إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الأمام الصدر ( في رحاب القرآن )

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأمام الصدر ( في رحاب القرآن )

    تـفـسـير الـقـرآن الـكـريم _ مجلة الزهراء القاهرية
    العدد الأول: ذو القعدة/1391
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إنّ القرآن الكريم كلام الله بألفاظه ومعانيه وبترتيب سوَره وآياته، وهذا المبدأ هو سبب خلود الإسلام دون سائر الأديان، وهو الجواب عن مشكلة التطور، وهي مشكلة شائعة ومستعصية تعتمد على استحالة توجيه نصوص معيّنة لمجتمعات متطورة، (وتعتمد على) علاقات متغيرة وظروف حياتية تتباين في الفترات المختلفة التاريخية، فالأوضاع الاجتماعية، والعلاقات المختلفة القائمة في هذا العصر تختلف تمام الاختلاف عن الأوضاع والعلاقات التي كانت في عهد ظهور الإسلام، فكيف يمكن لقوانين ونصوص واحدة أن تنظّم هذه الأمور في الحالتين معاً؟
    وقد حاول بعض علماء المسلمين ومفكريهم أن يجيبوا على هذا السؤال بطرق عديدة، ولكنني أجد في نتائج هذا المبدأ الذي قدّمت به البحث جواباً كافياً عنه.
    إنّ المفهوم من الكلام (أي كلام) وإدراك المقصود منه له شرطان:
    الشرط الأول: الالتزام بدلالة اللفظ من حقيقة ومجاز على أنواعه بالدلالات الإلزامية والإشارات والتنبيهات وغير ذلك من أبعاد الدلالة.
    الشرط الثاني: وبعد ذلك كله، علينا أن نأخذ مستوى وعي المتكلم وثقافته بعين الاعتبار، فلا يمكن حمل الكلام مفهوماً يفوق معرفة المتكلم ودرجة انتباهه.
    ولذلك نجد أن كلاماً واحداً صادراً عن الطفل أو الإنسان العادي يختلف فهمه عن نفس الكلام حينما يصدر عن إنسان واع أو عالِم كبير أو مسؤول يقظ.
    ولذلك أيضاً نجد الاهتمام من المعنيين دائماً بدقائق كلمات المسؤولين، وجميع قيودها، وما ورد من تقديم أو تأخير، أو تعريف أو غيره، ونرى التفاسير والأبحاث حول نصوص الاتفاقيات ومداليلها، وفي فهم القوانين والمراسيم وأبعادها، نرى كل هذا شاهد صدق على أنّ مستوى معرفة صاحب الكلام وانتباهه إطار لفهم كلامه وشرط أساسي لإدراك مقصوده ومرامه.
    أما الرمزية في التعبير، واستعمال الكلمات كإشارات لمعاني أخرى، فلا يمكن الاعتماد عليها إلا مع اتفاق مسبق بين المتكلم والمخاطَب كما تُستعمل في المخاطبات السرية المتعارفة.
    وبناءاً على هذا الأساس، فإنّ صدور القرآن الكريم بألفاظه الموجودة لدينا يجعله ذا طابع مميز يختلف عن جميع الكتب والكلمات، ويختلف فهم معانيه وتفسير كلماته عن بقية الكلمات والنصوص، حتى عن الكتب المقدسة الأخرى.
    ذلك لأنّ علم الله لا حد له، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبـر، ولا يشغله شيء عن شيء، وهو الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، وأعطى لكل شيء قدراً وصفة وميزة وخاصية معينة.
    وهذا يعني أنّ فهم القرآن الكريم وتفسيره (إذا روعي فيه الشرط الأول) ليس محتكراً على المفسرين الأوائل (رض)، بل يحق لنا أن نفهم القرآن بتعمّق أكثر وبخبرة متجددة مع الاستعانة بمعلوماتنا وتجاربنا المتزايدة في مختلف الحقول، وذلك عندما التزمنا بالمصطلحات القرآنية وبردّ المتشابهات الى المحكمات وعدم تحميل الكلمات معاني لا ترتبط بها، وإنّ التأمل في القرآن والتعمّق فيه وتجديد دراسته يجعل أمام الإنسان المسلم معاني جديدة وصحيحة تختلف عن التفاسير السابقة والمستخرجة منه، ولا مانع من الأخذ بها والعمل عليها، ولا تناقض بينها وبين المعاني السابقة للمفسرين الأوائل بعد أن كان المتكلم هو الله، وبعد أن أمكن فهم المعاني جميعها من القرآن.
    وهذه ميزة خاصة بالقرآن الكريم (كلام الله)، لأنّ الكلام إذا صدر عن أي متكلم فإنه لا يمكن أن يُفهم منه معان تتجاوز حدود ثقافة عصر المتكلم والمعلومات المتوافرة لديه، وهذا هو الحد بين كلام الخالق والمخلوق، اللهم إلا المخلوق الذي لا ينطق عن الهوى، بل يتحدث عن وحي يوحى إليه.
    = يتبع =

  • #2
    قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة:272)، يقول أكثر المفسرين إنّ جزاء الإنفاق يوفى إلى المنفِق يوم القيامة، حيث يجد الإنسان جزاء عمله دون ظلم أو حرمان أو سهو في الحساب، وهذا معنى صحيح قرآني ينسجم مع آيات قرآنية أخرى، ويمكن تفسيرها بصورة أخرى على ضوء علومنا وتجاربنا الاجتماعية، وهي:
    إنّ الإنفاق إنعاش للعائلات الفقيرة والفئات التي لا تملك وسائل كافية للحياة الكريمة، وهو بالتالي يؤدي إلى تأمين هذه الحياة لها وتوفير الصحة والتغذية والتعليم والتربية لأولادها، وهذا يعني مشاركة عناصر جديدة في بناء المجتمع ورفع مستواه، والمستفيد من المجتمع ومستواه الرفيع هو المنفِق والمنفَق عليه دون تفاوت، وحتى المنفِق مستفيد من المجتمع الأرقى حسب حياته ونشاطاته الواسعة أكثر من المنفَق عليه، وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة، وبمادته قبل معناه.
    أما العكس (أي ترك الإنفاق) فمعناه إهمال مجموعات من المواطنين يتخبطون في فقرهم ومرضهم وجهلهم، ولا يشاركون في بناء مجتمعهم، وهذا يؤدي إلى حرمان المجتمع من طاقاتهم وعدم بلوغه المستوى المطلوب، ثم إنّ هذا الوضع يجعلهم معرضين للأمراض التي لا تقف عند أولاد الفقراء، بل تتجاوزهم إلى جميع المواطنين، والأمراض الأخلاقية والمسلكية الناتجة عن الفقر أيضاً تشمل الجميع.
    وبعد ذلك، فإنّ العقد النفسية التي تتكون في مثل هذا الوضع، والمشاعر السلبية التي تنبت في هذه المجتمعات غير العادلة، تعرضها للهزات والانفجارات التي لا ترحم ولا تعدل، وتهدر من ثروات المجتمع بصورة لا واعية الكثير الكثير.
    والآن نتلو الآية الكريمة مرة أخرى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، فنجد معنى آخر لكلمة {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}، ولكلمة {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، والمعنى الجديد ليس خارجاً عن المدلول الاستعمالي للكلام، وهو ينسجم مع مواضيع أخرى من كتاب الله، ومن جملتها الآية الكريمة: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)، حيث أنّ الجملة الثانية نتيجة حتمية للجزء الأول، وتأكيد على أنّ عدم الإنفاق تعرّض للهلاك الجماعي، لما يترتب عليه من المشكلات الأخلاقية والاجتماعية.
    وعندما اعتبـرنا ذلك مفهوماً شاملاً للإنفاق، فإنه يشمل الإنفاق بالنفس أيضاً عندما يؤكد ذلك ورود الآية الكريمة في سياق آيات الجهاد، فيصبح المعنى مبدأ عاماً إسلامياً، وهو أنّ المطلوب من الإنسان أن يقدّم من ماله وفكره وطاقاته ونفسه في سبيل الله، ومن سبل الله خدمة خلقه الذين هم كلهم عيال الله، ويكون الإنسان بذلك قدم بصورة مشرّفة الى الله سبحانه وتعالى الذي هو خير من يعطى له.
    أما إذا امتنع عن هذا البذل وهذا الشرف، فقد تعرض للهلاك، فيؤخذ ماله، أو طاقته، أو فكره، أو نفسه بصورة أخرى، وهي صورة انفجار المجتمع أو سيطرة الأعداء. أو غير ذلك. فتلازم الإنفاق وعدم الهلاك هنا مثل تلازم الإنفاق وعدم الظلم هناك.
    - مثال آخر:
    قال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات:47)، فلنقف عند جملة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، ونتذكر ما يقوله الأدب العربي من دلالتها على الاستمرار والتجدد، بالإضافة الى التأكيد القاطع، ثم نلاحظ ما وصل العلم إليه من امتداد العالم وتوسّعه، وتجدّد كرات سماوية باستمرار، وتجمّد الأبخرة السديمية إلى كرات جديدة.
    نقف عند هذا المعنى الجديد، ونتأمل لكي نرى انطباق لفظ الآية الكريمة تماماً عليه، دون أن نتردد في إمكانية قصد المتكلم لهذا المعنى بعد أن صدر الكلام عن الله الذي كانت السماوات مطويات بيمينه.
    ولنستمر في قراءة هذه الآيات المعجزات: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات:48)، وجمال الصورة يكتمل مع إدراك حركة الأرض، والتي تجعلها قريبة وشبيهة بالمهد أو بالمهاد كما ورد في آية أخرى.
    ثم تأتي الآية الثالثة: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات:49)، وشمول الأزواج لكل شيء حتى الجمادات والنباتات والطاقات وحتى الذرّات. هذه الحقيقة الكونية التي عرفها الإنسان مؤخراً (شمول الأزواج لكل شيء) أنسب للآية الكونية من المعنى الذي كان يفهمه الإنسان المطلع على الأزواج في الحيوانات وبعض النباتات فقط.
    وعلينا أن نضيف بمناسبة ورود كلمة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، والتي هي بمنـزلة العلّة والغاية من هذا العرض، والتي تتضح أكثر بقراءة الآية التي تليها: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الذاريات:50)، علينا أن نضيف لهذه المناسبة أنّ القرآن الكريم يستعرض هذه الآيات الكونية وغيرها لغايات تربوية، لا أغراض علمية، فالقرآن كتاب هداية ودين وتربية، وليس كتاباً للفيزياء أو الكيمياء أو علوم الطبيعة.
    والمقصود من هذه الآيات (وأمثالها الكثيرة) دعوة الإنسان الى التدبّر والتأمل في الكون وظواهره وغرائبه، لغايات تربوية، ولمزيد من المعرفة بالله وآثارها في الحياة. ومن جانب آخر وضع مسلك صحيح أمام الإنسان الذي يتصدى للعلم، واكتشاف الحقائق الكونية، وذلك المسلك الذي يجعل كل حقيقة في موضعها ويعتمد على أنّ هذه المستكشَفات كلمات في كتاب الله الواحد. كتاب الكون. فيزداد بذلك معرفةً لله، وخشيةً منه وتواضعاً له، ولا يتحول الإنسان الى طاغية مغرور.
    على أساس هذا المبدأ: نصل إلى أنّ حقائق القرآن وتعاليمه وعلومه هي بحار لا تنضب، ونتأكد من أنّ في القرآن توجهّات غير متناهية، تزوّد الإنسان المسلم إذا أراد في تنظيم حياته من الخلود، ونصل إلى حـل واضح وشامل لمشكلة التطوّر التي أثرناها في بدء الحديث، فلنفكّر في معنى التطوّر ونتساءل ما هو التطوّر؟
    إنّ التطوّر ليس دخول عنصر جديد في حياة الإنسان، ولا غياب عنصر عن مسرح الحياة البشرية، ولكن التطور هو التفاعل المستمر بين الإنسان والكون.
    إنّ الإنسان منذ أن خُلق وقف أمام الموجودات الكونية يتأمل فيها ويفكّر، فيستكشف موجوداً أو طاقة، ثم يسيطر على ما استكشفه ويستثمره، فيغيّر بذلك حياته ومحيطه، وهذه خطوة في طريق التطور الطويل تتلوها خطوات.
    قرأ الإنسان سطراً من كتاب الكون، فعرِف النار، فاستثمرها، فجعل من ليله نهاراً، ومن برده دفئاً، ومن نيّه مطبوخاً، ومن سلاحه وسيلةً أمضى، ثم استمر إلى أن وصل إلى معرفة النفط والذرّة والجاذبية وغير ذلك، فاستثمرها كلها، فتغيّر وتطوّر، وغيّر وطوّر.
    هذا هو فهرس كتاب التطوّر، وتحديد دقيق للحقيقة الأزلية الأبدية التي يحياها الإنسان، تفاعل بين الإنسان والكون ليس إلا. فلا وجود جديد، ولا انعدام موجود قديم.
    وإذا وضعنا الى جانب هذين العاملين البطلين في مسرح الحياة (أي: الإنسان والكون)، إذا وضعنا إلى جوارهما عاملاً آخر وهو القرآن، وتذكّرنا ما ورد في هذا البحث، نصل إلى الجواب عن المشكلة، وتبرز بوضوح الصورة الكاملة التي أرادها الله أن تُرسم على الأرض.
    إنسان مخلوق وحوله الموجودات الكونية، بينه وبينها علاقات وارتباطات، يريد أن يعرف الخط الصحيح في حياته وفي ممارسة علاقاته مع الكون ومع بني نوعه، فيجد أمامه الدين، كتاب الله يوجّهه، فيتفاعل ويتطور، فيجد نفسه أمام علاقات جديدة، ثم يرجع الى كتاب الله ويهتدي فيها بتعاليم إلهية، وهكذا.
    والعوامل الثلاثة تستمر مقترنة ومقارنة، والقرآن الكريم ينظّم العلاقات المتطورة بين العاملين الآخرين بصورة متطورة، والى الخلود.
    هذه الخطة الإلهية المرسومة للإنسان، وتفصح عنها سورة الرحمن التي تجعل في الترتيب تعليم القرآن قبل خلق الإنسان في قولها: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ} (الرحمن:1-3)، وذلك لكي يجد الإنسان منذ أول موقف حياته أمام الكون هادياً وموجّهاً وسبيلاً.
    ولكن الأمة التي عاشت فترة قليلة مع القرآن، ثم جمّدته، واستعملته بصورة شكلية وفي طقوس سطحية فقط، ثم تطورت مع الكون، وخضعت بالتالي للتطور الذي يحصل من تفاعل الآخرين مع الكون بمعزل عن القرآن، هذه الأمة ماذا تطلب؟ وما عساها تستفيد من القرآن الذي عزلته عن مركز القيادة والتوجيه؟
    أما الآن، فإذا حاولنا أن نخضع نهائياً للتطور الاجتماعي العالمي، وإذا استسلمنا دون أن نطوّر حياتنا ومفاهيمنا عن ديننا ومقاييسنا الإسلامية حسب الأوضاع الحياتية التي حصلت وتكون بمعزل عن توجيه القرآن الكريم، إذا حاولنا ذلك واستسلمنا فقد خنّا أمانتنا، وذبنا، وفقدنا كل شيء.
    ليس المطلوب رفض التطور والاستفادة من المكاسب الإنسانية القائمة، ولكن المطلوب أن لا نفقد ذاتيتنا وأصالتنا، وأن نجعل الإنتاجات البشرية الحديثة في إطارنا الأصيل، وأن نزنها بمقاييسنا، فنرفض، ونختار، ونبني من جديد أمة أصيلة، بما لكلمة الأصيل من أبعاد فكرية وتاريخية وعملية.
    إنّ القرآن صانع التطور، وقد جربته البشرية قروناً عديدة، إنه مطوِّر، أما التطوّر المفروض من الخارج ومن قبَل الأوضاع التي صُنعت من الآخرين فهذا استسلام مرفوض، وليس كمالاً، بل إنه فناء، وأي فناء.

    تعليق


    • #3
      سـورتـا الـفـلـق والـنـاس

      بسم الله الرحمن الرحيم
      قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

      بسم الله الرحمن الرحيم
      قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)
      سورة الناس:
      هاتان السورتان وأمثالهما من الآيات القرآنية التي تجعل الاستعاذة واللجوء إلى الله تعالى فقط. سور وآيات تربوية، يحاول القرآن الكريم أن يعمّق هذه التربية في نفوس الناس. وحينما يجد الإنسان نفسه، أمام شرور لا قِبل له بها، شرور تأتي من غير أن يدري مكانها، وشرور تفاجئه، وشرور أسطورية لا يعرف حقيقتها. أمام هذه الشرور يجد في نفسه اضطراباً، وتردداً وضعفاً. هذا الاضطراب غير مرغوب فيه من قِبل الإسلام. بل إنه يريد الإنسان المسلم مطمئناً، ثابتاً، علمياً، يقف بقوة وانطلاق، وبحزن وثبات، أمام الحياة ومشكلاتها.
      عندما نزلت هاتان السورتان، وأمثالهما من آيات الاستعاذة، كان الإنسان، ولا يزال، في بعض الأوساط، يخاف من شرور لا يعرف حقيقتها، من شرور الخلق، ومن شرور الليل والظلام، ومن شرور النفاثات في العقد، أي النساء اللواتي ينفخنَ في العقد. وبهذه الوسيلة يحاولنَ التأثير على سعادة الإنسان الزوجية، وسعادته الحياتية، ونجاحه في علاقاته مع الناس. وهكذا كان يخشى من شرور الحاسدين، واللاعنين، ومن شرور العيون وأمثال ذلك.
      في السورة الأولى، وهي سورة "الفلق"، يحاول القرآن الكريم أن يعالج هذه المشكلة، علاجاً تربوياً، فيبدأ القرآن الكريم في هذه السورة بقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. والمقصود من ذلك أنّ هذه الشرور، الوهمية أو الحقيقية، إن كانت موجودة فهي داخل الخلق. ولكن الإنسان يتمكن أن يلتجئ، وأن يهرب من هذه الشرور الموجودة في داخل الخلق، يلجأ الى خالق الخلق. ولذلك يعلّمه القرآن فيقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} خالق هذا العالم، وما فيه.
      وفي اختيار كلمة "الفلق"، والتعبير عن الله {بِرَبِّ الْفَلَقِ}، نقطة لطيفة وموجهة. فالفلق، الانفتاح. انفتاح الصبح وفجره. انفتاح الحب ونموّه، وتحوله إلى النبات، إلى الحياة النباتية. رب الفلق تعبير عن الجانب الحياتي، الذي ينهي الظلام، وينهي الجمود، فيحوّل الليل إلى النهار، ويحوّل الجامد إلى النبات. نلجأ الى الله (سبحانه وتعالى) الذي ينهي الظلام، وينهي الجمود. وهذا التعبير يفتح الأمل، والثقة بالمستقبل في نفس الإنسان.
      نلجأ إلى رب الفلق، من شر كل ما خلق في هذا الكون، ومن شر الظلام، أو من شر كل ما يجري في الظلام، أو من شر المظلم الذي يدخل بصورة غير منتظرة. والذي يمارس عمله في ظلام الجهل، وفي ظلام الغفلة. نحن نلجأ إلى الله، وننتبه إلى أخطار هؤلاء. نلجأ الى الله الذي ينير الطريق، فيكشف أوضاع هؤلاء وأسرارهم.
      ونلجأ إليه من شر النفاثات في العقد، اللاتي، أو بصورة عامة، الذين يحاولون أن يسحروا الناس بنفاثاتهم في العقد، كما كان متعارفاً في أيام الجاهلية. أو بتعبير أصح وشامل ومعاصر: أولئك الذين يحاولون أن يخلقوا عقداً، ومشكلات للناس بتعبيراتهم، وكلماتهم، وفتنتهم، وافتتانهم، ونميمتهم. هؤلاء تماماً مثل الصورة الأسطورية التي في أذهاننا، من النساء اللواتي كنّ ينفثن في العقد.
      فالذي يحاول بكلماته، أن يخلق عقداً، وأن يكوّن فتنة وخلافات بين الناس، بين العائلة وبين الأصدقاء، هؤلاء من النفاثات في العقد، والذين يشكّلون خطراً على سلامة الإنسان.
      وأخيراً، نلجأ إليه من شر حاسد إذا حسد. والحاسد، حينما يمارس حسده، يشكّل خطراً. أما إذا لم يمارس هذا الحسد، فهذا شعور إنساني، وإذا لم يمارسه الإنسان، فيضعف ويذوب ويموت. فهذه الأخطار، أخطار الخلق، وأخطار الظلام، وأخطار الفتنة، وأخطار الحسّاد، أخطار أربعة يشير إليها القرآن الكريم، ويأمرنا باللجوء إلى إله النور، إله الفلق، حتى نجد طريقنا النيّر، بتدابير علمية، ودينية، تقضي على هذه الصعوبات، وعلى هذه المشكلات، وتنقذ حياتنا من الأخطار المفاجئة التي تنتج عن الجهل، وعن الغفلة، وعن الإيمان بالأساطير، وعن المشاعر الإنسانية، التي يمارسها الإنسان دون انتباه.
      وهكذا، نصل إلى نهاية هذه السورة المباركة، فلنؤجل الحديث عن السورة الثانية، سورة "الناس"، إلى حلقة أخرى من التفسير.
      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

      تعليق


      • #4
        سـورة الـفـلـق

        الدرس الأول:
        بسم الله الرحمن الرحيم
        قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
        صدق الله العظيم
        وقفنا أمام هذه الآية المباركة في سورة "الفلق" عندما نقرأ {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}.
        "الغسق" هو الظلام، و"وقب" أي دخل. إذاً {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يعني من شر الليل إذا دخل وأظلم. ولا شك أنّ الليل أحد أنواع الغاسق، ونحن نجد في حياتنا أنواعاً أخرى من الغسق. فالجهل غاسق يقب، والغفلة غسق، والموت غسق أيضاً. إذاً نحن في هذه الآية، بناءاً على أمر من الله وتوجيه من الرسول، نلجأ الى رب الفلق من شر الظلام المسيطر علينا. لماذا نجد في الظلام شراً؟ لأنّ في الليل والظلام والغفلة يجد الفاسد والمتآمر فرصة للتآمر عندما يكون الطرف غافلاً أو نائماً أو لا يرى. وبهذا المعنى، نجد معنى أوسع مما قاله المفسرون، فنحن نلجأ، أي الشرور التي تأتينا بدون انتباه منا، لليل مسيطر علينا، أو لجهل مخيّم علينا، أو لغفلة نعيشها، أو لموت أو شبه موت. فنحن نلجأ مقابل هذه الشرور الى رب النهار من شرور الليل، والى رب العلم من شرور الجهل، والى رب التذكر الذي لا ينسى شيئاً ولا يمكن أن يسيطر عليه نوم أو غفلة. نلجأ الى الله من شر الغفلة التي تعترينا، هذا أيضاً لجوء وتطمين وأمان وقناعة، وفي نفس الوقت تربية للإنسان.
        نتابع قراءة السورة {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}. ما هي النفاثات في العقد؟ يقول المفسرون إنّ النساء اللواتي كنّ يمارسنَ السحر فيقرأنَ أدعية وطلاسم وينفخن في عقد من الحبل، وبذلك يوزعن الشرور ويخلقن المتاعب للإنسان.
        هذا المفهوم غير ثابت في مفاهيمنا الدينية، فالدين دين العلم، أما الواقع في ذلك، والذي نكاد لا نشك فيه، دون أن ننكر المعنى الذي يذكره المفسرون بل نترك علمه لأهله ولمزيد من التفكر. المعنى العملي {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ممكن فهمها بالنساء اللواتي كنّ يشعرنَ بالضعف فيستعملنَ طرقاً ملتوية للدفاع عن أنفسهن أو لإيذاء الآخرين.
        إذاً، المرأة لأنها كانت ضعيفة كانت تستعمل هذه الطرق، فكل ضعيف من جملة النفاثات في العقد. ما هي الطرق التي كنّ يمارسنها؟ النفث في العقد يعني الفتنة في الأفكار، في الإرادة، في العقيدة، في العلاقات، وذلك عن طريق النميمة عن طريق الدس، عن طريق نقل القضايا لحل العقد أو لتعقيدها، المرأة أو الرجل الذي يمارس هذه الطريق، أم المؤسسة التي تمارس هذه الطرق. واليوم يوم المؤسسات، فنجد في عالمنا مؤسسات للفتنة وللتضليل ولقلب الأفكار ولخلق الشقاق بين الأهل، بين الأمة، أبناء الوطن. ولكنا نعاني من جراء هذه الأمور الكثير الكثير، فهناك مؤسسات أُسست خصيصاً للنفث في العقد، القرآن يعلّمنا فيقول: استعيذوا من شر النفاثات في العقد الى رب الفلق، رب الفجر والنور والعلم والحياة والانفتاح، لأنّ الإنسان عندما يتخذ واقعه وموقعه وخياره من منطلق النور والإيمان يجد نفسه في صيانة من النفث في العقد. فالنفاثات في العقد تستفيد من الجهل والغفلة وأمثال ذلك. وهكذا، نجد هذه الجملة أيضاً إراحة وتطمين للإنسان وتربية له.
        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        تعليق


        • #5
          الدرس الثاني:
          بسم الله الرحمن الرحيم
          قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
          صدق الله العظيم
          أمام الآية الأخيرة إننا في هذه السورة نعوذ بالله رب الفلق من شر حاسد إذا حسد، نلجأ الى الله لأنه الخالق، ولأنّ لا مؤثر في الوجود إلاّ هو، ولأنّ اللجوء إليه والتقرب منه دخول في منأى عن هذه الشرور كلها، كما ذكرنا. فالحسد من الشرور والحاسد شرٌ لنفسه وشرٌ لغيره. أما النفس فالحسد كما يقول الحديث الشريف: "يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". يقول الشاعر أبو الحسن التهامي في رثاء ابنه:
          إني لأغبط حاسدي لفرط ما ملأوا قلوبهم من الأوغار نظروا نعيم الله بي فعيونهـم في جنة وقلوبهم في النـار نار الحسد تحرق قلب الحاسد قبل أن تحرق وتضر الغير. إذاً، الحاسد شرّه في الدرجة الأولى لنفسه، وشرّه للآخرين، لأنّ الشر النابع عن الحسد ينطلق من كنه الذات من الغريزة، فيجنّد كل وجود الإنسان، وبإمكان الإنسان أن يضر إذا أراد، فيستعمل الشيء في غير موضعه أو بغير مقداره. وهذا ما قلنا في معنى الشر في بداية تفسير هذه السورة.
          إذاً، الحسد يضر الغير أيضاً والحديث الشريف يقول: "كاد الحسد أن يغلب القدر". إذاً، الحاسد بإمكانه أن يخلق أذىً وشروراً للإنسان. نحن نلجأ إلى الله رب الفلق من شر حاسد إذا حسد.
          فنعالج الحسد. كيف يتعالج الحسد؟ شر الحاسد لنفسه يتعالج بعدم ممارسته، فالحديث الشريف يقول: "رُفع عن أمتي – أي أمة محمد – تسعة .." من جملتها الحاسد إذا لم يمارس حسده، أو على حد تعبير الحديث إذا لم ينطق بشيء.
          نحن نعلم أنّ العُقَد النفسية التي هي خلاف ذاتية الإنسان وفطرة الإنسان إذا لم يمارسها الإنسان فهي تذوب تدريجياً، فإذا لم يمارس الإنسان الحسد بالتدريج يذوب ويضعف عن الإنسان، بينما إذا مارسنا حسدنا، فتحدثنا عن الغير، وذكرناه بسوء، وآذينا الآخرين، وعملنا سعياً لإضراره ولإلحاق الضرر به. فالحسد ينمو، شأنه شأن جميع الصفات النفسية عند الإنسان، تنمو بالممارسة وتذوب بالترك.
          بالنسبة إلى شر الحاسد نحو الغير، نحن نعوذ برب الفلق، أي نلجأ إلى الله وعند ذلك نطمئن ونعوذ إلى الله، أي نتقدم إلى معنى الفلق، النور. فنخطو خطواتنا بمعرفة وعلم وسعي ودراية، فنكون في منأى عن شر الحاسد مهما كان.
          فإذاً، أعوذ برب الفلق، أي أتقدم وأعمل وأخطط وأدرس عملي، حتى لا يمكن للحاسد أن ينال مني، وعند ذلك يعجز فيعالج نفسه ويمتنع عن إلحاق الضرر بي.
          يبقى أمامنا أمر عام بالنسبة إلى هذه السورة نتحدث عنها في الحلقة القادمة.
          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

          تعليق


          • #6
            الدرس الثالث:
            بسم الله الرحمن الرحيم
            قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
            صدق الله العظيم
            نحن في الحلقة الأخيرة من إدراك بعض معاني هذه السورة المباركة نتحدث عن مرض شائع بين الناس، وهو مرض الخوف من "إصابة العين". بمناسبة الآية الكريمة {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد}. بعض العلماء من المفسرين يذكرون "إصابة العين" ويعتبرونها نوعاً من الحسد، ويناقشون في تفاصيلها وأسبابها، ويستخلصون أنّ ضرر مَن يصيب بعينه الآخرين لا يختلف عن ضرر كل حاسد للناس.
            في الواقع، إنّ مسألة العين تتطلب مزيداً من النقاش والبحث، مبدئياً لا يمكن للإنسان أن ينكر شيئاً إلاّ مع دليل، كما لا يمكن للإنسان أن يقبل شيئاً بدون دليل. هذا أصل علمي، عقلي، فلسفي. يقول ابن سينا: إنّ الذي يصدّق شيئاً بدون دليل، أو ينكر شيئاً بدون دليل، فهذا خارج من عادة الإنسان وداخل في غير الإنسان، في نوع غير الإنسان. إذاً، قبل أن يثبت العلم صحة "إصابة العين"، أو قبل أن يثبت العلم "إصابة العين" لا يمكننا أن نقبل شيئاً من ذلك، أو نفي شيئاً من هذا القبيل. كما لا يمكننا أن نمارس العمل على ضوء وهم تأثير العين، أو توهم عدم تأثير العين. لا يمكن للإسلام أن يوافق على التدابير التي تتخذ لمنع "إصابة العين" لمنع إصابة الطفل بالعين من التعويذات وأمثال ذلك.
            فهذه التعويذات - في تصورنا - بقايا الشرك في حياة المؤمنين. أما العين، فلا دليل على تأثير إصابتها على الإطلاق في حياة الإنسان، قد يكون هذا الكلام جرأة مني، ولكني أعود لأقول لا دليل على أنّ الإنسان يصاب بالعين، أو على أنّ هناك نوعاً من البشر يصيبون بعينهم الآخرين. قد يقال كيف تنكر ذلك والقرآن الكريم يؤكد فيقول في الآية المعروفة التي تُكتب على قطع من الذهب وتعلّق على صدور الأطفال أو على الأبواب أو في الغرف، الآية الكريمة التي تقول: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} إلى آخر الآية (القلم:51).
            بطبيعة الحال، هذه الآية لا تعني إطلاقاً ما يقال من "إصابة العين" فزلق بصره معناه الهزء والتهديد كما يبدو من نهاية الآية {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}. الآية تنقل موقف الذين كفروا من الرسول عندما كانوا يهددونه بأبصارهم أو يهزأون به بواسطة أبصارهم أو عيونهم، ولا علاقة للآية إطلاقاً بمعنى "إصابة العين".
            أما التجارب التي تُدّعى فهي في أقصى درجات التجربة تعطي نتيجة خمسين بالمئة، ونحن نعلم أنّ الشيء إذا أعطى في التجربة نجاحاً بنسبة خمسين بالمئة فمعنى ذلك أنّ وجوده وعدمه على حد سواء. نحن لا يمكننا أن نقبل بتأثير العين إطلاقاً، ولا رواية صحيحة تثبت ذلك. والتجارب تبقى تجارب بشرية تنتظر دليلاً علمياً على ذلك. ومن هنا، نعود إلى كل السورة المباركة حتى نقول: الأسلوب العلمي الذي يريد القرآن الكريم أن يعلّم المسلم، أن يعلّم الإنسان هذا الأسلوب عندما يقول أمام أي خطر تخشَونه من عين، أو حسد، أو نفث في العقد، أو غاسق إذا وقب، أو أي شر مما خلق الله، إلجأوا واستعيذوا بالله. والعوذ بالله ليس بمعنى استعارة القوة والاتكال والتواكل، بل بمعنى التوكل والسعي أيضاً. بمعنى أننا نلجأ إلى الله لنطمئن ولنعمل. والعمل للجوء إلى الله والتقرب إلى الله بمعنى السعي لمعالجة الأمور.
            إذاً، العوذ برب الفلق معناه السير نحو النور، نحو الفجر، نحو العلم، نحو الانفتاح، ونحو الحياة، وعند ذلك الإنسان يشعر بأن لا خطر يهدده إطلاقاً ليس له علاج.
            نحن بهذا القدر نكتفي، ويوفقنا لما فيه الخير والصلاح.
            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

            تعليق


            • #7
              سـورة الـنـاس

              الدرس الأول :
              بسم الله الرحمن الرحيم
              قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6) صدق الله العظيم
              هذه السورة المباركة، وهي المعوّذة الثانية، في الواقع صفحة أخرى من صفحات التربية العقائدية السليمة للإنسان المؤمن. عندما يعلّمنا الله على لسان الرسول أن نلجأ إلى الله. ويعبّر عن الله برب الناس، وملك الناس، وإله الناس. وبمعزل عن الأبحاث الفلسفية والتفسيرية فالفرق بين الرب والملك والإله واضح. فرب الناس هو الذي خلق وربّى، أي هو المؤسس لذات الإنسان، ولنفس الإنسان، وإحساسه، وصفاته، وتربيته التي بها يكون الإنسان إنساناً. والملك، هو الحاكم. والإله هو المعبود، طموح الإنسان، مبدأ الإنسان، ونهاية الإنسان، والصفة التي يجب أن يعيش عليها الإنسان لكي يكون عابداً منسجماً مع العبادة. نتذكر الآية الكريمة {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (المزّمّل: 9).
              إذاً نحن نلجأ إلى الله، الله الذي له كل الصفات. ويذكر القرآن الكريم بصورة خاصة صفات ثلاث: الرب، والملك، والإله. يقول لنا: إلجأوا إلى رب الناس وملك الناس، وإله الناس من الشرور التي تخشَونها.
              في هذه السورة، ينقل القرآن الكريم صورة أخرى عن الشرور، تختلف عن الشرور التي وردت في السورة السابقة. ففي السورة السابقة تحدّث القرآن عن الشر البارز، والشر الخفي. فالشر: إما بارز، وإما خفي. عندما كنا نلجأ إلى الله، رب الفلق من شر ما خلق: الشر البارز. ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد: شرور خفية. إذاً، كان المطلوب أن نلجأ إلى الله من الشر البارز، ومن الشر الخفي.
              أما هذه السورة فتعلّمنا أن نلجأ إلى الله من الشر الذي ليس بارزاً كل البروز، ولا هو خفي كل الخفاء. الوسواس الخناس. بمعنى أنّ الإنسان يجد نفسه أمام تأثيرات باطنية تأتي وتذهب. فمعنى الخنّاس الذي يختفي بعد ظهوره. الموجود الذي يظهر، فيهمس في نفس الإنسان، يحرّضه، يخوّفه، يغريه، يهدده، ثم يختفي. ثم يظهر في حالة أخرى. هذا الشر الذي يتراوح بين الحضور والخفاء، نلجأ منه إلى الله. وهنا نقف عند نقطة واضحة تربوية، تؤكد أنّ هذا الشر الذي يتراوح بين الوضوح والخفاء، نلجأ إلى الله بصفاته الثلاث: رب الناس، ملك الناس، إله الناس. بينما التجأنا من أربع شرور في سورة "الفلق"، ثلاثة منها خفية، وواحد منها واضح، التجأنا من أربع شرور إلى الله بصفة واحدة، فاستعذنا برب الفلق من كلها. ولكن هنا نلجأ بصفات ثلاث من الله من شر واحد. وهذا معناه أنّ هذا الشر أخطر من الشرور السابقة. لأنّ الشر هذا ليس واضحاً لكي نواجهه ولا خفياً لكي نتحذر، ونتجنب، ونأخذ التدابير المطلوبة. شر آني يختفي بعد الظهور، ويخلق للإنسان متاعب غير منتظرة. وعلى كل حال، نلجأ إلى الله من شر الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس. باعتبار أنّ القلب، رمزياً في الصدر، عندما يخلق الخنّاس في القلب. والقلب في المصطلح القرآني مصدر فاعلية الإنسان. في القلب يوسوس، فيخلق وهناً في العزيمة، وجبناً في موقع الجرأة، وتردداً في موقع الحسم، وشكوكاً في موضع ضرورة الوضوح. الإنسان يضعف ولا يتمكن من ممارسة الأعمال. فعليه أن يلجأ إلى الله، وهو ربه، وملكه، وإلهه. وعند ذلك، يتمكن من أن يجد في نفسه صفة هي من تربية الله، وإرادة هي من مالكية الله، وملكية الله. وامتداداً وطموحاً وبعداً من ألوهية الله.
              إله الناس، ملك الناس، رب الناس، يحيط بنا من كل جانب. فينجينا من شر التردد، والجبن، والشكوك، والأخطار التي تختفي بعد الظهور، وتظهر بعد الخفاء. وبذلك نعالج المحنة فنطمئن، ونضع حداً لها، حيث نضع أنفسنا في منأى من هذه الشرور. من الطبيعي أنّ البحث بحاجة إلى مزيد من التأمل. سنتحدث فيه في الحلقة القادمة.


              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

              تعليق


              • #8
                الدرس الثاني:
                بسم الله الرحمن الرحيم
                قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6) صدق الله العظيم
                كنا نتحدث عن خطر هذا النوع من الشر، الذي يختفي بعد الظهور: الوسواس الخنّاس، الذي يوسوس في صدور الناس. وكنا نقول: إنّ هذا الخطر أخطر من الشر البارز، ومن الشر الخفي.
                في الواقع، إنّ أمثلة هذا الشر كثيرة. فالنفاق عند الإنسان، والمنافقون داخل صفوف مجتمعنا، أنواع من الوسواس الخنّاس، الذي يوسوس في صدور الناس. كل مَن يخلق تردداً، أو شكوكاً، أو جبناً، أو ضعفاً في طريق الحق، بأساليب ملتوية، يجب أن يحارب. ومحاربته بأن نلجأ إلى ربنا، وملكنا، وإلهنا. لا رب لنا غيره، ولا إله لنا سواه، ولا ملك لنا إلاّ إياه.
                إذاً، نحن نلجأ إلى الله. واللجوء بالمعنيين اللذين تحدثنا عنهما تكراراً في هاتين السورتين المباركتين.
                نلجأ إلى الله، بمعنى نستمد العون والقوة، لتطمئن قلوبنا بذكره. ونلجأ إليه، أي نتقرب منه، فنعمل بمقتضى تربية الله، وحكم الله، وعبادة الله، نطهر أنفسنا ونطهر صفوفنا. نستعرض صفاتنا لكي نجد ما هي الصفة، التي يدخل من خلالها الوسواس الخنّاس. ما هي نقطة الضعف في نفوسنا التي تجعل منا مترددين، خائفين، موسوسين، جبناء في وقت العزيمة. ونستعرض صفوفنا كأمة، كوطن، كمجتمع، كمؤسسة، لكي نطهرها من المنافقين. نقاط الضعف، الوسواس الخنّاس الذي يوسوس فيخلق فتنة في نفوس الحاضرين، ونفوس العازمين، ونفوس المقبلين على عمل معيّن.
                ويتابع القرآن الكريم، في تعميم هذا النوع من الشر، فيقول: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاس}. هؤلاء الموسوسون الخنّاسون، قسم منهم بارزون، وقسم منهم ليسوا بارزين. فهم من الناس، ومن الجن. الجن بمعنى العنصر الخفي. إذاً، هناك شرور تأتي بشكل الخفاء بعد الظهور، والظهور بعد الخفاء من الإنسان. يجب أن نعرفه. يجب أن نعرفه ونتجنبه وهناك شر، يأتي من قوى خفية، من موجودات خفية، من عناصر خفية لا نعرفها. يجب أن نتصدى لها، أي أن نحصّن أنفسنا أمام تأثيراتها.
                ومعنى الجن في القرآن الكريم معنى عميق وعظيم. فإذا راجعنا القرآن الكريم، في أماكن مختلفة، نجد أنّ كلمة الجن وردت في مجموعة من السور.
                والقرآن يؤكد أنّ الجن نوع من الخلق، مستور عن حواسنا. إنه موجود، نوعه نوع آخر غير الإنسان. فالإنسان خلق من التراب، من المواد الغذائية التي تتكون كلها من التراب. أما الجان خلقناه من قبل من نار السموم. وأيضاً، نجد أنّ الجن، أنّ معاشر الجن يعيشون ويموتون، ويُبعثون كالإنسان. في سورة الأحقاف آية 18 نقرأ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}. فيهم ذكور، وإناث، يتكاثرون بالتوالد والتناسل. سورة "الجن" تؤكد: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (الجن:6). وأنّ الجن لهم شعور، وإرادة، يقدرون على حركات سريعة، وأعمال شاقة، كما تقول ذلك قصة سليمان، وتسخير الجن، وبناء الجن لسليمان القصر. وقضية ملكة سبأ، وأنه {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل:39) بالصورة التي نعرفها. وأنّ الجن مكلّف كالإنسان. مؤمن وكافر. صالح وطالح. يجب عليه العبادة، وأمثال ذلك من الصفات التي هي صفات الإنسان.
                إذاً، ما هي حقيقة الجن. بإمكاننا أن نقول: موجودات خفية، ما اكتشفناها، ولكنها موجودة. ونحن نعرف أنّ إدراكنا، إدراكنا الحسي، بعيوننا، بأسماعنا، بحواسنا، محدودة بدرجة معيّنة من الذبذبات. الأصوات التي تتجاوز أو تقلّ ذبذباتها الدرجة المتعارفة، لا يمكن أن ندركها، ولا اللون، ولا سائر الأشياء. إذاً، ليس بإمكاننا أن ننفي معنى الجن، والقرآن الكريم يؤكد ذلك.
                وبإمكاننا أن نقول: إنها موجودات خفية، أو بشر غير أنيس، يعني البشر الوحشي، أو البشر الذي هو خافٍ عن الإنسان، الموجود في البلاد كما يريد بعض المفسرين أن يقول. فللجن أبحاث، ومعانٍ تفصيلية لدى المفسرين، لا بد من تخصيص حلقة له. أما الملك، فمن الواضح أنّ القرآن يقصد بالملك، والملائكة مدبروا قوى الخير في العالم.
                وفي نهاية الكلام عن السورتين المباركتين، علينا أن نقول: العوذ بالله فقط، ليس بأحد غير الله. والعوذ بالله، معناه اطمئنان القلب، وسعي الجسد للنجاة. وورود هاتين السورتين في نهاية القرآن الكريم، بعد إكمال القرآن، يعطي معنىً أوسع. فمعنى ذلك، بعد أن اكتمل الحق، واتضحت الصورة، وتكونت الشخصية القرآنية، فليس لك أيها الإنسان المؤمن إلاّ أن تكون صامداً أمام الشرور الخفية والظاهرة، والشرور التي تختفي بعد ظهورها. صمودك باللجوء إلى الله، بالتقرب من الله، بالاتصاف بصفات الله. وهكذا، نتمكن من التغلب على الأخطار وعدم السقوط بعد أن نجوت.
                نعوذ بالله (سبحانه وتعالى) من كل الشرور، ونسأله النجاة.
                والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                تعليق


                • #9
                  سـورة الإخـلاص

                  الدرس الأول :
                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) صدق الله العظيم
                  هذه السورة المباركة التي تسمّى في القرآن الكريم بسورة الإخلاص تعدّ من أهمّ السور القرآنية، حتى أنها في كثير من الروايات تعادل ثلث القرآن الكريم.
                  والسبب في ذلك ما اجتمع في هذه السورة المباركة من المعاني العقائدية والثقافية والعلمية والأخلاقية، بحيث تجعل هذه السورة ركناً كبيراً، أو معبّرة عن قسم كبير من الأركان في الإسلام، ولذلك فسوف نحاول بإذن الله أن نوسّع بعض الشيء في تفسير هذه السورة المباركة.
                  فلنبدأ بجملة تتكرر مع كل سورة، وهي في منتهى الأهمية، جملة {بسم الله الرحمن الرحيم}. نحن نشاهد أنّ كل سورة من سور القرآن تبدأ بهذه الجملة، وهي بموجب الروايات الواردة عن الرسول الأكرم (ص) وعن أئمة أهل البيت (ع) جزء من السور القرآنية.
                  أما معنى هذه الجملة فيتلخص في كلمة {بسم الله}، ونحن نعلم أن "بسم الله" (في الإعراب) جار ومجرور وظرف، والجار والمجرور يحتاجان إلى متعلق.
                  المفسّرون بحثوا أبحاثاً طويلة قائلين أنّ {بسم الله} متعلق بجملة "أستعين" المحذوفة، أو "أبدأ" وأمثال ذلك. ولكن المتعمق في القرآن الكريم يجد معنى أوسع وأشمل من هذه التفاسير المختلفة. إننا نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يعتبر أنّ الإنسان خليفته في الأرض، والخليفة هو الذي يقوم مقام الإنسان في عمل ومهمة ينفّذ أهدافه بملء إرادته وباختياره، فالقلم ليس خليفة الإنسان، ولا الكتاب، بل الخليفة هو الذي يمتلك الإدارة والخطة والاختبار ينفّذ من خلالها أهدافه الأصيلة. الإنسان خليفة الله في الأرض، أي أنه يتصرف في توجيه الموجودات الكونية، وفي وضعها في الخط المطلوب من الخَلق، ويضيف القرآن الكريم أنّ ما يملكه الإنسان في الحياة هو أمانة من الله، فعندما لا نملك مالاً أو جاهاً أو تجربة أو غير ذلك، فإنّ هذه الأمور أمانة من الله، ونحن مستخلَفون في هذه الأمور، ولقد أمرَنا الله سبحانه وتعالى بقوله:{ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (الحديد:7)، من هذه الآيات وغيرها نكتشف أنّ الإنسان في الحياة مكلَّف بتنفيذ إرادة الله في الخَلق، وهو مزوَّد بإمكانات وقدرات يتمكن من خلالهـا من تحقيق أوامر ورغبات الله والأهداف الإلهية في الخَلق.
                  إذاً: الإنسان عندما يسلك السبيل الصحيح والخط المستقيم إنما ينفّذ إرادة الله في الأرض، فهو لذلك مندوب من قبَل الله (وخليفة لله)، وبالتالي هو ينفّذ الأفعال باسم الله. كما القاضي عندنا: إنما يحكم باسم الناس أو باسم العدالة، والممثل للحاكم عندما يفتتح المشروع يفتتحه باسم الحاكم، فالإنسان في حياته يعمل باسم الله وكأنه يقول بذلك أنّ الله هو الفاعل الأصيل للأمور وللأشياء: كما يقول القرآن الكريم في بعض الآيات، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} (الأنفال:17).
                  الإنسان يعرف ذلك، ثم يدرك أنه مكلَّف من قبَل الله بتنفيذ هذه الإرادة الإلهية المباركة، فهو يعمل باسم الله، وقد أمرَنا الحديث الشريف المأثور عن رسول الله أن نعمل كل شيء باسم الله، وقال (ص): "ما من أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله إلا وهو أبتر" (أي منقوص)، ولذلك فإننا مكلّفون أن نعمل، أو نقول، أو نمارس المسؤوليات والأعمال الواجبة علينا في الحياة باسم الله تعالى، وعند ذلك نعود الى هذه الآية الشريفة، فندرك أننا في كل شأن صحيح من شؤون حياتنا: نعمل، نقول، نسكت، نفعل، نمارس، نقرّ، ننفي، نناضل، نحارب. وكأننا خلفاء الله في هذه الأمور، إذاً: نعمل باسم الله، وهو الرحمن الرحيم الذي يريد الخير للإنسان وللخَلق كله، فابتداء أقوالنا وأعمالنا ونشاطاتنا باسم الله يمنع عنا الغرور، ويؤكد أننا لا نمارس الأعمال بحولنا وقوتنا (وبالتالي باسمنا). من جهة أخرى، يدفع بنا قول باسم الله بقوة وبرسالة وبإيمان بالنصر، حيث أنّ الله يده فوق أيديهم، إذاً: عندما نعمل باسمه ننتصر، بالإضافة الى أننا حينما نمارس العمل باسم الله فإننا ننتبه الى سلامة العمل أو عدم سلامته، فإذا كان الجانب التربوي صحيحاً نعمل، وإلا فنترك، وهنا نجد الفرق بالجانب التربوي في هذه الجملة، الجانب الذي يخلق في نفوسنا ثقة بالله واعتماداً عليه، لا اعتماداً على النفس كما هو الشائع، فالإنسان إذا اعتمد على النفس في أعماله فهو معرّض للغرور، وإذا كان الإنسان يمارس العمل باسم الله فإنه لا يصاب بالغرور أولاً، ثم أنه يتميز بعمله أن يكون صالحاً، ولا يمارسه في غير هذه الصورة، إذاً: إذا بدأنا أعمالنا وقراءتنا ونشاطاتنا باسم الله، فنحن ندرك ونطمئن ونثق بالنصر، وندرك مراقبة الله لأعمالنا، وبالتالي نمارس العمل الصحيح فحسب، وهكذا: السور القرآنية عندما نقرؤها، والأعمال الحياتية عندما نمارسها، فإننا نجد أنفسنا محاطين بعناية الله (سبحانه وتعالى) كممثلين له، فنتأكد من النصر لأننا نعمل العمل باسمه تعالى، وهكذا: تبدأ السورة وباقي السور بهذه الجملة المعجزة التي هي دفع ومراقبة وتأكيد للنصر، دون جعل الإنسان مغروراً في حياته أو في انتصاراته أيضاً.
                  إذاً: تبدأ سورة الإخلاص بكلمة {بسم الله الرحمن الرحيم}، وهي كلمة لا شك تمثّل جزءاً من كل سورة، وقد اخترنا هذه السورة لنذكر جانباً من التفسير.
                  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                  تعليق


                  • #10
                    الدرس الثاني :
                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) صدق الله العظيم
                    هذه السورة ذكرنا أنها تسمى الإخلاص، وهي من أهم سور القرآن، فقد ورد بشان نزولها أنّ اليهود على لسان بعض علمائهم سألوا رسول الله (ص) عن نسب الله الذي يعبده، وهذا السؤال على طريقة اليهود هو دسّ على الإسلام واستغلال لمنطق العرب، حيث كانوا يعدّون لكل شيء نسباً، فالأفراد والأشخاص والقبائل والخيل كانت ذات نسب عندهم، والآلهة التي كانوا يعبدونها كانوا يذكرون لها أنساباً.
                    ولذلك، فقد كان السؤال محرِجاً للغاية، فنـزلت السورة بعد بضعة أيام وتأمل منه (ص)، فأكّدت أنّ الله الذي يعبده الرسول (ويأمر بعبادته) لا نسب له. أنّه أحد صمد لم يلد ولم يولد وليس له أحد كفؤاً، وبذلك أجاب الرسول عن السؤال.
                    أما تفاصيل السورة، فالسورة تبدأ بكلمة {قُلْ}، وعلينا أن نقف متأملين في هذه الجملة، فكلمة {قُلْ} موجًّهة في الأساس إلى الرسول الأكرم (ص)، فالله يأمره أن يقول للناس: الله أحد، الله الصمد. فلماذا نقَل الرسول الجملة التي كانت موجَّهة إليه؟، لأنّ هذا شأن الرسول الأكرم، فالرسول بالنسبة إلى وحي الله كان كالمرآة ينقل للناس كل ما يسمع، حتى عندما كانت الآيات الموجَّهة إلى الرسول نقدية تربوية، تربّي الرسول، تكمّل خلق الرسول، تلفت نظر الرسول إلى بعض الأشياء، تنتقد سلوكاً معيّناً من الرسول الأكرم. كان الرسول بمقتضى أمانته ينقل كل ذلك إلى الناس.
                    وهذه الصفة واردة في الأناجيل المقدسة، سيما في إنجيل "متّى"، عندما ينقل عن لسان المسيح (ع) بشارة بدعوة الرسول محمّد، فيذكر الكتاب صفات للرسول محمّد، أهمها أنه ينقل كل ما يحوى إليه للناس، إذاً: كلمة {قُلْ} موجَّهة إلى الرسول، فينقل للناس بناءً على الأمانة المحمدية للرسالة، فهو كالمرآة، {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ربي الذي تسألون عن نسبه، الله. اسم وعَلَم لذات الخالِق، ومعنى كلمة "الله" واجب الوجود، الذي يجمع جميع الصفات الكمالية، أي: الأسماء الحسنى، الكلمة علَم لذات الله، وهي قمة لإدراك الإنسان عن الخالِق.
                    فإذا درسنا معرفة الإنسان عبر التاريخ، نجد أنّ الإنسان الذي كان بمقتضى فطرته، لا بمقتضى عقدة الخوف والجهل والقلق وأمثال ذلك (كما يقول الباحثون)، بل بمقتضى فطرته أدرك أن له وللعالَم خالِق، كان يدرك الخالِق بصورة مبهَمة، ففي البداية كان يعتبره خالقاً، ثم تطوّر فكر الإنسان وأدرك المزيد من صفات الله، فسمّاه ملكاً، ملك الملوك (كما ورد في تعاليم التوراة)، وبعد ذلك تطوّر الفكر البشري بمقتضى دعوة الأنبياء وبمقتضى تجربته وزيادة معرفته، فاعتبر الله أباً، أي: خالقاً ورازقاً ورحيماً، ولكن المعنى لا يعطي جميع صفات الكمال، حتى وصل الإنسان في نهاية المطاف إلى أن أدرك أنّ خالقه (بالإضافة إلى صفة الخَلق والرزق والحكم والرحمة) هو قمّة الكمال، فما من كامل في الوجود إلا وينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.
                    إذاً: كلمة "الله" كلمة متفردة متميزة، وليس لها بديل، ولهذا السبب نجد أنّ ترجمة هذه الكلمة في اللغات الأجنبية لا يمكن أن تتم بالألفاظ التي تترجَم الكلمة بها في وقتنا هذا، أما المترجمون الذين لهم الخبرة الكافية والمعرفة بالفكر الإسلامي والمعنى القرآني فيعتبرون كلمة "الله" كلمة لا تترجَم، ففي الترجمة الفرنسية أو الإنكليزية أو الفارسية وغير ذلك ينقلون كلمة "الله" كما هي باعتبار أنّ هذه الكلمة لا بديل لها، وهي علَم، والعلَم لا يترجَم كما نعلم.
                    إذاً، الرسول يقول: ربي الله، وهو أحد، ومفهوم هذه الكلمة أكثر من مفهوم كلمة "واحد"، فـ "واحد" له اثنين، أما "أحَد" فليس له ثاني. إذاً: الله واحد لا جزء له في الذهن ولا في الخارج، وليس له مفهوم مركّب، ولا واقع مركّب، فهو "أحَد"، وليس له جزء بأي معنى من معاني الأجزاء الخارجية والفلسفية والمنطقية وغير ذلك.
                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                    تعليق


                    • #11
                      الدرس الثالث :
                      بسم الله الرحمن الرحيم
                      قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) صدق الله العظيم
                      {اللَّهُ الصَّمَد}: فالصمد بمعنى المقصود، وعندما نقول: "الصمد" يعني: وحده المقصود، يعني: لا يُقصد غيره، وحصر المقصودية بالله معناه أنّ كل الموجودات تقصده تعالى، وهو لا يقصد شيئاً ولا أحداً، إذاً: لا يحتاج إلى الغير، ولا يطلب من الغير، ولا ضعف فيه حتى يتقوّى بالغير.
                      إذاً: ربي (يقول الرسول) هو الصمد، يعني الكامل القوي، لا ثغرة فيه، ولا خلل لديه، ولا يحتاج لغيره.
                      نتابع قراءة السورة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}. وهنا لا يزال الرسول في السورة المباركة الموحاة إليه، حيث تتحـدث عن نسب الله {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}. إذاً: ليس له أب ولا أم، كما أنه ليس له أولاد. وبذلك، الجملتان تنفيان جميع أنواع الانتساب إلى الله، فليس له أب، أي ليس له عم ولا عمة ولا أولاد عم ولا قبيلة منتمية لأب. ليس له أم ولا خال ولا خالة ولا قبيلة منتمية عن طريق الأم. ليس له أولاد ولا أحفاد ولا أصهرة ولا أنسباء، إذاً: ليس له من نسب ولا سبب . {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، أي: لا أحد كفؤا له، والجملة تكمل المعنى، وملخّص معنى الجملتين أنّ الله سبحانه وتعالى ليس له قبيلة، ولكن المعنى أعمق من ذلك: ليس له مساعدون ولا أكفّاء.
                      إذاً: هو لا ينتسب الى أحد، ولا يتسبب بأسباب الى أحد، فهو الواحد الذي تتساوى أمامه كل الموجودات، فلا علاقة خاصة مع أحد من شخص أو طبقة أو مكان أو يوم، هو للجميع، والجميع متساوون بالنسبة إليه، فهو الواحد الأحد، الذي لا ينتسب إلى أحد، نسبته إلى الجميع، ونسبة الجميع إليه متساوية.
                      وهذا يجعل الله مجرداً عن كل انتساب، ويجعل فاصلة بينه وبين كل الناس، ويجعل إمكانية وصول كل الناس إليه واحدة متساوية، وهذا المعنى بالذات، أي: عدم انتساب الله إلى الشخص أو الطبقة أو المكان أو الزمان. هذا المعنى هو قمة التوحيد ومنطلق لجميع الأفكار والعقائد والأعمال.
                      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                      تعليق


                      • #12
                        الدرس الرابع :
                        بسم الله الرحمن الرحيم
                        قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) صدق الله العظيم
                        في القسم الأخير من هذه السورة المباركة (سورة الإخلاص)، نقف أمام الرؤيا العامة التي ترسمها السورة عن معنى الله ونسب الله (كما طولب الرسول به)، فنجد أنّ الله الذي تصفه هذه السورة لا نسبة بينه وبين شخص واحد ولا قربة إلى شيء، ولا قرابة بينه وبين أي شخص أو زمان أو مكان، هذا المعنى معنى جليل يساوي منطلق الدين والفكر والتقدم، والسبب واضح: عندما لا يكون لله انتماء خاص (بالنسبة للشخص) فليس في الوجود أحد يكون قريباً من الله بدون سبب أكثر من غيره، فليس لله نسيب، ولا ظل، ولا أمين، ولا خازن، ولا كفء، ولا آلة معينة. الناس سواسية عند الله كأسنان المشط.
                        إذاً: كل إنسان بمقدار عمله (أو على حد تعبير القرآن: بأحد الموازين الثلاثة) يقترب من الله: بتقواه أو بجهاده أو بعلمه.
                        والطبقات ليست متفاوتة عند الله، فالفكر الطبقي الذي كان سائداً لدى الإغريق أو لدى اليهود، حيث كان هناك فئة قريبة من الله، وفئة منبوذة أو بعيدة، أو فئة مخصصة للنار، وفئة محتكرة للجنة، هذه الأفكار غير صحيحة. كما أنّ فكرة اليهود عندما قالوا أنهم أولياء لله من دون الناس (أو على حد التعبير المعروف: "شعب الله المختار") فهي فكرة مرفوضة.
                        إذاً: كل الناس، كل الطبقات، كل الفئات، كل العناصر. أبيض، أسود، أحمر. طويل، قصير. أولاد الأغنياء، النبلاء، رجال الدين (وغيرهم). عند الله متساوون.
                        وهذا معنى تربوي يمكّن كل فرد أن يتقدم إلى الله بمقتضى عمله وسعيه وتقواه وجهاده وعلمه. من ناحية أخرى: الأماكن كلها متساوية، إلا المكان الذي يأمر الله بشأنه بأمر أو عمل أو ممارسة عبادة أو انطلاقة معيّنة، يعني ضمن الأمر الإلهي، فليس هناك أماكن بعيدة وأماكن قريبة، وليس هناك أيام مفضّلة عن أيام أخرى، وليس هناك أيام نحس وأيام سعد (تلك الأفكار التي كانت شائعة بين الناس وكانت تمنع من العمل في بعض الأيام).
                        ومن جهـة أخـرى: عندما يكون الله متساوٍ لدى الجميع، فالجميع مصدرهم واحد، وعند ذلك يسيطر على الإنسان الشعور بالوحدة. وحدة المجتمع. كما أنه بذلك يعتبر كل ما عدا الله (غير الله) في طريق الكمال يعانون من بعض النقص، فيعذر الإنسان أخاه الإنسان، وبذلك يجد نفسه أمام صورة سليمة حسنة متفائلة من البشر الآخرين.
                        من هذا كله اعتُبرت هذه السورة ثلث القرآن الكريم، أو الثلث الأول من الإسلام، لأنّ الأصول الثلاثة للإسلام هي التوحيد والنبوة والمعاد، والثلث الأول (والركن الأول) هو التوحيد، والتوحيد موجود بكمال معناه في هذه السورة، بالإضافة إلى الركن الأول من العقيدة من حيث الثقافة ومعرفة الله، ومن حيث العمل والسعي المتساوي، مما يوحّد النتيجة لكل البشر، فالعبادة ليست إلا لله، والحاجة ليست إلا لله، لأنّ الفرق بين البشر غير موجود، فالحاجة من مخلوق إلى مخلوق آخر (كما يقول الإمام السجّاد) "سفه في العقل وزلّة في الرأي".
                        بالإضافة إلى هذا، فالمعنى التوحيدي يخلق خُلقاً خاصاً وصفاءً وإحساساً موحداً بالنسبة للبشر، إذاً: هذه السورة بالإضافة إلى العقيدة التوحيدية (التي هي ثلث الإسلام وثلث القرآن) تكوّن صورة عن المجتمع، عن العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، عن عدم الحاجة والعبادة إلا لله، عن إمكانية تقدّم أي إنسان وكسر جميع السدود.
                        بالإضافة إلى هذه: فهذه السورة تحطّم الأصنام من طريق الإنسان، فليس أمام الإنسان شعور بالنقص ولا التفاضل، وليس هناك أيام أو أماكن غير سعيدة تُعدّ من النحس ولا يمكن العمل فيها، إنّما العمل (فقط)، لأن القرآن الكريم يقول أن ليس للإنسان إلا ما سعى.
                        إذاً: هذه السورة المباركة (سورة الإخلاص) تشكّل ركناً في العقيدة والثقافة والفقه والأخلاق والمشاعر.
                        نسأل الله أن يوفّقنا لاستلهام معانيها وأن يجعلنا من الموحدّين في عبادتنا وحاجتنا وأعمالنا ورؤيتنا، فنؤمن بالله الواحد ولا نشرك به أحداً، فلا إله في الأرض ولا آلهة غير الله، لذلك: لا نحتقر أخانا الإنسان، ولا نعتبر عنصرنا فوق عنصر الآخرين، لأنّ النبع واحد، والله واحد، والطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، والسير والسعي والجهاد مفتوح للجميع.
                        كل هذا بالإضافة إلى معنى آخر في منتهى السمو، وهو أنّ الحق (كل حق في العالَم) من عدل أو علم فإنه مِثل الله: لم يلد ولم يولد. فالعلم لا يولد ولا يلد، العلم مفتوح للجميع، كل من تعلّم يصبح عالماً مثقفاً، والحق لا يوزَن بميزانين، أفيكون قريب الإنسان على حق إذا عمل عملاً؟ بينما إذا عمل الغير نفس العمل ليس هو على حق؟ بل على باطل؟ فالحق من الله: لم يلد ولم يولد، وهكذا كل الكمال، والكمال مجسّد ومتكامل في ذات الله، وكل الكمال لم يلد ولم يولد، وهذا باب آخر للتكامل وللطموح نحو الكمال في الإنسان، وهو باب يكوّن للإنسان سلوكاً عاماً في حياته ويفتح للإنسان باب التكامل.
                        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                        تعليق


                        • #13
                          سـورة المـسـد

                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5) صدق الله العظيم
                          إنّ هذه السورة المباركة التي تذكر نفياً لرجل اسمه "أبو لهب"، أو كنيته "أبو لهب"، واسمه "عبد العزّى". هذا الإنسان الذي هو قريب من رسول الله يختص بالعتاب والتهجم في القرآن الكريم، لأنه منحرف، تأكيداً بأنّ العنصرية والقبلية والقرابة لا علاقة لها في الإسلام، فهو يرفض الكافر ولو كان عم النبي (عليه الصلاة والسلام).
                          والسورة نزلت في أبي لهب، وفي زوجته، التي يسميها القرآن الكريم بـ {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، واسم هذه الإمرأة "أم جميل بنت صخر". وكانت تنقل أحاديث الرسول إلى الكفار، وتشوش بين الناس، وتقوم بالنميمة بينهم هنا وهناك. كما أنها كانت تضع الحطب والشوك في طريق رسول الله عندما كان يمر، والشوارع آنذاك كانت ضيقة، وكان الرسول يتعذب من ذلك.
                          وقد نزلت السورة بعد أن دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع أهله وأقربائه، بناءاً على الأمر الإلهي {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214)، دعاهم وبشّرهم بالإسلام، ودعاهم وقال لهم: "أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم وممسيكم، ما كنتم تصدقونني؟". قالوا: "بلى". قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". عند ذلك قال أبو لهب: "تباً لك، ألهذا دعوتنا جميعاً؟". فنزلت الآية: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
                          في تكنيته بأبي لهب تحقيراً له، وربطاً بينه وبين النار، انحراف أبي لهب يؤدي إلى إبعاده، وسوف لا يغني عنه ماله وما كسب، وما اكتسب من مجد وعلاقة وصلة مع جميع الناس، كل ذلك لا يحول دون أنه سيصلى بالنار ذات اللهب في دنياه وفي أخراه، كما نقول: العذاب عذابان: عذاب عاجل في الدنيا، وقد عُذّب بذلك وقُتل واحتُقر، وعذاب أخزى يوم القيامة.
                          أما امرأته "أم جميل" فقد سمّاها القرآن الكريم بـ {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، وهذا شعار إعلامي رائع، عندما لفظ به رسول الله أصبحت الكلمة كنية لهذه المرأة، التي كانت تراها سيدة مجتمعها، ولكنها كانت تتصرف تصرف الصغار في سلوكها. قال الرسول عنها "حمالة الحطب"، فأصبح لها شعاراً. ثم يضيف القرآن الكريم أنه في {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}، كأنّ القرآن يرسمها في الآخرة عندما تحمل في جيدها حبلاً لنقل الحطب من مكان إلى مكان لتعذيب الرسول أو نقل الحطب للنار لإشعال الفتنة بين الناس، من أجل خلق الفتن بين المجتمع.
                          والواقع أنّ كل مَن ينمّ وكل مَن ينقل الفتنة وينقل المشكلة والأخبار بين الناس وبين الأخوة وبين أبناء المجتمع يسمى في مصطلح القرآن تابعاً لحمالة الحطب.
                          فكأنّ الإنسان الذي ينقل الحديث من مجلس الى مجلس لأجل الفتنة كأنه ينقل وسائل الإشعال، أو كأنه يحمل الحطب على ظهر لسانه لافتتان الناس، ولإشعال النار بين الناس، وهكذا يرفض الرسول أفعال هذا الرجل وزوجته، ويدينهما لأجل إبعاد الأمة من متابعة سلوكهما، أبعدنا الله عنهما وعن سلوكهما، وجعلنا نتفق ونتمسك بالحق دون الالتزام بالقرابة والانجراف في الشهادة للمصلحة.
                          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                          تعليق


                          • #14
                            سـورة الـنـصـر

                            الدرس الأول:
                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
                            صدق الله العظيم
                            إنّ هذه السورة المباركة بشارة للرسول ولأصحابه بفتح مكة، ولا شك أنّ فتح مكة كان بشارة عظيمة، لأنه كان تحريراً لكعبة المسلمين ولقبلتهم، وتمكيناً لهم من الحج، وهو أحد أهم مشاعرهم وواجباتهم، ثم أنّ فتح مكة كان تحطيماً لقاعدة الاعتداء، لأننا كما نعلم خلال فترة ما بعد الهجرة، عشرات من الهجمات انطلقت من مكة نحو المجتمع الحديث الذي أسسه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
                            فالآية في البداية، والسورة كلها، توجه الرسول وتبشره بالفتح، وتعلّمه على ما يجب أن يعمل تجاه هذه النعمة العظيمة، والنعمة عظيمة بسبب ما ذكرنا، وبسبب أنّ قبائل قريش، أنّ قبائل مكة، بل وقبائل الجزيرة جميعاً، كانوا يتوقعون نهاية الصراع بين رسول الله وبين قريش، وكانوا يقولون إذا انتصر محمد على أبناء عمه، فإنه المنتصر على الجزيرة، لموقع مكة ولقوة قريش لأنهم كانوا سادات العرب.
                            إذاً، الانتصار على قريش معناه الانتصار على العرب جميعاً، ولذلك تؤكد السورة المباركة {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . عندما تنتصر على قريش وتدخل مكة، سوف يدخل الناس في دين الله أفواجاً، لا يبقى بينهم وبين الإيمان مانع أو رادع، ولهذا السبب، عندما نزلت الآية فرح الكثير من أصحاب الرسول، وحزن البعض، واعتبر أنّ هذه السورة نعي من قِبل الله (سبحانه وتعالى)، وإعلان عن قرب وفاة الرسول لأنه بذلك تنتهي رسالته الكريمة وبعد تمكنه من تثبيت دعائم مجتمعه، وبلغ رسالته، وربى فرداً مسلماً، وأسس مجتمعاً مسلماً.
                            وتفاصيل هذه السورة المباركة: إنّ الله يبشّره بالفتح، ولكن يقول: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فالنصر من الله وليس من عندك، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} شكراً لهذه النعمة العظيمة عليك أن تسبّح بحمد الله، تشكره وتنزهه عن النواقص، {وَاسْتَغْفِرْهُ}، وفي ذكر معنى الاستغفار نقطة عالية تربوية وسامية، وذلك لأنّ الإنسان عندما ينتصر تأخذه العزة، ويشعر بالغرور، رغم أنّ الغرور بعيد عن الرسول، ولكن سيطرة الغرور على أصحابه، وتوهم اقتراب الغرور منه، يجعل الله (سبحانه وتعالى) يحذر الرسول من أن يستدرج بالغرور فيقول: {وَاسْتَغْفِرْهُ} يجب عليك أن تستغفر الله لما تصاب به من بوادر الغرور، ورشحات الغرور.
                            والحقيقة، أنّ الإيمان الحقيقي للإنسان يُكتشف في مثل هذه المواقف، فكما أنّ النصر يجعل الإنسان ينحرف، فالهزيمة والغضب والمصيبة والفقر والغنى وغير ذلك من الحالات، تجعل الإنسان المؤمن يهتز، فإذا كان الإيمان عميقاً في نفسه، فإنه يتمكن من الاستمرار بالتصرف المؤمن. أما إذا كان الإيمان حديثاً وسطحياً في نفسه فسوف ينحرف.
                            ولذلك فقد ورد في الحديث: أنّ الرسول دخل مكة مطأطئ الرأس، مستغفراً الله (سبحانه وتعالى)، وعندما سمع أنّ أحد رجاله يحمل الراية ويقول: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة"، أمر علياً أن يدركه ويأخذ الراية منه وقال له: "كن أنت الذي يدخل بها، وادخلها دخولاً رقيقاً، وقل: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشاً". وعندما اجتمع بصناديد قريش قرب الكعبة، كانوا يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم، جاء الرسول ووقف على باب الكعبة وقال: "لا إله إلاّ الله، وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وهكذا أكد لهم أنّ الله (سبحانه وتعالى) هو الحاكم، وهو المنتصر، وهو الذي يجعل كل مَن يتبعه منتصراً، ثم عاتبهم وقال لهم: "لبئس جيران النبي كنتم، فقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم والآن ماذا تقولون إني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم". فقال: "إذهبوا فأنتم الطلقاء". فخرج القوم فكأنما نُشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وكان الله (سبحانه وتعالى) أمكنه من رقابهم عنوة، ولذلك سمّي أهل مكة بالطلقاء.
                            دخل الرسول في شهر رمضان المبارك مكة وتم النصر له. ونحن نرجو الله (سبحانه وتعالى) أن يتم لهذه الأمة النصر فيدخلون في مثل هذا الشهر المبارك الكعبة والقبلة الثانية بإذن الله.


                            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                            تعليق


                            • #15
                              الدرس الثاني :
                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
                              صدق الله العظيم
                              إنّ هذه السورة المباركة نزلت في واقعة فتح مكة، أحد الأيام الخالدة في تاريخ الإسلام. ويمتاز هذا اليوم، بأنه قمة الانتصارات الإسلامية، وأنه في نفس الوقت، قمة الكمال الخلقي الذي تجسد في سلوك الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام) في ذلك اليوم.
                              إنّ فتح مكة كان نهاية السلسلة التي بدأت في واقعة بدر الكبرى، عندما حصل الصدام الأول بين الأمة الجديدة التي بناها الرسول في مدينة يثرب، وبين أعدائه الشرسين من مشركي مكة. وقد سمى القرآن الكريم تلك الواقعة ويومها بـ "يوم الفرقان" {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان} (الأنفال:41). ثم استمرت الحلقات والهجمات والمؤامرات، إلى أن وصلت إلى يوم مكة، وهي نهاية الأحداث.
                              ويوم مكة كان منتظراً من قِبل كافة القبائل في جزيرة العرب. حيث كانوا ينظرون إلى مصير المعركة الحامية التي تدور رحاها بين الرسول وبين قريش. حتى إذا تمت المعركة، ودخل الرسول مكة، دخلت القبائل جماعات وفرادى في دين الله، وانتهى الجزيرة بأمر الله، ولذلك، فإنّ واقعة فتح مكة، هي نهاية السلسلة الأولى، وبداية الانطلاقة الإسلامية نحو العالم.
                              وفي هذه السورة المباركة، نقف أمام نقاط للتفكر والانتباه.
                              أولاها: أنّ الفتح هو نصر من الله، وليس مستنداً إلى شخص الرسول. وقد كان كمال سلوك الرسول هنا، وفي كل مكان، أنه كان يعتبر ما به من نعمة من الله. ونشاهد هذه السيرة في واقعة بدر الكبرى، وفي أصحاب الرسول، حيث كانوا يقولون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} (التوبة:52).
                              نقف عند هذه النقطة، {أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}. يعني أنّ عذاب الله سيصيب المشركين بأيدينا، وهذه السيرة كانت سيرة الرسول، وسيرة مَن يربيه الرسول من أصحابه، فهم يعتبرون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل كل ما يأتي على يدهم، وينفّذ بواسطتهم هو من الله تعالى.
                              ثانياً: إنّ دخول الناس في دين الله أفواجاً، إثر الفتح، ونتيجة لنصر الإلهي. والقاعدة الإسلامية تؤكد أنّ مَن أصلح بينه وبين الله، أصلح الله بينه وبين الناس. والحقيقة، أنّ هدف التحرك الإنساني يجب أن يبقي رضى الله، حتى في حالة خدمة الناس، وقضاء حاجاتهم، وتلبية رغباتهم، فإنّ الله يُعبد من خلال خدمة خلقه. ولكن هذا لا يعني أن نجعل الهدف هو الناس، ورضاهم، وإلاّ فسوف ينمو في نفس الإنسان الشعور لإرضاء الناس. ويصبح الناس للإنسان صنماً يُعبد. وهذا يؤدي إلى السعي لإرضائهم، حتى ولو كان الأمر على خلاف مصلحتهم. بالإضافة إلى أنّ هذه غاية صعبة المنال.
                              فعلى الإنسان أن يصانع إلهاً واحداً، ويقصد رضاه في كل تحرك. وسوف يصل من هذا الطريق إلى حب الناس، واحترامهم دون أن يهدف إلى ذلك.
                              ثالثاً: في حالة الانتصار، وهي من الحالات الخطرة على أخلاقية الإنسان، يفقد الإنسان غالباً توازنه، ويبتلي بالغرور. وهذا هو ما حصل لـ"إسرائيل" بعد واقعة 1967، عندما بدأت تهدد الدول الكبرى في تصريحات لقادتها. أما الإنسان المؤمن الذي تعمّق الإيمان في قلبه، فهو يبقى كالجبل الراسخ، لا تحركه عواصف النصر، معتدلاً متزناً. إنّ حالة النصر، من حالات اختبار الإيمان في الإنسان، شأنها شأن حالات المصيبة والخوف، والفقر والغضب.
                              وقد عدّ القرآن الكريم هذه الحالات في آياته واحدة واحدة، معتبراً أهمية التعادل والتوازن في هذه الحالات، وأنها حالات اختبار المؤمن. لذلك، يأمر القرآن الكريم، النبي (عليه الصلاة والسلام) بأنه في حال النصر الكامل عليه أن يسبّح بحمد ربه، ويعتبر الله تعالى صاحب النعمة، مستحقاً للحمد، ومنزّهاً عن كل نقص وعيب، وعليه أن يستغفر الله من حالات بشرية قد تطرأ عليه. والله هو صاحب الفضل، وصاحب النعمة، ولذلك فهو التواب لعباده.
                              وقد روت السيرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل مكة مطأطئ الرأس، مستغفراً، وقد عفا عن أعدائه، والذين ظلموه، والذين قاموا بإخراجه من مكة، واعتبرهم طلقاء في وجه الله، ولأجل الله، وفي سبيل الله.
                              رابعاً: وهنا تظهر أخلاقية الإسلام، وأنه لأجل إتمام مكارم الأخلاق، كما يؤكده الحديث الشريف أنّ المعارك والحركات والخدمات كلها لأجل الإنسان. فيجب الاحتفاظ بالإنسان، وبإنسانية الإنسان في كل حالة وفي كل ظرف. وهذا هو معنى الذكر، الذي عدّه القرآن الكريم أكبر من الصلاة في الآية الكريمة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45).
                              أيها الأخوة المؤمنون، أيها الأخوة المجاهدون، فلنكن مع الله في حالات الشدة، وحالات الألم، في حالات النصر، وفي حالات الضعف، لكي نكون من الذين ندخل قبلتنا الثانية في مثل هذا الشهر المبارك، وعند ذلك نتلو من جديد، هذه السورة المباركة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
                              نقول ذلك، ونستغفر الله تعالى، ونطلب منه النصر، إنه نعم المولى ونعم الوكيل.
                              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X