بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
لا شك أنّ الآية نزلت في مورد خاص، أعنييوم الفرقان، يوم التقى الجمعان وهو غزوة بدر الكبرى، لكن الكلام في أنّ قوله ما غنمتمهل هو عام لكل ما يفوز به الإنسان في حياته أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب والنهب.
وعلى فرض كونه عامّاً فهل المورد مخصّصأو لا ؟
فيقع الكلام في مقامين :
الأول : الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان:
أما الأول فالظاهر من أئمة اللغة أنّه فيالأصل أعم مما يظفر به الإنسان في ساحات الحرب، بل هو لغة لكلّ ما يفوز به الإنسانوإليك بعض كلماتهم.
1- قال الأزهري : (( قال الليث : الغنم: الفوز بالشيء والاغتنام انتهاز الغنم )) (2).
2- قال الراغب : الغنم معروف. .. والغُنْم: إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال واعلموا أنّماغنمتم من شيء فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً والمغنم : ما يغنم وجمعه مغانم، قال : فعندالله مغانم كثيرة (3).
3- قال ابن فارس : (( غنم )) أصل صحيح واحديدل على افادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما أخذ من المشركين (4).
4- قال ابن منظور : (( الغنم )) الفوز بالشيءمن غير مشقة (5).
5- قال ابن الأثير : في الحديث : (( الرهنلمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه، غنمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته )) (6).
6- قال الفيروز آبادي : (( الغنم )) الفوزبالشيء لا بمشقّة، وأغنمه كذا تغنيماً نفله إياه، واغتنمه وتغنّمه، عدّه غنيمة(7).
وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادة لم توضعلما يفوز به الإنسان في الحروب، بل معناها أوسع من ذلك وإن كان لا يستعمل في العصورالمتأخرة عن نزول القرآن إلاّ في ما يظفر به في ساحة الحرب.
ولأجل ذلك نجد أنّ المادة استعملت في مطلقما يفوز به الإنسان في الذكر الحكيم والسنة والنبوية.
لقد استعمل القرآن الكريم لفظة (( المغنم)) فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال بل كان كان عن طريق العمل الماديالدنيوي أو الأخروي إذ يقول سبحانه : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنواولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانمكثيرة (8).
والمراد بالمغانم الكثيرة : هو أجر الآخرة،بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيدل على أن لفظ المغنم لا يختص بالأمور والأشياءالتي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا وفي ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكل مكسب وفائدة.
ثم إنّه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديثوأريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.
روى ابن ماجه في سننه : أنّه جاء عن رسولالله صلى الله عليه وآله وسلّم : (( اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً ))(9).
وفي مسند أحمد عن رسول الله صلى الله عليهوآله وسلم : (( غنيمة مجالس الذكر الجنّة )) (10).
وفي وصف شهر رمضان عنه صلى الله عليه وآلهوسلم : (( غنم للمؤمن )) (11).
وفي نهاية ابن الأثير : الصوم في الشتاءالغنيمة الباردة، سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب (12).
فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمة اللغةوموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنة، أنّ العرب تستعملها في كل مورد يفوز بهالإنسان، من جهة العدى وغيرهم، وإنّما صار حقيقة متشرعة في الأعصار المتأخرة في خصوصما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواءرسول الله، ولم يكن الاستعمال إلاّ تطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص.
الثاني : المورد غير مخصّص :
إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمل كافّةما يفوز به الإنسان، فلا يكون وروده في مورد خاص، مخصّصاً لمفهومه ومضيقاً لعمومه،إذا وقفنا على أنّ التشريع الإسلامي فرض الخمس في الركاز والكنز والسيوب أوّلاً، وأرباحالمكاسب ثانياً، فيكون ذلك التشريع مؤكداً لاطلاق الآية، ولا يكون وروده في الغنائمالحربية رافعاً له. وإليك ما ورد في السّنة من الروايات في الموردين :
1- الخمس في الركاز والكنز والسيوب :
تضافرت الروايات عن النبي الأعظم على وجوبالخمس في الركاز والكنز والسيوب وإليك النصوص أوّلاً، ثم تبيين مفادها ثانياً.
روى لفيف من الصحابة كابن عباس وأبي هريرةوجابر وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك، وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب، وإليكقسماً ممّا روي في ذلك المجال :
1- في مسند أحمد وسنن ابن ماجه واللفظ للأوّل: عن ابن عباس قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركاز الخمس (13).
2- وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأول: عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( العجماء جرحها جبار،والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس )) وفي بعض الروايات عند أحمد : البهيمة عقلها جبار(14).
قال أبو يوسف في كتاب الخراج : كان أهلالجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله، وإذاقتله معدن جعلوه عقله. فسأل سائل رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم عن ذلك فقال: (( العجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس )) فقيل له : ما الركازيا رسول
الله ؟ فقال : (( الذهب والفضة الذي خلقهالله في الأرض يوم خلقت )) (15).
3- وفي مسند أحمد : عن الشعبي عن جابر بنعبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : (( السائمة جبار، والجبجبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس )) قال الشعبي : الركاز : الكنز العادي(16).
4- وفيه أيضاً : عن عبادة بن الصامت قال: من قضاء رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : أنّ المعدن جبار، والبئر جبار،والعجماء جرحها جبار، والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لايغرم، وقضى في الركاز الخمس (17).
5- وفيه : عن أنس بن مالك قال : خرجنا معرسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجتهقتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت غليه تبراً، فأخذها فأتى بها النبي صلى الله عليه( وآله ) وسلم فأخبره بذلك، قال : ((زنها)) فوزنها فإذا مائتا درهم فقال النبي

6- وفيه : أنّ رجلاً من مزينة سأل رسولالله مسائل جاء فيها : فالكنز نجده في الخرب وفي الآرام ؟ فقال رسول الله صلى اللهعليه ( وآله ) وسلم : (( فيه وفي الركاز الخمس )) (19).
7- وفي نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروسفي مادة (( سيب )) واللفظ للأوّل : وفي كتابه - أي كتاب رسول الله - لوائل بن حجر: (( وفي السيوب الخمس )) السيوب : الركاز.
قالوا :
(( السيوب : عروق من الذهب والفضة تسيبفي المعدن، أي تتكوّن فيه وتظهر. . والسيوب : جمع سيب، يريد به - أي يريد النبي بالسيب- المال المدفون في الجاهلية، أو المعدن لأنّه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه)) (20).
تفسير ألفاظ الأحاديث :
العجماء : الدابة المنفلتة من صاحبها، فماأصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، والمعدن جبار يعني : إذا احتفر الرجل معدناًفوقع فيه إنسان فلا غرم عليه، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسانفلا غرم على صاحبها، وفي الركاز الخمس، والركاز : ما وجد من دفن أهل الجاهلية فمن وجدركازاً أدّى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له (21).
والآرام : الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصبفي المفازة يهتدى بها، واحدها إرم، كعنب، وكان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئاًفي طريقهم لا يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه(22).
وفي لسان العرب وغيره من معاجم اللغة :ركزه يركزه ركزاً : إذا دفنه. والركاز : قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض أو المعدن، واحدهالركزة كأنّه ركز في الأرض.
وفي نهاية اللغة : والركزة : القطعة منجواهر الأرض المركوزة فيها وجمع الركزة الركاز.
إنّ هذه الروايات تعرب عن كون وجوب الخمسفي الكنز والمعادن ضريبة غير الزكاة، وقد استند إليها أستاذ الفقهاء أبو يوسف في كتابه(( الخراج )) وإليك نصّه :
كلام أبي يوسف في المعدن والركاز :
قال أبو يوسف : في كل ما أصيب من المعادنمن قليل أو كثير الخمس، ولو أنّ رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضّة أوأقل من وزن عشرين مثقالاً ذهباً فإنّ فيه الخمس، وليس هذا على موضع الزكاة إنّما هوعلى موضع الغنائم (23) وليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص والفضة الخالصةوالحديد والنحاس والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء، وقد تكون النفقةتستغرق ذلك كلّه فلا يجب إذن فيه خمس عليه، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلاً كانأو كثيراً، ولا يحسب له من نفقته شيء من ذلك وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة- مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرّة - فلا خمس في شيء (24) منذلك إنّما ذلك كلّه بمنزلة الطين والتراب.
قال : ولو أنّ الذي أصاب شيئاً من الذهبأو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس، كان عليه دين فادح لم يبطل ذلك الخمس عنه،ألا ترى لو أنّ جنداً من الأجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خمّست ولم ينظر أعليهمدين أم لا، ولو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس.
قال : وأمّا الركاز فهو الذهب والفضة الذيخلقه الله عزّ وجل في الأرض يوم خلقت، فيه أيضاً الخمس، فمن أصاب كنزاً عاديّاً فيغير ملك أحد - فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب - فإنّ في ذلك الخمس وأربعة أخماس للذيأصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمّس وما بقي فلهم.
قال : ولو أنّ حربياً وجد في دار الإسلامركازاً وكان قد دخل بأمان، نزع ذلك كلّه منه ولا يكون له منه شيء، وإن كان ذميّاً أخذمنه الخمس كما يؤخذ من المسلم، وسلّم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازاً فيدار الإسلام فهو له بعد الخمس. .. (25).