بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
روى صاحب كتاب الغارات: أن عليا عليه السلام لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا وشتت أمورنا وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار.
فقال علي عليه السلام: " وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " يا أخا نهد! وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله؟ فأقمنا عليه حدا كان كفارته! إن الله تعالى يقول: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ".
قال: فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر، فقال: يا طارق، أنت القائل
.
لأمير المؤمنين: " أوغرت صدورنا وشتت أمورنا "؟ قال طارق: نعم أنا قائلها، قال: والله ما ذاك كما قلت! إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا له لجامعة، فغضب طارق وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت! فلما جنه الليل همس هو والنجاشي إلى معاوية.
فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه أهل الشام، منهم: عمرو بن مرة الجهني، وعمرو بن صيفي، وغيرهما.
فلما دخلا نظر معاوية إلى طارق، وقال: مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله والمسود غير المسود، من رجل كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رحالها، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها، وأتبعه رجرجة من الناس وأشابة من الحثالة لا أفئدة لهم " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".
فقام طارق، فقال: يا معاوية، إني متكلم فلا يسخطك، ثم قال وهو متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده، فهم منه بمنظر ومسمع، بعث فيهم رسولا منهم يتلو كتابا لم يكن من قبله ولا يخطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما.
أما بعد، فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل مع رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أتقياء مرشدين، ما زالوا منارا للهدى ومعالم للدين، خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين لا دنيا، كل الخير فيهم، وأتبعهم من الناس ملوك وأقيال وأهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم يكن رغبة من رغب من صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولو عورته حيث سلكوها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهوى متبع، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الايهم فرارا من الضيم وأنفا من الذلة، فلا تفخرن يا معاوية! إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك
الركاب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين.
فعظم على معاوية ما سمعه وغضب، لكنه أمسك وقال: يا عبد الله! إنا لم نرد بما قلنا أن نوردك مشرع ظمأ ولا أن نصدرك عن مكرع ري، ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل.
ثم أجلسه معه على سريره ودعا له بمقطعات وبرود يضعها عليه، وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام.
وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان، فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه يلومانه في خطبته وما واجه به معاوية.
فقال طارق: والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة، و مازهت به نفسه وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله واستنقصهم، فقمت مقاما أوجب الله علي فيه ألا أقول إلا حقا، وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟.
فبلغ عليا عليه السلام قوله: فقال: لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا.