بسم الله الرحمن الرحيم
دع النجاسة على الغير لا على نفسك!
يقول السيد هاشم الحداد رحمه الله تعالى : دع النجاسة على غيرك! لِمَ تلقها على نفسك؟!
ويعلق السيد الطهراني على هذا الكلام بقوله:
فحيثما شاهدتَ أنّ إصلاح أمر من الاُمور ـ بما فيها الاُمور العائليّة والداخليّة والاُمور الاجتماعيّة والخارجيّة يستوجب دوران الامر بين أن يرد الفسـاد والتلوّث على نفسـك أو على الغير، فلا تقبل ذلك الفسـاد لنفسك، لانّه سيكون أمراً لا يمكن إصلاحه!
وإذا ما شاهدت في مكان ما أنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم به سيجعلك عصبيّاً ويصيب أفكارك بالاضطراب ويهدم صفاء ذهنك، وأنّ هذا الضرر الذي يصيبك أكبر من الضرر الذي سيصيب ذلك الشخص إثر إتيانه لذلك الجرم والجناية، فعليك أن تكفّ عن هذا العمل وتتجنّبه.
إنّ هذا الضرر الوارد هو في حكم النجاسة التي ترد على نفسك، فَلِمَ تقبلها لنفسك؟ دع الضرر يصيب الغير، وعليك نفسك حيث لا يضرّك تنجّس الغير.
وإجمالاً، فإنّ أمر طهارة نفس الإنسان لها الاولويّة علي كلّ شيء، فلا يحقّ للإنسان أن يلوّث نفسه من أجل رعاية المصالح الخارجيّة. لانّ تطهير النفس وتزكيتها في الفعل والحال هو المطلوب من الإنسان وهو الذي سيؤاخذ عليه ويُسأل عنه، أما متابعة الاُمور الاجتماعيّة والسعي في حوائج الناس والتدريس والكسب وأمثالها فهي أُمور يُسأل عنها ويُحاسب عليها إن أمكن القيام بها، أمّا حين تكون الظروف غير متاحة للعمل بها فإنّ المرء لن يُسأل عنها.
ومن ثمّ فلو علم المرء وتيقّن أنّ نفسه لن تتلوّث إثر الدخول في هذه الاُمور، وأنّ هذه المسائل لن تُعيقه عن الرقيّ والتكامل والتوحيد والإيمان والإيقان ولن تسلب منه اطمئنان الخاطر وسكون القلب والفكر، فمن المسلّم أنّ عليه المبادرة والسعي لقضاء حوائج خلق الله قدر الإمكان.
أمّا لو شاهد أنّ الدخول في مثل هذه الاُمور يستلزم إهدار رأس المال وإضاعة الثروات الإلهيّة، أي إذا استلزم الغفلة عن الله والتخبّط في أُمور الدنيا وزخارفها والانغماس في عالم الكثرات، فلا يجوز له في هذا الفرض أن يبيع نفسه ويقايضها بهذه الاُمور. وذلك :
أوّلاً: لانّ العمل الحسن في الخارج إنّما يصدر من الشخص الجيّد، أي من الإلهيّ الموحِّد صاحب اليقين، وذلك العمل سيكون في الخارج منشأً للاثر الجيّد وللثمرات الجميلة الحسنة؛ أمّا لو صدر من الشخص المنغمس في الكثرات التي تستلزم الغفلة عن النفس وعن الله والعرفان الإلهيّ وعن الخلوة وحضور القلب عند الصلاة، فلن يكون ذلك العمل مستحبّاً آنذاك ولا مستحسناً، بل سيكون أمراً ملوّثاً وقبيحاً مهما بدا ظاهره جميلاً ملفتاً للانظار، ومهما حسبه عامّة الخلق أنّه من أفضل المثوبات.
وعلّة ذلك أنّ النتيجة تتبع أَخَسَّ المُقَدَّمَتَيْنِ، وحين يزهو العمل في الظاهر والخارج بجميع شـروط الحسـن والجمال لكنّ فاعله يفعله رياءً أو اتّباعاً لهوى النفس أو للمقاصد غير الإلهيّة، فإنّ ذلك العمل قبيح في الحقيقة وغير جميل ولن يترك أثـراً مفيـداً ولن يكون في عـداد مَا يَنفَعُ النَّاسَ ، مهما عدّته الآراء والافكار العامّة جميلاً وحسناً، لانّ المناط حقيقة العمل وواقعيّته، وهي حقيقة فاسدة في هذه الحال تستتبع عدم قبوله عند الله في موقف يوم القيامة.
إنّ العمل الحسن يصدر من الشخص الجيّد ولا يصدر من الشخص غير الجيّد مهما اصطنع الاخير في الخارج لظاهره أنواع التجميلات؛ ذلك لانّ الكحل لن يهب النور للاعين العمياء، والخضاب على حواجب العميان لن يؤثِّر في بصرهم ولا يزيد في نور أعينهم.
يقول الفرقان العظيم الالهي: يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَیكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
ويقول أيضاً:
يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُو´ا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
معنى ومفهوم ومآل عدم تحمّل الإضرار بالنفس لمنفعة الغير
وثانياً: يتّفق جميع عقلاء العالم على أنّه إذا دار الامر بين إصابة الضرر القطعيّ للإنسان نفسه أو إصابته لغيره، فإنّ دفع الضرر عن النفس مقدّم على دفعه عن الغير. وبطبيعة الحال فإنّ جميع هذه المسائل تصدق حين يكون الضرر الوارد على الإنسان أكثر من الضرر الوارد على الغير أو من المنفعة الحاصلة له.
فلو أُصيب شخص ما بالإفلاس ـ مثلاً وخسر مليون دينار، وكان جميع رأس مال إنسان آخر ألف دينار وعلمنا أنّه لو وهبه جميع أمواله في محاولة خيّرة لإنقاذه من الإفلاس فإنّ ذلك لن يكون مؤثّراً، لانّ ألف دينار لا تنفع شيئاً أمام ألف أمثالها؛ مضافاً إلى أنّ ذلك لن يؤثّر بأيّ وجه في رفع اضطراب وقلق ذلك المفلس أو إنقاذه من الحبس والسجن، أو في بعث الطمأنينة في قلوب عائلته، بل سـيجعل نفـس الواهب فقيراً مُدقعاً وسيصيب عائلته بالفقر والفاقة والقلق؛ ومن ثمّ يتحتّم علي هذا الشخص في هذه الحال أن يحفظ رأس ماله وثروته وأن لا يوقع الضرر على نفسه وعائلته.
أما لو كانت خسارة ذلك المصاب بالإفلاس عشرة آلاف دينار، وكانت ثروة الإنسان المحسن ألف دينار فإنّ من المستحسن أن يعطيه نصفها لمساعدته على تجاوز محنته، إذ سيكون قد حلّ جزءاً من عشرين من هذه المحنة. ومع أنّ من المسلّم أنّ الضرر سيصيبه بذلك، لكنّه لن يسبّب هلاك أهله وعياله وسيكون بإمكانهم أن يقتصدوا في معيشتهم ونفقاتهم ويتحمّلوا النقص في ذلك، وأن يقتّروا على أنفسهم مقابل تلك المثوبة العظيمة في نجاة ذلك المفلس ونجاة عائلته.
يقول المحدِّث القمّيّ: ورد في «البحار» وغيره في جملة وصايا الإمام السجّاد عليه السلام لولده أنّه قال له:
يَا بُنَيَّ! اصْبِرْ عَلَي النَّوَائِبِ، وَلاَ تَتَعَرَّضْ لِلْحُقُوقِ، وَلاَ تُجِبْ أَخَاكَ إلی الاَمْرِ الَّذِي مَضَرَّتُهُ عَلَیكَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ لَهُ.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: وَلَكِنِّي لاَ أَرَي إصْلاَ حَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام:
وَلَكِنِّي لاَ أَرَي إصْلاَحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي.
وهذه الفقرة وردت ضمن خطبة أوردها السيّد الرضي أعلى الله مقامه في « نهج البلاغة »:
وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ عَلَیهِ السَّلاَمُ فِي ذَمِّ أَصْحَابِهِ:
كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَي البِكَارُ العَمِدَةُ والثِّيَابُ المَتَدَاعِيَةُ! كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ؟!
أَكُلَّمَا أَطَلَّ عَلَیكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَبِّ فِي جُحْرِهَا وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا؟!
الذَّلِيلُ وَاللَهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ، وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بَأَفْوَقَ نَاصِلٍ. وَإنَّكُمْ وَاللَهِ لَكَثِيرٌ فِي البَاحَاتِ، قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ!
وَإنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ؛ وَلَكِنِّي لاَ أَرَي إصْلاَحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي.
أَضْرَعَ اللَهُ خُدُودَكُمْ، وَأَتْعَسَ جُدُودَكُمْ. لاَ تَعْرِفُونَ الحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ البَاطِلَ، وَلاَ تُبْطِلُونَ البَاطِلَ كَإبْطَالِكُمُ الحَقَّ.
يقول ابن أبي الحديد في شرح فقرة: وَإنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ:
يقول: إنّما يصـلحكم في السـياسـة السـيفُ، وصَـدَقَ. فإن كثيـراً لا يصلح إلاّ به، كما فعل الحجّاج بالجيش الذي تقاعد بالمهلّب، فإنّه نادي مناديه: من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق بالمهلّب فقد حلّ لنا دمه. ثمّ قتل عمير بن ضابي وغيره فخرج الناس يُهرعون إلى المهلّب.
وأمير المؤمنين لم يكن ليستحلّ من دماء أصحابه ما يستحلّه مَن يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة.
قال عليه السلام: وَلَكِنِّي لاَ أَرَى إصْلاَحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي، أي: بإفساد ديني عند الله تعالي إلي آخر ما أورده هنا من الشرح.
إنّ مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم طريق نفع أُمّته ودفع الضرر عنها، لكنّ قيامه بذلك العمل وشروعه به كان يستلزم الإضرار بوجود نفسه المقدّسة؛ لذا فإنّه لم يقم بإصلاح أُمورهم كما يعلم تلافياً لفساد النفس ودفعاً لتحمّل الضرر.