بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
إنّ ابن تيمية قد بدأ بنشر أفكاره الشاذّة لأول مرّة في رسالته في العقيدة الواسطية ـ أعني: الرسالة التاسعة من مجموعة الرسائل الكبرى ـ ووصف فيها الباري سبحانه بالعبارة التالية:
«تواتر عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) وأجمع عليه سلف الأُمّة من أنّه سبحانه فوق سماواته، على عرشه، عليٌّ على خلقه».(1)
ومعنى العبارة أنّه سبحانه :
1. فوق السماوات .
2. جالس على عرشه .
3. في مكان مرتفع عن السماوات والأرض.
وليس لهذه الجمل معنى سوى أنّه كملك جالس على السرير في مكان مرتفع ينظر إلى العالم تحته.
نعم استند هو في كلامه هذا بما نقله ابن مندة في توحيده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال:
«ويحك أتدري ما الله، إنّ عرشه على سماواته وأرضيه ـ وأشار هكذا بأصابعه ـ مثل القبة عليها، وإنّه ليئطّ أطيط الرَّحْل بالراكب».(2)
وكأنّه سبحانه جسم كبير، له ثقل على العرش، وهو يئطّ كما يئطّ الرَّحْل حينما يجلس عليه الإنسان الثقيل.
وللأسف فإنّ هذا الحديث قد ورد كثيراً في كتب الحديث، فقد نقله أبو داود في سننه برقم 4726، وابن خزيمة في توحيده برقم 147، وابن أبي عاصم في السنّة، ص 575، وابن أبي حاتم في تفسير سورة البقرة برقم 223.
ولا شكّ في أنّ هذا الحديث وأمثاله من الإسرائيليات التي تطرّقت إلى كتب الحديث، وهو من الآثار السلبية لمنع كتابة الحديث النبوي في القرن الأوّل وشيء من الثاني، حتى تداركه الدوانيقي عام 143هـ .
ثمّ إنّ ابن تيمية لمّا رأى أنّ كلامه يستلزم أن يكون سبحانه جسماً كالأجسام حاول التهرّب عن ذلك بوجه، أوقعه ـ أيضاً ـ في المحذور، حيث جمع مصطلحات الحكماء والمتكلّمين في الجسم وقال:
لفظ الجسم فيه إجمال، فقد يراد به :
1. المركّب الذي أجزاؤه مفرّقة فجمعت.
2. أو ما يقبل التفريق أو الانفصال.
3. أو المركّب من مادة وصورة.
4. أو المركّب من الأجزاء المفردة التي تسمّى الجواهر المفردة. وقال: والله تعالى منزّه عن ذلك كلّه.
ثم قال: وقد يراد بالجسم:
5. ما يُشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد ]العلاّمة الحلّي [بقوله: «ليس بجسم» هذا المعنى، قيل له: هذا المعنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تُقم دليلاً على نفيه.(3)
يلاحظ عليه: أنّ الجسم من المفاهيم الواضحة في العرف وليس مشتركاً بين هذه المعاني التي أخذها من الفلاسفة والمتكلّمين، فالصحابة عندما سمعوا قوله سبحانه: (إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً في الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(4)، أو قوله سبحانه: (وَإذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسامُهُم)(5) لم يخطر ببال أحد منهم أي واحد من المعاني المذكورة حتى المعنى الأخير الذي اختاره وقال عنه: «هذا المعنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تقم دليلاً على نفيه».
فالجسم عند العرب الأقحاح عامّة ما جاء نموذجه في نفس الآيتين نظير: طالوت في الآية الأُولى، والمنافقين في الآية الثانية. فكلّ شيء كان كهذين النموذجين فهو جسم، والذي يجمع الجميع هو اشتماله على الطول والعرض والعمق، فلو قلنا ـ والعياذ بالله ـ : إنّه سبحانه جسم، فلا محيص من اشتماله على ما اشتملت عليه سائر الأجسام من الأبعاد الثلاثة.
ثمّ إنّه كرّر ما ذكره هنا في مقام آخر،(6) ولا حاجة لنقله.
ثمّ إنّه تفلسف أيضاً في تفسير المكان وقال: قد يراد بالمكان:
1. ما يحوي الشيء ويحيط به.
2. ما يستقرّ الشيء عليه بحيث يكون محتاجاً إليه.
3. قد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجاً إليه.
4. وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئاً موجوداً.
ثم نفى ما ذكره من المعاني للمكان واختار المعنى التالي:
هو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهذا المعنى حق، سواء سمّيت ذلك مكاناً أم لم تُسمّ.(7)
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه ليس للمكان إلاّ معنى واحد وهو كون شيء في شيء، وإحاطة شيء لشيء، ولذلك يفسّره أهل اللغة بقولهم: المكان موضع كون الشيء، فلو كان لله سبحانه مكان فليس إلاّ بهذا المعنى، دون المعاني التي أخذها من مصطلحات الحكماء والمتكلّمين، الذين لهم مصطلحات خاصّة في المفاهيم لا صلة لها بمصطلحات العامّة.
وثانياً: ما ذا يريد من قوله: إنّه «على عرشه»؟ إذ عندئذ يتوجّه إليه
السؤال الثاني: إنّ ذاته سبحانه لا تخلو من أن تكون مماسّة للعرش ، أو غير مماسّة؟
فعلى الثاني تكون ذاته سبحانه منزهةً عن المكان ; لأنّ المكان عبارة عن كون شيء في شيء، إلاّ أنّه يكون ذا جهة وهو كونه فوق العرش يشار إليه، فقد أثبت لله الجهة التي هي من خصائص الأُمور المادّية.
وإن كانت مماسّة (على الأول) فيكون محتاجاً إليه. ولعمر القارئ إنّ صرف الحبر والقلم في نقد هذه الأفكار السقيمة تضييع للعمر والجهد، ولكن اغترار المتظاهرين بالسلفية بابن تيمية، ألجأني إلى دراسة هذه المواضيع. وسيأتي الكلام حول المكان والجهة لله مستقلاً.
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مجموعة الرسائل الكبرى، الرسالة التاسعة: 1/401. ولكلامه صلة ستوافيك في بحثنا عن التشبيه.
2 . توحيد ابن مندة: 429، طبعة مؤسسة المعارف، بيروت.
3 . منهاج السنّة النبوية: 2/134ـ 135، وفي طبعة بولاق: 1 / 180.
4 . البقرة:247.
5 . المنافقون:4.
6 . لاحظ : منهاج السنّة النبوية: 2/198ـ 200، وفي طبعة بولاق : 1 / 90.
7 . منهاج السنّة النبوية: 1/144ـ145، وفي طبعة بولاق : 1 / 183.
تعليق