إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

دروس من زيارة عاشوراء

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دروس من زيارة عاشوراء

    بسم الله الرحمن الرحيم


    دروس من زيارة عاشوراء

    (1)

    إن هذه الزيارة هي شعار الأولياء والصالحين طول التاريخ، فهي ذات منافع دنيوية وأخروية.. نعم كل من له حاجة أو أمر مهم؛ فإن حوائجه وطلباته ستقضى، بقراءة زيارة عاشوراء لمدة أربعين يوماً، والتجربة خير دليل لمن أراد أن يقف على هذه الحقيقة.. ولطالما وصل الذين لديهم حوائج معنوية إلى حوائجهم، وعلى رأسها مقام القرب من سيد الشهداء (ع).. والقرب منهم؛ هو قرب من الله سبحانه وتعالى.. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (يا صفوان!.. كلما كانت لك حاجة عند الله، توجه إليه -تبارك وتعالى- بقراءة هذه الزيارة، والدعاء بعدها في أي مكان كنت، واطلب حاجتك؛ فإن الله لا يخلف وعده).

    إن هذه الزيارة من الزيارات المعروفة في كتبنا، ولا يخلو منها كتاب دعاء.. وهذه بعض الملاحظات حول هذه الزيارة:


    - إن البعض يقول: هذه الزيارة واردة في يوم عاشوراء، فكيف نقرأها في باقي الأيام؟..
    إن المضامين مضامين راقية جداً، وكأن الإنسان بهذه الزيارة يريد أن يبقي ذكرى عاشوراء حية في القلوب، تطبيقا لهذا الشعار المعروف: (كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء)!.. وكأنه بهذا الدعاء، وبهذه القراءة الحية، نحن نحيي ذكر هذا اليوم العظيم.. عندما نقول: (إِنَّ هذا يَوْمٌ تَبَرَّكَتْ بِهِ بَنُو اُمَيَّةَ)، طبعاً نعني بذلك اليوم يوم عاشوراء، لا هذا اليوم الذي نقرأ فيه.. هذا المعنى مفهوم، وليس هناك داع للتغيير وتحريف الدعاء، من هذه الناحية المعنى واضح: إشارة إلى ذلك اليوم المعهود.


    - ما هي فلسفة الزيارة من بعيد؟..
    نلاحظ أن الإمام الحسين (ع) من أكثر الأئمة زيارة، فهناك زياراته المطلقة، وزياراته المقيدة: المطلقة في كل مناسبة، والمقيدة بحسب الأيام.. ما هي فلسفة السلام، وفلسفة الزيارة؟..


    هنالك عدة فلسفات، منها:

    الفلسفة الأولى: تحسيس النفس، وتحسيس الآخرين؛ بأن الإمام (ع) حي يرزق.. فالإنسان يسلم عادة على الأحياء، والإنسان كلما ذكر الإمام في مناسبة أو في غير مناسبة، من الطبيعي أن يتوجه للإمام بالسلام على أنه حي يرزق.. ونحن نقرأ في الزيارة: (أَشْهَدُ أَنَّكُمْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّكُمْ تُرْزَقُونَ)، (وَاَشْهَدُ اَنَّكَ تَسْمَعُ الْكَلامَ وَتَرُدُّ الْجَوابَ)؛ هذا المعنى مسلم.. ومن طرائف الزيارات يوم عاشوراء، الزيارة الثّانية "زيارة عاشُوراء غَير المشهُورة" التي في مفاتيح الجنان، يقول فيها: (السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ، وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزاءَ فِي وَلَدِكَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ!.. السَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبَا الْحَسَنِ يا اَميرَ الْمُؤْمِنينَ، وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزاءَ فِي وَلَدِكَ الْحُسَيْنِ!.. السَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ يا بِنْتَ رَسُولِ رَبِّ الْعالَمينَ، وَعَلَيْكِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَحْسَنَ اللهُ لَكِ الْعَزاءَ فِي وَلَدِكِ الْحُسَيْنِ!.. السَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا مُحَمَّد الْحَسَنَ، وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزاءَ فِي اَخيكَ الْحُسَيْنِ!.. السَّلامُ عَلى اَرْواحِ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ الاَْحْياءِ مِنْهُمْ وَالاَْمْواتِ، وَعَلَيْهِمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَحْسَنَ اللهُ لَهُمُ الْعَزاءَ فِي مَوْلاهُمُ الْحُسَيْنِ!.. اللّهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الطّالِبينَ بِثارِهِ مَعَ اِمام عَدْل، تُعِزُّ بِهِ الاِْسْلامَ وَاَهْلَهُ يا رَبَّ الْعالَمينَ).. يوم عاشوراء كل سلام إلى المعصوم تقول معه: وعليك السلام؛ أي أنا تلقيت منك الجواب، وهأنذا أقول: وعليك السلام.


    فنحن
    بهذا السلام نعيش حالة حياة الأئمة والمعصومين (ع) {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. الشهداء في عالم البرزخ حلق وجماعات، ينتظرون الشهداء من بعدهم؛ هذه حالتهم.. فكيف بسيل الشهداء، وبهذه الكوكبة التي هي قمة الشهداء في التاريخ؟.. (فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي).. وبالتالي، فإن هؤلاء وبمنطق القرآن الكريم أحياء يرزقون.

    إن
    فرق الإنسان الحي عن الإنسان الميت، كالفرق بين الراكب والراجل: إنسان يركب دابة ثم ينزل ويركب سيارة ثم ينزل، هل تغيرت ماهيته؟.. الإنسان وهو في السيارة يعتبر راكبا، وعندما ينزل يصبح راجلاً؛ هل هو شخصان، أو شخص واحد؟.. هذه الأبدان الترابية هي عبارة عن مطية ودابة لأحدنا، يقضي بها مآربه: يأكل، ويمشي، ويصلي بهذه الأبدان، التي مصيرها إلى التراب والديدان.. هذه الأبدان التي يهتم بها الإنسان ويجملها؛ هي عبارة عن مطايا ودواب مؤقتة، ويوم القيامة نُحشر بوضع جديد.. فالروح بالنسبة للإنسان الحي والإنسان الميت، هي الروح: ولكنها كانت راكبة للبدن، ومن ثم ترجلت منه، وأصبحت في عالم البرزخ.. وعليه، فإنه ليس هناك فرق كبير جداً بين الحي وبين الميت، إلا كالفرق بين الراكب وبين الراجل.. فحقيقة الحسين، وحقيقة أمير المؤمنين، وحقيقة الشهداء، وحقيقة الزهراء، وحقيقة النبي (ص)؛ هذه حقائق ثابتة ونورية.. النبي (ص) يقول: (كنت نبيا وآدم (ع) منخول في طينته).. (‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين‏).. حقيقة النبي، ونور النبي، وروح النبي؛ مخلوقة قبل خلقة آدم (ع).

    فإذن، إن السلام فيه إشعار، وفيه إعلان موقف: أن المسلّم عليه حي يرزق، لا شك في ذلك.. ولهذا بعض العلماء يوصي عند دخول مراقد الأئمة (ع) بأن يكون الإنسان مؤدباً في كل حركاته وسكناته.. مثلا: بعض الزوار يضرب طفله في الحرم، من باب أنه مشاكس أو ما شابه ذلك؛ هذه الحركة في محضر المعصوم هي خلاف الأدب.. وكذلك الجنب يحرم عليه دخول المساجد هذا المعروف، أما لماذا حرم على الجنب دخول مشهد المعصوم؟.. من الأدلة على ذلك: أن الإمام (ع) في رواية اعترض على من زاره في حياته وهو جُنب، قال الحسين (ع) لأعرابي أقبل إلى المدينة فدخل عليه: (أما تستحيي يا أعرابي أن تدخل إلى إمامك وأنت جنب)؟.. قال الفقهاء: إن الإمام نهى عن الدخول على المعصوم جُنباً، وبما أن المعصوم الميت كالمعصوم الحي، فدخول مشاهد الأئمة (ع) مع الجنابة لا يجوز؛ هذه فتوى العلماء!.. وكذلك من الأدب عدم الدخول على مشاهد الأئمة (ع) بذهول، ولهذا الزائر عليه أن لا يطيل الجلوس في المشهد، إذا كان هذا الجلوس مما يوجب له قساوة القلب، كأن يجلس أمام الضريح وهو يخفق برأسه نعساًً، لعل هذا من صور الإخلال بالأدب مع المعصوم الذي يُزار.


    الفلسفة الثانية: الارتفاع إلى مستوى المخاطب.. عندما يدخل إنسان على سلطان مملكة، ويؤذن له بالسلام على ذلك السلطان، يُعلم أن له مكانة ما، وإلا لما سُمح له بمواجهة ذلك الملك أو السلطان أو الأمير.. إذن السلام نوع من أنواع الترقي والرقي، وكأن لسان حال الزائر يقول: أي يا مولاي!.. أنا أحب أن أصل إلى مستوى السلام عليك.. حبيب بن مظاهر عندما كان خارج الخيمة، وثم أبلغ سلام زينب (ع) لعله بكى، ولكنه اهتز طرباً: أنه كيف السيدة زينب (ع) تُبلغه السلام!..


    وعليه
    ، فإن السلام فيه نوع من المواجهة، ونوع من الارتفاع في المستوى.. ولهذا حضور القلب مطلوب في كل شيء، فالعمل الذي لا حضور فيه؛ لا قيمة له.. الصلاة بلا حضور، لا قيمة لها.. عن السجاد (ع): (إنّ العبد لا يقبل من صلاته، إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه).. هذه نظرية واضحة، علينا أن نطبق هذه النظرية على كل شيء: فالدعاء الذي لا إقبال فيه لا يُرفع، وكذلك السلام.. البعض يزور الأئمة يومياً في ثلاث جهات، وكأنها روتين يومي، يتحرك ببدنه من دون شعور.. فهو يواجه سيد الشهداء، ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله!.. لذا عليه أن يكون على مستوى السلام.. مشكلتنا أننا قلبنا الحياة، وقلبنا العبادات، وقلبنا المأثورات من الأدعية والزيارات، إلى حالة روتينية لا روح فيها.. يسلم الإنسان أو يقرأ الزيارة وهو في أعلى درجات الذهول.. إنسان واقف بهيئة غير محترمة، يعبث برأسه ولحيته، ويسلم على إمام زمانه، أو على المعصوم صلوات الله عليه!.. الجو ليس جو سلام أبداً!..

    فإذن، علينا أن نعلم أنفسنا كيف نكون في مستوى الحديث مع الله -سبحانه وتعالى- في الصلاة، والدعاء، ومع النبي وآله (ص).


    الفلسفة الثالثة
    : الخروج من المألوف، والانتقال بشكل فجائي إلى عالم الغيب، وعالم الرقي، وعالم التكامل.. إنسان في خضم العمل، وفي خضم مشاكله الحياتية، ولعله في حال غضب، أو في حال سهو، أو في حال شهوة؛ يوقف مسيرة ساعاته ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله!.. هذه الحركة كم هي جميلة!.. هل تعلمون أنه من زيارات الإمام الحسين (ع) المُعتبرة في كامل الزيارات، أن تنظر يميناً وشمالاً تحت السماء، وتقول: السلام عليك يا أبا عبد الله!.. حتى بعض العلماء، كان يكتفي بالغسل الذي يُغتسل لأجل هذه الزيارة، ويقول: أنه يغنيه عن وضوء الصلاة؛ لأنها من الزيارات المعتبرة في هذا المجال.

    إنه لمن المناسب جدا للإنسان بين فترة وأخرى، وهو متشاغل مع أطفاله ومع زوجته في عالم لاه، أن يقطع ذلك ويُسلم سلاما واحدا على إمام زمانه وولي أمره.. هذه حركة جيدة، لو أن أحدنا تعودها؛ لاستذوقها وكررها في حياته في كل مناسبة.. فالإمام (ع) يوم عاشوراء قال: (شيعتي!.. مهما شربتم عذب ماء فاذكروني)، البعض عندما يشرب العصير أو يشرب الشاي -مثلاً- يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله!.. يذكر الإمام؛ ويسلم عليه، ويلعن قاتليه.. (أو سمعتم بقتيل أو شهيد؛ فاندبوني)؛ هذه من آداب الموالي.. الدين عاطفة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فالدِّين هو الحبّ، والحبّ هو الدِّين).. ويمكن أن نقول: الدين عاطفة، الحب عاطفة.. فالإنسان المحب لا تقيده بروتوكولات معينة، لا ينتظر عاشوراء ليزور الحسين (ع)، هذا حب.. فهنيئاًً لمن انطلق من منطلق الحب لأئمته (ع) جميعاً.


    -
    إن زيارة عاشوراء من الزيارات المعروفة في الأوساط الخاصة، وفي الأوساط العامة.. نحب أن نلتزم على الأقل هذه الأيام لمجرد إرضائهم (ع)؛ مصداقاً لذلك الشعر:

    تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** لكنما عيني لأجلك باكية
    تبتل منكم كـربلا بدم ولا *** تبتل مني بالدموع الجارية


    نلاحظ في سلام الأئمة (ع) دائماً التذكير بالنسب: أول سلام على المعصومين هو (السَّلامُ عَلَيكَ يا مَولايَ يا ابْنَ رَسُولِ الله)!.. في دعاء التوسل: في كل إمام نقول مثلا: (يا أبا الحسـن، يا علي بن محمد، أيـها الهادي النقي، يا بن رسـول الله، يا حجة الله على خلقه، يا سـيدنا ومولانا!.. إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلـى الله، وقدمـناك بين يدي حاجاتـنا.. يا وجيـها عند الله، اشفع لنا عند الله)!.. صفة البنوة للنبي (ص) وصفة الرسالية هذه الصفة ربط للأمة بالأحاديث الواردة في هذا المجال.. حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (لايزال هذا الدين قائما، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليه الأمة).. فسمعت كلاما من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟.. قال: (كلهم من قريش).. عندما نقول: (السَّلامُ عَلَيكَ يا مَولايَ يا ابْنَ رَسُولِ الله)؛ أي السلام عليك يا مصداق آية المودة {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.. وعندما نقول: (يا حجة الله على خلقه)!.. أي أنت يا مولاي من الإثنتي عشرة خليفة.


    فإ
    ذن، إن النبي (ص) أرسى دعائم هذا المفهوم في حياته من خلال أحاديثه الشريفة، فنحن عندما نقرأ هذه الروايات العامة، ثم نقول: (السَّلامُ عَلَيكَ يا مَولايَ يا ابْنَ رَسُولِ الله)؛ أي أنت الذي تنطبق عليك هذه المفاهيم وهذه الروايات، وآية ذوي القربى.

    إن هنالك عبارتين في زيارة عاشوراء وغيرها، من العبارات التي قد لا نعلم معناها كثيراً:


    (اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا ثارَ اللهِ وَابْنَ ثارِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ).. ما معنى هذه العبارات التي ألفناها؟.. لعل هنالك معنين لهذه الجملة، مضاف ومضاف إليه.. والإضافة مستبطنة لمعان مختلفة، من ضمن المعاني: (يَا ثارَ اللهِ)!.. قد يكون هنا المعنى الموجود: معنى الباء؛ أي أنت الذي الله -عز وجل- يثأر بك.. أي بسبب هذا الدم الذي أريق يوم عاشوراء، رب العزة والجلال يثأر بهذا الدم.. ولهذا الإمام (عج) عندما يخرج ويستند إلى جدار الكعبة والحطيم، فإن أول شعار له في زمان الظهور: (ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين قتلوه عطشانا)!.. هناك شبه كبير بين النبي يحيى، والإمام الحسين -عليهما السلام- ومن ذلك: إن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. فكما أهدي رأس يحيى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، كذلك أهدي رأس الحسين (عليه السلام) إلى اللعين يزيد.. ومن أوجه الشبه: أنّ دم يحيى بقي يفور، والناس يطرحون عليه التراب، فيعلو الدم حتى صار تلاًّ عظيماً، ولم يسكن حتى جاء "بخت نصر" وقتل سبعين ألفاً من اليهود.. ولكنّ الحسين ظلّ دمه فائراً ثائراً، وسيبقى حتى يظهر من يأخذ له بثأره، وهو مولانا صاحب الزمان (ع).. عن الإمام زين العابدين عن أبيه -عليهم السلام- قال: (إن امرأة ملك بني إسرائيل كبرت، وأرادت أن تزوج بنتها منه للملك، فاستشار الملك يحيى بن زكريا، فنهاه عن ذلك.. فعرفت المرأة ذلك، وزيّنت بنتها وبعثتها إلى الملك، فذهبت ولعبت بين يديه، فقال لها الملك: ما حاجتك؟.. قالت: رأس يحيى بن زكريّا، فقال الملك: يا بنيّة حاجة غير هذه؟.. قالت: ما أريد غيره.. وكان الملك إذا كذب فيهم عزل من ملكه، فخيّر بين ملكه وبين قتل يحيى.. فقتله، ثم بعث برأسه إليها في طشت مــن ذهب، فأمرت الأرض فأخذتها، وسلّط الله عليهم "بُخت نصر" فجعل يرمي عليهم بالمناجيق ولا تعمل شيئاً، فخرجت عليه عجوز من المدينة فقالت: أيها الملك!.. إن هذه مدينة الأنبياء لا تنفتح إلا بما أدلك عليه، قال: لك ما سألت.. قالت: ارمها بالخبث والعذرة، ففعل فتقطّعت، فدخلها.. فقال:علي بالعجوز، فقال لها: ما حاجتك؟.. قالت: في المدينة دم يغلي، فاقتل عليه حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً حتى سكن.. يا ولدي يا علي، والله لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهدي، فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفاً).

    وهنالك معنى آخر: أن الله -عز وجل- يثأر منه.. بعض الناس قد يستغرب من كلمة "أن الله -عز وجل- يمكن أن يؤذى"!.. القرآن الكريم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ كلنا لا يعلم مدى التأثر الذي وقع في عرش الرحمن من جراء مصيبة الإمام الحسين (ع)، النصوص في هذا المجال تدل على أنه كان هنالك تأثر كوني شديد بمسألة الإمام (ع): الدم العبيط الذي وجد تحت الصخور بعد مجزرة كربلاء، الملائكة التي بقيت إلى يومنا هذا وفي كل ساعة وهم ينتحبون على الحسين (ع).. قال الصادق (ع): (هبط أربعة آلاف ملَك يريدون القتال مع الحسين (ع) فلم يُؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئمار فهبطوا وقد قُتل الحسين -رحمة الله عليه، ولعن قاتله ومن أعان عليه، ومن شرك في دمه- فهم عند قبره شُعث غُبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملَك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلا استقبلوه، ولا يودّعه مودع إلا شيّعوه، ولا يمرض إلا عادوه، ولا يموت إلا صلّوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته.. فكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام القائم (ع)).


    عندما يزور الإنسان حرم سيد الشهداء (ع)، فليلتفت إلى أن هذه الملائكة تبكي، وكم تفرح وتدعو لمن يشاركها الدعاء في ذلك اليوم!.. وفي بعض الروايات هناك دلالة على أنه في يوم عاشوراء، لم يُقلب حجر ولا مدر، إلا وُجد تحته دم عبيط..قالت فاطمة بنت علي صلوات الله عليهما: (ثم إن يزيد لعنه الله أمر بنساء الحسين، فحُبس مع علي بن الحسين -عليهما السلام- في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ، حتى تقشّرت وجوههم.. ولم يُرفع ببيت المقدس حجرٌ على وجه الأرض، إلا وُجد تحته دم عبيط.. وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين (ع) بالنسوة، وردّ رأس الحسين (ع) إلى كربلاء).. وهناك روايات أن الشمس كُسفت في ذلك اليوم، حتى أن البعض ظن أن هذا يوم القيامة، (وَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي قَبِيلٍ: أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ، كَسَفَتْ الشَّمْسُ كِسْفَةً بَدَتْ الْكَوَاكِبُ نِصْفَ النَّهَارِ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا هِيَ).. وكذلك نوح الجن على الحسين معروف في التاريخ، وبعض القصائد وبعض الأبيات منقولة عن الجن.. رواه الطبراني: عن أم سلمة أنها قالت: ما سمعت نوح الجن منذ قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الليلة، وما أرى بني إلا قبض -تعني الحسين رضي الله عنه- فقالت لجاريتها: اخرجي اسألي، فأخبرت أنه قد قتل، وإذا جنية تنوح:

    ألا يا عين فاحتفلي بجهدي *** ومن يبكي على الشهداء بعدي
    على رهط تقودهم المنـايا *** إلى متجبر في ملك عبـــد


    على كل حال هو إمام الإنس والجن، فهؤلاء أيضاً تأثروا بمقتل الحسين (ع).. وكذلك الملائكة الكروبيين: (إن فاطمة -عليها السلام- إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبي، وألف صديق، وألف شهيد.. ومن الكروبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء.. وإنها لتشهق شهقة، فلا تبقي في السماوات ملك إلا بكى رحمة لصوتها.. وما تسكن حتى يأتيها النبي (ص) أبوها فيقول: يا بنية!.. قد أبكيت أهل السماوات، وشغلتهم عن التسبيح والتقديس.. فكفى حتى يقدسوا، فإن الله بالغ أمره.. وإنها لتنظر إلى من حضر منكم، فتسأل الله لهم من كل خير، ولا تزهدوا في إتيانه؛ فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يحصى).. هكذا عمق فاجعة كربلاء في نفوس أهل البيت (ع)!.. والإمام صاحب العصر (عج) يقول: (فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور).. فهو يتمنى أن يكون من الذين قاتلوا بين يدي الإمام (ع): (فلأندبنك صباحا ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً).. فإذن، إن القضية قضية لها عمق في تاريخ البشرية!..

  • #2

    إنه من الملاحظ ابتعاد الإنسان عن هذه الأجواء المباركة، بعد انتهاء العشرة الأولى من أيام عزاء أهل البيت (ع)؛ فيبتعد عن أجواء التوسل بأهل البيت (ع)، كما يبتعد عن أجواء المناجاة والعبودية لله، بعد ليالي شهر رمضان المبارك؛ وكأنه انتهى التكليف!.. والحال أن الإنسان كلما زاد تأثره بمصائب أهل البيت في العشرة الأولى من شهر محرم؛ عليه أن يكون أشد ذكرا لأهل البيت فيما سيأتي.. وخاصة أن المصائب بدأت على أهل بيت النبوة من اليوم العاشر، فهم في مثل هذه الأيام عاشوا المصائب العظام، إلى أن وردوا إلى المدينة.. وحتى في المدينة كان أهل بيت النبوة في حالة من البكاء والنحيب، إلى سنوات بعد مقتل الإمام (ع).

    بعض الدروس والعبر من هذه الثورة المباركة:
    إن الإمام (ع) بدأ بعض مواقفه من التنعيم، ومن التنعيم إلى كربلاء، هناك منازل عدة.. في كل منزل كان للإمام (ع) موقف مسجل في التاريخ، بالإضافة إلى مواقفه قبل وبعد ذلك.. والملحوظ أن هنالك مثلثا مقدسا منورا، هذا المثلث يلف حركة الإمام ما قبل العاشر، وفي يوم العاشر، وأيام أسر أهل البيت (ع).. فالقضية تتحرك في مثلث له أضلاع ثلاثة.

    المثلث المقدس قبل كربلاء:

    الضلع الأول: الرسالية.. إن الإمام (ع) عندما خرج من المدينة، كانت الرسالية واضحة في عمله، وذلك من خلال كلمته التي قالها قبل خروجه: (لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما.. وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).. فالأئمة (ع) كانوا يركزون على النسب بشكل واضح في كلماتهم، ومن ذلك ما قاله الإمام الحسين يوم عاشوراء: (أيّها الناس!.. انسبوني من أنا؟.. ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي؟.. وانتهاك حرمتي؟.. ألست ابن بنت نبيكم؟.. وابن وصيّه؟.. وابن عمه؟.. وأول المؤمنين بالله؟.. والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟.. أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟.. أو ليس جعفر الطّيار عمّي)؟.. كأن هنالك مقولة مسلمة في أذهان الأمة {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، هذه آية من القرآن، حتى جيش يزيد إذا كانوا يقرءون القرآن، يتلون هذه الآية.. ومصطلح: أهل الكساء، وأهل البيت؛ مصطلح موجود في أذهان الأمة.. ولكن إجمالا قدسية الزهراء (ع) بقيت محفوظة: فأمير المؤمنين (ع) زجوه في دائرة الخلافة والصراع مع معاوية، وكذلك الإمام الحسن (ع).. أما الزهراء فبقيت شمعة مضيئة، وكوكبا دريا.. ولهذا بعض الذين وقفوا أمام الزهراء، كانوا يحرصون على رضاها قبل وفاتها.

    فإذن، الإمام الحسين (ع) كأنه أراد أن يقول: هذه مقولة مسلمة، تريدون المصداق؟.. أنا المصداق، أنا ابن فاطمة الزهراء (ع).. وبالتالي، فإن الإمام تأكيده على النسب، إنما هو لربط الموضوع بالحكم، ولربط الصغرى بالكبرى، ولربط المصداق بالمفهوم الكلي، ولربط هذه الجزئية بذلك المعنى المسلم في أذهان الأمة.. وعليه، فإن الرسالية واضحة من حركة الإمام -صلوات الله وسلامه عليه- منذ خروجه من كربلاء.

    الضلع الثاني: العزة الإيمانية.. الأئمة (ع) وإن وقعت عليهم بعض الضغوط السياسية والاجتماعية، إلا أن عزتهم بقيت محفوظة تماما.. الإمام الذي تحمل هذه القسوة من الجيش الأموي، له مواقف لا تنسى، منها: لما خرج الإمام وتحدث مع القوم قال: (أين عمر بن سعد؟.. ادعوا لي عمر!.. فدُعي له، وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه، فقال: يا عمر أنت تقتلني؟.. تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان، والله لاتتهنأ بذلك أبدا، عهدا معهودا.. فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم).. إنسان محاصر في كربلاء، وهو يقول: أنت ووليك الدعي ابن الدعي، إنسان يقول عن خليفة المسلمين -بحسب الظاهر-: هذا دعي وابن الدعي؟!.. هذا ليس إنسانا عاديا أبدا، بل إنسانا مرتبطا بالسماء.. يتكلم بكل قوة، وكأنه هو السلطان، ويتكلم مع إنسان دعي ولي دعي ابن دعي.. فالعزة الإيمانية واضحة في حركة الإمام منذ المدينة، إلى أرض كربلاء: ومن كلماته التي تدل على ذلك: (إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد)!.. إنه كلام صريح وواضح!..

    الضلع الثالث: التعبد.. نرى هذا التعبد، عندما خرج الإمام (ع) من مكة، فلو كان إنسانا غير متعبد، على الأقل يكمل حجته ثم يستشهد.. ولكن الإمام -صلوات الله عليه- يتلو القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}.. فالسبب في خروج الإمام قبل أن يتمّ العمرة، هو أنّ السلطة قد عهدت إلى عصابة منها باغتيال الإمام، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؛ لذا سارع الإمام بالخروج من مكة.. قال الإمام (ع): (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت).. هذا هو التعبد المحض بالشريعة بكل حذافيرها.

    إن الإنسان قد يكون في ظرف من ظروف حياته متعبدا بالدين، ولكن كما قال (ع): (الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم؛ يحوّطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الدّيانون).. الإنسان قد يخدع نفسه، يرى أنه مواظب على المساجد وعلى المآتم سنة كاملة، فيظن أنه على خير.. ولكن تظهر حقيقته إذا تعرض لموقف: كأن يذهب إلى سفرة، وقد تكون السفرة إلى منطقة قريبة، أو يمر بنزاع عائلي، أو مشكلة مالية مع إنسان؛ وإذا به ينقلب رأسا على عقب.. كما قال الإمام السجاد (ع) في مناجاته: (إلهي!.. كلما قلت: قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي؛ عرضت لي بليه أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك).. أين تلك الدعاوي؟.. أين آثار المسجد؟.. أين آثار البكاء على أهل البيت؟.. إن تلك الآثار تظهر في السوق، وفي الخلوات.

    إن العبودية لله -عز وجل- تظهر في مواطن المعصية.. الإنسان بعض الأوقات يبتلى بشيء من الغرور: يذهب إلى الحج فيحلق، في شهر رمضان يحلق، أيام محرم يحلق.. فيظن بأنه وصل إلى بعض الدرجات الثابتة، ولكن عندما يتعرض لبعض مواطن الفتنة في القول والفعل، فإذا به كما في الروايات: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه، يهوي بها أبعد من الثريا)!.. بعض ذوي المقامات الروحية العالية، وصل بهم الأمر بفعل المعصية إلى ترك الصلاة.. فالذي يؤرق الصالحين ليلا نهارا، مسألة سوء العاقبة.. حيث أن هناك الكثير من أصحاب الأئمة ممن رووا عنهم الكثير من الروايات المعتبرة والمهمة، ابتلوا بسوء العاقبة!.. كالشلغماني الذي كان من الشيعة، ثم غلا وظهرت منه مقالات منكرة، فتبرأ الشيعة منه، وخرجت فيه توقيعات كثيرة.

    المثلث المقدس في كربلاء:

    نعلم هذه المواقف الثلاثة من حركة الإمام (ع)، منذ المدينة.. وأما في كربلاء أيضا المثلث لازال هو المثلث: العبودية المحضة، وقد ظهرت تلك العبودية ليلة العاشر وظهر العاشر من محرم.. ليلة العاشر، كان لهم دوي كدوي النحل بين قائم وقاعد.. جاء العباس إلى الحسين (ع) وأخبره بما قال القوم، فقال: (ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار).. البعض عندما يكون عنده عمل بسيط، يضحي بصلاة أول الوقت.. بينما الإمام (ع) يوم عاشوراء، بعض أصحابه أصيبوا بالسهام عندما وقفوا أمامه، ليصلي لله -عز وجل- صلاة الظهر.

    نحن ظهر عاشوراء نبكي، ولكن هذا البكاء إذا لم يثمر عملا في وجود الإنسان، والتزاما في حياته؛ ما قيمة هذا البكاء؟.. البكاء جيد، والبكاء ثروة كبيرة، وهو كالمياه والأمطار نعمة كبيرة.. ولكن لأرض مزروعة بالبذور؛ هذه الأمطار السخية تنبت هذه البذور التي أودعتها في الأرض.. ولهذا الذي ليس عنده التزام في السلوك، وليس عنده برنامج إيماني في الحياة؛ فإن مواسم الرحمة تمر عليه من: شهر رمضان، وأيام محرم، وأيام صفر، ومن العمرة، والحج؛ فيرجع وليس عنده شيء سوى الأجر، مبدأ الأجور!.. نعم أخذ أجر البكاء على سيد الشهداء، وأخذ أجر إحياء ليلة القدر، وأخذ أجر الحج والعمرة؛ ولكن تغييرا ماهويا هذا التغيير لم يحصل في حياته أبدا.. والحياة إن لم نحدث فيها التغيير، فالمستقبل نسخة مطابقة للماضي تماما.. ما الذي تغير: محرم الآن كمحرم العام، رمضان اليوم كرمضان العام، حج هذه السنة كحج السنة الماضية؟.. لو عاش الإنسان ألف سنة على هذه الوضعية، لبقي عليها.. ولهذا ينبغي دائما أن نبحث عن ساعة الصفر، ساعة الانقلاب، ساعة الثورة على هذا الواقع الذي لا يطابق قطعا ما يريده الله -عز وجل- ورسوله.. في عالم الاقتصاد يقولون: بأن التاجر المفلس، كلما أغلق المحل أسرع؛ كلما وفر على نفسه الخسائر.. لأنه إنسان في الطريق للإفلاس، واستمراره في السوق بهذه الوضعية، يزيد عليه الالتزامات: من أجور، وما شابه ذلك.. فالإنسان عليه أن يبادر لإيقاف هذه الخسائر الفادحة: في سلوكه، وفي تعامله: مع نفسه، ومع ربه.

    المثلث المقدس بعد كربلاء:

    كذلك الرسالية واضحة في كلماتهم -صلوات الله عليهم- بعد معركة الطف.. فالإمام السجاد، والحوراء زينب، وأم كلثوم، وفاطمة الصغرى؛ هؤلاء كلماتهم مدوية في التاريخ، والرسالية واضحة جدا فيها: (ما رأينا إلا جميلا) عندما تقول زينب هذه الكلمة؛ تعلم ما تقول، ليس كلاما شعريا، وليس مبالغة.. هذا القتل ثقيل جدا عليها، ولكنها حقيقة ترى أن قتل الحسين (ع) جميل، باعتبار أنه أمر شاءه رب العالمين: (فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، (قد شاء الله أن يراهن سبايا).. زينب عندما ترى أن مقتل الحسين تحقيقا لرغبة الله، لرغبة المحبوب؛ ترى ذلك جميلا.. تضع يديها تحت ذلك الجثمان الطاهر، وتتكلم بكلمة بقيت في سجل التاريخ: (اللهم!.. تقبل منا هذا القربان)؛ أي إذا لم تتقبل منا هذا القربان، ما عملنا شيئا.. تذكرنا هذه الكلمة بدعاء إبراهيم (ع) {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. ولكن شتان بين قربانهم وبين قربانها: إبراهيم (ع) يحمل الحجارة الصماء فيقول ذلك، وزينب (ع) ترفع جسد أبي عبد الله الحسين؛ أشرف الخلق على وجه الأرض وتقول هذا الكلام.. هذا هو الخلود في حركة الحسين (ع)، هؤلاء لم يخلدوا جزافا، هؤلاء وصلوا لهذه الدرجة؛ لأنهم ربطوا حركتهم: ربطوا أمانيهم، وآمالهم، وآلامهم برب العزة والجلال.

    إن هذه الخطبة المعروفة للإمام علي بن الحسين (ع) في دمشق تطفح منها العناصر الثلاثة: الرسالية، والعزة، والتعبد الشرعي.. قال الراوي: فما يَزالون به حتّى أذِن له، فصعد المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب.. ثمّ قال: (أيُّها الناس!.. أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبع، أُعطينا: العلمَ، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين.. وفُضِّلْنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً، ومنّا الصدِّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأمّة.. مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي.. أيًّها الناس!.. أنا ابنُ مكّةَ ومِنى، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خيرِ مَن طاف وسعى، أنا ابنُ خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابنُ مَن حُمِل على البُراق في الهواء، أنا ابن مَن أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابنُ مَن بلَغَ به جبرئيلُ إلى سِدرة المنتهى، أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى، أنا ابن محمّدٍ المصطفى.

    أنا ابنُ عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرَبَ خَراطيمَ الخَلْق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجَرَ الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتَلَ ببدرٍ وحُنَين، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين، أنا ابنُ صالحِ المؤمنين، ووارثِ النبيّين، وقامعِ الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزينِ العابدين، وتاجِ البكّائين، وأصبرِ الصابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ رسول ربِّ العالمين.

    أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهدِ أعداءه الناصبين، وأفخرِ مَن مشى مِن قريشٍ أجمعين، وأوّلِ مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأوّلِ السابقين، وقاصمِ المعتدين، ومُبيدِ المشركين، وسهمٍ مِن مَرامي الله على المنافقين، ولسانِ حكمةِ العابدين، وناصرِ دِين الله، ووليِّ أمر الله، وبستانِ حكمة الله، وعيبة علمه.

    سَمحٌ سخيٌّ بهيّ، بُهلولٌ زكيّ أبطحيّ، رضيٌّ مِقدامٌ همام، صابرٌ صوّام، مهذَّبٌ قَوّام، قاطعُ الأصلاب، ومُفرِّق الأحزاب، أربطُهم عِناناً، وأثبتُهم جَناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، يَطحنُهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة، وقَرُبت الأعنّة، طَحْنَ الرَّحى، ويذروهم فيها ذَرْوَ الريح الهشيم، ليثُ الحجاز، مكّيّ مدنيّ، خَيفيٌّ عَقَبيّ، بَدريٌّ أُحُديّ، شَجَريٌّ مُهاجريّ، مِن العرب سيّدُها، ومِن الوغى ليثُها، وارثُ المشعرَين، وأبو السبطَين، الحسن والحسين، ذاك جَدّي عليُّ بن أبي طالب.

    ثمّ قال: أنا ابن فاطمةَ الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء.. فلم يزل يقول: أنا أنا، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشِيَ يزيدُ -لعنه الله- أن ينقلب الأمر عليه، فأمر المؤذّنَ فقطع عليه الكلام.. فلمّا قال المؤذّن: اللهُ أكبر، الله أكبر!.. قال عليّ: لا شيءَ أكبر من الله!.. فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله.. قال عليّ بن الحسين: شَهِد بها شَعري وبَشَري، ولحمي ودمي.. فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله.. التفتَ مِن فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّدٌ هذا جَدّي أم جَدُّك يا زيد؟!.. فإن زعمتَ أنّه جَدُّك فقد كذبتَ وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جَدّي فلِمَ قتلتَ عترته؟!..

    إنها كلمات منتقاة؛ لأن الذي يتكلم وإن كان في الأغلال أسيرا، وفي سن مبكرة؛ إنما يتكلم من منبع الوحي.. ولهذا علي بن الحسين (ع) لم يركز على النبي (ص) كثيرا؛ لأنه لا خلاف في ذلك.. ولكن قال لهم: أنتم تنسبوننا إلى الخروج، نحن خارجيون؟.. فهذا هو جدنا علي بن أبي طالب، وهذه صفاته.

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    x

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

    صورة التسجيل تحديث الصورة

    اقرأ في منتديات يا حسين

    تقليص

    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

    يعمل...
    X