مؤاخذات عاشورائية
نـــــــــــــــزار حيدر
ما أن يحل علينا شهر محرم الحرام من كل عام، حتى يشحذ (النشامى) من المستهزئين والمشككين والمعاندين، كل أنواع أسلحتهم للهجوم على الشعائر الحسينية، فيجردون سيوفهم ويعبئون سياراتهم المفخخة ويملأون مدافعهم ويزرعون الطرقات بالعبوات الناسفة ويتربصون بالمارة، وكل ذلك استعدادا للهجوم على الشعائر الحسينية وكأنها أُس البلاء ومصدر التخلف ومنبع الاستهزاء، أو كأنها البدعة التي تقود صاحبها إلى النار لا محالة.
وان جيش (النشامى) هذا يتلفع بأحد عباءتين:
الأولى: عباءة الحرص على الدين، لدرجة أن بعضهم يذرف دمعة أو دمعتين من دموع التماسيح ليطمئن متلقيه بأنه إنما يتهجم على الشعائر الحسينية من باب الحرص على الحسين عليه السلام وعلى قيم ثورته وعلى رسالة عاشوراء، وانه لم يقصد إلا خيرا.
علما بان الكثيرين من هذا الصنف لا يعرفون متى يحل عليهم شهر رمضان الكريم، ليعرفوا متى انتهى موسم الصوم، إلا أنهم يترقبون هلال شهر محرم الحرام لحظة بلحظة، ليبدأوا خططهم الهجومية.
إنهم يظهرون للعيان وكأنهم حريصون على الدين فيخافون من أن تشوبه شائبة أو يطعن به طاعن.
الثانية: عباءة الحرص على حضارة المسلمين، وكيف أنهم نشروا العلم والتعلم والمعارف بين سائر أمم الأرض فأنى لهم الاستمرار في أداء رسالتهم هذه بمثل هذه الشعائر التي يعتبرونها ضد الحضارة؟ كما أراد الطاغية الذليل صدام حسين أن يقنعنا وقتها بمثل هذه الفكرة عندما شن حربه الشعواء ضدها عام 1975؟.
ونحن هنا لا ننكر الجهود المعرفية الكبيرة التي بذلها، ولا يزال، الكثير من المفكرين والمثقفين والكتاب والإعلاميين، كمساهمة منهم في ترشيد الشعائر الحسينية، أولئك الذين يناقشون الأمور بروية وعقلانية وواقعية ومعرفة واطلاع واحترام، إلا إننا نقصد هنا ما دون ذلك.
في هذا المقال سأحاول أن اسرد مؤاخذاتهم على الشعائر الحسينية، والرد عليها، بعد الملاحظات التالية:
ألف: بالتأكيد، فلقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض الممارسات والطقوس التي لا تنسجم والقيمة الدينية والحضارية للذكرى، الأمر الذي دفع ببعض الفقهاء إلى استهجانها أو على الأقل عدم التشجيع عليها، إلا أن (النشامى) عادة ما يتهجمون على كل الشعائر بلا تمييز، إلا ما ندر منهم من الحريصين على الذكرى.
باء: إن عموم الشعائر الحسينية تدخل في إطار مفهوم الآية الكريمة {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحـج . ولذلك فان من يمارسها يعتقد جازما بأنه يتقرب بها إلى الله تعالى من خلال إظهار المودة والمحبة لأهل البيت عليهم السلام والواردة في قوله تعالى {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (23) سورة الشورى ، ومن الواضح فان تفسير (القربى) في الآية هم أهل البيت عليهم السلام بإجماع المفسرين والفقهاء ورواة الحديث.
والذي يحيي الشعائر الحسينية احد صنفين:
فإما أن يكون متدينا وملتزما بواجباته الدينية، فهو يتعبد بها قربة إلى الله تعالى، بناء على فتوى المرجع الديني والفقيه الذي يقلده، حالها كحال أية قضية عبادية أخرى، ولذلك فلا يحق لأحد كائنا من كان أن يمنعه من ذلك أو يستهزئ به، لان فعله مبني على رأي فقيه مجتهد، فما الداعي إذن لان احشر أنا وأمثالي ـ ممن ليسوا بمراجع تقليد ولا فقهاء دين ولا يحق لهم الفتيا ولم يقلدهم احد في مثل هذه القضايا ـ بمثل هذه المواضيع، وأدس انفي بمثل هذه القضايا؟.
نعم، إذا كانت محاولتي لدس الأنف هي أن ابدي رأيا عاما فلا باس في ذلك، أما أن أتدخل في الجانب العقدي وما يتعلق بالحلال والحرام والواجب والمستحب والمباح والمندوب فذلك ليس من اختصاصي أبدا، ومسبقا يجب أن افهم بان قفزتي ستأتي في الهواء لأنه ليس هناك احد ممن يمارسون الشعائر الحسينية سيقلدني في فتواي قبل أن يباشر الشعيرة أو يتوقف عنها.
أو يكون غير متدين وغير ملتزم بشعائر دينه، فهو ربما يمارس الشعائر الحسينية حبا للظهور، رياءا او سمعة، او لاظهار عضلاته او لاي سبب آخر، لا علينا، وهم طبعا الاقلية من بين الملأ.
ان مثل هذا الصنف لا تنفع به ومعه حتى فتوى مرجع التقليد اذا ما حرّم شعيرة من الشعائر الحسينية، مثلا، فما الداعي اذن لان اوجه خطابي (الفكري) او الثقافي اليه؟.
ان مثله كمثل من يستعد للحج الى بيت الله الحرام وربما يصله قبل الحجيج، ليس حرصا منه على اداء مناسك شعيرة من شعائر الله تعالى، لا، وانما من اجل ان يسرق الحجيج او يفسد في الموسم او للتجارة فحسب او ما اشبه، فما الداعي ان نعلم مثل هذا مناسك الحج او ان ننبهه اذا اخطا في ركن من اركانه؟.
جيم: لقد اختلف فقهاؤنا ومراجعنا في حلية او استحباب هذه الشعيرة الحسينية او تلك، ولكل منهم حججه الدينية والفقهية، وكم سيكون الامر رائعا اذا تركنا امور الشعائر الحسينية لهم لا يتدخل بها كل من هب ودب، خاصة وان بعض من يتدخل في شؤونها ليس ملتزما دينيا فلماذا يتدخل في امور الدين؟ بل ان البعض منهم (يساريا، ماركسيا، شيوعيا) فما له والشعائر الحسينية؟ يحلل هذه ويحرم تلك؟.
والمضحك، ان بعضهم يتبنى نهجا (علمانيا) ويدير مواقع الكترونية (علمانية) الا انه في محرم الحرام تراه ينظم حملات توقيع ضد هذه الشعيرة او تلك، فما دخل (العلمانية) بشعائر الحسين عليه السلام يا ترى؟.
ان على كل من يحرص على تنقية الشعائر الحسينية مما يسميها بالشوائب، ان يلتجئ الى مراجع الدين وفقهاء المسلمين لتحديد الموقف من اي منها، فالمصلحة تكمن في ان نحصر (الخلاف) حولها بين الفقهاء والمراجع من دون ان ننشر الخلاف ليتحول في احيان كثيرة الى اختلاف يفسد للود اكثر من قضية.
لقد اعجبني رد احد (الخطباء) في احدى البلاد العربية عندما ألحّ عليه الحاضرون بسؤالهم عن رايه ببعض الشعائر الحسينية، قائلا لهم: من منكم يقلدني اذا اصدرت فتوى بشان الشعيرة التي تسالونني عنها؟ فلم يحر احدا منهم جوابا، فقال لهم: فلماذا تسالونني اذن عن قضية تعتبرونها تعود الى فتاوى المراجع، وانتم تعلمون انني لست منهم؟.
لقد كتب المفكر الاسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي قدس سره (اغتاله ازلام الطاغية الذليل صدام حسين في بيروت عام 1980) قبل اكثر من نصف قرن كتابا رائعا بعنوان (الشعائر الحسينية) شرح فيه بالتفصيل المباني الفقهية لكل شعيرة من هذه الشعائر، اتمنى على كل من تراوده الشكوك بشان اي منها ان يقرا هذا الكتاب، بغض النظر عما اذا كان سيقنع القارئ ام لا؟ الا انه بكل تاكيد سيرسم صورة مناسبة في الذهن ستساعد من يريد ان يتبنى رايا بشان الشعائر الحسينية بدرجة كبيرة.
دال: ان من حق المرء ان يناقش ما يتعلق بالشعائر الحسينية، شريطة ان يلتزم باخلاقيات الحوار، فلا يسب او يتهجم او يستهزئ او يكفر او يتهم من يمارسها بالشرك، كما يفعل الوهابيون الارهابيون، فحرية الراي مكفولة بلا شك في مثل هذه المواضيع اذا كان صاحبه مطلع على الموضوع ويريد فعلا ممارسة الاصلاح، اما ان يتوسل بالعنف والقتل والتفجير والتدمير لفرض رايه، وليمنع هذه الشعيرة او تلك، فهذا ما لا يقبل به عقل او منطق او ضمير او حتى دين، والذي قال تعالى بشانه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (256) سورة البقرة .
ان من يريد ان يؤثر ايجابيا في الموضوع عندما يخوض بالشعائر الحسينية، عليه ان يراعي حساسية الامر، وكذلك مشاعر الناس المؤمنين بها، فلا يطعن بما لا يؤمن به، ولا يخرج من الدين من يمارسها.
هاء: قد تكون بعض الشعائر الحسينية وفدت الينا من هنا وهناك، من هذه الملة او من ذاك الشعب افهل في ذلك ضير؟ وهل ان مثل هذا يقلل من مصداقيتها او يطعن بشرعيتها؟ وهل ان كل وافد الينا هو موضع شبهة او اشكال شرعي؟.
بالتاكيد كلا، فليس كل ما يرد الينا من خارج ثقافتنا سئ، فلقد اقر الاسلام الكثير من الشعائر التي كان يمارسها عرب الجاهلية بعد ان لم ير فيها ما يمس الدين وقيمه السامية واهدافه النبيلة، منها موضوع الاشهر الحرم وخصوصية يوم الجمعة التي شرع فيه صلاة الجمعة وغير ذلك.
كما ان الكثير من علوم المسلمين وفدت من غيرهم، فاخذوا بها بلا حساسية ثم طوروها وبلوروها، فعلم المنطق، مثلا، وفد اليهم من (الفرس) اذ يذكر المؤرخون بان اول من استخدم علم المنطق هم الفرس الذين نقلوه الى المسلمين عندما اسلموا، فهل يعني ذلك اننا سنكره هذا العلم او نرفضه لمجرد ان اصله (فارسيا)؟ بل ان مؤسس مدرسة بغداد المنطقية اصله رومي واسمه (ابي بشر متي بن يونس) الفيلسوف المنطقي.
كما ان الكثير من علوم اللغة العربية وعلوم الفلسفة والتفسير والحديث والعرفان والتصوف وغيرها وردت الى المسلمين من غير العرب، حملة الدين الاسلامي الاوائل، بل ان الكثير من كبار علماء اللغة والفقه والفلسفة هم من غير المسلمين، فما الضير في ذلك اذا كان الاسلام قد هضمها وطورها المسلمون بما ينسجم والدين وقيمه وثوابته؟.
الا يعلم المسلمون ان مؤسسي المذاهب الاسلامية الاربعة، كلهم من الفرس على اغلب راي المؤرخين، او على الاقل ثلاثة منهم هم من الفرس؟ والا يعلم المسلمون ان اصحاب الصحاح، بل ان كبيرهم وابرزهم، وهو البخاري، فارسيا؟ فما الضير في ذلك؟.
ان الدين وشعائره والعلم ومبادئه بلا هوية، لا اثنية ولا جغرافية، فليس المشكلة في ما يقول هذا العالم او ذاك، وانما تقع المشكلة اذا انحرف قوله عن قول الحق وقيم الدين ومبادئه الحقة، وهذا ما لم ينطبق البتة على الشعائر الحسينية بالتاكيد.
يقول المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (نحن والتراث) ما نصه متحدثا عن ذلك:
لقد اختار الغزالي من الفكر اليوناني، بل ومن التوراة والانجيل ومن التراث الفارسي والهندي ومن الاحاديث الموضوعة او المشكوك فيها، ما يستجيب لمشاغله واهتماماته، ويصلح لبناء رؤيته الخاصة التي املتها عليه معطيات عصره، بل المرحلة التاريخية التي عاش فيها.
ومع ذلك فان الغزالي هذا يعده المسلمون والعرب تحديدا احد اعاظم فلاسفتهم، وهو بالمناسبة ليس بعربي وانما فارسيا من نيسابور.
ويضيف في فقرة اخرى: واما الفكر السني والفكر الصوفي فان ايا منهما لم ينج من التاثير الحراني، نسبة الى عقيدة وفلسفة (الروحانيين) من صابئة حران، رغم عدائهما للفلسفة والفلاسفة، لقد قبل اهل السنة على العموم التاويلات ذات المصدر الهرمسي الحراني لكثير من جوانب الحياة الروحية في الاسلام.
ولقد ذهب عدد لا باس به من المؤرخين والمفكرين القدماء والمعاصرين الى ان (شيخ الاسلام) ابن تيمية اخذ عقائده من اليهود، خاصة ما يتعلق بفكرة التكفير التي بلورها عن نظرية (شعب الله المختار) التي يؤمن بها اليهود، ثم انتقلت الفكرة من جيل الى جيل الى ان وصلت الى (الحزب الوهابي) الذي يعتبر اتباعه انهم الوحيدون على حق وهم دون غيرهم من بني البشر الموحدون الحقيقيون والصادقون، ولذلك ذهبوا الى تكفير اتباع بقية المذاهب والاديان الاخرى، وجواز قتلهم واستباحة اعراضهم واموالهم، بعد نعتهم بالشرك واحيانا بالوثنية.
واو: ان تاريخ الشعائر الحسينية يشير الى انها تتسع اكثر فاكثر وتتجذر اكثر فاكثر كلما حاربها (النشامى) ولذلك فان من الافضل لهم، اذا ارادوا ان يقضوا عليها، ان يتركوا الناس وشانهم لتنطفئ جذوة الشعائر الحسينية شيئا فشيئا.
وسيزداد التاثير الايجابي اتساعا وانتشارا اذا تدخل في شؤون الشعائر الحسينية النظام السياسي، ولقد راينا كيف ان بعض الانظمة السياسية ساعدت على نشر الشعائر الحسينية وتكريسها في المجتمع بتدخلها السافر في شؤونها، طبعا من حيث لا تريد، وليس تجربة الانظمة السياسية الفاسدة التي تعاقبت على الحكم في العراق، خاصة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي الذي جند كل قواه البوليسية لمحاربتها ومنعها وكذلك الطاغية الذليل صدام حسين الذي قتل واعدم وطارد ودمر وامر بقصف المرقدين الطاهرين لسيد شباب اهل الجنة الحسين السبط واخيه ابا الفضل العباس عليهما السلام في مدينة كربلاء المقدسة، ببعيدة عنا.
ولذلك، فان نصيحتي لكل من يحاول ان يدس انفه بهذا الموضوع، ان لا يتسرع في الامر، الا اذا قرر ان يساهم في نشر الشعائر الحسينية اكثر فاكثر، فسيجزيه الله عن الاسلام واهل البيت خير جزاء المحسنين.
اما (اليساريون) فانهم من اشد الناس تاثيرا (ايجابيا) على الشعائر الحسينية اذا ما تدخلوا في شؤونها، لان الناس تعلموا بالتجربة ان ما يتدخل بامره هؤلاء يصلح دنياهم وآخرتهم، فهل يتصور (اليساريون) بان الناس سيقلدونهم في شؤون دينهم اذا ما ابدوا رايا في الشعائر الحسينية؟ وهم الذين خسروا الدنيا ولم يربحوا الآخرة؟ كيف ذلك والحكمة تقول (فاقد الشئ لا يعطيه) فمن لا دين له كيف يتوقع ان يقلده الناس في دينهم؟.
زاي: لم يقل احد من العلماء والفقهاء بان الشعائر الحسينية اصل من اصول الدين الاسلامي، او حتى من اصول المذهب الشيعي، اي ان من لم يؤمن بها او يمارسها كما هي فهو كافر خارج عن الملة والدين، ويستحق ان يقام عليه حد الكافر او المرتد، لم يقل احد مثل هذا الكلام، ولذلك فان الناس مخيرون بين ان يمارسوها بكل اشكالها او ان يختاروا ما يشاؤون منها، كما ان لهم ان لا يمارسوا ايا منها، فان ذلك لا يطعن في دينهم ولا حتى في تشيعهم.
ان اية شعيرة لا تعتبر جزءا من اصول الدين، يكون المرء مخير بين ان يمارسها او لا يمارسها، على الرغم من كل التشجيع والحث على ممارستها، فالشعيرة التي لا يتوقف عليها ايمان المسلم، كالصلاة او الصوم او الحج او غيرها من العبادات الواجبة، يكون المرء مخيرا ازاءها فلماذا كل هذا التهويل المضاد للشعائر الحسينية؟ لماذا لا نترك الناس وخياراتهم؟ لماذا لا نحترم خياراتهم؟.
لقد اقام البعض الدنيا ولم يقعدوها بمجرد ان مسؤولا في العاصمة بغداد قرر اغلاق الملاهي الليلية غير المرخصة، وحجتهم في الحملة الشعواء التي شنوها ضده هي انه يحدد خيارات الناس، ويتدخل في تحديد خياراتهم، فلماذا اذن تتدخلوا في خيارات الناس ازاء كل ما يتعلق بالحسين السبط عليه السلام؟.
لو ان امرءا قرر ان يمشي العمر كله من اجل الحسين عليه السلام، فما الذي يضير غيره في الامر؟ لماذا يتدخل الاخرون في خياراته؟ لا زال انه لم يؤذ احدا؟.
اما اهم المؤاخذات التي يكررها (النشامى) في كل عام بشان الشعائر الحسينية، فهي على سبيل المثال لا الحصر:
البقية تأتي بإذن الله تعالى
تعليق