أمْرٌ مِنَ اللهِ
كانَ يَجْلِسُ بَيْنَ أربَعِينَ رَجُلاً مِنْ رِجَالِ العَشِيرَةِ.. يَسْتَمِعُونَ إلى كَلامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَعْدَ أنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ الشَرِيفَةُ : (وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ) (1).
حِينَ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ صلى الله عليه وآله وسلم : ـ إنِّي أدْعُوكُمْ إلى كَلِمَتَينِ خَفيفَتَينِ على اللِّسانِ.. ثَقِيلَتَيْنِ في المِيزانِ.. تَمْلِكُونَ بِهِما العَرَبَ وَالعَجَمَ.. وَتَنْقادُ لَكُمُ الاَُمَمُ.. وتَدْخُلُونَ بِهِمِا الجنَّةَ.. وتَنْجَونَ بِهِما مِنَ النّارِ.. وهُمَا شَهادَةُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنّي رَسُولُ اللهِ.. فَمَنْ يُجِيبَني إلى هذا الاَمرِ.. ويُؤازِرُني عَلَيهِ وعَلى القِيامِ بِهِ.. يكونُ أخِي. وَوَصِيّي . ووزِيرِي . وَوارِثي.. وخَليفَتي مِنْ بَعْدِي..
وما زالَ الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يُكرِّرُ كَلامَهُ فَلَمْ يَسْمَعَ جَواباً مِنْ أحدٍ سِوى ذلِكَ الّذِي كانَ يَجْلِسُ بَيْنَهُمْ.. وَرَغْمَ أنَّهُ كانَ أصْغَرُ الحَاضِرِينَ سِنّاً.. إلاّ أنَّهُ كُلّما سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَنهَضُ واقِفاً وبِكُلِّ ثِقَةٍ يَقُولُها : ـ أنَا يَا رَسُولَ اللهِ أُؤازِرُكَ عَلى هذا الاَمْرِ..
فَيَأمُرُهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم : ـ إِجْلِسْ..
ثُمَّ يُعِيدُ عَلى الحَاضِرِينَ قَوْلَهُ..
يا مَوْلايَ يا رَسُولَ اللهِ.. هَلْ تَنْتَظِرُ غَيْرَ هذا الفَتى .
وأنْتَ أعْلَمُ الناسِ بِهِ..؟!
أليْسَ هُوَ الّذي اختَرْتَهُ مِنْ بَيْنَ إخْوَتِهِ لِيَعِيشَ مَعَكَ وَلَمْ يَكُنْ عُمْرُهُ آنَذاك سِوى سِتِ سَنَواتٍ ؟! فَجَعَلْتَهُ يَنْشَأُ في رِعايَتِكَ . ويَشْرَبُ مِنْ يَنابِيعِ عِلْمِكَ.. كُنْتَ تَضُمُّهُ إلى صَدْرِكَ.. وتَمْضَغُ الطَعامَ ثُمَّ تَضَعُهُ في فَمِهِ.. مَنْ غَيْرُهُ كانَ يَعْلَمُ بِكَ وأنْتَ تُجاوِرُ في كلِّ سنة غارَ حِراء فَيَراكَ ولا يَراكَ غَيْرُهُ..؟! وهَلْ هُناكَ غَيْرُ هذا الفَتى الّذي شَمَّ رائِحَةَ النُّبُوَّةِ.. وَرَأى نُورَ الوَحْي والرِسالَةِ مُنْذُ نُعُومَةِ أظْفارِهِ..؟! وَأخَذَ العِلْمَ مِنْكَ حَتّى بادَرَكَ في يَوْمٍ سائِلاً إيّاكَ بَعْدَ أنْ سَمِعَ رَنَّةً تنْسابُ إلى مَسامِعِهِ : ـ يا رَسُولَ اللهِ.. ما هذِهِ الرَنَّةُ ؟!
فَقُلْتَ لَهُ : هذا الشَيْطانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبادَتِهِ.. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أسْمَعُ وتَرى ما أرى إلاّ أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ.. وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ..
وَهَلْ غَيْرُهُ يا رَسُولَ اللهِ.. وَقَدْ شَهِدَ الحالةَ الرُوحِيّةَ الّتي كُنْتَ تَمُرُّ فِيها خِلالَ اختِلائِكَ في غارِ حِراءِ.. حَتّى أيْقَنَ بِكُلِّ شَيءٍ فَلَمْ يَحْتَجْ أنْ تَدْعُوهُ إلى الاِسلامِ ؟! وَهُوَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام الّذي لَمْ تُصِبْهُ الجاهِلِيَّةُ بِشَيءٍ مِنْها.. ولَم يَتَفاعَلْ مَعَها.. فَقَدْ كانَ مُطَّلِعاً على أمْرِ دَعوَتِكَ ومنهجِ رِسالَتِكَ.. فَأعلنَ تَصدِيقَهُ بِكَ وأيقنَ حتّى قالَ: ـ عَلَّمَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ألفَ بابٍ مِنَ العلمِ يُفتَحُ لي مِنْ كُلِّ بابٍ ألفُ بابٍ..
وأخيراً قالَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِعليٍّ عليه السلام : ـ إجلِسْ فَأنتَ أخي ووصيِّي ، ووزيرِي، ووارِثي ، وخليفَتِي مِنْ بَعدِي..
فنهضَ القومُ يُخاطِبونَ أبا طالبٍ ساخِرينَ : ـ لِيهُنِئَكَ اليومُ أنْ دخلتَ في دينِ ابنِ أخيكَ . فقدْ جَعلَ ابنَكَ أميراً عَليكَ..
وَهَل غيرُ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليه السلام الفتى الّذي كَرّمَ اللهُ تعالى وجْهَهُ بِما لَمْ يُكرِّمْ بِهِ غَيرَهُ حتّى مِنَ الاَنبياءِ.. وذلكَ باستضافَةِ أُمّهِ فاطمةَ بنتِ أسد في بيتهِ الشريفِ.. فدخَلَتْ لِتَضَعَهُ هُناكَ.. فَـوَلَـدتـهُ حَـسَـنَ الوجهِ مَسروراً نظيفاً.. وأطعمَ اللهُ أمَّهُ
مِنْ ثِمارِ الجنَّةِ وَهيَ ما تزالُ في الدُّنيا.. وناداها : ـ يافاطمةُ سَمِّيهِ عليّاً.. إني شَقَقتُ اسْمَهُ مِنِ اسمي.. وأدّبتُهُ بأدبي.. وَوَقّفتُهُ على غامِضِ عِلمي.. فَطُوبى لِمَنْ أحَبَّهُ وأطاعَهُ.. وَوَيلٌ لمنْ أبغَضَهُ وَعَصاهُ..
وكلُّ ما جَعَلَهُ اللهُ تعالى من أمرِ عليٍّ عليه السلام منذُ لَحظةِ وِلادتِهِ في بيتِهِ الشَّريفِ.. وإلى لَحظةِ دعوتِكَ يا رسولَ اللهِ ما كانَ إلاّ أن يَكونَ هو خليفَتك ووزيرَك..
وتَمُرُّ الاَعوامُ متعاقبةً.. حتّى جاءَ ذلِكَ اليومُ الموْعودُ.. ويا لَهُ مِنْ يومٍ.. كانَ الجوُّ شديدَ الحرارةِ في ظهيرَةِ ذلِكَ اليومِ.. وكانَتْ آلافُ القوافِلِ عائدةً مِنَ الحَجِ مَعَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وكانَتْ أقْدامُهُمْ تكتوَي مِنْ شدَّةِ حرارةِ الرّمالِ.. وتَلفَحُ وجُوهَهُمْ سمومُ الصحراءِ تحتَ لهبِ الشمسِ.. والاَكثرُ منْ هذا هوَ ما كانَ يَختَلِجُ
في صدورِهِم.. فقدْ لَمَّحَ لَهُمْ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أثناءَ مناسكِ الحَجِّ بما جَعَلَهُمْ يشعرُونَ بأنَّ هذهِ الحَجَّةُ هيَ آخرَ حَجّةٍ لهُ صلى الله عليه وآله وسلم .. وواصَلَتِ القَوافِلُ سيرَها حتّى وَصَلَتْ إلى مكانٍ تَتفرَّعُ منهُ طُرُقُ بُلدانِ الحُجّاجِ.. والّذي يُسمّى بغَديرِ خُمٍّ.. سَمِعَ الناسُ صَوتاً يُناديهِم ويدعُوهُم إلى التَوَقُّفِ.. فَنَظَرُوا خَلْفَهُم مُتسائِلينَ عَمّا يجري : ـ مَا الّذي حَصَلَ في هذا الوقتِ وفي هذهِ الظُروفِ.. ؟!
فهناكَ أشخاصٌ يَعْمَلونَ على تَهْيئَةِ بَعْضِ الخِيامِ لِينصِبوُها في أماكِنَ مُعَيَّنَةٍ..
إنَّهُمْ يَتساءَلُونَ ورُبَّما في تِلكَ اللحظَةِ لا يَعلَمون أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَفعلْ ذلِكَ رَغْبَةً مِنْهُ . وإنَّما بأمرٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ.. نَزَلَ بهِ الاَمينُ جبرائيلُ مُخاطِباً بهِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم :
( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناسِ..)
نُودِيَ لصلاةِ الظُهرِ.. فَصَلّى الرَسولُ صلى الله عليه وآله وسلم بِتِلْكَ الجمُوعِ الغَفيرَةِ وفي ذلِكَ اليومِ الذي كانَ يضَعُ فيهِ الرَجُلُ بعضَ رِدائِهِ فَوْقَ رَأسِهِ وبَعْضَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الرَمضاءِ .
ولمّا سَلَّمَ الرَسولُ صلى الله عليه وآله وسلم مُنتَهياً مِنْ صَلاتِهِ.. قامَ خَطيباً فوقَ أقتابِ الاِبلِ وَسَطَ تِلكَ الجمُوعِ رافعاً صَوتَهُ لاِسماعِهِم : ـ الحمدُ للهِ.. ونَسْتعينُهُ ونُؤمِنُ بهِ ونَتَوَكَّلُ عَلَيهِ.. ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعْمالِنا.. الّذي لا هاديَ لِمَنْ ضَلَّ.. ولا مُضِلَّ لِمَنْ
هَدى.. يا أيُّها الناسُ ! قدْ نَبَّأني اللطِيفُ الخبيرُ أنَّهُ لَنْ يُعَمَّرَ نَبيٌّ إلاّ مِثْلَ نصفَ عُمرُ الّذي قَبْلَهُ.. وإنّي أُوشَكُ أنْ أُدعى فَأُجيبُ وإنّي مَسؤولٌ ، وأنْتُمْ مَسؤُولونَ . فماذا أنْتُم قائلونَ ؟
قالوا : ـ نشهدُ أنَّكَ قدْ بلَّغْتَ وجاهَدْتَ ونَصَحْتَ فَجزَاكَ اللهُ خيراً..
فقالَ لَهُمْ : ـ ألَسْتُمْ تشهَدُونَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ مُحمّداً عَبدُه ورسولُهُ.. وأنَّ جَنَتَهُ حَقٌّ.. ونارَهُ حَقٌّ.. والموْتَ حَقٌّ.. والبَعثَ حَقٌّ.. وأنَّ الساعةَ آتِيةٌ لا رَيْبَ فِيها.. وأنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبورِ..
فقالوا : ـ نشْهَدُ بِذلِكَ..
فقالَ : ـ اللّهُمَّ اشهَدْ.. يا أيُّها الناسُ ! إنَّ اللهَ مَوْلايَ.. وأنا مَوْلى المُؤمِنينَ.. أوْلى بِهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ..
كانَ يَجْلِسُ بَيْنَ أربَعِينَ رَجُلاً مِنْ رِجَالِ العَشِيرَةِ.. يَسْتَمِعُونَ إلى كَلامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَعْدَ أنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ الشَرِيفَةُ : (وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ) (1).
حِينَ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ صلى الله عليه وآله وسلم : ـ إنِّي أدْعُوكُمْ إلى كَلِمَتَينِ خَفيفَتَينِ على اللِّسانِ.. ثَقِيلَتَيْنِ في المِيزانِ.. تَمْلِكُونَ بِهِما العَرَبَ وَالعَجَمَ.. وَتَنْقادُ لَكُمُ الاَُمَمُ.. وتَدْخُلُونَ بِهِمِا الجنَّةَ.. وتَنْجَونَ بِهِما مِنَ النّارِ.. وهُمَا شَهادَةُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنّي رَسُولُ اللهِ.. فَمَنْ يُجِيبَني إلى هذا الاَمرِ.. ويُؤازِرُني عَلَيهِ وعَلى القِيامِ بِهِ.. يكونُ أخِي. وَوَصِيّي . ووزِيرِي . وَوارِثي.. وخَليفَتي مِنْ بَعْدِي..
وما زالَ الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يُكرِّرُ كَلامَهُ فَلَمْ يَسْمَعَ جَواباً مِنْ أحدٍ سِوى ذلِكَ الّذِي كانَ يَجْلِسُ بَيْنَهُمْ.. وَرَغْمَ أنَّهُ كانَ أصْغَرُ الحَاضِرِينَ سِنّاً.. إلاّ أنَّهُ كُلّما سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَنهَضُ واقِفاً وبِكُلِّ ثِقَةٍ يَقُولُها : ـ أنَا يَا رَسُولَ اللهِ أُؤازِرُكَ عَلى هذا الاَمْرِ..
فَيَأمُرُهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم : ـ إِجْلِسْ..
ثُمَّ يُعِيدُ عَلى الحَاضِرِينَ قَوْلَهُ..
يا مَوْلايَ يا رَسُولَ اللهِ.. هَلْ تَنْتَظِرُ غَيْرَ هذا الفَتى .
وأنْتَ أعْلَمُ الناسِ بِهِ..؟!
أليْسَ هُوَ الّذي اختَرْتَهُ مِنْ بَيْنَ إخْوَتِهِ لِيَعِيشَ مَعَكَ وَلَمْ يَكُنْ عُمْرُهُ آنَذاك سِوى سِتِ سَنَواتٍ ؟! فَجَعَلْتَهُ يَنْشَأُ في رِعايَتِكَ . ويَشْرَبُ مِنْ يَنابِيعِ عِلْمِكَ.. كُنْتَ تَضُمُّهُ إلى صَدْرِكَ.. وتَمْضَغُ الطَعامَ ثُمَّ تَضَعُهُ في فَمِهِ.. مَنْ غَيْرُهُ كانَ يَعْلَمُ بِكَ وأنْتَ تُجاوِرُ في كلِّ سنة غارَ حِراء فَيَراكَ ولا يَراكَ غَيْرُهُ..؟! وهَلْ هُناكَ غَيْرُ هذا الفَتى الّذي شَمَّ رائِحَةَ النُّبُوَّةِ.. وَرَأى نُورَ الوَحْي والرِسالَةِ مُنْذُ نُعُومَةِ أظْفارِهِ..؟! وَأخَذَ العِلْمَ مِنْكَ حَتّى بادَرَكَ في يَوْمٍ سائِلاً إيّاكَ بَعْدَ أنْ سَمِعَ رَنَّةً تنْسابُ إلى مَسامِعِهِ : ـ يا رَسُولَ اللهِ.. ما هذِهِ الرَنَّةُ ؟!
فَقُلْتَ لَهُ : هذا الشَيْطانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبادَتِهِ.. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أسْمَعُ وتَرى ما أرى إلاّ أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ.. وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ..
وَهَلْ غَيْرُهُ يا رَسُولَ اللهِ.. وَقَدْ شَهِدَ الحالةَ الرُوحِيّةَ الّتي كُنْتَ تَمُرُّ فِيها خِلالَ اختِلائِكَ في غارِ حِراءِ.. حَتّى أيْقَنَ بِكُلِّ شَيءٍ فَلَمْ يَحْتَجْ أنْ تَدْعُوهُ إلى الاِسلامِ ؟! وَهُوَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام الّذي لَمْ تُصِبْهُ الجاهِلِيَّةُ بِشَيءٍ مِنْها.. ولَم يَتَفاعَلْ مَعَها.. فَقَدْ كانَ مُطَّلِعاً على أمْرِ دَعوَتِكَ ومنهجِ رِسالَتِكَ.. فَأعلنَ تَصدِيقَهُ بِكَ وأيقنَ حتّى قالَ: ـ عَلَّمَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ألفَ بابٍ مِنَ العلمِ يُفتَحُ لي مِنْ كُلِّ بابٍ ألفُ بابٍ..
وأخيراً قالَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِعليٍّ عليه السلام : ـ إجلِسْ فَأنتَ أخي ووصيِّي ، ووزيرِي، ووارِثي ، وخليفَتِي مِنْ بَعدِي..
فنهضَ القومُ يُخاطِبونَ أبا طالبٍ ساخِرينَ : ـ لِيهُنِئَكَ اليومُ أنْ دخلتَ في دينِ ابنِ أخيكَ . فقدْ جَعلَ ابنَكَ أميراً عَليكَ..
وَهَل غيرُ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليه السلام الفتى الّذي كَرّمَ اللهُ تعالى وجْهَهُ بِما لَمْ يُكرِّمْ بِهِ غَيرَهُ حتّى مِنَ الاَنبياءِ.. وذلكَ باستضافَةِ أُمّهِ فاطمةَ بنتِ أسد في بيتهِ الشريفِ.. فدخَلَتْ لِتَضَعَهُ هُناكَ.. فَـوَلَـدتـهُ حَـسَـنَ الوجهِ مَسروراً نظيفاً.. وأطعمَ اللهُ أمَّهُ
مِنْ ثِمارِ الجنَّةِ وَهيَ ما تزالُ في الدُّنيا.. وناداها : ـ يافاطمةُ سَمِّيهِ عليّاً.. إني شَقَقتُ اسْمَهُ مِنِ اسمي.. وأدّبتُهُ بأدبي.. وَوَقّفتُهُ على غامِضِ عِلمي.. فَطُوبى لِمَنْ أحَبَّهُ وأطاعَهُ.. وَوَيلٌ لمنْ أبغَضَهُ وَعَصاهُ..
وكلُّ ما جَعَلَهُ اللهُ تعالى من أمرِ عليٍّ عليه السلام منذُ لَحظةِ وِلادتِهِ في بيتِهِ الشَّريفِ.. وإلى لَحظةِ دعوتِكَ يا رسولَ اللهِ ما كانَ إلاّ أن يَكونَ هو خليفَتك ووزيرَك..
وتَمُرُّ الاَعوامُ متعاقبةً.. حتّى جاءَ ذلِكَ اليومُ الموْعودُ.. ويا لَهُ مِنْ يومٍ.. كانَ الجوُّ شديدَ الحرارةِ في ظهيرَةِ ذلِكَ اليومِ.. وكانَتْ آلافُ القوافِلِ عائدةً مِنَ الحَجِ مَعَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وكانَتْ أقْدامُهُمْ تكتوَي مِنْ شدَّةِ حرارةِ الرّمالِ.. وتَلفَحُ وجُوهَهُمْ سمومُ الصحراءِ تحتَ لهبِ الشمسِ.. والاَكثرُ منْ هذا هوَ ما كانَ يَختَلِجُ
في صدورِهِم.. فقدْ لَمَّحَ لَهُمْ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أثناءَ مناسكِ الحَجِّ بما جَعَلَهُمْ يشعرُونَ بأنَّ هذهِ الحَجَّةُ هيَ آخرَ حَجّةٍ لهُ صلى الله عليه وآله وسلم .. وواصَلَتِ القَوافِلُ سيرَها حتّى وَصَلَتْ إلى مكانٍ تَتفرَّعُ منهُ طُرُقُ بُلدانِ الحُجّاجِ.. والّذي يُسمّى بغَديرِ خُمٍّ.. سَمِعَ الناسُ صَوتاً يُناديهِم ويدعُوهُم إلى التَوَقُّفِ.. فَنَظَرُوا خَلْفَهُم مُتسائِلينَ عَمّا يجري : ـ مَا الّذي حَصَلَ في هذا الوقتِ وفي هذهِ الظُروفِ.. ؟!
فهناكَ أشخاصٌ يَعْمَلونَ على تَهْيئَةِ بَعْضِ الخِيامِ لِينصِبوُها في أماكِنَ مُعَيَّنَةٍ..
إنَّهُمْ يَتساءَلُونَ ورُبَّما في تِلكَ اللحظَةِ لا يَعلَمون أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَفعلْ ذلِكَ رَغْبَةً مِنْهُ . وإنَّما بأمرٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ.. نَزَلَ بهِ الاَمينُ جبرائيلُ مُخاطِباً بهِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم :
( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناسِ..)
نُودِيَ لصلاةِ الظُهرِ.. فَصَلّى الرَسولُ صلى الله عليه وآله وسلم بِتِلْكَ الجمُوعِ الغَفيرَةِ وفي ذلِكَ اليومِ الذي كانَ يضَعُ فيهِ الرَجُلُ بعضَ رِدائِهِ فَوْقَ رَأسِهِ وبَعْضَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الرَمضاءِ .
ولمّا سَلَّمَ الرَسولُ صلى الله عليه وآله وسلم مُنتَهياً مِنْ صَلاتِهِ.. قامَ خَطيباً فوقَ أقتابِ الاِبلِ وَسَطَ تِلكَ الجمُوعِ رافعاً صَوتَهُ لاِسماعِهِم : ـ الحمدُ للهِ.. ونَسْتعينُهُ ونُؤمِنُ بهِ ونَتَوَكَّلُ عَلَيهِ.. ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعْمالِنا.. الّذي لا هاديَ لِمَنْ ضَلَّ.. ولا مُضِلَّ لِمَنْ
هَدى.. يا أيُّها الناسُ ! قدْ نَبَّأني اللطِيفُ الخبيرُ أنَّهُ لَنْ يُعَمَّرَ نَبيٌّ إلاّ مِثْلَ نصفَ عُمرُ الّذي قَبْلَهُ.. وإنّي أُوشَكُ أنْ أُدعى فَأُجيبُ وإنّي مَسؤولٌ ، وأنْتُمْ مَسؤُولونَ . فماذا أنْتُم قائلونَ ؟
قالوا : ـ نشهدُ أنَّكَ قدْ بلَّغْتَ وجاهَدْتَ ونَصَحْتَ فَجزَاكَ اللهُ خيراً..
فقالَ لَهُمْ : ـ ألَسْتُمْ تشهَدُونَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ مُحمّداً عَبدُه ورسولُهُ.. وأنَّ جَنَتَهُ حَقٌّ.. ونارَهُ حَقٌّ.. والموْتَ حَقٌّ.. والبَعثَ حَقٌّ.. وأنَّ الساعةَ آتِيةٌ لا رَيْبَ فِيها.. وأنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبورِ..
فقالوا : ـ نشْهَدُ بِذلِكَ..
فقالَ : ـ اللّهُمَّ اشهَدْ.. يا أيُّها الناسُ ! إنَّ اللهَ مَوْلايَ.. وأنا مَوْلى المُؤمِنينَ.. أوْلى بِهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ..
تعليق