الإمام(عليه السلام) في مجلس يزيد:
اُدخل رأس الحسين(عليه السلام) ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد وهم مقرّنون في الحبال وزين العابدين(عليه السلام) مغلول، فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال تمثّل يزيد بشعر حصين بن حمام المرّي قائلاً:
نفلِّقُ هاماً من رجال أعزّة***علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما[1]
فردّ عليه الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) بقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلَّ مختال فخور)[2].
وتميّز يزيد غضباً، فتلا قوله تعالى: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)[3].
وينقل المؤرّخون عن فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قولها: فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال : يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فأخذت بثياب عمّتي زينب وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون.
فقالت عمّتي للشامي: كذبت والله ولؤمت والله، ما ذاك لك ولا له!
فغضب يزيد وقال: كذبت إنّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت!
قالت : كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها، فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك!
قالت: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كُنت مسلماً، قال: كذبتِ يا عدوّة الله!
قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحيى وسكت.
فعاد الشاميّ فقال: هب لي هذه الجارية، فقال يزيد: اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً[4].
ويبدو أنّ اعتماد يزيد لهجة أقلّ قسوة وشراسة من لهجة ابن زياد في الكوفة يعود إلى أنّ الأخير كان يريد أن يدلّل على إخلاصه لسيّده، بينما لا يحتاج يزيد ذلك، ولعلّ يزيد أدرك أنّه قد ارتكب خطأً كبيراً في قتله الحسين(عليه السلام) وسبيه أهل بيت النبوّة، من هنا فإنّه أراد تخفيف مشاعر السخط تجاهه.
وفي تلك الأيام أوعز يزيد إلى خطيب دمشق أن يصعد المنبر ويبالغ في ذمّ الحسين وأبيه(عليهما السلام) فانبرى اليه الإمام زين العابدين(عليه السلام) فصاح به:
«ويلك أيّها الخاطب، إشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار».
واتّجه الإمام نحو يزيد فقال له: «أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضىً، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب...».
وبهت الحاضرون وعجبوا من هذا الفتى العليل الذي ردّ على الخطيب والأمير وهو أسير، فرفض يزيد إجابته، وألحّ عليه الجالسون بالسماح له فلم يجد بُدّاً من إجابتهم فسمح له، واعتلى الإمام أعواد المنبر، وكان من جملة ما قاله:
«أيّها الناس، اُعطينا ستاً، وفُضِّلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأن منّا النبيّ المختار محمّداً(صلى الله عليه وآله) ومنّا الصِّدِّيق ومنّا الطيّار ومنّا أسد الله وأسد الرسول(صلى الله عليه وآله) ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الاُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة».
وبعد هذه المقدّمة التعريفية لاُسرته أخذ(عليه السلام) في بيان فضائلهم، قائلاً: «فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى اليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علىّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلاّ الله.
أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.
أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقاطع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين.
أنا ابن المؤيّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله، وبستان حكمة الله، ... ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله)، أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء».
ولم يزل الإمام يقول: أنا أنا حتى ضجّ الناس بالبكاء، وخشي يزيد من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه، فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فكرياً إذ عرّف الإمام نفسه لأهل الشام وأحاطهم علماً بما كانوا يجهلون.
فأوعز يزيد إلى المؤذّن أن يؤذّن ليقطع على الإمام كلامه، فصاح المؤذن «الله أكبر» فالتفت إليه الامام فقال له: «كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله»، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمام(عليه السلام): «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي»، ولمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله التفت الإمام إلى يزيد فقال له: «يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنـّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت: أنـّه جدّي فلمَ قتلت عترته[5] »؟!
ووجم يزيد ولم يجر جواباً، فإنّ الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) هو جدّ سيّد العابدين، وأمّا جدّ يزيد فهوأبو سفيان العدوّ الأوّل للنبىّ(صلى الله عليه وآله)، وتبيّن لأهل الشام أنّهم غارقون في الإثم، وأنّ الحكم الاُمويّ قد جهد في إغوائهم وإضلالهم، وتبيّن بوضوح أنّ الحقد الشخصيّ وغياب النضج السياسيّ هما السببان لعدم إدراك يزيد عمق ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ممّا أدّى إلى توهّمه بأنّها لن تؤدّيَ إلى نتائج خطيرة على حكمه.
ولعلّ أكبر شاهد على هذا التوهّم هو رسالة يزيد في بدايات تسلّمه الحكم لواليه على المدينة والتي أمره فيها بأخذ البيعة من الحسين(عليه السلام) أو قتله وبعث رأسه إلى دمشق إن رفض البيعة.
وفي سياق الحديث عن حسابات يزيد الخاطئة نُشير أيضاً إلى عملية نقل أسرى أهل البيت(عليهم السلام) إلى الكوفة، ومن ثمّ إلى الشام، وما تخلّل ذلك من ممارسات إرهابية عكست نزعته الإجرامية، ولم يلتفت يزيد إلى خطورة الجريمة التي ارتكبها إلاّ بعد أن تدفّقت عليه التقارير التي تتحدّث عن ردود الفعل والاحتجاجات على قتله ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولذلك حاول أن يلقي مسؤولية الجريمة البشعة على ابن مرجانة، قائلاً للإمام السجاد(عليه السلام): لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكن الله قضى الله ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنْهِ كلًّ حاجة تكون لك[6].
والتقى الإمام السجاد(عليه السلام) خلال وجوده في الشام بالمنهال بن عمرو، فبادره قائلاً: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ فرمقه الإمام بطرفه وقال له: «أمسينا كمَثَل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيته مقتولين مشرّدين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون»[7].
وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير أن يصاحب ودائع رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعقائل الرسالة فيردَّهنّ إلى يثرب[8] وأمر بإخراجهنّ ليلاً خوفاً من الفتنة واضطراب الأوضاع[9].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الارشاد: 2/119 و 120، ووقعة الطف لأبي مخنف : 168 و 271، والعقد الفريد : 5 / 124.
[2] الحديد (57) : 22 ـ 23.
[3] الشورى (42) : 30.
[4] الإرشاد : 2/121 ، ووقعة الطف لأبي مخنف: 271 ، 272.
[5] نفس المهموم : 448 ـ 452 ط قم عن مناقب آل أبي طالب : 4/181 عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي: الخطبة بدون المقدمة. والمقدمة عن الكامل للبهائي : 2/299 ـ 302، وانظر حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 175 ـ 177.
[6] تاريخ الطبري : 5 / 462 ، والارشاد : 2/122.
[7] اللهوف في قتلى الطفوف: 85 مرسلاً ورواه ابن سعد في الطبقات مسنداً عن المنهال بن عمرو الكوفي في الكوفة وليس الشام، والخبر أكثر من هذا وإنّما هذا مختصر الخبر.
[8] الطبري : 5/462 ، والارشاد : 2/122 وعنهما في وقعة الطف لأبي مخنف : 272.
[9] عن تفسير المطالب في أمالي أبي طالب: 93، والحدائق الوردية : 1 / 133.
اُدخل رأس الحسين(عليه السلام) ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد وهم مقرّنون في الحبال وزين العابدين(عليه السلام) مغلول، فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال تمثّل يزيد بشعر حصين بن حمام المرّي قائلاً:
نفلِّقُ هاماً من رجال أعزّة***علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما[1]
فردّ عليه الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) بقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلَّ مختال فخور)[2].
وتميّز يزيد غضباً، فتلا قوله تعالى: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)[3].
وينقل المؤرّخون عن فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قولها: فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال : يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فأخذت بثياب عمّتي زينب وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون.
فقالت عمّتي للشامي: كذبت والله ولؤمت والله، ما ذاك لك ولا له!
فغضب يزيد وقال: كذبت إنّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت!
قالت : كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها، فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك!
قالت: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كُنت مسلماً، قال: كذبتِ يا عدوّة الله!
قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحيى وسكت.
فعاد الشاميّ فقال: هب لي هذه الجارية، فقال يزيد: اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً[4].
ويبدو أنّ اعتماد يزيد لهجة أقلّ قسوة وشراسة من لهجة ابن زياد في الكوفة يعود إلى أنّ الأخير كان يريد أن يدلّل على إخلاصه لسيّده، بينما لا يحتاج يزيد ذلك، ولعلّ يزيد أدرك أنّه قد ارتكب خطأً كبيراً في قتله الحسين(عليه السلام) وسبيه أهل بيت النبوّة، من هنا فإنّه أراد تخفيف مشاعر السخط تجاهه.
وفي تلك الأيام أوعز يزيد إلى خطيب دمشق أن يصعد المنبر ويبالغ في ذمّ الحسين وأبيه(عليهما السلام) فانبرى اليه الإمام زين العابدين(عليه السلام) فصاح به:
«ويلك أيّها الخاطب، إشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار».
واتّجه الإمام نحو يزيد فقال له: «أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضىً، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب...».
وبهت الحاضرون وعجبوا من هذا الفتى العليل الذي ردّ على الخطيب والأمير وهو أسير، فرفض يزيد إجابته، وألحّ عليه الجالسون بالسماح له فلم يجد بُدّاً من إجابتهم فسمح له، واعتلى الإمام أعواد المنبر، وكان من جملة ما قاله:
«أيّها الناس، اُعطينا ستاً، وفُضِّلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأن منّا النبيّ المختار محمّداً(صلى الله عليه وآله) ومنّا الصِّدِّيق ومنّا الطيّار ومنّا أسد الله وأسد الرسول(صلى الله عليه وآله) ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الاُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة».
وبعد هذه المقدّمة التعريفية لاُسرته أخذ(عليه السلام) في بيان فضائلهم، قائلاً: «فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى اليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علىّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلاّ الله.
أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.
أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقاطع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين.
أنا ابن المؤيّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله، وبستان حكمة الله، ... ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله)، أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء».
ولم يزل الإمام يقول: أنا أنا حتى ضجّ الناس بالبكاء، وخشي يزيد من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه، فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فكرياً إذ عرّف الإمام نفسه لأهل الشام وأحاطهم علماً بما كانوا يجهلون.
فأوعز يزيد إلى المؤذّن أن يؤذّن ليقطع على الإمام كلامه، فصاح المؤذن «الله أكبر» فالتفت إليه الامام فقال له: «كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله»، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمام(عليه السلام): «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي»، ولمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله التفت الإمام إلى يزيد فقال له: «يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنـّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت: أنـّه جدّي فلمَ قتلت عترته[5] »؟!
ووجم يزيد ولم يجر جواباً، فإنّ الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) هو جدّ سيّد العابدين، وأمّا جدّ يزيد فهوأبو سفيان العدوّ الأوّل للنبىّ(صلى الله عليه وآله)، وتبيّن لأهل الشام أنّهم غارقون في الإثم، وأنّ الحكم الاُمويّ قد جهد في إغوائهم وإضلالهم، وتبيّن بوضوح أنّ الحقد الشخصيّ وغياب النضج السياسيّ هما السببان لعدم إدراك يزيد عمق ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ممّا أدّى إلى توهّمه بأنّها لن تؤدّيَ إلى نتائج خطيرة على حكمه.
ولعلّ أكبر شاهد على هذا التوهّم هو رسالة يزيد في بدايات تسلّمه الحكم لواليه على المدينة والتي أمره فيها بأخذ البيعة من الحسين(عليه السلام) أو قتله وبعث رأسه إلى دمشق إن رفض البيعة.
وفي سياق الحديث عن حسابات يزيد الخاطئة نُشير أيضاً إلى عملية نقل أسرى أهل البيت(عليهم السلام) إلى الكوفة، ومن ثمّ إلى الشام، وما تخلّل ذلك من ممارسات إرهابية عكست نزعته الإجرامية، ولم يلتفت يزيد إلى خطورة الجريمة التي ارتكبها إلاّ بعد أن تدفّقت عليه التقارير التي تتحدّث عن ردود الفعل والاحتجاجات على قتله ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولذلك حاول أن يلقي مسؤولية الجريمة البشعة على ابن مرجانة، قائلاً للإمام السجاد(عليه السلام): لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكن الله قضى الله ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنْهِ كلًّ حاجة تكون لك[6].
والتقى الإمام السجاد(عليه السلام) خلال وجوده في الشام بالمنهال بن عمرو، فبادره قائلاً: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ فرمقه الإمام بطرفه وقال له: «أمسينا كمَثَل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيته مقتولين مشرّدين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون»[7].
وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير أن يصاحب ودائع رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعقائل الرسالة فيردَّهنّ إلى يثرب[8] وأمر بإخراجهنّ ليلاً خوفاً من الفتنة واضطراب الأوضاع[9].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الارشاد: 2/119 و 120، ووقعة الطف لأبي مخنف : 168 و 271، والعقد الفريد : 5 / 124.
[2] الحديد (57) : 22 ـ 23.
[3] الشورى (42) : 30.
[4] الإرشاد : 2/121 ، ووقعة الطف لأبي مخنف: 271 ، 272.
[5] نفس المهموم : 448 ـ 452 ط قم عن مناقب آل أبي طالب : 4/181 عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي: الخطبة بدون المقدمة. والمقدمة عن الكامل للبهائي : 2/299 ـ 302، وانظر حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 175 ـ 177.
[6] تاريخ الطبري : 5 / 462 ، والارشاد : 2/122.
[7] اللهوف في قتلى الطفوف: 85 مرسلاً ورواه ابن سعد في الطبقات مسنداً عن المنهال بن عمرو الكوفي في الكوفة وليس الشام، والخبر أكثر من هذا وإنّما هذا مختصر الخبر.
[8] الطبري : 5/462 ، والارشاد : 2/122 وعنهما في وقعة الطف لأبي مخنف : 272.
[9] عن تفسير المطالب في أمالي أبي طالب: 93، والحدائق الوردية : 1 / 133.