بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
::[ أدلّة جواز التطبير حزناً وجزعاً على الحسين (عليه السلام) والقول باستحبابه ]::
دليل الجواز والإباحة:
أدلّ دليلٍ على جواز وإباحة التطبير حزناً وجزعاً على الحسين (عليه السلام) ما يصطلح عليه في علم استنباط الأحكام الشرعية بـ: (أصالة البراءة) والتي تعني الحكم بالجواز والإباحة والحلية لكلّ عملٍ أو شيءٍ لم يصلنا فيه نصّ أو دليل يدل على حرمته ومنعه في الكتاب الشريف أو السنّة المباركة.
إذ أنّ كلّ فقيهٍ حين تواجهه أيّ مسألة من مسائل الحياة الدينية أو الدنيوية لابدّ أن يكون للشرع المقدّس رأيّ فيها فعليه أن يبحث أولاً في أدلة الكتاب والسنة بخصوص تلكم المسألة التي واجهته فإن لم يجد لها ذكراً في النصوص والأدلة الشرعية فعليه أن يتمسّك بالأصول العملية كأصالة البراءة مثلاً التي ترتبط بما في أيدينا من أمر والتي تعني بأنّ كلّ شيءٍ هو لك حلال حتى تثبت حرمته من الكتاب العزيز أو السنّة الشريفة. وهذا هو حكم العقل والشرع معاً وهو ما يصطلح عليه بالبراءة العقلية والشرعية(1).
ومن هنا فإن التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه جائز ومباح من دون أي أشكال يذكر وذلك للقطع الأكيد واليقين الواضح من أننا لا نملك أي نص أو دليل من الكتاب أو السنة يحرّمه أو يمنعه. ولقد خالف الذين ذهبوا إلى حرمة التطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله (عليه السلام) الطريقة الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية والتي عليها اتفاق كلمة فقهاء الأمة وعلمائها إذ أفتوا بالتحريم من دون أي دليل شرعي صحيح وكلّ ما أوردوه من الكلام في طريق ذلك لا يثبت للمناقشة الشرعية وقد رأيت ضعف كلامهم ووهنه في الفصل الأول من هذا الكتاب.
أدلة الاستحباب
أولاً- الجزع المقدّس:
1- (عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام).
رواها الشيخ الطوسي (ره) في الأمالي، المجلس السادس ص 161 ح 20. والشيخ المجلسي (ره) في البحار ج 44 ب 34 ص 280 ح 9 وكذلك أيضاً في ج 45 ب 46 ص 313 ح 14.
2- (عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنّه فيه مأجور).
عن كامل الزيارات ب 32 ص 107 ح 2 طبعة طهران، وفي بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 291 ح 32.
3- عن مسمع بن عبد الملك البصري قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مسمع أنت من أهل العراق؛ أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟.. .. قال لي أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم، قال: فتجزع؟ قلت: إي والله واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا.. ..)(2).
عن كامل الزيارات ب 32 ص 108 ح 6، وفي بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 289 ح 31.
4- عن مالك الجهني، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في مراسم يوم عاشوراء: (.. .. ثم ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه .. ..)(3).
عن كامل الزيارات ب 71 ص 193 ح 7، وفي بحار الأنوار ج 101 ب 24 ص 290 ح 1.
5- ما رواه قدامة بن زائدة، عن أبيه، عن إمامنا السجاد (عليه السلام) حيث قال: (فإنه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا.. .. فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليهما السلام) فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يابقية جدي وأبي واخوتي؟!! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم، مرملين بالعرى.. ..)(4).
عن كامل الزيارات ب 88 ص 274.
وبعد أن أجلت النظر ياقارئي العزيز في هذه الأحاديث الكريمة فإنّه لابدّ من القول:
1- إنّ هذه الروايات في غاية الاعتبار والقبول من جهة طرقها وأسانيدها ومصادرها عند علمائنا وفقهائنا المتقدمين منهم والمتأخرين. وعليها عمل فقهاء ومراجع الأمة إذ نطقت بذلك أسفارهم وزبرهم. ودونك الأحياء منهم فسلهم، والأمر سهل.
2- متون هذه الروايات تدلّ بشكلٍ واضح وصريح على أنّ الجزع على سيد الشهداء (عليه السلام) مستحبّ مؤكّد وفي غاية التأكيد وبنحوٍ أخص في يوم عاشوراء الأليم.
3- المراد من الجزع في لغة العرب هو نقيض الصبر وهذا ما عليه كلّ المعاجم اللغوية. لذا فإنّ كلّ فعلٍ يفعله صاحب المصيبة يعبّر به عن عدم تحمّله وعن تأثّره الشديد فهو مصداق من مصاديق الجزع؛ إذ لا يوجد في لغة العرب تحديد معيّن لمعنى الجزع وذلك أنّ حقيقته هو الحزن بلا حدود فكيف يكون له حدّ معين وخاص به. لكننا نعتمد على العرف الصحيح في تحديد أقلّ مراتبه وهو العويل والضجيج والصراخ والبكاء الذي لا ينقطع مصحوباً بلطم الوجه وضرب الرأس ولدم الصدر إلى غير ذلك مما يقع في هذه المرتبة الأقل وإنّما قلت الأقلّ لأن المرتبة الأعلى والأشد هي ما يكون فيها هلاك النفس ويظهر هذا واضحاً في الحديث الخامس عن الإمام السجّاد (عليه السلام) حين يقول: (فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليهما السلام) فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي؟!! فقلت وكيف لا أجزع وأهلع.. .. .)، فالتفت ياقارئي العزيز لما جاء في هذه الكلمات الشريفة:
كادت نفسي تخرج: بمعنى أوشكت على الموت أو الهلاك.
مالي أراك تجود بنفسك: بمعنى مالي أراك تريد أن تودّع الحياة.
وهذا التعبير: (تجود بنفسك) في لغة العرب ولسانهم يقال لمن يكون في النزع الأخير لخروج روحه من بدنه أي حينما يكون الموت وشيكاً وقريباً جداً من الإنسان. أمّا قوله (عليه السلام): (وكيف لا أجزع وأهلع) فهو صريح في استحباب الجزع وأفضليته بل الهلع الذي هو أفحش الجزع في لغة العرب(5)؛ إذ لو لم يكن محبوباً عند الله سبحانه وتعالى لما فعله المعصوم (عليه السلام). ومن هنا صرّح الفقيه المحقق الشيخ خضر بن شلال العفكاوي (ره) في كتابه (أبواب الجنان)(6) قائلاً: (الذي يستفاد من مجموع النصوص ومنها الأخبار الواردة في زيارة الحسين المظلوم ولو مع الخوف على النفس يجوز اللطم والجزع على الحسين كيفما كان حتى لو علم بأنه يموت في نفس الوقت).
4- يتّضح ممّا تقدّم أنّ الجزع على الحسين (عليه السلام) على مراتب كثيرة أوّلها الصراخ والعويل والنحيب والبكاء المتواصل مع لدم الصدر والطم الوجه وضرب الرأس باليد أو غيرها، وآخرها ما قد يؤدّي إلى هلاك النفس والإضرار الشديد بها. وقطعاً فإنه يقع ما بين هاتين المرتبتين مراتب كثيرة تتسلسل بحسب شدتها. وما التطبير الحسيني إلاّ مرتبة من هذه المراتب التي تقع في الحد الوسط من حيث الشدّة بل ربما أقل من ذلك وإلاّ فأين يقع جزع التطبير من جزع إمامنا السجّاد (عليه السلام) حين يقول: (فكادت نفسي تخرج) وهو قول يطابق الواقع مائة في المائة ليس فيه أدنى حدّ من المبالغة أو المواربة إذ هو قول المعصوم (عليه السلام) وكلامه، وكلام الإمام إمام الكلام. ثم إنّ التطبير الحسيني لا ضرر فيه على الإنسان وحتى لو كان فيه ضرر فهو ضرر لا يعتدّ به أبداً كما بيّنا ذلك فيما تقدّم من هذا الكتاب. ومن هنا فإنّ مرتبته لن تكون من المراتب الشديدة من الجزع على أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
5- النتيجة التي نحصل عليها بعد تلكم المقدّمات أن التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه ما هو إلاّ مرتبة ومصداق من مصاديق الجزع على الحسين (عليه السلام) والذي حكمت الشريعة باستحبابه المؤكّد وندبت إليه أهل الإيمان؛ كي يقتدوا بأئمتهم المعصومين (عليهم السلام) الذين جزعوا حتى كادت النفوس أن تخرج لاجل حسين العقيدة والمبادئ صلوات الله عليه.
6- ويؤيّد هذه المعاني ما تفيض به كلمات دعاء الندبة الشريف الذي يرويه سيدنا ابن طاووس (ره) في إقبال الأعمال، ومصباح الزائر، وجمال الأسبوع، والشيخ المجلسي (ره) في بحار الأنوار:
(فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون، أين الحسن؟! أين الحسين؟! أين أبناء الحسين؟!).
إلى أن يقول الدعاء الشريف:
(أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء؟! أين الطالب بدم المقتول بكربلاء؟!).
ثم يقول مناجياً نادياً:
(هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء؟! هل من جزوع فاساعد جزعه إذا خلا؟! هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟! هل إليك يا أبن أحمد سبيل فتلقى؟!).
فانظر أيها القارئ العزيز لقول الدعاء الشريف:
1- هل من جزوع: والجزوع بحسب موازين الصرف صيغة مبالغة أي جازع وجازع و.. .
2- هل قذيت عين: إشارة واضحة لما يصيب العين من ضرر أو مرض أو ألم شديد بسبب البكاء والنوح جزعاً على مصاب الحسين (عليه السلام)، وشوقاً وحسرةً على فراق الطالب بثأره صلوات الله وسلامه عليه.
والحرّ تكفيه الإشارة.
ثانياً - الإبكاء:
1- (عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون،..).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 278 ح 1 منقولاً عن أمالي الشيخ الصدوق المجلس 17، الرقم 4.
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 294 بنفس إسناد الحديث المتقدم عنه صلوات الله عليه: (من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ..)(7).
2- عن السيد ابن طاووس (ره): (روي عن آل الرسول (عليهم السلام) أنّهم قالوا: من بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنّة).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 288 منقولاً عن اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس (ره).
3- (عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام)؟ قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون - يعني بالرقّة - قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقـــــل لأعظـــمه الزّكيّة
قال: فبكى، ثمّ قال زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف السّتر، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسةً كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرض له بدون الجنّة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 111 ح 1، وثواب الأعمال ص 47، والبحار ج 44 ب 34 ص 288 ح 28.
4- (عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني في الحسين (عليه السلام)، قال: فأنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أبا عمارة من انشد في الحسين شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً بأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 112 ح2، و أمالي الصدوق المجلس 29 - الرقم 6، وثواب الأعمال ص 47، والبحار 44 ب 34 ص 282 ح 15.
5- (عن صالح بن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أنشد في الحسين (عليه السلام) بيت شعرٍ فبكى وأبكى تسعةً فله ولهم الجنة، فلم يزل حتى قال: من أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأظنّه قال: أو تباكى فله الجنة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 113 ح 4 ومثله بسند آخر ح 7 من نفس الباب والصفحة، وثواب الأعمال ص 48، والبحار ج 44 ب 34 ص 289 ح 29.
6- (عن أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي: أنشدني فأنشدته، فقال: لا؛ كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره، قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكيّة
قال: فلمّا بكى أمسكت أنا، فقال مرّ، فمررت، قال: ثمّ قال: زدني.. زدني، قال: فأنشدته:
يـــا مريم قومي فاندبي مولاك وعلى الحسين فاسعدي ببكاك
قال: فبكى وتهايج النساء!! قال: فلمّا أن سكتن قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة، ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد، فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ثمّ قال: من ذكره فبكى فله الجنة). عن كامل الزيارات ب 33 ص 113 ح 5، وبحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 287 ح 25.
7- (عن زيد الشحّام، قال: كنّا عند أبي عبد الله ونحن جماعة من الكوفيّين فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله (عليه السلام) فقرّبه وأدناه ثم قال: يا جعفر، قال: لبيك! جعلني الله فداك. قال: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين وتجيده. فقال له: نعم، جعلني الله فداك، قال: قل! فأنشده (صلى الله عليه) فبكى ومن حوله، حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته. ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون ههنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته(8) الجنة بأسرها، وغفر الله لك. فقال: يا جعفر ألا أزيدك؟ قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له).
عن رجال الكشي ص 187، وبحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 282 ح 16، ووسائل الشيعة ج 10 ص 464 ب 104 المزار ح 1.
وبعد ذكر هذه الأحاديث والروايات، أقول:
1- الأخبار المتقدّمة تلقّاها علماؤنا بالقبول والاعتماد والعمل بها والفتيا على أساسها؛ فلا حاجة للخوض في تفاصيل أسانيدها؛ لوضوح كونها على درجةٍ عاليةٍ من الاعتبار الشرعي والعملي.
2- مضمون هذه الأخبار ومحتواها: الاستحباب المؤكّد للبكاء والإبكاء على سيد الشهداء صلوات الله عليه وما يترتب عليهما من عظيم أجرٍ عند الله سبحانه وتعالى. أمّا الذي نخصّه بالذكر والبحث هنا من بينهما فهو الإبكاء وذلك أنّ البحث منعقد لأجله منذ البداية. والذي نراه واضحاً في هذه الروايات الشريفة أنّ الأولى والثانية منها تحدّثت عن الإبكاء بنحوٍ عام من دون ذكر أي مصداقٍ من مصاديق الإبكاء فجاء لسانها: (بكى وأبكى) من دون ذكر أي أسلوب من أساليب الإبكاء، وأما ما تبقّى منها فقد جاء مشتملاً على ذكر مصداقٍ من أهم مصاديق الإبكاء خصوصاً في زمان الأئمة(9) (عليهم السلام) وهو إنشاد الشعر لأجل الإبكاء على الحسين المظلوم صلوات الله وسلامه عليه. وإلا فمن المعلوم أنّ الإبكاء ليس له من أسلوب معيّن فقد يكون من طريق: ذكر المصيبة نثراً بلحنٍ حزين، أو من دون لحن، أو بإنشاد الشعر إلقاءً، أو بصوتٍ شجيّ، أو بتأليف كتابٍ يستدرّ الدمعة من قارئه ومطالعه، أو بإنتاج فيلم سينمائي أو تلفزيوني روائياً كان أو وثائقيّاً يعرض الواقعة بكل آلامها وأشجانها، أو بإخراج مسرحيةٍ أو تمثيليةٍ تهيج الدمع والعبرات، أو برسم لوحةٍ فنيةٍ تعبّر عن جراحات ضمائر الأحرار وآلامها لما لقي سبط النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، أو بإقامة المسيرات العزائية والمواكب الحسينية من مواكب اللطم وضرب السلاسل والتطبير الحسيني إلى غير ذلك من فنون العزاء الحسيني وأشكاله والتي هي من أهم أسباب الإبكاء وطرقه. علماً أن أسباب الإبكاء وأساليبه ليست منحصرةً في ما ذكر وإنّما يبقى الباب مفتوحاً في هذا المجال لكل أشكال التعبير وتهييج الأحزان لأجل مصاب سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه.
3- يظهر بوضوحٍ جليّ مما تقدّم الاستحباب المؤكّد للإبكاء على سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام، ويظهر أيضاً أنّ مواكب التطبير الحسيني من أهمّ أسباب الإبكاء وتهييج العبرات، لذا فإنّ هذا الاستحباب سيسري حتماً على هذه الشعيرة الحسينية المبكية كما يسري على غيرها من الشعائر الحسينية الأخرى المبكية وكذلك الأساليب التعبيرية المختلفة المكية أيضاً والتي ذكرنا قبل قليلٍ أمثلةً منها في قائمةٍ لذكر أنواع مختلفة من أساليب الإبكاء على الحسين (عليه السلام). ولا يخفى فإنّ القول: بأنّ مواكب التطبير الحسيني من أهم أسباب الإبكاء هو ما يشهد به الواقع على الأرض ويقرّبه أرباب العزاء الحسيني والجماهير الغفيرة المشاركة في الحضور وأهل البيت أدرى بالذي فيه؛ حيث يتجمّع أهل التطبير عند فجر عاشوراء في تكاياهم وحسينياتهم، وهم يرتدون أكفانهم البيضاء، بعد تأدية صلاة الصبح، تقرأ زيارة عاشوراء، تتبعها قراءة شجية جداً لقصّة مذبح الحسين ومقتله (عليه السلام) بنحو مختصر، مع مقاطع من زيارة الناحية المقدّسة، ثم ترتفع الصيحات والصرخات: يا حسين.. يا حسين، والبكاء والنحيب يهزّ الأرجاء، وتقرع الطبول، وتمتشق السيوف، وبصوتٍ واحدٍ تتدافع الدموع متدفّقةً كأنّها عين جارية:
يا فاطمه قومي إلى الطفوف هـــذا حسين طعمة السيوف
حيدر.. حيدر .. حيدر
فتجرى الدماء نازفةً تذكّر بأقدس دم سفك على وجه الأرض، مشفوعةً بالدموع والعبرات، والآهات والحسرات، فكم من باكٍ أو باكية، حيث لا ترى إلاّ أجواءً مشحونةً بالعاطفة الحسينية الجيّاشة، ولا تسمع إلاّ ندبةً وصراخاً حسينياً يهزّ سمع الملكوت.. فكأنها الغاضريات وصوت حسين يجرف الدهور ويمزّق أستار القرون!!!
فيــــا أيها الوتر في الخالدين فـــــذّاً إلــــى الآن لـــم يشفع
ويـــا عـظة الطامحين العظام للاهيـــــن عــــــن غدهم قنّع
أبا عبد الله صلى الله عليك.. فما قدر الدموع؟! وما قدر الدماء؟! في محراب أحزانك، (أشهد أنّ دمك سكن في الخلد واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهن، ومن يتقلّب في الجنة والنار من خلق ربّنا، وما يرى، وما لا يري)(10).
ولا أملك إلاّ أن أقول: بأنّ مواكب التطبير الحسيني هي دماء نازفة، ودموع مسفوحة، وقلوب واعية تطوف في محراب عشقها في الفناء الحسيني الأرحب، وتستضيء بنور مصباح الهدى؛ كي تفوز بسفينة النجاة الآمنة. فطوبى لكم أحباب الحسين (عليه السلام)، وطوبى لكم أيها النازفون دماً ودمعاً في محراب عشقه ومودّته.
ثالثاً - إحياء أمر الإمام الحسين (عليه السلام):
1- (عن الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لفضيل: تجلسون وتتحدّثون؟ قال: نعم، جعلت فداك. قال: إنّ تلك المجالس أحبّها فأحيوا أمرنا يا فضيل! فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 282 ح 14، نقلاً عن قرب الإسناد ص 26.
2- (عن علي بن الحسين بن فضّال، عن أبيه قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)(11).
وهنا أمور لابدّ من ذكرها والإشارة إليها:
1- إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وإحياء الأمر الحسيني والقضية الحسينية خصوصاً واجب شرعيّ أكيد يوجبه العقل(12) قبل الشرع وتؤكّد الأدلة الشرعية بشكلٍ واضحٍ وقطعي من نصوصٍ دينيّة وسيرة متشرّعة إلى غير ذلك من المرتكزات العقلية والشرعية. وهذه مسألة مفروغ منها في دنيا الفقه والأحكام، ومن البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان من فقهائنا بأيّ وجهٍ من الوجوه. نعم يمكن القول بأنّ إحياء الأمر على مرتبتين منه ما هو واجب لا يجوز تركه بأيّ حالٍ من الأحوال، ومنه ما هو مندوب ومستحبّ إتيانه بنحوٍ أكيد يترتب عليه عظيم الأجر والثواب.
2- ليكن معلوماً إنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الآمرة وجوباً أو استحباباً بإحياء أمرهم كثيرة جداً. وإني لم أتناولها بالذكر لوضوح أمرها عند أهل الشرع والدين. وما ذكرت هذين الحديثين الشريفين إلاّ لأجل التبرك بهما أولاً. وثانياً لظهورهما في إحياء الأمر المستحب الذي يدور الحديث عنه في هذا المقام.
3- الروايتان المذكورتان تدلاّن على أهمية إحياء أمرهم (عليهم السلام) وتصرّحان باستحبابه المؤكّد. مع اشتمالهما على ذكر بعضٍ من الأمور التي هي من الأسباب المهمة في إحياء الأمر من قبيل إقامة مجالس الذكر والعزاء، وتذكّر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وذكرها، والبكاء والإبكاء في سبيل ذلك، وهكذا كلّ أمرٍ يوصلنا إلى نفس هذا المطلوب.
4- من كلّ ما تقدّم يتجلّى بوضوحٍ أنّ التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه مصداق واضح من مصاديق إحياء الأمر من جهةٍ كونه سبباً قوياً من أسباب الإبكاء على الحسين (عليه السلام) وقد مرّ بيان ذلك فضلاً عمّا أشارت إليه الروايتان اللتان بين أيدينا من إن الإبكاء مصداق من مصاديق إحياء الأمر أيضا، هذا أولاً. وثانياً لما في التطبير الحسيني من بعد جماهيري واسع؛ حيث الجموع الغفيرة المشاركة في هذا الموكب والجموع المتفاعلة والمتأثرة بها. ولا شكّ فإنّ أهم أمرٍ في إحياء الأمر العقائدي هو جماهيرية العمل وانتشار تأثيره خصوصاً إذا كان ذا ميزةٍ عاطفية ثرّة كالتطبير الحسيني. ومن كل ذلك يبدو واضحاً سريان حكم الاستحباب على التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه، لكونه مصداقاً من أوضح مصاديق إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وإحياء أمر الحسين صلوات الله عليه بنحو خاص.
توضيحات:
1- ربّما يقول قائل: إنّ إظهار الجزع والإبكاء من جملة مصاديق إحياء الأمر. فلأيّ سببٍ جعلنا كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة موضوعاً ودليلاً قائماً برأسه؟ وجواب ذلك: إنّ الناظر والمتفحّص بدقةٍ في كلمات أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم يجد بوضوحٍ أنّ الجزع مطلوب بنفسه بما هو، ومن جملة آثاره أنه يكون سبباً في إحياء الأمر. وكذلك الإبكاء فهو مطلوب بنفسه بما هو أيضاً لما فيه وفي الجزع من منافع معنوية وتربوية تصقل روح الإنسان، وتذكّي وجدانه، وتغسل عواطفه من كلّ شائبةٍ تلحق بها، راسمةًً لها جادّة صوابها. فكل واحدٍ منهما مطلوب بنفسه بما هو هو، وفي بعض جهات كلّ واحدٍ منهما سبب لإحياء الأمر، ومن هنا جعلنا كل واحدٍ من هذه الثلاثة: الجزع المقدّس، والإبكاء، وإحياء الأمر الحسيني موضوعاً ودليلاً قائماً برأسه.
2- حكم الاستحباب المؤكّد يسري بنحو الأصالة على إظهار الجزع على الحسين (عليه السلام)، وعلى الإبكاء عليه، وعلى إحياء أمره صلوات الله عليه؛ وذلك لورود النصوص الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) بخصوص كل واحد من هذه الثلاثة. أما سريان هذا الاستحباب على التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام فهو من باب التفرّع والمصداقية، إذ أنّ التطبير الحسيني مصداق واضح لإظهار الجزع، والإبكاء، وإحياء الأمر، ومن هنا كان جريان حكم الاستحباب عليه. لا من باب ورود نصّ خاصّ يأمر بهذا النحو المعين من العزاء. وإنّما كان ذلك عملاً موافقاً لما رواه البزنطي في جامعه عن هشام بن سالم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)(13)، وما رواه أيضاً في جامعه عن الإمام الرضا (عليه السلام): (علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع)(14).
زبدة القول:
استحباب إظهار الجزع على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واستحباب الإبكاء عليه، واستحباب إحياء أمره (عليه السلام).
أمور ثابتة لا شكّ فيها وقد تبيّنت ذلك واضحاً يا قارئي العزيز فكذاك هو التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه حقّ لا ريب فيه ويجري عليه حكم الاستحباب لكونه مصداقاً واضحاً لإظهار الجزع المستحب، والإبكاء المستحب، وإحياء الأمر المستحب. وقد مرّت بك الأدلة واضحةً جلية. وستأتيك أدلة أخرى وأخرى، (ويأتيك بالأنباء من لم تزوّد).
أدلّة أخرى.. لعلّهم يبصرون!
أولاً - حزن نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) (وتولّى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين).[سورة يوسف: الآية 84 و 85]. وهنا ثمّة فوائد:
الفائدة الأولى: في المعاني اللغوية
ابيضّت عيناه: أصابها البياض وهو فقدان البصر. ويقول صادق العترة (عليه السلام): (البكاؤون خمسة آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين، فأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره..)(15).
وبصريح القرآن العزيز أنه (عليه السلام) ما ارتدّ بصيراً حتى شمّ قميص ولده يوسف: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا)(16).
تالله تفتؤا تذكر يوسف: لا تفتر عن ذكر يوسف ولا تنقطع عنه.
حرضاً: مشرفاً على الهلاك أو ميتاً.
الفائدة الثانية: في قوّة حجّية الاستدلال بحالة نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) في المقام الذي نحن فيه وذلك من جهة:
أ- أنها سيرة نبيّ معصوم يبيّنها لنا الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(17).
ويقرّرها لنا لأجل الاعتبار والتأسّي بسيرة أوليائه الطاهرين.
ب - استدلّ بها إمامنا السجاد (عليه السلام) حين سئل عن طول حزنه وبكائه وجزعه على سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه حيث يروي لنا شيخنا أبو القاسم جعفر بن قولويه (ره) بأسانيده الموثوقة المعتبرة: (أشرف مولى لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا علي بن الحسين أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ مما رأيت حتى قال: (يا أسفي على يوسف)، إنه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي)(18).
وفي بحار الأنوار رواية أخرى أنه حين قال له أحد مواليه: (أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له (صلوات الله عليه): ويحك إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟)(19).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
::[ أدلّة جواز التطبير حزناً وجزعاً على الحسين (عليه السلام) والقول باستحبابه ]::
دليل الجواز والإباحة:
أدلّ دليلٍ على جواز وإباحة التطبير حزناً وجزعاً على الحسين (عليه السلام) ما يصطلح عليه في علم استنباط الأحكام الشرعية بـ: (أصالة البراءة) والتي تعني الحكم بالجواز والإباحة والحلية لكلّ عملٍ أو شيءٍ لم يصلنا فيه نصّ أو دليل يدل على حرمته ومنعه في الكتاب الشريف أو السنّة المباركة.
إذ أنّ كلّ فقيهٍ حين تواجهه أيّ مسألة من مسائل الحياة الدينية أو الدنيوية لابدّ أن يكون للشرع المقدّس رأيّ فيها فعليه أن يبحث أولاً في أدلة الكتاب والسنة بخصوص تلكم المسألة التي واجهته فإن لم يجد لها ذكراً في النصوص والأدلة الشرعية فعليه أن يتمسّك بالأصول العملية كأصالة البراءة مثلاً التي ترتبط بما في أيدينا من أمر والتي تعني بأنّ كلّ شيءٍ هو لك حلال حتى تثبت حرمته من الكتاب العزيز أو السنّة الشريفة. وهذا هو حكم العقل والشرع معاً وهو ما يصطلح عليه بالبراءة العقلية والشرعية(1).
ومن هنا فإن التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه جائز ومباح من دون أي أشكال يذكر وذلك للقطع الأكيد واليقين الواضح من أننا لا نملك أي نص أو دليل من الكتاب أو السنة يحرّمه أو يمنعه. ولقد خالف الذين ذهبوا إلى حرمة التطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله (عليه السلام) الطريقة الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية والتي عليها اتفاق كلمة فقهاء الأمة وعلمائها إذ أفتوا بالتحريم من دون أي دليل شرعي صحيح وكلّ ما أوردوه من الكلام في طريق ذلك لا يثبت للمناقشة الشرعية وقد رأيت ضعف كلامهم ووهنه في الفصل الأول من هذا الكتاب.
أدلة الاستحباب
أولاً- الجزع المقدّس:
1- (عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام).
رواها الشيخ الطوسي (ره) في الأمالي، المجلس السادس ص 161 ح 20. والشيخ المجلسي (ره) في البحار ج 44 ب 34 ص 280 ح 9 وكذلك أيضاً في ج 45 ب 46 ص 313 ح 14.
2- (عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنّه فيه مأجور).
عن كامل الزيارات ب 32 ص 107 ح 2 طبعة طهران، وفي بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 291 ح 32.
3- عن مسمع بن عبد الملك البصري قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مسمع أنت من أهل العراق؛ أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟.. .. قال لي أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم، قال: فتجزع؟ قلت: إي والله واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا.. ..)(2).
عن كامل الزيارات ب 32 ص 108 ح 6، وفي بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 289 ح 31.
4- عن مالك الجهني، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في مراسم يوم عاشوراء: (.. .. ثم ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه .. ..)(3).
عن كامل الزيارات ب 71 ص 193 ح 7، وفي بحار الأنوار ج 101 ب 24 ص 290 ح 1.
5- ما رواه قدامة بن زائدة، عن أبيه، عن إمامنا السجاد (عليه السلام) حيث قال: (فإنه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا.. .. فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليهما السلام) فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يابقية جدي وأبي واخوتي؟!! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم، مرملين بالعرى.. ..)(4).
عن كامل الزيارات ب 88 ص 274.
وبعد أن أجلت النظر ياقارئي العزيز في هذه الأحاديث الكريمة فإنّه لابدّ من القول:
1- إنّ هذه الروايات في غاية الاعتبار والقبول من جهة طرقها وأسانيدها ومصادرها عند علمائنا وفقهائنا المتقدمين منهم والمتأخرين. وعليها عمل فقهاء ومراجع الأمة إذ نطقت بذلك أسفارهم وزبرهم. ودونك الأحياء منهم فسلهم، والأمر سهل.
2- متون هذه الروايات تدلّ بشكلٍ واضح وصريح على أنّ الجزع على سيد الشهداء (عليه السلام) مستحبّ مؤكّد وفي غاية التأكيد وبنحوٍ أخص في يوم عاشوراء الأليم.
3- المراد من الجزع في لغة العرب هو نقيض الصبر وهذا ما عليه كلّ المعاجم اللغوية. لذا فإنّ كلّ فعلٍ يفعله صاحب المصيبة يعبّر به عن عدم تحمّله وعن تأثّره الشديد فهو مصداق من مصاديق الجزع؛ إذ لا يوجد في لغة العرب تحديد معيّن لمعنى الجزع وذلك أنّ حقيقته هو الحزن بلا حدود فكيف يكون له حدّ معين وخاص به. لكننا نعتمد على العرف الصحيح في تحديد أقلّ مراتبه وهو العويل والضجيج والصراخ والبكاء الذي لا ينقطع مصحوباً بلطم الوجه وضرب الرأس ولدم الصدر إلى غير ذلك مما يقع في هذه المرتبة الأقل وإنّما قلت الأقلّ لأن المرتبة الأعلى والأشد هي ما يكون فيها هلاك النفس ويظهر هذا واضحاً في الحديث الخامس عن الإمام السجّاد (عليه السلام) حين يقول: (فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليهما السلام) فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي؟!! فقلت وكيف لا أجزع وأهلع.. .. .)، فالتفت ياقارئي العزيز لما جاء في هذه الكلمات الشريفة:
كادت نفسي تخرج: بمعنى أوشكت على الموت أو الهلاك.
مالي أراك تجود بنفسك: بمعنى مالي أراك تريد أن تودّع الحياة.
وهذا التعبير: (تجود بنفسك) في لغة العرب ولسانهم يقال لمن يكون في النزع الأخير لخروج روحه من بدنه أي حينما يكون الموت وشيكاً وقريباً جداً من الإنسان. أمّا قوله (عليه السلام): (وكيف لا أجزع وأهلع) فهو صريح في استحباب الجزع وأفضليته بل الهلع الذي هو أفحش الجزع في لغة العرب(5)؛ إذ لو لم يكن محبوباً عند الله سبحانه وتعالى لما فعله المعصوم (عليه السلام). ومن هنا صرّح الفقيه المحقق الشيخ خضر بن شلال العفكاوي (ره) في كتابه (أبواب الجنان)(6) قائلاً: (الذي يستفاد من مجموع النصوص ومنها الأخبار الواردة في زيارة الحسين المظلوم ولو مع الخوف على النفس يجوز اللطم والجزع على الحسين كيفما كان حتى لو علم بأنه يموت في نفس الوقت).
4- يتّضح ممّا تقدّم أنّ الجزع على الحسين (عليه السلام) على مراتب كثيرة أوّلها الصراخ والعويل والنحيب والبكاء المتواصل مع لدم الصدر والطم الوجه وضرب الرأس باليد أو غيرها، وآخرها ما قد يؤدّي إلى هلاك النفس والإضرار الشديد بها. وقطعاً فإنه يقع ما بين هاتين المرتبتين مراتب كثيرة تتسلسل بحسب شدتها. وما التطبير الحسيني إلاّ مرتبة من هذه المراتب التي تقع في الحد الوسط من حيث الشدّة بل ربما أقل من ذلك وإلاّ فأين يقع جزع التطبير من جزع إمامنا السجّاد (عليه السلام) حين يقول: (فكادت نفسي تخرج) وهو قول يطابق الواقع مائة في المائة ليس فيه أدنى حدّ من المبالغة أو المواربة إذ هو قول المعصوم (عليه السلام) وكلامه، وكلام الإمام إمام الكلام. ثم إنّ التطبير الحسيني لا ضرر فيه على الإنسان وحتى لو كان فيه ضرر فهو ضرر لا يعتدّ به أبداً كما بيّنا ذلك فيما تقدّم من هذا الكتاب. ومن هنا فإنّ مرتبته لن تكون من المراتب الشديدة من الجزع على أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
5- النتيجة التي نحصل عليها بعد تلكم المقدّمات أن التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه ما هو إلاّ مرتبة ومصداق من مصاديق الجزع على الحسين (عليه السلام) والذي حكمت الشريعة باستحبابه المؤكّد وندبت إليه أهل الإيمان؛ كي يقتدوا بأئمتهم المعصومين (عليهم السلام) الذين جزعوا حتى كادت النفوس أن تخرج لاجل حسين العقيدة والمبادئ صلوات الله عليه.
6- ويؤيّد هذه المعاني ما تفيض به كلمات دعاء الندبة الشريف الذي يرويه سيدنا ابن طاووس (ره) في إقبال الأعمال، ومصباح الزائر، وجمال الأسبوع، والشيخ المجلسي (ره) في بحار الأنوار:
(فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون، أين الحسن؟! أين الحسين؟! أين أبناء الحسين؟!).
إلى أن يقول الدعاء الشريف:
(أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء؟! أين الطالب بدم المقتول بكربلاء؟!).
ثم يقول مناجياً نادياً:
(هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء؟! هل من جزوع فاساعد جزعه إذا خلا؟! هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟! هل إليك يا أبن أحمد سبيل فتلقى؟!).
فانظر أيها القارئ العزيز لقول الدعاء الشريف:
1- هل من جزوع: والجزوع بحسب موازين الصرف صيغة مبالغة أي جازع وجازع و.. .
2- هل قذيت عين: إشارة واضحة لما يصيب العين من ضرر أو مرض أو ألم شديد بسبب البكاء والنوح جزعاً على مصاب الحسين (عليه السلام)، وشوقاً وحسرةً على فراق الطالب بثأره صلوات الله وسلامه عليه.
والحرّ تكفيه الإشارة.
ثانياً - الإبكاء:
1- (عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون،..).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 278 ح 1 منقولاً عن أمالي الشيخ الصدوق المجلس 17، الرقم 4.
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 294 بنفس إسناد الحديث المتقدم عنه صلوات الله عليه: (من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ..)(7).
2- عن السيد ابن طاووس (ره): (روي عن آل الرسول (عليهم السلام) أنّهم قالوا: من بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنّة).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 288 منقولاً عن اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس (ره).
3- (عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام)؟ قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون - يعني بالرقّة - قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقـــــل لأعظـــمه الزّكيّة
قال: فبكى، ثمّ قال زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف السّتر، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسةً كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرض له بدون الجنّة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 111 ح 1، وثواب الأعمال ص 47، والبحار ج 44 ب 34 ص 288 ح 28.
4- (عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني في الحسين (عليه السلام)، قال: فأنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أبا عمارة من انشد في الحسين شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً بأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 112 ح2، و أمالي الصدوق المجلس 29 - الرقم 6، وثواب الأعمال ص 47، والبحار 44 ب 34 ص 282 ح 15.
5- (عن صالح بن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أنشد في الحسين (عليه السلام) بيت شعرٍ فبكى وأبكى تسعةً فله ولهم الجنة، فلم يزل حتى قال: من أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأظنّه قال: أو تباكى فله الجنة).
عن كامل الزيارات ب 33 ص 113 ح 4 ومثله بسند آخر ح 7 من نفس الباب والصفحة، وثواب الأعمال ص 48، والبحار ج 44 ب 34 ص 289 ح 29.
6- (عن أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي: أنشدني فأنشدته، فقال: لا؛ كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره، قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكيّة
قال: فلمّا بكى أمسكت أنا، فقال مرّ، فمررت، قال: ثمّ قال: زدني.. زدني، قال: فأنشدته:
يـــا مريم قومي فاندبي مولاك وعلى الحسين فاسعدي ببكاك
قال: فبكى وتهايج النساء!! قال: فلمّا أن سكتن قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة، ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد، فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ثمّ قال: من ذكره فبكى فله الجنة). عن كامل الزيارات ب 33 ص 113 ح 5، وبحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 287 ح 25.
7- (عن زيد الشحّام، قال: كنّا عند أبي عبد الله ونحن جماعة من الكوفيّين فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله (عليه السلام) فقرّبه وأدناه ثم قال: يا جعفر، قال: لبيك! جعلني الله فداك. قال: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين وتجيده. فقال له: نعم، جعلني الله فداك، قال: قل! فأنشده (صلى الله عليه) فبكى ومن حوله، حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته. ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون ههنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته(8) الجنة بأسرها، وغفر الله لك. فقال: يا جعفر ألا أزيدك؟ قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له).
عن رجال الكشي ص 187، وبحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 282 ح 16، ووسائل الشيعة ج 10 ص 464 ب 104 المزار ح 1.
وبعد ذكر هذه الأحاديث والروايات، أقول:
1- الأخبار المتقدّمة تلقّاها علماؤنا بالقبول والاعتماد والعمل بها والفتيا على أساسها؛ فلا حاجة للخوض في تفاصيل أسانيدها؛ لوضوح كونها على درجةٍ عاليةٍ من الاعتبار الشرعي والعملي.
2- مضمون هذه الأخبار ومحتواها: الاستحباب المؤكّد للبكاء والإبكاء على سيد الشهداء صلوات الله عليه وما يترتب عليهما من عظيم أجرٍ عند الله سبحانه وتعالى. أمّا الذي نخصّه بالذكر والبحث هنا من بينهما فهو الإبكاء وذلك أنّ البحث منعقد لأجله منذ البداية. والذي نراه واضحاً في هذه الروايات الشريفة أنّ الأولى والثانية منها تحدّثت عن الإبكاء بنحوٍ عام من دون ذكر أي مصداقٍ من مصاديق الإبكاء فجاء لسانها: (بكى وأبكى) من دون ذكر أي أسلوب من أساليب الإبكاء، وأما ما تبقّى منها فقد جاء مشتملاً على ذكر مصداقٍ من أهم مصاديق الإبكاء خصوصاً في زمان الأئمة(9) (عليهم السلام) وهو إنشاد الشعر لأجل الإبكاء على الحسين المظلوم صلوات الله وسلامه عليه. وإلا فمن المعلوم أنّ الإبكاء ليس له من أسلوب معيّن فقد يكون من طريق: ذكر المصيبة نثراً بلحنٍ حزين، أو من دون لحن، أو بإنشاد الشعر إلقاءً، أو بصوتٍ شجيّ، أو بتأليف كتابٍ يستدرّ الدمعة من قارئه ومطالعه، أو بإنتاج فيلم سينمائي أو تلفزيوني روائياً كان أو وثائقيّاً يعرض الواقعة بكل آلامها وأشجانها، أو بإخراج مسرحيةٍ أو تمثيليةٍ تهيج الدمع والعبرات، أو برسم لوحةٍ فنيةٍ تعبّر عن جراحات ضمائر الأحرار وآلامها لما لقي سبط النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، أو بإقامة المسيرات العزائية والمواكب الحسينية من مواكب اللطم وضرب السلاسل والتطبير الحسيني إلى غير ذلك من فنون العزاء الحسيني وأشكاله والتي هي من أهم أسباب الإبكاء وطرقه. علماً أن أسباب الإبكاء وأساليبه ليست منحصرةً في ما ذكر وإنّما يبقى الباب مفتوحاً في هذا المجال لكل أشكال التعبير وتهييج الأحزان لأجل مصاب سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه.
3- يظهر بوضوحٍ جليّ مما تقدّم الاستحباب المؤكّد للإبكاء على سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام، ويظهر أيضاً أنّ مواكب التطبير الحسيني من أهمّ أسباب الإبكاء وتهييج العبرات، لذا فإنّ هذا الاستحباب سيسري حتماً على هذه الشعيرة الحسينية المبكية كما يسري على غيرها من الشعائر الحسينية الأخرى المبكية وكذلك الأساليب التعبيرية المختلفة المكية أيضاً والتي ذكرنا قبل قليلٍ أمثلةً منها في قائمةٍ لذكر أنواع مختلفة من أساليب الإبكاء على الحسين (عليه السلام). ولا يخفى فإنّ القول: بأنّ مواكب التطبير الحسيني من أهم أسباب الإبكاء هو ما يشهد به الواقع على الأرض ويقرّبه أرباب العزاء الحسيني والجماهير الغفيرة المشاركة في الحضور وأهل البيت أدرى بالذي فيه؛ حيث يتجمّع أهل التطبير عند فجر عاشوراء في تكاياهم وحسينياتهم، وهم يرتدون أكفانهم البيضاء، بعد تأدية صلاة الصبح، تقرأ زيارة عاشوراء، تتبعها قراءة شجية جداً لقصّة مذبح الحسين ومقتله (عليه السلام) بنحو مختصر، مع مقاطع من زيارة الناحية المقدّسة، ثم ترتفع الصيحات والصرخات: يا حسين.. يا حسين، والبكاء والنحيب يهزّ الأرجاء، وتقرع الطبول، وتمتشق السيوف، وبصوتٍ واحدٍ تتدافع الدموع متدفّقةً كأنّها عين جارية:
يا فاطمه قومي إلى الطفوف هـــذا حسين طعمة السيوف
حيدر.. حيدر .. حيدر
فتجرى الدماء نازفةً تذكّر بأقدس دم سفك على وجه الأرض، مشفوعةً بالدموع والعبرات، والآهات والحسرات، فكم من باكٍ أو باكية، حيث لا ترى إلاّ أجواءً مشحونةً بالعاطفة الحسينية الجيّاشة، ولا تسمع إلاّ ندبةً وصراخاً حسينياً يهزّ سمع الملكوت.. فكأنها الغاضريات وصوت حسين يجرف الدهور ويمزّق أستار القرون!!!
فيــــا أيها الوتر في الخالدين فـــــذّاً إلــــى الآن لـــم يشفع
ويـــا عـظة الطامحين العظام للاهيـــــن عــــــن غدهم قنّع
أبا عبد الله صلى الله عليك.. فما قدر الدموع؟! وما قدر الدماء؟! في محراب أحزانك، (أشهد أنّ دمك سكن في الخلد واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهن، ومن يتقلّب في الجنة والنار من خلق ربّنا، وما يرى، وما لا يري)(10).
ولا أملك إلاّ أن أقول: بأنّ مواكب التطبير الحسيني هي دماء نازفة، ودموع مسفوحة، وقلوب واعية تطوف في محراب عشقها في الفناء الحسيني الأرحب، وتستضيء بنور مصباح الهدى؛ كي تفوز بسفينة النجاة الآمنة. فطوبى لكم أحباب الحسين (عليه السلام)، وطوبى لكم أيها النازفون دماً ودمعاً في محراب عشقه ومودّته.
ثالثاً - إحياء أمر الإمام الحسين (عليه السلام):
1- (عن الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لفضيل: تجلسون وتتحدّثون؟ قال: نعم، جعلت فداك. قال: إنّ تلك المجالس أحبّها فأحيوا أمرنا يا فضيل! فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر).
عن بحار الأنوار ج 44 ب 34 ص 282 ح 14، نقلاً عن قرب الإسناد ص 26.
2- (عن علي بن الحسين بن فضّال، عن أبيه قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)(11).
وهنا أمور لابدّ من ذكرها والإشارة إليها:
1- إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وإحياء الأمر الحسيني والقضية الحسينية خصوصاً واجب شرعيّ أكيد يوجبه العقل(12) قبل الشرع وتؤكّد الأدلة الشرعية بشكلٍ واضحٍ وقطعي من نصوصٍ دينيّة وسيرة متشرّعة إلى غير ذلك من المرتكزات العقلية والشرعية. وهذه مسألة مفروغ منها في دنيا الفقه والأحكام، ومن البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان من فقهائنا بأيّ وجهٍ من الوجوه. نعم يمكن القول بأنّ إحياء الأمر على مرتبتين منه ما هو واجب لا يجوز تركه بأيّ حالٍ من الأحوال، ومنه ما هو مندوب ومستحبّ إتيانه بنحوٍ أكيد يترتب عليه عظيم الأجر والثواب.
2- ليكن معلوماً إنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الآمرة وجوباً أو استحباباً بإحياء أمرهم كثيرة جداً. وإني لم أتناولها بالذكر لوضوح أمرها عند أهل الشرع والدين. وما ذكرت هذين الحديثين الشريفين إلاّ لأجل التبرك بهما أولاً. وثانياً لظهورهما في إحياء الأمر المستحب الذي يدور الحديث عنه في هذا المقام.
3- الروايتان المذكورتان تدلاّن على أهمية إحياء أمرهم (عليهم السلام) وتصرّحان باستحبابه المؤكّد. مع اشتمالهما على ذكر بعضٍ من الأمور التي هي من الأسباب المهمة في إحياء الأمر من قبيل إقامة مجالس الذكر والعزاء، وتذكّر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وذكرها، والبكاء والإبكاء في سبيل ذلك، وهكذا كلّ أمرٍ يوصلنا إلى نفس هذا المطلوب.
4- من كلّ ما تقدّم يتجلّى بوضوحٍ أنّ التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه مصداق واضح من مصاديق إحياء الأمر من جهةٍ كونه سبباً قوياً من أسباب الإبكاء على الحسين (عليه السلام) وقد مرّ بيان ذلك فضلاً عمّا أشارت إليه الروايتان اللتان بين أيدينا من إن الإبكاء مصداق من مصاديق إحياء الأمر أيضا، هذا أولاً. وثانياً لما في التطبير الحسيني من بعد جماهيري واسع؛ حيث الجموع الغفيرة المشاركة في هذا الموكب والجموع المتفاعلة والمتأثرة بها. ولا شكّ فإنّ أهم أمرٍ في إحياء الأمر العقائدي هو جماهيرية العمل وانتشار تأثيره خصوصاً إذا كان ذا ميزةٍ عاطفية ثرّة كالتطبير الحسيني. ومن كل ذلك يبدو واضحاً سريان حكم الاستحباب على التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه، لكونه مصداقاً من أوضح مصاديق إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وإحياء أمر الحسين صلوات الله عليه بنحو خاص.
توضيحات:
1- ربّما يقول قائل: إنّ إظهار الجزع والإبكاء من جملة مصاديق إحياء الأمر. فلأيّ سببٍ جعلنا كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة موضوعاً ودليلاً قائماً برأسه؟ وجواب ذلك: إنّ الناظر والمتفحّص بدقةٍ في كلمات أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم يجد بوضوحٍ أنّ الجزع مطلوب بنفسه بما هو، ومن جملة آثاره أنه يكون سبباً في إحياء الأمر. وكذلك الإبكاء فهو مطلوب بنفسه بما هو أيضاً لما فيه وفي الجزع من منافع معنوية وتربوية تصقل روح الإنسان، وتذكّي وجدانه، وتغسل عواطفه من كلّ شائبةٍ تلحق بها، راسمةًً لها جادّة صوابها. فكل واحدٍ منهما مطلوب بنفسه بما هو هو، وفي بعض جهات كلّ واحدٍ منهما سبب لإحياء الأمر، ومن هنا جعلنا كل واحدٍ من هذه الثلاثة: الجزع المقدّس، والإبكاء، وإحياء الأمر الحسيني موضوعاً ودليلاً قائماً برأسه.
2- حكم الاستحباب المؤكّد يسري بنحو الأصالة على إظهار الجزع على الحسين (عليه السلام)، وعلى الإبكاء عليه، وعلى إحياء أمره صلوات الله عليه؛ وذلك لورود النصوص الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) بخصوص كل واحد من هذه الثلاثة. أما سريان هذا الاستحباب على التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام فهو من باب التفرّع والمصداقية، إذ أنّ التطبير الحسيني مصداق واضح لإظهار الجزع، والإبكاء، وإحياء الأمر، ومن هنا كان جريان حكم الاستحباب عليه. لا من باب ورود نصّ خاصّ يأمر بهذا النحو المعين من العزاء. وإنّما كان ذلك عملاً موافقاً لما رواه البزنطي في جامعه عن هشام بن سالم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)(13)، وما رواه أيضاً في جامعه عن الإمام الرضا (عليه السلام): (علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع)(14).
زبدة القول:
استحباب إظهار الجزع على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واستحباب الإبكاء عليه، واستحباب إحياء أمره (عليه السلام).
أمور ثابتة لا شكّ فيها وقد تبيّنت ذلك واضحاً يا قارئي العزيز فكذاك هو التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء صلوات الله عليه حقّ لا ريب فيه ويجري عليه حكم الاستحباب لكونه مصداقاً واضحاً لإظهار الجزع المستحب، والإبكاء المستحب، وإحياء الأمر المستحب. وقد مرّت بك الأدلة واضحةً جلية. وستأتيك أدلة أخرى وأخرى، (ويأتيك بالأنباء من لم تزوّد).
أدلّة أخرى.. لعلّهم يبصرون!
أولاً - حزن نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) (وتولّى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين).[سورة يوسف: الآية 84 و 85]. وهنا ثمّة فوائد:
الفائدة الأولى: في المعاني اللغوية
ابيضّت عيناه: أصابها البياض وهو فقدان البصر. ويقول صادق العترة (عليه السلام): (البكاؤون خمسة آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين، فأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره..)(15).
وبصريح القرآن العزيز أنه (عليه السلام) ما ارتدّ بصيراً حتى شمّ قميص ولده يوسف: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا)(16).
تالله تفتؤا تذكر يوسف: لا تفتر عن ذكر يوسف ولا تنقطع عنه.
حرضاً: مشرفاً على الهلاك أو ميتاً.
الفائدة الثانية: في قوّة حجّية الاستدلال بحالة نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) في المقام الذي نحن فيه وذلك من جهة:
أ- أنها سيرة نبيّ معصوم يبيّنها لنا الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(17).
ويقرّرها لنا لأجل الاعتبار والتأسّي بسيرة أوليائه الطاهرين.
ب - استدلّ بها إمامنا السجاد (عليه السلام) حين سئل عن طول حزنه وبكائه وجزعه على سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه حيث يروي لنا شيخنا أبو القاسم جعفر بن قولويه (ره) بأسانيده الموثوقة المعتبرة: (أشرف مولى لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا علي بن الحسين أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ مما رأيت حتى قال: (يا أسفي على يوسف)، إنه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي)(18).
وفي بحار الأنوار رواية أخرى أنه حين قال له أحد مواليه: (أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له (صلوات الله عليه): ويحك إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟)(19).
تعليق