات الدينية لو راجعنا تراثها، فإننا لن نجد تركيزاً واهتماما إلا في الفقه بالمعنى الاصطلاحي "مسائل الحلال والحرام" بتعبير السيد الحيدري أو في "الشريعة" بتعبير الشيخ شمس الدين.
لذا فلنترك السيد كمال وتأويلات كلامه جانباً، ولا نتعجل الحكم عليه، ولنبحث عن واقع مرجعياتنا الدينية من حيث دروسها وأبحاثها وتأليفاتها واهتماماتها، هل هي منصبة فقط على الفقه بالمعنى الاصطلاحي أم هي منصبة على جميع الجوانب الدينية الأخرى؟! لأن هذا الموضوع هو الأهم، وبعدها علينا أن نقرر ونقيم صحة كلامه من عدمه.
تعليق