إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

منهج الاباضيه في معالجة مشكلة الذات والصفات لباحث مصري

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منهج الاباضيه في معالجة مشكلة الذات والصفات لباحث مصري

    منهج الإباضية في معالجة مشكلة الذات والصفات


    جمال رجب سيدبي*

    أولاً: إشكالية المنهج عند الإباضية

    لا ريب أن إشكالية المنهج من أخطر الأمور في البحث العلمي، ولدراسة مذهب أو فرقة من الفرق يتعين علينا التقاط مثل هذه القواعد المنهجية التي تساعدنا في تفهم آرائها.

    ومن هنا تبدو أهمية أهم معالم التفكير عند الإباضية وأهم خصائص هذا النهج، سيما - كما قلت آنفاً – مع وجود العديد من الدراسات التي ما زالت في حاجة إلى المزيد من الدرس والبحث والتمحيص، إذا ما قورن الأمر بالدراسات التي دارت حول المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم من الفرق الكلامية، ومن ثم فإننا نحاول معالجة هذه الإشكالية من خلال وقوفنا على تراث هذا المذهب الفقهي والعقدي حتى نستطيع الولوج إلى ما نصبو إليه.

    1- المرونة والتسامح: من أهم القواعد المنهجية التي تنشدها الإباضية، قاعدة المرونة والتسامح، وأعتقد أنها من أهم القواعد التي توصل إلى اليقين، فالإباضية ترى وجوب المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة، وإن بلغ الخلاف بينهم وبين غيرهم ما بلغ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج مخالفهم من الملة، وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل، أما من استند إلى التأويل ـ وإن كان أوهى من نسيج العنكبوت ـ فحسبه تأويله واقياً له من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة، وخلع ربقة الملة من عنقه(1).

    وعلى هذه القاعدة بنَى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتهم، فكانوا أشد احتياطاً في إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده ما دام مبنياً على تأويل نص شرعي، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولاحظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الإباضي الكبير محبوب بن الرحيل على هارون بن اليمان الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجه إحداهما إلى إباضية عمان وثانيهما إلى إباضية حضرموت وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون(2).

    2- العقل والنقل:
    آمنت الإباضية بأن الطريق العقلي يعضد الطريق الشرعي وإن كان الشرع هو الأصل الذي يعول عليه، وبناء على ذلك نبذوا التقليد وراءهم ظهرياً، فالإمام الجيطالي عندما يتحدث عن التوحيد يقول: الله قديم لم يزل ولا يزال ولا يجوز ذلك في غيره، وتقول: عالم لا يجهل وقدير لا يعجز وكذلك جميع الصفات على هذا الحال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثِلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(الشورى: 11) و ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾(مريم:65)، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾(الإخلاص: 4) فثبت بدليل الشرع وشاهد العقل أن الله لا يشبهه شيء من الأشياء في اسم ولا صفة، ولا ذات، ولا فعل(3).

    لقد التقت الإباضية مع الماتريدية، في نظرتها إلى العقل المنضبط بضوابط الشرع، في حين أن المنزع العقلي عند المعتزلة قد جاوز حده انطلاقاً من الأصول الخمسة التي انطلقوا منها في تأسيسهم للمذهب، لدرجة أن الزمخشري - وهو من هو في مجال التفسير - قد ذهب شططاً في تفسيراته نظراً لاعتماده على هذه الأصول كمنطلقات في التفسير4. وفي هذا الصدد يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة بقوله: طرائق العلم ثلاثة: أحدها: العلم المحض كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين. وثانيها: الوجدان وهو ما يجده الإنسان في نفسه، وعبَّر عنه بعضهم بالحس الباطن كإدراكنا الجوع والشبع والألم والراحة والحب والبغض، وإنما كان هذا قسماً برأسه؛ لأنه لا يتوقف على غيره من الطرق فالعقل وغيره فيه سواء. وثالثها: الحس الظاهر وهو خمسة أشياء: أحدها: السمع وهو يدرك الأصوات، وثانيها: البصر وهو يدرك الألوان، وثالثها: الشم وهو يدرك الروائح الطيبة والنتنة، ورابعها: الذوق وهو يدرك الحلاوة والمرارة والحموضة ونحوها، وخامسها: اللمس وهو يدرك الخشونة والليونة واليبوسة والرطوبة واللزوجة. وزاد بعضهم طريقاً رابعاً هي التجربة وجعلها مركبة من الحس والعقل بأن شاهد الحس ذلك مرة بعد أخرى فقضى العقل به، قلنا: وهو داخل تحت العقل ولا عبرة بسببه وزاد ذلك البعض أيضاً طريقاً خامسة وهو النقل قلنا: وهو داخل تحت السمع أيضاً(5).

    وعلى هذا النهج ينقد السالمي المعتزلة فيما ذهبت إليه بقوله: إن الأئمة اختلفوا في الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فذهب المعتزلة إلى أن العقل هو الموجب لذلك والشرع إما مبين لما خفي على العقل إدراكه، وإما مؤكد لما ظهر للعقل علمه فتراهم يجعلون العقل قاضياً على الشرع، أي لا يرد الشرع بما يخالف العقل عندهم فترتب على ذلك وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله تعالى وهو مذهب باطل قائله منافق ولا مشرك لأنه لا ينكر الشرع أصلاً(6).

    3- التأويل: ذهبت الإباضية إلى التأويل في مجال قضايا الصفات وهي في هذا لم تكن بدعاً من الأمر، فلقد ذهب إلى التأويل العديد من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرية والماتريدية، ومن هنا فإن الإباضية تلجأ إلى التأويل في حدود ما تسمح به اللغة وفي ضوء المعايير المعتبرة، ففي تفسير القرآن يحمل المتشابه على المحكم فيؤول المتشابه على ضوء ما يدل عليه المحكم، فإن لم تكن عند المؤمن الطاقة العقلية فالتأويل أسلم، فهو يفسر القرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾(النساء:82)(7) وهذا ما أكد عليه الإمام المحروقي بقوله: فاحذر أن تغتر بقول الملحدين بلفظ ظاهر الآيات بغير معرفة حقيقة اللغة فيها، واعلم أن معنى قول الله -تعالى-: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾(آل عمران:28) يريد عقوبته؛ لأنه ليس له نفس كنفوس المخلوقات. لهذا لم ينكر الإباضية التأويل، وإنما حرصوا على عدم التوسع في التأويل، واستخدموه بحذر فيما تدعو الحاجة إليه؛ إدراكاً منهم لمغبة التوسع فيه ومن ثم تلتقي الإباضية مع الماتريدية والأشاعرة في هذا الجانب(8).

    4- نقد قياس الغائب على الشاهد: هذا الدليل من الأدلة التي شغلت علماء الكلام، وهو أيضاً من الأدلة التي وجه إليها سهام النقد بعنف وضراوة في تاريخ علم الكلام، ولقد عرض له معظم المدارس الكلامية وهو في أصله مفهوم أصولي فقهي وظفه الأئمة المجتهدون واشتغلوا به، ويعرف الأصوليون القياس بأنه «إسناد حكم الفرع إلى الأصل للتساوي في علة الحكم»(9)، ولكن الخطورة أن علماء الكلام أخذوا القياس بمعناه الأصولي وطبقوه على مجال الصفات والإلهيات في علم الكلام ونشأ ما نشأ من مشكلات جرت العديد من الانتقادات لمسلكهم هذا، وفي هذا الصدد ذهب حسن الشافعي يقول: القياس الفقهي قد يكون مشروعاً ومبرراً تماماً ما دام الأصل والفرع مشتركين في العلة، أي في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم، ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما من خلال ما يعرف بمسالك العلة، أما بالنسبة للمسائل الإلهية، فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصفٍ ما أو في حكمٍ يترتب على ذلك؟!!

    وهل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية على ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟!! تلك هي أزمة القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من أصول الفقه، وغاب عنهم أن كل منهج يجب أن يتناسب مع الموضوع الذي يطبق فيه، وشتان بين بحث موضوعه الوقائع المادية أو أفعال المكلفين، وآخر موضوعه ذات الله الذي ليس كمثله شيء(10).

    وفي هذا الإطار يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة ويوجه انتقاداته لهذا المسلك فيقول:

    لو أنـه مشـابــه فـي ذاته جاز عليــه وصف مخلوقاته

    إذ كل شبهين بوجه لزمــا في الكل ما لذلك الوجه انتمى

    ويعلق: هذا البرهان نفي الأشباه عنه -تعالى- المصرح به في قوله: ليس له شبه ولا نظير، وصورة البرهان لو أن للمولى -عز وعلا- مشابهاً في ذاته لجاز عليه جميع ما يجوز على مشابهه، وبيان أنه متى كان الشبه متصفاً بصفة وشابهه فيها غيره اتصف ذلك الغير بما يلازم تلك الصفة مثال ذلك قول المجسمة: إنه تعالى جسم لا كالأجسام، وجوابهم: أنه إذا كان جسماً يجب أن يتصف بالصفات الجسمانية من طول وعرض وعمق ونحو ذلك، ومتى ما جاز عليه هذه الصفات وجب أن يكون محاطاً به محتاجاً لغيره من المكان ونحوه؛ لأن الأجسام مفتقرة إلى المحل، وهذا معنى قول الناظم جاز عليه وصف مخلوقاته، ولما كان التالي نظرياً استدل على ثبوته بقوله: إذا كل شبيهين بوجه...إلخ، ومعناه أن المتشابهين إذا تشابها في وجه من وجوه الشبه وجه أن يتصف كل منها بالصفات الملازمة لذلك الوجه؛ لأنه هو العلة في الاتصاف بها فوجودها في بعض المتشابهين دون الآخر تحكم(11).

    وبهذا كانت الإباضية متنبهة لخطورة قياس الغائب على الشاهد الذي كانت له نتائج غير موضوعية عند علماء الكلام، فالمعتزلة أخطئوا في قياس الله على الإنسان، فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية. فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح، أو على الأقل ليس بلازم فلسنا نعلم من الله ما يمكننا من هذا الحكم، ولو كانت له غاية كما يقولون، فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغاية التي تخضع لها عقولنا ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟!!(12).

  • #2
    منهج الإباضية في معالجة مشكلة الذات والصفات


    جمال رجب سيدبي*

    أولاً: إشكالية المنهج عند الإباضية

    لا ريب أن إشكالية المنهج من أخطر الأمور في البحث العلمي، ولدراسة مذهب أو فرقة من الفرق يتعين علينا التقاط مثل هذه القواعد المنهجية التي تساعدنا في تفهم آرائها.

    ومن هنا تبدو أهمية أهم معالم التفكير عند الإباضية وأهم خصائص هذا النهج، سيما - كما قلت آنفاً – مع وجود العديد من الدراسات التي ما زالت في حاجة إلى المزيد من الدرس والبحث والتمحيص، إذا ما قورن الأمر بالدراسات التي دارت حول المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم من الفرق الكلامية، ومن ثم فإننا نحاول معالجة هذه الإشكالية من خلال وقوفنا على تراث هذا المذهب الفقهي والعقدي حتى نستطيع الولوج إلى ما نصبو إليه.

    1- المرونة والتسامح: من أهم القواعد المنهجية التي تنشدها الإباضية، قاعدة المرونة والتسامح، وأعتقد أنها من أهم القواعد التي توصل إلى اليقين، فالإباضية ترى وجوب المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة، وإن بلغ الخلاف بينهم وبين غيرهم ما بلغ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج مخالفهم من الملة، وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل، أما من استند إلى التأويل ـ وإن كان أوهى من نسيج العنكبوت ـ فحسبه تأويله واقياً له من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة، وخلع ربقة الملة من عنقه(1).

    وعلى هذه القاعدة بنَى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتهم، فكانوا أشد احتياطاً في إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده ما دام مبنياً على تأويل نص شرعي، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولاحظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الإباضي الكبير محبوب بن الرحيل على هارون بن اليمان الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجه إحداهما إلى إباضية عمان وثانيهما إلى إباضية حضرموت وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون(2).

    2- العقل والنقل:
    آمنت الإباضية بأن الطريق العقلي يعضد الطريق الشرعي وإن كان الشرع هو الأصل الذي يعول عليه، وبناء على ذلك نبذوا التقليد وراءهم ظهرياً، فالإمام الجيطالي عندما يتحدث عن التوحيد يقول: الله قديم لم يزل ولا يزال ولا يجوز ذلك في غيره، وتقول: عالم لا يجهل وقدير لا يعجز وكذلك جميع الصفات على هذا الحال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثِلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾(الشورى: 11) و ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾(مريم:65)، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾(الإخلاص: 4) فثبت بدليل الشرع وشاهد العقل أن الله لا يشبهه شيء من الأشياء في اسم ولا صفة، ولا ذات، ولا فعل(3).

    لقد التقت الإباضية مع الماتريدية، في نظرتها إلى العقل المنضبط بضوابط الشرع، في حين أن المنزع العقلي عند المعتزلة قد جاوز حده انطلاقاً من الأصول الخمسة التي انطلقوا منها في تأسيسهم للمذهب، لدرجة أن الزمخشري - وهو من هو في مجال التفسير - قد ذهب شططاً في تفسيراته نظراً لاعتماده على هذه الأصول كمنطلقات في التفسير4. وفي هذا الصدد يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة بقوله: طرائق العلم ثلاثة: أحدها: العلم المحض كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين. وثانيها: الوجدان وهو ما يجده الإنسان في نفسه، وعبَّر عنه بعضهم بالحس الباطن كإدراكنا الجوع والشبع والألم والراحة والحب والبغض، وإنما كان هذا قسماً برأسه؛ لأنه لا يتوقف على غيره من الطرق فالعقل وغيره فيه سواء. وثالثها: الحس الظاهر وهو خمسة أشياء: أحدها: السمع وهو يدرك الأصوات، وثانيها: البصر وهو يدرك الألوان، وثالثها: الشم وهو يدرك الروائح الطيبة والنتنة، ورابعها: الذوق وهو يدرك الحلاوة والمرارة والحموضة ونحوها، وخامسها: اللمس وهو يدرك الخشونة والليونة واليبوسة والرطوبة واللزوجة. وزاد بعضهم طريقاً رابعاً هي التجربة وجعلها مركبة من الحس والعقل بأن شاهد الحس ذلك مرة بعد أخرى فقضى العقل به، قلنا: وهو داخل تحت العقل ولا عبرة بسببه وزاد ذلك البعض أيضاً طريقاً خامسة وهو النقل قلنا: وهو داخل تحت السمع أيضاً(5).

    وعلى هذا النهج ينقد السالمي المعتزلة فيما ذهبت إليه بقوله: إن الأئمة اختلفوا في الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فذهب المعتزلة إلى أن العقل هو الموجب لذلك والشرع إما مبين لما خفي على العقل إدراكه، وإما مؤكد لما ظهر للعقل علمه فتراهم يجعلون العقل قاضياً على الشرع، أي لا يرد الشرع بما يخالف العقل عندهم فترتب على ذلك وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله تعالى وهو مذهب باطل قائله منافق ولا مشرك لأنه لا ينكر الشرع أصلاً(6).

    3- التأويل: ذهبت الإباضية إلى التأويل في مجال قضايا الصفات وهي في هذا لم تكن بدعاً من الأمر، فلقد ذهب إلى التأويل العديد من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرية والماتريدية، ومن هنا فإن الإباضية تلجأ إلى التأويل في حدود ما تسمح به اللغة وفي ضوء المعايير المعتبرة، ففي تفسير القرآن يحمل المتشابه على المحكم فيؤول المتشابه على ضوء ما يدل عليه المحكم، فإن لم تكن عند المؤمن الطاقة العقلية فالتأويل أسلم، فهو يفسر القرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾(النساء:82)(7) وهذا ما أكد عليه الإمام المحروقي بقوله: فاحذر أن تغتر بقول الملحدين بلفظ ظاهر الآيات بغير معرفة حقيقة اللغة فيها، واعلم أن معنى قول الله -تعالى-: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾(آل عمران:28) يريد عقوبته؛ لأنه ليس له نفس كنفوس المخلوقات. لهذا لم ينكر الإباضية التأويل، وإنما حرصوا على عدم التوسع في التأويل، واستخدموه بحذر فيما تدعو الحاجة إليه؛ إدراكاً منهم لمغبة التوسع فيه ومن ثم تلتقي الإباضية مع الماتريدية والأشاعرة في هذا الجانب(8).

    4- نقد قياس الغائب على الشاهد: هذا الدليل من الأدلة التي شغلت علماء الكلام، وهو أيضاً من الأدلة التي وجه إليها سهام النقد بعنف وضراوة في تاريخ علم الكلام، ولقد عرض له معظم المدارس الكلامية وهو في أصله مفهوم أصولي فقهي وظفه الأئمة المجتهدون واشتغلوا به، ويعرف الأصوليون القياس بأنه «إسناد حكم الفرع إلى الأصل للتساوي في علة الحكم»(9)، ولكن الخطورة أن علماء الكلام أخذوا القياس بمعناه الأصولي وطبقوه على مجال الصفات والإلهيات في علم الكلام ونشأ ما نشأ من مشكلات جرت العديد من الانتقادات لمسلكهم هذا، وفي هذا الصدد ذهب حسن الشافعي يقول: القياس الفقهي قد يكون مشروعاً ومبرراً تماماً ما دام الأصل والفرع مشتركين في العلة، أي في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم، ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما من خلال ما يعرف بمسالك العلة، أما بالنسبة للمسائل الإلهية، فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصفٍ ما أو في حكمٍ يترتب على ذلك؟!!

    وهل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية على ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟!! تلك هي أزمة القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من أصول الفقه، وغاب عنهم أن كل منهج يجب أن يتناسب مع الموضوع الذي يطبق فيه، وشتان بين بحث موضوعه الوقائع المادية أو أفعال المكلفين، وآخر موضوعه ذات الله الذي ليس كمثله شيء(10).

    وفي هذا الإطار يؤكد الإمام نور الدين السالمي على هذه الحقيقة ويوجه انتقاداته لهذا المسلك فيقول:

    لو أنـه مشـابــه فـي ذاته جاز عليــه وصف مخلوقاته

    إذ كل شبهين بوجه لزمــا في الكل ما لذلك الوجه انتمى

    ويعلق: هذا البرهان نفي الأشباه عنه -تعالى- المصرح به في قوله: ليس له شبه ولا نظير، وصورة البرهان لو أن للمولى -عز وعلا- مشابهاً في ذاته لجاز عليه جميع ما يجوز على مشابهه، وبيان أنه متى كان الشبه متصفاً بصفة وشابهه فيها غيره اتصف ذلك الغير بما يلازم تلك الصفة مثال ذلك قول المجسمة: إنه تعالى جسم لا كالأجسام، وجوابهم: أنه إذا كان جسماً يجب أن يتصف بالصفات الجسمانية من طول وعرض وعمق ونحو ذلك، ومتى ما جاز عليه هذه الصفات وجب أن يكون محاطاً به محتاجاً لغيره من المكان ونحوه؛ لأن الأجسام مفتقرة إلى المحل، وهذا معنى قول الناظم جاز عليه وصف مخلوقاته، ولما كان التالي نظرياً استدل على ثبوته بقوله: إذا كل شبيهين بوجه...إلخ، ومعناه أن المتشابهين إذا تشابها في وجه من وجوه الشبه وجه أن يتصف كل منها بالصفات الملازمة لذلك الوجه؛ لأنه هو العلة في الاتصاف بها فوجودها في بعض المتشابهين دون الآخر تحكم(11).

    وبهذا كانت الإباضية متنبهة لخطورة قياس الغائب على الشاهد الذي كانت له نتائج غير موضوعية عند علماء الكلام، فالمعتزلة أخطئوا في قياس الله على الإنسان، فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية. فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح، أو على الأقل ليس بلازم فلسنا نعلم من الله ما يمكننا من هذا الحكم، ولو كانت له غاية كما يقولون، فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغاية التي تخضع لها عقولنا ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟!!(12).
    أعتقد أننا لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن النقد والتمحيص في قبول الرأي بدا واضحاً أنه من أخص خصائص هذه المدرسة.

    ثانيا: أولى الإباضية عناية خاصة بقضية التوحيد، فهم مولعون بإثباتها، وتنزيهه تعالى عن مشابهة الحوادث.

    ويعرِّف الشيخ نور الدين السالمي التوحيد اصطلاحاً: بأنه بمعنى الفن المدون، وهو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية مكتسبة من أدلتها اليقينية.

    وشرعاً: إفراد المعبود بالعبادة بمعنى وحدته والتصديق بها ذاتاً وصفات وأفعالاً، فليس هناك ذات تشبه ذاته تعالى ولا تقبل ذاته الانقسام لا فعلاً ولا وهماً ولا فرضاً، ولا تشبه صفاته الصفات، ولا يدخل أفعاله الإشراك فإن الفعل له سبحانه خلقاً وإن ينسب إلى غيره كسباً.وقيل:هو إثبات ذاتٍ غير مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات(15).

    وهناك تعريف آخر يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً: أما التوحيد فمعناه إفراد الرب سبحانه عن الخلق وجميع معانيهم، فحقيقة المعرفة به سبحانه أن نعلم أن الأشياء لا تشبهه ولا يشبهها في جميع الجهات، في فعل ولا اسم ولا صفة ولا ذات؛ لأنه لو أشبه شيئاً من الأشياء ولو في أقل القليل لدخل عليه العجز من تلك الصفة، فلهذا أوجب على المكلف أن يعرف حقيقة الوحدانية ويصفه بما يليق به من الصفات(16).

    ومن ثم فإن الإباضية تذهب إلى أن معرفة الله فرض واجب على كل عاقل بالغ من الآدميين لا عذر له ولو كان في قيعان البحور، أو كان في الفيافي البعيدة أو القفار المنقطعة، والدليل على ذلك واضح، والبرهان- بحمد الله- بيّن نيّر لائح من طريق الشرع ومن طريق العقل. أما من طريق الشرع فأصل التوحيد الذي عليه الاعتماد، هو أن تعرف الله أنه واحد ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ فإذا عرفت بهذه الصفة فقد عرفته وهذا بيان رأس التوحيد... وأما طريق العقل فلا يخص ذلك إلا من رزقه الله تعالى عقلاً متميزاًً يتفكر به فيما خلق الله مما يعجز الوصف عن صفته(17).

    (أ‌) دليل الخلق

    تستدل الإباضية بدليل الخلق أو المخلوقات على الخالق، وهو دليل يجمع بين النظر القرآني والمنطق العقلي، فيقول الشيخ المحروقي: انظر: بعين عقلك إلى آيات القرآن الكريم.. انظر: في جواب إبراهيم -عليه السلام- حيث قال فيما حكى الله عنه (ربي الذي يحيى ويميت) لم يصفه إلا بأفعاله من إحياء الموتى، وإماتة الأحياء، ولم يصفه بطول ولا بعرض، ولا صغر ولا كبر ولا في جهة فوقية ولا تحتية ولا غير ذلك من الصفات(18).

    ومن ذلك خلق جميع الجبال الرواسي التي أرسى بها الأرض أن تميد بمن فيها لتستقر وبما خلق في هذه الجبال الرواسي من العيون الجارية، والأشجار المختلفة الألوان والطعوم، فهل يقدر على ذلك أحد غيره؟!! أما في ذلك دليل على قدرته ووحدانيته لمن له عقل؟!!(19).

    وهناك دليل من الأدلة التي راقت لكثير من المتكلمين فوجدناه لدى المعتزلة والأشاعرة والماتريدية على سواء(20)، وينبني هذا الدليل على ما جاء في كتاب الله مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء ويبرهن الإمام نور الدين السالمي على هذا بقوله:

    لو أنه في ملكه مشارك كان فاسداً ذلك المشارك

    ويعلق على شعره: هذا برهان نفي المشاركة عنه تعالى في ملكه أي مطلق التصرف من غير اعتراض عليه... ولو أن له تعالى شريكا في ملكه للزم فساد ذلك الملك، وهذا البرهان هو الذي صح به الكتاب العزيز ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء ويوضح حقيقة هذا البرهان بصورة جلية أكثر: أنه لو كان مالكان لزم أن يريد كل منهما خلاف ما يريده الآخر، فيتنازعا في الأمر فيفسد الملك، ومحال أن تتفق إرادتهما في جميع الأشياء؛ إذ لو اتفقت إرادتها في جميع الأشياء لزم أن تكون تلك الإرادة إرادة واحدة لا إرادتين، ومحال أن تقوم صفة واحدة في موصوفين(21).

    ويضرب عالمنا لذلك بمثال لتقريب المعنى بقوله: إنا نجد زيداً و عمراً مثلاً متصفين بالإرادة المتفقة والعلم المتفق في المعلوم فلا يلزم من اتفاق صفتيهما كونهما صفة واحدة لأن تقول: إن إرادة كل واحد من زيد وعمر مثلاً غير إرادة الآخر وإن وافقهما في المراد، وكذلك العلم بيان المغايرة أنهما لا يتفقان في المراد اتفاقاً تاماً، بل قد تكون إحدى الإدارتين أقوى من الأخرى وقد تقدم عليها في الوقت فتتبع الأخرى لاتحاد الغرض وإرادة التحكيم غير معللة بالأغراض(22).

    وينتج عن ذلك أن التساوي بين الإرادتين محال عقلاً، وأما التفاوت فجائز لكن يلزم عليه أن يكون المسبوق والتابع هو المقهور العاجز، فيكون الملك واحداً وهو الأول(23).

    ثالثاً: مشكلة الصفات الإلهية

    اهتمت الإباضية بمشكلة الصفات الإلهية أيما اهتمام وهي تقسم الصفات الإلهية إلى ثلاثة أنواع:

    1- الصفات الواجبة له - تعالى- فهي: الوجود والقدم والبقاء والحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر.

    2- الصفات المستحيلة عليه - تعالى-: فهي أضداد ما ذكرنا كالحدوث والعدم والفناء والموت والجهل والعجز والإكراه والصمم والعمى ومشابهة الأجسام مطلقاً.

    3- الصفات الجائزة له - تعالى- فهي: صفاته الفعلية لجواز أن يفعلها فيوصف بها وألا يفعلها فلا يوصف.

    ويوضح الشيخ الخليلي هذه الحقيقة بصورة أكثر وضوحاً بأن الصفات الذاتية هي التي لا يمكن أن تجامع ضدها في الوجود والصفات الفعلية يمكن أن تجامع ضدها في الوجود مع اختلاف المحل أو اختلاف الزمان، فالصفات الذاتية: القدم، والبقاء، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، اعتبار نفي الخرس عن الله سبحانه وتعالى هذه صفة ذاتية لا يتصور ضدها، فلا يتصور أن يكون الله حادثاً ولا أن يكون فانياً ولا أن يكون جاهلاً، ولا أن يكون ميتاً، ولا أن يكون أعمى، ولا أن يكون عاجزاً، ولا أن يكون أصم، ولا أن يكون أخرس فهذه الصفات لا يمكن أن تجامع أضدادها في الوجود، لا يمكن أن يوصف الله -سبحانه وتعالى- بالحياة والموت، ولا بالقدم والحدوث، ولا بالسمع والصمم، ولا بالبصر والعمى، ولا بالعلم والجهل، ولا بالقوة والعجز، ولا بالقوة والضعف وهذا مستحيل.

    أما الصفات الفعلية: فيمكن أن تجامع أضدادها في الوجود باختلاف المحل أو باختلاف الزمن، يقال: أعطى الله فلاناً ووضع فلاناً، المحل مختلف هذا معطى وهذا ممنوع، أو أعطى الله فلاناً في زمن كذا ومنعه في كذا، وأعطاه علماً ومنعه التوفيق، وأعطاه مالاً ومنعه الصحة. أما أن يقال: علم الله كذا وجهل كذا فليس ذلك بممكن، أو قدر على كذا وعجز عن كذا فهذا غير ممكن، أو أراد كذا وأكره على كذا، أيضاً هذا غير ممكن، وهكذا الشأن مع سائر صفات الذات.

    ويقال أيضاً في التفريق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية بأن الصفات الذاتية هي التي يتصف بها الله في الأزل، فهو - سبحانه وتعالى - متصف دائماً بالصفات الذاتية ويتصف بالصفات الفعلية(24).

    وليس بخافٍ أن الإباضية تلتقي مع الأشاعرة والماتريدية من حيث نظرتها إلى صفات الذات والفعل ولم تختلف مع ما ذهبا إليه في هذا الصدد.

    فالأشعري أثبت الصفات الإلهية - وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر - أزلية قائمة بذات الله. كما نفى عن الله مشابهة المخلوقات، ووصف الصفات بأنها قائمة بالذات على الوجه الذي لا يقال فيه هو أو هي غيره أو بعبارة أخرى ليست عين الذات ولا غير الذات(25).

    ولعل ما انتهت إليه الأشاعرة من أن الصفات أحوال للذات يجعلنا نطرح التساؤلات حول هذا المشكل: هل تنحو الإباضية منحى الأشاعرة أو أنها إلى المعتزلة تميل؟ خاصة أن من المعلوم أن الإباضية كانت حريصة أشد الحرص على معالجة قضية التنزيه للألوهية، وسنعرض لهذا فيما بعد – كموقفها من رؤية الله وغيرها من قضايا كلها تصب تقريباً في قضية التنزيه.

    تذهب الإباضية إلى القول بأن الصفات عين الذات بخلاف ما ذهب إليه الأشاعرة من أن الصفات أحوال للذات فيقول الشيخ نور الدين السالمي:

    صفات لذاته هي ذاته لا غيرها دلت بذلك آياته

    ويؤكد على هذا المعنى بقوله: إن صفاته تعالى الذاتية عين ذاته، أي مدلول صفاته الذاتية العلية ليس غيره -عز و جل- لأنها لو كانت غيره للزم إما أن تكون موجودة قبله، وهو باطل؛ لاستلزامه أن تكون ذاته تعالى قبل وجود تلك الصفات غير متصفة بالكمالات فيلزم اتصافها بالنقص، وإما أن تكون مقارنة له في الوجود، وهو باطل؛ لاستلزامه تعدد القدماء(26).

    ويفند الشيخ نور الدين السالمي كون الصفات غير الذات، فيرى أنه يلزم عن ذلك أن يكون الرب محتاجاً إلى غيره ناقصاً من دونه - تعالى الله عن ذلك - يقول: وما قررناه هو مذهبنا ومذهب المعتزلة والشيعة، وذهبت الأشعرية إلى أن صفات الله تعالى هي معانٍ حقيقية قائمة بذاته زائدة عليها(27).

    من جانب آخر يذهب الشيخ نور الدين السالمي إلى أن الخطأ في هذا المشكل ما وقع فيه القدماء من قياس الغائب على الشاهد، وذلك أنهم قالوا: إن العلية والشرطية والحد لا تختلف في الشاهد والغائب، بل هي فيهما سواء(28).

    تعليق


    • #3
      وعلى هذا يمكننا القول: إن الصفات عند الإباضية مجرد معانٍ اعتبارية وحسب، وهو أن لكل واحد من حي وقدير وحليم إلى آخرها مدلولاً تدل عليه، وهو الذات العلية، ومعنى يفهم منها وهو معنى الحياة والقدرة والعلم إلى آخرها، فذلك المدلول هو عين الذات، وهذا المفهوم هو أمور اعتبارية؛ أي يعتبر بها نفي أضدادها، فالمراد من اتصافه تعالى بالحياة نفي الموت عنه تعالى ومن اتصافه بالقدرة نفي العجز عنه تعالى، ومن اتصافه بالعلم نفي الجهل عنه تعالى، ومن اتصافه بالإرادة نفي الإكراه عنه تعالى، ومن اتصافه بالسمع نفي الصمم عنه تعالى، ومن اتصافه بالبصر نفي العمى عنه تعالى فلا إشكال، وما ذهبت إلية الإباضية لا يعني التعطيل للصفات؛ وذلك أن الإباضية لم ينفوا الصفات ولكنهم أثبتوها بما يتناسب مع عقيدة التنزيه عندهم، خوفاً من الوقوع في مغبة التجسيم لله سبحانه(29).

      وبعد الحديث عن وحدة الذات والصفات، يجرنا الحديث إلى طرح الصفات الخبرية، وهل الإباضية طبقت منهجها في تأويل الصفات الخبرية، وهذا ما سنشير إليه في السطور القادمة، وقبل أن ننتقل إلى الصفات الخبرية يجدر بنا أن نشير إلى صفة كان للإباضية فيها رأي واجتهاد وهي صفة (الكلام) التي طالما اختلفت حولها المدارس الكلامية.

      4- صفة الكلام: من المشكلات التي شغلت دوائر علم الكلام، ودار السجال حولها، والمشكل في صفة الكلام هو عدم التفرقة بين الكلام النفسي والكلام اللفظي المحدث المؤلف من الحروف والأصوات، ويبدو أن الأشعري قد نجح في التمييز بينها.

      ولقد ذهبت الماتريدية المذهب نفسه وفرقوا بين الكلام النفسي وكلام الله المؤلف من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله حادث.

      ولم تكن الإباضية بمنأى عن هذا الأمر؛ فقد بسط علماؤها آراءهم في هذه القضية ورأوا - وعلى رأسهم الإمام السالمي - أن الكلام صفة لله تعالى، وأنها تكون من الصفات الذاتية الواجبة باعتبار ويراد بها نفي الخرس عنه تعالى، وتكون من صفات الفعل الجائزة باعتبار آخر في حقه ويراد بها خلق الكلام وإيجاده.

      وعلى هذا الأساس يكون القرآن كلام الله وفعلا من أفعاله تعالى ويكون من قبيل الممكن الذي يحتمل الوجود والعدم لذاته، وهو المسمى بالجائز العقلي، وهو كغيره من المخلوقات التي يجوِّز العقل وجودها وعدمها، يقول الإمام السالمي: (وذلك الذي يجوز في العقول وجوده وعدمه هو كالمخلوقات جميعها، وكالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور ونحوها، وكداري الجزاء في الآخرة، وهذه كلها حادثة لا يجوز أن يقال بقدم شيء منها. والدليل على أنها من الممكن وجودها وعدمها أو على أنها حادثة تنقّلها من حالة إلى حالة أخرى، كتنقل القرآن من اللوح إلى سماء الدنيا، ومنها إلى نبينا -عليه الصلاة والسلام-، ومنه إلى صدور الذين أوتوا العلم ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾(البروج:21-22).

      ويذهب الشيخ تبغورين الملشوطي إلى أن القرآن هو كلام الله محدث مخلوق دال على خالقه ومُوجده، أو على حد قوله: إن القرآن كما وصفه الله بأنه مجعول ومنزول ومحدث ومخلوق, ومعنى الجعل من الله والخلق والحدث واحد، وأجمعوا أنه بيان وكلام ومسموع ومفهوم؛ لقول الله: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾(التوبة 6)، وقول المسلمين من الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾(الأحقاف:30) وقولهم ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ً﴾(الجـن:1-2) وقال: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾الأعراف:204) وقال: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾(الحاقة:40)( 30).

      ولقد ناقش سماحة الشيخ الخليلي هذه القضية مناقشة مستفيضة، وانتهى إلى أن القرآن حادث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، كما أن القول بقدمه يفتح الباب على مصراعيه لمن يقول بجواز تعدد القدماء حتى يفضي الأمر إلى القول بقدم العالم(31).

      ومن ثم نجد أن الإباضية دفعت شبهة القدم عن كلام الله بالأدلة النقلية، ولم تقلد غيرها من المذاهب الكلامية، وهذا كان متوقعا من الإباضية التي جعلت قضية القضايا تنزيه الألوهية عن الشبيه والشريك.

      5- تأويل الصفات الخبرية:

      ومن منطق التنزيه عند الإباضية كمقصد أساسي في مذهبهم، ذهبت أيضاً إلى تبني التأويل لحل مشكلة الصفات الخبرية التي ربما توحي بالتجسيم وغيره من صفات مشبهه، ومن هنا تقوم فلسفة الإباضية في تفسير آيات الصفات على تأويل كل ما من شأنه أن يوهم التشبيه من متشابه القرآن والسنة المطهرة، بما يتناسب مع سياق النص وينسجم مع قوله – تعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11).

      لا سيما أن اللغة محتملة لذلك التأويل ومستوعبة لذلك التفسير؛ فالله تعالى خاطب العرب بلغتهم، ولغتهم كما هو معروف - فيها الحقيقة وفيها المجاز بل إن اللغة في كثير من الأحيان تفضي إلى جملة إشكالات يقع فيه المفسر كقوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ﴾(الرحمن:27) فلابد من اللجوء إلى المجاز في وجه لقبول أن الوجه بمعنى الذات، فوجه الله أي ذات الله، وإلا كان التفسير الحرفي مشكلا كما لايخفى(32).

      ويجدر بنا أن نقف على معالجة الإباضية لبعض الصفات الجبرية الأخرى؛ إذ إن ذلك يساعدنا في توضيح الصورة أكثر.

      ويطرح الشيخ المحروقي لقضية التأويل في كتابه (الدلائل على اللوازم والوسائل) مبينا خطورة القضية ولابد من تأويل النص الديني التأويل الصحيح بقوله: فاحذر أن تغتر بقول المتأولين فيها على غير تأويلها، أو تغتر بلفظ ظاهر الآيات بغير معرفة حقيقة اللغة فيها. واعلم أن معنى قول الله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾(آل عمران:28) يريد عقوبته؛ لأنه ليس له نفس كنفس المخلوقين، ومعنى الروح الأمين من قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾(الشعراء:193) يعني به جبريل -عليه السلام- والله أعلم. ومعنى قوله في صفة سفينة نوح: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾(القمر:14) أي بحفظنا وعلمنا حيث لا يخفى علينا. وقوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾(طـه: 39) أي بحفظي وعلمي، وأما قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (القصص:88) المعنى إلا هو لا أنه يهلك سائرة ويبقى وجهه الله تعالى عن ذلك، وأما قوله تعالى: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾(البقرة:115) المعنى: فهناك الله، ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾(الرحمن:27) أي: ذلك بمعنى العلم(33).

      ومنهج الإمام السالمي لا يختلف عن نهج الشيخ المحروقي في معالجة الصفات الخبرية، بل هما يمثلان الإباضية بصفة عامة خاصة في الصفات الخبرية، وفيما يدل ظاهره على التجسيم في صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة واضح غاية الوضوح أن هذا المنهج يعتمد على سياق النص وعلى ما في اللغة من المجازات والاستعارات، تنزيها لله تعالى وحرصاً على سلامة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من التناقضات التي يتعالى عنها كلام الله وكلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وحملاً لكلام الله على ما تقتضيه قواعد اللسان العربي المبين الذي شرفه الله بجعله لسان كتابه ولسان نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-(34).

      يوضح الشيخ السالمي منهجه بقوله: (وحاصل المقام أن صفات الله لا تقاس بصفات المخلوق، ولا يمكن التعبير عن صفاته تعالى إلا بالألفاظ المعروفة عند الناس، فعبر عنها بالألفاظ المعروفة، فما كان حقيقة ثبت حقيقة وما كان من المجاز ثبت مجازا، وصحة التجوز العلاقة المعهودة في حق غير الله تعالى، وبالجملة فلا يتوقف التجوز في الألفاظ على وجود مفهومها، بل إذا صح المجاز في موضوع العلاقة صح في غير ذلك الموضع لتلك العلاقة ما لم يمنعه مانع والله أعلم(35).

      ويجدر بنا أن نشير إلى بعض معالجاته لبعض الصفات الخبرية لتطبيق منهجه بقوله: اليد الواردة في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(الفتح:10) وفي قوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾(ص:75) وفي قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً﴾(يس:71) ونحوها من الآيات هي بمعنى القدرة لا بمعنى الجارحة فإنها إن كانت هي حقيقة اليد فحمل الآيات عليها محال؛ لما يلزم من تشبيه، وقد عرفت بطلانه(36). وواضح أنه متأثر بنقد قياس الغائب على الشاهد لكن بجانب تطبيقه للتأويل.

      أعتقد أن الإباضية قد تابعت الفرق الكلامية من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية بخصوص تأويل الصفات الخبرية، بل حتى الظاهرية - مذهب ابن حزم - وهو مَنْ هو في تمسكه بالنصوص والوقوف عند ظواهرها، عند معالجته للصفات الخبرية لم يجد بداً من اللجوء إلى التأويل؛ لتنزيه الذات الإلهية عن التجسيم والمشابهة(37).

      وبعد الحديث عن الصفات الخبرية عند الإباضية يمهد للحديث عن تنزيه الألوهية وما يتبعها من قضايا كرؤية الله في الآخرة التي هي قضية القضايا عند الإباضية.

      تعليق


      • #4
        رابعاً: تنزيه الألوهية

        1- تؤكد الإباضية على تنزيه الألوهية عن كل صفات النقص والتشبيه، بل اتخذت الإباضية الأصل الأول لمذهبهم فيما يتعلق بالباري سبحانه وتعالى تنزيهه تعالى عن مشابهة الخلق؛ استنادا إلى الآيات المحكمات من كتاب الله تعالى وما ورد في القرآن الكريم مما يوهم التشبيه فإنه يجب الإيمان به أنه من عند الله، وتُأول الآيات الموهمة للتشبيه بما يقتضيه المعنى من السياق لتأويل الاستواء بالاستيلاء واليد بالقدرة وغير ذلك(38).

        ومن هنا يجب معرفة التوحيد بأنه إفراد الله عن الخلق وأفعالهم وصفاتهم، ولو تشابه معهم في أقل القليل لدخل عليه العجز واحتاج إلى ما احتاجوا إليه(39).

        وتبرهن الإباضية بالبراهين المختلفة على تنزيه الألوهية منها: البرهنة على تنزيهه تعالى عن صفات الأجسام وهي من الصفات المستحيلة.

        إن من صفات الأجسام اللازمة لها المكان وهو على الله تعالى مستحيل؛ لأنه لو كان في مكان للزم أن يكون المكان أقوى منه؛ لأنه حامل له، واللازم باطل فكذا الملزوم، ومن صفاتها: مشابهة غيرها لها وهي في حق الله تعالى محال؛ لأنه لو شابهه غيره في شيء أو شابهه غيره للزمه ما يلزم المشابه من الاحتياج إلى المكان والزمان ومن الأعراض الطارئة عليه، واللازم باطل والملزوم مثله(40).

        وإذا كنا ننفي عن الله تعالى المكان كما نتج عقلا، فإننا ننفي عنه أيضاً بالبرهان القاضي الزمان؛ لأن الله خالق لكل شيء، والمكان والزمان من مخلوقاته، فلو كان يحويه المكان ويأتي عليه الزمان لاحتاج قبل خلقهما إلى مكان وزمان فلا بد إما أن يكونا قد وُجدا قبله فيلزمه حدوثه مع تبعضه وتناهيه، فيكون الخالق غيره، أو يكونا قد وجدا بعده فيكون محتاجا إلى حادث قد خلقه بنفسه, ومن كان كذلك فليس بإله، وإما أن يكونا قديمين معه فيلزم تعدد القدماء، وهذا باطل.

        وكذلك يدعم هذه البراهين الإمام السالمي بشعره:

        سبحانه ليس له مكان يحويه جل لا ولا زمان(41)

        هكذا تعير الإباضية جل عنايتها لتنزيه الألوهية عن مشابهة المخلوقات، كيف لا وهذه القضية هي الأصل الأول لمذهبهم كما أشرنا؟!!، ولعل موقف الإباضية يذكرنا بموقف ابن رشد من الأشاعرة وخاصة التنزيه(42)، حين فرق بين خطاب العامة والخاصة، ويبدو أن الإباضية كانت منتبهة لخطورة المشكل، ومن ثم كان موقفهم يتسم بالحسم في قضية التنزيه.

        2- رؤية الله:

        قضية رؤية الله من القضايا الشائكة عند علماء الكلام ما بين مثبت للرؤية في الدنيا والآخرة كالأشاعرة والماتريدية والظاهرية وما بين نافٍ كالمعتزلة والإباضية، وكل فرقة تحاول أن تدعم وجهة نظرها بالحجج العقلية والنظرية، وحسبنا في هذا المقام أن نجلي الحقيقة حول موقف الإباضية وحقيقة مذهبهم في هذا الموضوع.

        فلو نظرنا إلى موقف السلف وإجابتهم عن التساؤل:

        هل رأى النبي ربه في الدنيا؟

        يذهب ابن خزيمه إلى أن الصحابة قد اختلفوا في الإجابة عن هذا السؤال، فبعضهم - كابن عباس - أثبت رؤية الرسول –صلى الله عليه وسلم- لله تعالى ليلة أسري به، وبعضهم - كأبي ذر- لم يقطع في المسألة برأي حاسم، وبعضهم - كعائشة - نفت ذلك، ويشير ابن أبي العز إلى اختلاف الصحابة في رؤية الرسول –صلى الله عليه وسلم- ربه بعيني رأسه، ثم يقول: والصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعيني رأسه لقوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(النجم:11) أي المرئي جبريل رآه مرتين على صورته التي خلق عليها(43).

        من جهة أخرى: يذهب ابن أبي العز إلى أن رؤية الله يوم القيامة حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق بذلك كتاب ربنا وما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى السنة والجماعة والمخالفون لهم في الرؤية: الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية والزيدية والإباضية(44).

        إذًا المشكلة كما أشرنا خلافية منذ السلف وهي من الظنيات، وكل فريق له أدلته ومن ثم فالمسألة لم يُقطع فيها برأي، يقف الشيخ نور الدين السالمي موقفاً نقدياً مما ذهبت إليه الأشاعرة مفنداً دعاواها في هذا الموضوع؛ لكي ينتقل من النقد إلى البناء، وحسبنا أن نشير إلى رده على حجج الأشاعرة فيقول: قد استدلوا على جواز الرؤية بالظواهر السمعية بأشياء منها قوله تعالى حكايةً عن الكليم ﴿رَبِّ أَرِنِي انظر: إِلَيْكَ﴾ ووجه استدلالهم بها على الجواز قالوا: لو لم تكن رؤيته تعالى جائزة ما سألها الكليم عليه السلام؛ لأن سؤاله إياها إما أن يكون ناشئاً عن جهل باستحالتها أو عن معرفة باستحالتها: والأول محال؛ لأن من كان جاهلاً بما يجوز على ربه وما يستحيل عليه لا يصلح أن يكون نبياً كليماً. والثاني أيضاً يستحيل كذلك؛ لأنه إن عرف أنها مستحيلة فطلبُ ما هو مستحيل في حق مثل الكليم معصية، ويجيب الشيخ السالمي على هذه الحجة بقوله: قلنا سألها وهو يعلم باستحالتها ولا يلزم بسؤاله إياها طلب ما هو مستحيل، نعم يلزم ذلك أن لو أراد وقوعها لكنه لم يُرد، وإنما سألها ليسمع قومه الجواب باستحالتها(45).

        ويحلل الشيخ السالمي هذه الحجة بصورة أكثر وضوحاً تدل على علو كعبه في تحليل الدليل النقلي فيقول: إما أن يكون أولئك القوم مؤمنين فيكفيهم إخبار موسى باستحالتها، وإما أن يكونوا كافرين فلا يصدقونه، ثانياً: أعني حيث إنه ينقل إليهم أنه تعالى أجاب باستحالتها كما أنهم لم يصدقوه حين أخبرهم بذلك، ويرد الشيخ على هذا التفنيد بقوله: قلنا ليس القوم بمؤمنين وأي إيمانٍ لمن قال لنبيه: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾(البقرة:55) ولا يلزم من عدم تصديقهم إياه في إخباره باستحالتها عدم تصديقه بإخبارهم أن الله أجابه باستحالتها مع احتمال أن يظهر له آية من الجواب الثاني، كاندكاك الجبل مثلا، وأيضاً فالكليم قد اختار منهم سبعين رجلاً لذلك الميقات، وكلهم قد سمعوا لن تراني، فإخبار السبعين أقوى في ظن القوم من إخباره بنفسه، وأيضاً فأولئك السبعون هم الذين سألوا موسى الرؤية حين سمعوا الكلام، فقاسوا صحة الرؤية على وقوع الكلام قياساً فاسداً فأخذتهم الصاعقة، ومما يدل على أن موسى سألها لقومه قوله تعالى حكاية عن موسى: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾(الأعراف: 155) وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾(النساء:153) وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾(البقرة:55) فلو كان موسى -عليه السلام- سأل ما سألوا لوُبّخ كما وبخوا وهلك كما هلكوا(46).

        أظننا لسنا في حاجة إلى التأكيد على قوة حجة وتفنيد الإمام السالمي لحجج الأشاعرة ومن سار على دربهم من الفرق الأخرى.

        ويذهب الشيخ السالمي إلى أن تأويل الآيات القرآنية قد خرج عن مدلوله الصحيح فيتوقف عند: ﴿على الأرائك ينظرون﴾(المطففين:22) يقول: لا دلالة في الآية على رؤية الله لعدم ذكر المنظور فيفسر بالنظر إلى ما أعد الله لهم من الثواب في مستقر رحمته، كما أرشد قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾(الإنسان:20).

        وأما الحديث أنهم رووا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما نصه: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» يرى الإمام السالمي أن الاستدلال على ثبوت الرؤية باطل من وجوه:

        1- أنه خبر آحاد اختُلف في وجوب العمل به فضلاً من إفادته العلم والعقائد من العبادات العملية، وقد صرح هؤلاء القوم أن خبر الآحاد لا يثبت به الاعتقاد.

        2- أن هذا الحديث معارض لنص الكتاب: ﴿لا تدركه الأبصار﴾.

        3- أن فيه تشبيه الرب تعالى بالقمر ليلة البدر فيلزم المستدلين به أن يكون ربهم كالبدر مستديراً منيراً من جهة مخصوصة، ولا خفاء في بطلانه.

        4- ولما كان الحديث في تشبيه رؤيته تعالى برؤية البدر التشبيه المحض، فإن رؤية البدر مستلزمة للجهة والمقابلة ونحوهما من لوازم الرؤية، وبناء على ذلك فالحديث إما موضوع وهو الظاهر، وإما متأوّل برؤية الثواب أو مستقر الرحمة أو نحو ذلك، فسقط بِحمد الله جميع ما تعلقوا به ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(الإسراء: 81).

        وفي هذا الصدد يذهب الإمام السالمي بقوله:

        ورؤيــة البـاري من المحــال دنيا وأخرى احكم بكل حـال

        لأن من لازمهــا التميـزا والكيف والتبعيض والتحيــزا

        من جـهـة تقابل الذي نظــر فهـذه وما أتى به الســـور

        من قـول لا تدركه الأبصـار لن تراني فانتفـى الإبصـــار

        واضح أن الإمام السالمي يلتقي مع المعتزلة في نقده وتفنيده لمثبتي الرؤية(47).

        ويعلق الشيخ السالمي على قول الشيخ الباجوري في قوله في حواشي الجوهرة: والراجح عند أكثر العلماء أنه –صلى الله عليه وسلم- رأى ربه -سبحانه وتعالى- بعيني رأسه وهما في محلهما خلافاً لمن قال حولا لقلبه لحديث ابن عباس وغيره، وقد نفت السيدة عائشة -رضي الله عنها- وقوعها له –صلى الله عليه وسلم- لكن يقدم عليها ابن عباس؛ لأنه مثبت والقاعدة أن المثبت يقدم على النافي.

        ويجيب الشيخ بقوله: هذه القاعدة هي معتبرة في الظنيات العمليات لا العلميات الاعتقاديات(48).

        لقد أخلص لهذه القضية علماء الإباضية في القديم والحديث إخلاصاًً لا حد له فالشيخ الخليلي يفرد لها صفحات وصفحات في كتابه (الحق الدامغ) (وتنزيه الله سبحانه وتعالى) وغيرهما من مؤلفات مما يدل على أن هذه القضية «قضية تنزيه الألوهية» من القضايا الكلامية المحورية في الفكر الإباضي.

        ويرى الشيخ الخليلي أن البعض قد أول آي القرآن تأويلاً يخرجه عن مرماه الحقيقي فمثلاً قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قد فسروا الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية مستدلين بحديث صهيب عن الشيخين مرفوعاً (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجينا من النار، وتدخلنا الجنة؟!! قال: فيكشف الحجاب، قال فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه) ويعلق الشيخ أن لفظة الزيادة مبهمة غير دالة على الرؤية وضعاً ولا استعمالاً من قريب ولا ومن بعيد(49).

        تعليق


        • #5
          وينتهي الشيخ الخليلي إلى رأي يفض الاشتباك - إن جاز التعبير - حول هذا الموضوع فهو لا يرفض تجليات النور وإنما الرؤية بالمعنى الحرفي، ولا يرفض أذواق العارفين من أهل الله الخلص وهو من أقرب الآراء إلى جادة الصواب في حدود ما قرأت في هذا الباب، وفي حدود جهد المقل الضعيف، فرغم كل ما قدّمنا من أخْذٍ ورد على هذا الموضوع، فلن نستطيع أن نلغي أشواق العارفين، ومذاقات رجال الله الصالحين في تلقي الفيوضات الرحمانية والأنوار الإلهية حينئذ يتوارى البصر أمام البصيرة ويتجلى الحرمان أمام البرهان وينمحي الظاهر أمام لغة الباطن الراقية وتبقى لغة الإشارة وتنمحي من الوجود والشهود لغة العبارة!!

          يقول الشيخ: ولا ريب أن في الجنة من التجليات الربانية لأصحاب السعادة ما يفوق ما يكون في مواقف القيامة، فلا غرو إذا عبر أصدق الإنس والجن، وأبلغ العرب والعجم بالرؤية، أو نحوها من العبارات تقريباً للأفهام، وقد كان –صلى الله عليه وسلم- يخاطب العرب باللسان العربي البين الذي نشأوا عليه، فعرفوا معانية وأدركوا مراميه، فلا تعجبوا إذا لم يشكل عليهم هذا الخطاب.

          وإذا كان العبد إن أخلص لله تعالى في هذه الدار الدنيا - مع كثافة حجب طبائعها المادية المظلمة - تتراءى له في ذكره ودعائه مشاهد العظمة وينكشف له من آيات الجلال ما يجعله يغيب عن وجوده غارقاً في عالم شهوده، مشغولاً عن نفسه بما يمده به الحق تعالى من ألطاف الأُنس، المتراسلة من حظائر القدس، خصوصاً في بعض الأحوال كخلوات العبادة، وفي الأزمان كليالي رمضان، وفي بعض البقاع كالحرمين الشريفين فما بالك بالدار الآخرة التي أعدت للمتقين، حيث ترقى نفوسهم إلى أوج الكمال الإنساني.

          ولا ينكر مشاهد الأُنس هذه في هذه الدار الدنيا إلا من حُرم شفافية الروح، ورقة الشعور والوجدان التي يشعر بها العبد وهو ماثل بين يدي الله تعالى، داعياً وذاكراً، حتى يكون كأنه بأنسه بربه يرى ذاته تعالى بأم عينيه، من غير أن يتحول تعالى عن صفته الذاتية، وهي عدم إدراكه بالأبصار، سمى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هذه المرتبة بالإحسان، وذلك في قوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك) فأي عجب إذا حصل للمؤمنين الصادقين في إيمانهم، المخلصين في عملهم ما هو أبلغ من الدار الآخرة من ذلك من التجليات الجلالية لعقولهم وقلوبهم؟ وأي بدع إن عبر عن ذلك بالرؤية مع ورود مثله في اللسان العربي(50).

          وبهذا يتضح المراد بالرؤية في الأحاديث، وبه يُمكن الجمع بينها وبين آيات التنزيه الناصة على منعها، ومهما يكن من أمر فإن هذه الأحاديث آحادية، والآحادي لا تنهض به حجة في الأمور الاعتقادية؛ لأن الاعتقاد ثمرة اليقين، واليقين لا يقوم إلا على الأدلة القطعية المتواترة نقلاً، النصية دلالة بحيث لا تحتمل تأويلاً آخر، والحديث الآحادي لا يتجاوز ثبوت متنه الظن، فلذلك قال المحققون: إنه يوجب العمل ولا يفيد العلم، وإذا كانت هذه درجة الآحادي في الحجية فكيف إذا عورض بالنصوص القطعية من القرآن؟!! ولذلك يحكم بسقوط الروايات الصريحة في تشبيه الخالق بالخلق إذا لم يتحمل التأويل؛ لاستحالة أن يصدر ذلك عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-(51).

          ********************************

          *) باحث من مصر.

          1) سماحة الشيخ أحمد الخليلي، الحق الدامغ، ص10.

          2) المرجع السابق، ص11.

          3) الإمام الجيطالي، قواعد الإسلام ج1، مكتبة الاستقامة،ط2، 1413 هـ/ 1992م.

          4) يوسف القرضاوي، المنهج الأمثل في التفسير، مجلة المسلم المعاصر العدد 83 السنة الحادي والعشرين, ص43.

          5) الإمام نور الدين السالمي: مشارق الأنوار، ج1، ص122.

          6) المرجع السابق، 125.

          7) الشيخ أبو زهرة، المرجع السابق، ص167.

          8) انظر: الشيخ المحروقي، الدلائل على اللوازم والوسائل، تحقيق الحاج سليمان بن إبراهيم بابزيز الوارجلاني، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، ص36-37.

          9) يوسف قاسم، أصول الأحكام الشرعية الناشر، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية 1994م، ص165.

          10) حسن الشافعي: المدخل إلى علم الكلام، مكتبة وهبة، ص167.

          11) الإمام نور الدين السالمي: المرجع السابق، ص327.

          12) أحمد أمين: ضحى الإسلام ج3 مكتبة النهضة المصرية، ط،9 1978م، ص47.

          13) السالمي: المرجع السابق، ص357.

          14) نفس المرجع، ص327.

          15) السالمي: ص327 وما بعدها.

          16) الإمام الجيطالي: قواعد الإسلام،ج1،ص34.

          17) الشيخ المحروقي: المرجع السابق، ص25-27.

          18) المرجع نفسه، ص26.

          19) المرجع نفسه، ص27.

          20) جمال رجب سيدبي، المنهج الوسط عند الماتريدية مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمنيا يوليو 1998م ص318 وما بعدها.

          21) السالمي: المرجع السابق، ص332.

          22) المرجع السابق، نفس الصفحة.

          23) نفس المرجع، نفس الصفحة.

          24) سماحة الشيخ الخليلي: صفات الله سبحانه وتعالى, الناشر مكتبة بالاستقامة 1417هـ/1996م، ص6.

          25) أبو الوفاء التفتازني: علم الكلام وبعض مشكلاتة, الناشر دار الثقافة، 1997م، ص129.

          26) السالمي: المرجع السابق، ص346.

          27) نفس المرجع، ص47.

          28) السالمي: المرجع السابق، الصفحة نفسها.

          29) محمود بن مبارك السليمي: أثر الفكر الإباضي في الشعر العماني في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ص8.

          30) مبارك بن سيف الهاشمي: الإمام نور الدين السالمي وآراؤه في الإلهيات، ص154.

          31) تبغورين الملشوطي: أصول الدين، تحقيق ونيس عامر، ص190.

          32) الشيخ الخليلي، الحق الدامغ، ص180.

          33) محمود السليمي، المرجع السابق، ص8.

          34) الشيخ المحروقي: الدلائل على اللوازم والوسائل، ص36-37.

          35) مبارك الهاشمي: المرجع السابق، ص189.

          36) الإمام السالمي: العقل الثمين، ص79 نقلا عن مبارك الهاشمي، المرجع السابق، ص189.

          37) السالمي: مشارق الأنوار، ص212.

          38) انظر دراستنا: منهج ابن حزم الكلامي في دراسة مشكلتي الذات والصفات والجبر والاختيار، مجلة دار العلوم بالفيوم، العدد 8 ديسمبر 2002م.

          39) علي يحيى معمر: الإباضية في موكب التاريخ، ص20.

          40) محمد بن يوسف أطفيش: الذهب الخالص المنوه بالعلم الخالص، طبعة المطابع العالمية، بنزوي، ص22.

          41) الإمام السالمي: مشارق الأنوار، ص310.

          42) الإمام السالمي: نفس المرجع، ص315.

          43) عبد الفتاح أحمد فؤاد: الفرق الإسلامية وأصولها الإيمانية، ص94.

          44) نفس المرجع، ص91.

          45) السالمي: المرجع السابق، ص366.

          46) السالمي: نفسه ص367.

          47) انظر دراستنا: المنهج الوسط عند الماتريدية (السابق ص335 وما بعدها).

          48) الإمام السالمي: السابق، ص382.

          49) الشيخ الخليلي: الحق الدامغ، ص49.

          50) الشيخ الخليلي: السابق، ص62.

          الشيخ الخليلي: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

          تعليق

          المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
          حفظ-تلقائي
          x

          رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

          صورة التسجيل تحديث الصورة

          اقرأ في منتديات يا حسين

          تقليص

          لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

          يعمل...
          X