منهج الإباضية في معالجة مشكلة الذات والصفات
جمال رجب سيدبي*
أولاً: إشكالية المنهج عند الإباضية
لا ريب أن إشكالية المنهج من أخطر الأمور في البحث العلمي، ولدراسة مذهب أو فرقة من الفرق يتعين علينا التقاط مثل هذه القواعد المنهجية التي تساعدنا في تفهم آرائها.
ومن هنا تبدو أهمية أهم معالم التفكير عند الإباضية وأهم خصائص هذا النهج، سيما - كما قلت آنفاً – مع وجود العديد من الدراسات التي ما زالت في حاجة إلى المزيد من الدرس والبحث والتمحيص، إذا ما قورن الأمر بالدراسات التي دارت حول المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم من الفرق الكلامية، ومن ثم فإننا نحاول معالجة هذه الإشكالية من خلال وقوفنا على تراث هذا المذهب الفقهي والعقدي حتى نستطيع الولوج إلى ما نصبو إليه.
1- المرونة والتسامح: من أهم القواعد المنهجية التي تنشدها الإباضية، قاعدة المرونة والتسامح، وأعتقد أنها من أهم القواعد التي توصل إلى اليقين، فالإباضية ترى وجوب المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة، وإن بلغ الخلاف بينهم وبين غيرهم ما بلغ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج مخالفهم من الملة، وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل، أما من استند إلى التأويل ـ وإن كان أوهى من نسيج العنكبوت ـ فحسبه تأويله واقياً له من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة، وخلع ربقة الملة من عنقه(1).
وعلى هذه القاعدة بنَى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتهم، فكانوا أشد احتياطاً في إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده ما دام مبنياً على تأويل نص شرعي، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولاحظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الإباضي الكبير محبوب بن الرحيل على هارون بن اليمان الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجه إحداهما إلى إباضية عمان وثانيهما إلى إباضية حضرموت وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون(2).
2- العقل والنقل: آمنت الإباضية بأن الطريق العقلي يعضد الطريق الشرعي وإن كان الشرع هو الأصل الذي يعول عليه، وبناء على ذلك نبذوا التقليد وراءهم ظهرياً، فالإمام الجيطالي عندما يتحدث عن التوحيد يقول: الله قديم لم يزل ولا يزال ولا يجوز ذلك في غيره، وتقول: عالم لا يجهل وقدير لا يعجز وكذلك جميع الصفات على هذا الحال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثِلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(الشورى: 11) و ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾(مريم:65)، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾(الإخلاص: 4) فثبت بدليل الشرع وشاهد العقل أن الله لا يشبهه شيء من الأشياء في اسم ولا صفة، ولا ذات، ولا فعل(3).
لقد التقت الإباضية مع الماتريدية، في نظرتها إلى العقل المنضبط بضوابط الشرع، في حين أن المنزع العقلي عند المعتزلة قد جاوز حده انطلاقاً من الأصول الخمسة التي انطلقوا منها في تأسيسهم للمذهب، لدرجة أن الزمخشري - وهو من هو في مجال التفسير - قد ذهب شططاً في تفسيراته نظراً لاعتماده على هذه الأصول كمنطلقات في التفسير4. وفي هذا الصدد يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة بقوله: طرائق العلم ثلاثة: أحدها: العلم المحض كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين. وثانيها: الوجدان وهو ما يجده الإنسان في نفسه، وعبَّر عنه بعضهم بالحس الباطن كإدراكنا الجوع والشبع والألم والراحة والحب والبغض، وإنما كان هذا قسماً برأسه؛ لأنه لا يتوقف على غيره من الطرق فالعقل وغيره فيه سواء. وثالثها: الحس الظاهر وهو خمسة أشياء: أحدها: السمع وهو يدرك الأصوات، وثانيها: البصر وهو يدرك الألوان، وثالثها: الشم وهو يدرك الروائح الطيبة والنتنة، ورابعها: الذوق وهو يدرك الحلاوة والمرارة والحموضة ونحوها، وخامسها: اللمس وهو يدرك الخشونة والليونة واليبوسة والرطوبة واللزوجة. وزاد بعضهم طريقاً رابعاً هي التجربة وجعلها مركبة من الحس والعقل بأن شاهد الحس ذلك مرة بعد أخرى فقضى العقل به، قلنا: وهو داخل تحت العقل ولا عبرة بسببه وزاد ذلك البعض أيضاً طريقاً خامسة وهو النقل قلنا: وهو داخل تحت السمع أيضاً(5).
وعلى هذا النهج ينقد السالمي المعتزلة فيما ذهبت إليه بقوله: إن الأئمة اختلفوا في الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فذهب المعتزلة إلى أن العقل هو الموجب لذلك والشرع إما مبين لما خفي على العقل إدراكه، وإما مؤكد لما ظهر للعقل علمه فتراهم يجعلون العقل قاضياً على الشرع، أي لا يرد الشرع بما يخالف العقل عندهم فترتب على ذلك وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله تعالى وهو مذهب باطل قائله منافق ولا مشرك لأنه لا ينكر الشرع أصلاً(6).
3- التأويل: ذهبت الإباضية إلى التأويل في مجال قضايا الصفات وهي في هذا لم تكن بدعاً من الأمر، فلقد ذهب إلى التأويل العديد من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرية والماتريدية، ومن هنا فإن الإباضية تلجأ إلى التأويل في حدود ما تسمح به اللغة وفي ضوء المعايير المعتبرة، ففي تفسير القرآن يحمل المتشابه على المحكم فيؤول المتشابه على ضوء ما يدل عليه المحكم، فإن لم تكن عند المؤمن الطاقة العقلية فالتأويل أسلم، فهو يفسر القرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾(النساء:82)(7) وهذا ما أكد عليه الإمام المحروقي بقوله: فاحذر أن تغتر بقول الملحدين بلفظ ظاهر الآيات بغير معرفة حقيقة اللغة فيها، واعلم أن معنى قول الله -تعالى-: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾(آل عمران:28) يريد عقوبته؛ لأنه ليس له نفس كنفوس المخلوقات. لهذا لم ينكر الإباضية التأويل، وإنما حرصوا على عدم التوسع في التأويل، واستخدموه بحذر فيما تدعو الحاجة إليه؛ إدراكاً منهم لمغبة التوسع فيه ومن ثم تلتقي الإباضية مع الماتريدية والأشاعرة في هذا الجانب(8).
4- نقد قياس الغائب على الشاهد: هذا الدليل من الأدلة التي شغلت علماء الكلام، وهو أيضاً من الأدلة التي وجه إليها سهام النقد بعنف وضراوة في تاريخ علم الكلام، ولقد عرض له معظم المدارس الكلامية وهو في أصله مفهوم أصولي فقهي وظفه الأئمة المجتهدون واشتغلوا به، ويعرف الأصوليون القياس بأنه «إسناد حكم الفرع إلى الأصل للتساوي في علة الحكم»(9)، ولكن الخطورة أن علماء الكلام أخذوا القياس بمعناه الأصولي وطبقوه على مجال الصفات والإلهيات في علم الكلام ونشأ ما نشأ من مشكلات جرت العديد من الانتقادات لمسلكهم هذا، وفي هذا الصدد ذهب حسن الشافعي يقول: القياس الفقهي قد يكون مشروعاً ومبرراً تماماً ما دام الأصل والفرع مشتركين في العلة، أي في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم، ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما من خلال ما يعرف بمسالك العلة، أما بالنسبة للمسائل الإلهية، فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصفٍ ما أو في حكمٍ يترتب على ذلك؟!!
وهل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية على ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟!! تلك هي أزمة القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من أصول الفقه، وغاب عنهم أن كل منهج يجب أن يتناسب مع الموضوع الذي يطبق فيه، وشتان بين بحث موضوعه الوقائع المادية أو أفعال المكلفين، وآخر موضوعه ذات الله الذي ليس كمثله شيء(10).
وفي هذا الإطار يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة ويوجه انتقاداته لهذا المسلك فيقول:
لو أنـه مشـابــه فـي ذاته جاز عليــه وصف مخلوقاته
إذ كل شبهين بوجه لزمــا في الكل ما لذلك الوجه انتمى
ويعلق: هذا البرهان نفي الأشباه عنه -تعالى- المصرح به في قوله: ليس له شبه ولا نظير، وصورة البرهان لو أن للمولى -عز وعلا- مشابهاً في ذاته لجاز عليه جميع ما يجوز على مشابهه، وبيان أنه متى كان الشبه متصفاً بصفة وشابهه فيها غيره اتصف ذلك الغير بما يلازم تلك الصفة مثال ذلك قول المجسمة: إنه تعالى جسم لا كالأجسام، وجوابهم: أنه إذا كان جسماً يجب أن يتصف بالصفات الجسمانية من طول وعرض وعمق ونحو ذلك، ومتى ما جاز عليه هذه الصفات وجب أن يكون محاطاً به محتاجاً لغيره من المكان ونحوه؛ لأن الأجسام مفتقرة إلى المحل، وهذا معنى قول الناظم جاز عليه وصف مخلوقاته، ولما كان التالي نظرياً استدل على ثبوته بقوله: إذا كل شبيهين بوجه...إلخ، ومعناه أن المتشابهين إذا تشابها في وجه من وجوه الشبه وجه أن يتصف كل منها بالصفات الملازمة لذلك الوجه؛ لأنه هو العلة في الاتصاف بها فوجودها في بعض المتشابهين دون الآخر تحكم(11).
وبهذا كانت الإباضية متنبهة لخطورة قياس الغائب على الشاهد الذي كانت له نتائج غير موضوعية عند علماء الكلام، فالمعتزلة أخطئوا في قياس الله على الإنسان، فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية. فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح، أو على الأقل ليس بلازم فلسنا نعلم من الله ما يمكننا من هذا الحكم، ولو كانت له غاية كما يقولون، فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغاية التي تخضع لها عقولنا ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟!!(12).
جمال رجب سيدبي*
أولاً: إشكالية المنهج عند الإباضية
لا ريب أن إشكالية المنهج من أخطر الأمور في البحث العلمي، ولدراسة مذهب أو فرقة من الفرق يتعين علينا التقاط مثل هذه القواعد المنهجية التي تساعدنا في تفهم آرائها.
ومن هنا تبدو أهمية أهم معالم التفكير عند الإباضية وأهم خصائص هذا النهج، سيما - كما قلت آنفاً – مع وجود العديد من الدراسات التي ما زالت في حاجة إلى المزيد من الدرس والبحث والتمحيص، إذا ما قورن الأمر بالدراسات التي دارت حول المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم من الفرق الكلامية، ومن ثم فإننا نحاول معالجة هذه الإشكالية من خلال وقوفنا على تراث هذا المذهب الفقهي والعقدي حتى نستطيع الولوج إلى ما نصبو إليه.
1- المرونة والتسامح: من أهم القواعد المنهجية التي تنشدها الإباضية، قاعدة المرونة والتسامح، وأعتقد أنها من أهم القواعد التي توصل إلى اليقين، فالإباضية ترى وجوب المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة، وإن بلغ الخلاف بينهم وبين غيرهم ما بلغ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج مخالفهم من الملة، وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل، أما من استند إلى التأويل ـ وإن كان أوهى من نسيج العنكبوت ـ فحسبه تأويله واقياً له من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة، وخلع ربقة الملة من عنقه(1).
وعلى هذه القاعدة بنَى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتهم، فكانوا أشد احتياطاً في إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده ما دام مبنياً على تأويل نص شرعي، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولاحظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الإباضي الكبير محبوب بن الرحيل على هارون بن اليمان الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجه إحداهما إلى إباضية عمان وثانيهما إلى إباضية حضرموت وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون(2).
2- العقل والنقل: آمنت الإباضية بأن الطريق العقلي يعضد الطريق الشرعي وإن كان الشرع هو الأصل الذي يعول عليه، وبناء على ذلك نبذوا التقليد وراءهم ظهرياً، فالإمام الجيطالي عندما يتحدث عن التوحيد يقول: الله قديم لم يزل ولا يزال ولا يجوز ذلك في غيره، وتقول: عالم لا يجهل وقدير لا يعجز وكذلك جميع الصفات على هذا الحال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثِلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(الشورى: 11) و ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾(مريم:65)، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾(الإخلاص: 4) فثبت بدليل الشرع وشاهد العقل أن الله لا يشبهه شيء من الأشياء في اسم ولا صفة، ولا ذات، ولا فعل(3).
لقد التقت الإباضية مع الماتريدية، في نظرتها إلى العقل المنضبط بضوابط الشرع، في حين أن المنزع العقلي عند المعتزلة قد جاوز حده انطلاقاً من الأصول الخمسة التي انطلقوا منها في تأسيسهم للمذهب، لدرجة أن الزمخشري - وهو من هو في مجال التفسير - قد ذهب شططاً في تفسيراته نظراً لاعتماده على هذه الأصول كمنطلقات في التفسير4. وفي هذا الصدد يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة بقوله: طرائق العلم ثلاثة: أحدها: العلم المحض كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين. وثانيها: الوجدان وهو ما يجده الإنسان في نفسه، وعبَّر عنه بعضهم بالحس الباطن كإدراكنا الجوع والشبع والألم والراحة والحب والبغض، وإنما كان هذا قسماً برأسه؛ لأنه لا يتوقف على غيره من الطرق فالعقل وغيره فيه سواء. وثالثها: الحس الظاهر وهو خمسة أشياء: أحدها: السمع وهو يدرك الأصوات، وثانيها: البصر وهو يدرك الألوان، وثالثها: الشم وهو يدرك الروائح الطيبة والنتنة، ورابعها: الذوق وهو يدرك الحلاوة والمرارة والحموضة ونحوها، وخامسها: اللمس وهو يدرك الخشونة والليونة واليبوسة والرطوبة واللزوجة. وزاد بعضهم طريقاً رابعاً هي التجربة وجعلها مركبة من الحس والعقل بأن شاهد الحس ذلك مرة بعد أخرى فقضى العقل به، قلنا: وهو داخل تحت العقل ولا عبرة بسببه وزاد ذلك البعض أيضاً طريقاً خامسة وهو النقل قلنا: وهو داخل تحت السمع أيضاً(5).
وعلى هذا النهج ينقد السالمي المعتزلة فيما ذهبت إليه بقوله: إن الأئمة اختلفوا في الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فذهب المعتزلة إلى أن العقل هو الموجب لذلك والشرع إما مبين لما خفي على العقل إدراكه، وإما مؤكد لما ظهر للعقل علمه فتراهم يجعلون العقل قاضياً على الشرع، أي لا يرد الشرع بما يخالف العقل عندهم فترتب على ذلك وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله تعالى وهو مذهب باطل قائله منافق ولا مشرك لأنه لا ينكر الشرع أصلاً(6).
3- التأويل: ذهبت الإباضية إلى التأويل في مجال قضايا الصفات وهي في هذا لم تكن بدعاً من الأمر، فلقد ذهب إلى التأويل العديد من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرية والماتريدية، ومن هنا فإن الإباضية تلجأ إلى التأويل في حدود ما تسمح به اللغة وفي ضوء المعايير المعتبرة، ففي تفسير القرآن يحمل المتشابه على المحكم فيؤول المتشابه على ضوء ما يدل عليه المحكم، فإن لم تكن عند المؤمن الطاقة العقلية فالتأويل أسلم، فهو يفسر القرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾(النساء:82)(7) وهذا ما أكد عليه الإمام المحروقي بقوله: فاحذر أن تغتر بقول الملحدين بلفظ ظاهر الآيات بغير معرفة حقيقة اللغة فيها، واعلم أن معنى قول الله -تعالى-: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾(آل عمران:28) يريد عقوبته؛ لأنه ليس له نفس كنفوس المخلوقات. لهذا لم ينكر الإباضية التأويل، وإنما حرصوا على عدم التوسع في التأويل، واستخدموه بحذر فيما تدعو الحاجة إليه؛ إدراكاً منهم لمغبة التوسع فيه ومن ثم تلتقي الإباضية مع الماتريدية والأشاعرة في هذا الجانب(8).
4- نقد قياس الغائب على الشاهد: هذا الدليل من الأدلة التي شغلت علماء الكلام، وهو أيضاً من الأدلة التي وجه إليها سهام النقد بعنف وضراوة في تاريخ علم الكلام، ولقد عرض له معظم المدارس الكلامية وهو في أصله مفهوم أصولي فقهي وظفه الأئمة المجتهدون واشتغلوا به، ويعرف الأصوليون القياس بأنه «إسناد حكم الفرع إلى الأصل للتساوي في علة الحكم»(9)، ولكن الخطورة أن علماء الكلام أخذوا القياس بمعناه الأصولي وطبقوه على مجال الصفات والإلهيات في علم الكلام ونشأ ما نشأ من مشكلات جرت العديد من الانتقادات لمسلكهم هذا، وفي هذا الصدد ذهب حسن الشافعي يقول: القياس الفقهي قد يكون مشروعاً ومبرراً تماماً ما دام الأصل والفرع مشتركين في العلة، أي في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم، ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما من خلال ما يعرف بمسالك العلة، أما بالنسبة للمسائل الإلهية، فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصفٍ ما أو في حكمٍ يترتب على ذلك؟!!
وهل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية على ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟!! تلك هي أزمة القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من أصول الفقه، وغاب عنهم أن كل منهج يجب أن يتناسب مع الموضوع الذي يطبق فيه، وشتان بين بحث موضوعه الوقائع المادية أو أفعال المكلفين، وآخر موضوعه ذات الله الذي ليس كمثله شيء(10).
وفي هذا الإطار يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة ويوجه انتقاداته لهذا المسلك فيقول:
لو أنـه مشـابــه فـي ذاته جاز عليــه وصف مخلوقاته
إذ كل شبهين بوجه لزمــا في الكل ما لذلك الوجه انتمى
ويعلق: هذا البرهان نفي الأشباه عنه -تعالى- المصرح به في قوله: ليس له شبه ولا نظير، وصورة البرهان لو أن للمولى -عز وعلا- مشابهاً في ذاته لجاز عليه جميع ما يجوز على مشابهه، وبيان أنه متى كان الشبه متصفاً بصفة وشابهه فيها غيره اتصف ذلك الغير بما يلازم تلك الصفة مثال ذلك قول المجسمة: إنه تعالى جسم لا كالأجسام، وجوابهم: أنه إذا كان جسماً يجب أن يتصف بالصفات الجسمانية من طول وعرض وعمق ونحو ذلك، ومتى ما جاز عليه هذه الصفات وجب أن يكون محاطاً به محتاجاً لغيره من المكان ونحوه؛ لأن الأجسام مفتقرة إلى المحل، وهذا معنى قول الناظم جاز عليه وصف مخلوقاته، ولما كان التالي نظرياً استدل على ثبوته بقوله: إذا كل شبيهين بوجه...إلخ، ومعناه أن المتشابهين إذا تشابها في وجه من وجوه الشبه وجه أن يتصف كل منها بالصفات الملازمة لذلك الوجه؛ لأنه هو العلة في الاتصاف بها فوجودها في بعض المتشابهين دون الآخر تحكم(11).
وبهذا كانت الإباضية متنبهة لخطورة قياس الغائب على الشاهد الذي كانت له نتائج غير موضوعية عند علماء الكلام، فالمعتزلة أخطئوا في قياس الله على الإنسان، فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية. فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح، أو على الأقل ليس بلازم فلسنا نعلم من الله ما يمكننا من هذا الحكم، ولو كانت له غاية كما يقولون، فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغاية التي تخضع لها عقولنا ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟!!(12).
تعليق