الامام المهدي (ع ) : خفاء العنوان ... بين الغيبة والظهور
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلت على الله رب العالمين
ومن هذا المنطلق فكرت في كتابة ونشر بحث متواضع يسلط الضوء على موضوع مهم تناوله السيد الشهيد الصدر ( قدس ) في موسوعته الخالدة والتي وصفها السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس ) بأنها : ( موسوعة جليلة ) و ( محيطة ) و ( شاملة ) و ( لم يسبق لها نظير في تأريخ التصنيف الشيعي حول المهدي ( ع ) ) الى غير ذلك من الصفات .
ولكن هذا الموضوع الذي سوف أتناوله لا يوجد في الموسوعة كموضوع مستقل تحت عنوان محدد , بل كإشارات مبثوثة في ثنايا الموسوعة المهدوية , وذلك لما رأيت من التشويش والتشوهات التي شابت فهم البعض لهذا الموضوع والتأويلات التي ذهبوا بها كل مذهب , بحيث طبقوا مصداق هذا الموضوع في غير موارده . وتبعاً لذلك قاموا بتأويل الكثير من المعاني والمفاهيم الخاصة بتاريخ وحركة الامام المهدي ( عج ) .
ويمكن تلخيص فحوى البحث من خلال السؤال التالي :
(( هل ان الامام المهدي ( عج ) يتخذ الشخصية الثانوية أو الاسم المستعار في حال الغيبة فقط أم إنه يحتفظ بها لفترة معينة في حال الظهور ؟ .))
في الحقيقة يستند البحث برمته على فهم الاطروحة التي انفرد ببيانها وصياغتها بشكل متكامل السيد الشهيد الصدر الثاني ( قدس ) وهي : ( اطروحة خفاء العنوان ) , وهي وكما ذكر ( قدس) اسلوب من اساليب غيبة الامام المهدي ( عج ) .
يقول السيد الشهيد في تعريف خفاء العنوان " ونريد به أن الناس يرون الإمام المهدي (عج ) بشخصه بدون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته . " الموسوعة ج2 ص33 , أي ان الامام يمارس دوره ونشاطه في المجتمع ولكن بشخصية ثانية واسم مستعار , وبذلك يستطيع ممارسة بعض الاعمال التي يتعذر عليه ممارستها طبقاً للأطروحة الثانية وهي اطروحة ( خفاء الشخص ) وهذه الاعمال تقع ضمن التكليف الاسلامي للإمام المهدي ( عج ) في زمن الغيبة الكبرى وقد بينها السيد الشهيد في موسوعته , ( راجع الموسوعة ج2 ص 45 وما بعدها ) .
وهذا الفهم واضح ويمكن تصوره والبرهان عليه بسهولة في الحقبة الاولى من تاريخ الغيبة الكبرى , ولكن الامر يبدأ بالتعقيد كلما حاولنا فهم تسلسل الاحداث القريبة من عصر الظهور أو بدايات الظهور المقدس وسوف تصادفنا مراحل من حركة الامام تكون غامضة ولا تساعدنا الروايات الواردة عن المعصومين ( ع ) في فك رموزها وايجاد الحلقات المفقودة فيها وقد عبر السيد الشهيد الصدر ( قدس ) عن هذه الحلقات المفقودة بـ ( الفجوات التاريخية ) وبالأخص تلك الفترة التي تسبق اعلان الظهور ( التي يمكن أن نصطلح عليها بالفترة الحرجة من تاريخ الامام المهدي ( عج ) ) , وأعتقد ان السبب في ذلك هو ان دور الامام المهدي ( عج ) في المجتمع سوف يبدأ بالبروز والوضوح والتأثير لأنه سوف يباشر بنفسه بعض المهام التي لم يكن يباشرها من قبل , حيث ان الامامخلال غيبته الكبرى يقوم بالكثير من الأعمال و المهام لهداية الامة واصلاح المجتمع والمساهمة في انجاح التخطيط الالهي كما لا يخفى (على المتتبع ) ماهية الدور التكويني الذي يقوم به الامام المذخور ويكفي في وصف هذا الدور بأن ( الوجود هو من الله ولكنه قائم بالامام المهدي ) , أو كما عبر هو ( عج ) : وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء . أو كما عبر السيد الشهيد ( قدس ) : " على أننا نحتمل في كل عمل خيري عام أو سنة اجتماعية حسنة أو فكرة إسلامية جديدة ، أو نحو ذلك من الأمور ... نحتمل أن يكون وراءها أصبع مخلص متحرك من قبل الإمام المهدي (ع) . وأنه هو الذي زرع بذرته الأولى في صدر أو عمل أحد الأشخاص أو الجماعات ." الموسوعة ج2 ص50
ومن الملاحظ هنا ان السيد الشهيد أشار الى ان الدور الاصلاحي الذي يمارسه الامام في المجتمع يكون من خلال أحد الاشخاص أو الجماعات , ويمكن توضيح هذه النقطة بأن الامام المهدي ( عج ) في زمن الغيبة الكبرى ( وكانت في زمن الغيبة الصغرى بصورة أكبر وأعمق ) يقوم بتكليف عدد من الاشخاص يشكلون خاصة الامام وقادته وأدواته في المجتمع يقوم بتكليفهم بعدد من المهام الضرورية لتحقيق المصالح الاسلامية العليا , ومن خلال متابعة النصوص في الموسوعة وغيرها وجدت ان هؤلاء الخاصة يعرفون بحقيقة الامام المهدي في زمن غيبته واتخاذه شخصية واسم مستعار , حيث ان السيد يعبر عن مفهوم الغيبة أو المعنى الاساسي لها بأنه " هو الجهل المطلق بحقيقة شخص المهدي (ع) ." الموسوعة ج3 ص136
حيث ان هذا المعنى ينطبق على المجتمع بصورة اجماليه , ولكن هناك فئة محدودة ونادرة وتمتلك مواصفات ومؤهلات خاصة يمثلون الادوات التي يتحرك الامام من خلالها ويؤثر تأثيره في المجتمع , وقد أشار السيد الشهيد الى هذه الحقيقة ولكنه لم يشأ التعمق والتفصيل بها ( لسبب هو يعرفه قدس سره ) , ومن تلك الاشارات قوله ( قدس ) " كونه ( أي الامام المهدي ) على ارتباط مُباشر بالناس خلال غيبته ، يراهم ويرونه ، ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه ، الا أنّهم لا يعرفونه بحقيقته إلا نادراً جدّاً ، وذلك طبقاً لـ ( أُطروحة خفاء العنوان ) التي اخترناها وبرهنّا عليها في تاريخ الغيبة الكبرى ." الموسوعة ج3 ص 40 .
وقال في موضع آخر : " إن المهدي (ع) قد يجتمع بالخاصة من المؤمنين به، وهو ما سبق أن تصورناه بصفته أطروحة محتملة، وتدل عليه بعض الأخبار أيضاً، على ما سنسمع، وباجتماعه معهم، بالشكل الذي يعرفوه بحقيقته، ينفتح لهم المجال الواسع لتلقي التعليمات منه (ع)، والخوض في مناقشة المسائل الاجتماعية والاسلامية على صعيد واسع وواعٍ. ثم هم يطبقونه في حياتهم العملية، من دون أن ينقلوا شيئا من اخبار المقابلة والمناقشة. ولعل عدداً ممن برزوا في العالم الاسلامي في العلم والعمل كانوا اشخاصاً من هذا القبيل . " (الموسوعة ج2 ص 108) .
وذكر أيضاً في مورد آخر من الموسوعة : " القسم الثاني : ممّن يبايع الإمام المهدي (ع) في موقفه الأوّل : أصحابه الخاصّون الذين كانوا يعرفونه على حقيقته في غيبته الكبرى ، فإنّنا سبق في تاريخ الغيبة الكبرى أن قلنا : إنّ هناك نفر قليل من البشرية في كل جيل ، يمكن أن يكون مطلعاً على حقيقة المهدي (ع) ومكانه . وهناك من الروايات ما يدل على وجود مثل هؤلاء الأفراد ." الموسوعة ج3 ص 248 .
فهنا يبين السيد بأن من يعرفونه بحقيقته في زمن الغيبة وتحت خفاء العنوان هم فئة نادرة جداً , وقد عبرت عنهم بعض الاحاديث بـ ( الثلاثين ) ( وما بالثلاثين من وحشة ) وواضح جداً ان نسبة الثلاثين الى سكان العالم هو أندر من النادر . وان هذا العدد من أنصار وأعوان الامام المهدي موجودين في كل عصر , ولكن وكما قلنا فأن الامام في نهاية عصر الغيبة وبدايات ارهاصات الظهور يقوم بنفسه بممارسة بعض الادوار والنشاط القيادي والاصلاحي في المجتمع , وهذا يستلزم بطبيعة الحال تحرك الامام بصورة علنية في المجتمع وهو ما نفهمه من دلالات الروايات وخاصة المتعلقة بحركة الامام المهدي ( عج ) ضد الحركة المنحرفة للسفياني ومطاردة الاخير له , ومما لا يخفى ان السفياني او الحكومات الظالمة التي يعارضها الامام ويكشف زيفها وانحرافها لا تطارد شبحاً بل تطارد شخص له هويته ومكانته وامتداده في المجتمع . وهذا بالتحديد مصدر التشويش والخلط بين الغيبة والظهور الذي وقع به كثير من الباحثين . ومنهم الشيخ عباس الزيدي في كتابه ( الصدر ممهداً ) حيث نرى هذا التخبط واضحاً من خلال وصفه بان الامام المهدي سوف يظهر بشخصيته الثانوية حيث يقول هناك " ومما يدل على ان الامام لن يظهر بصفته الحقيقية : انه عندما يدخل العراق فانه سوف يقتل ويقتل حتى يقال انه ليس من آل محمد ." الصدر ممهداً ص229
ولسوء حظ الشيخ انه وبعد سطرين فقط من هذا التصريح قد أعترض على السيد الشهيد الصدر ( قدس ) بعد أن ذكر كلام للسيد حول التشكيك بمهدوية المهدي عند ظهوره فقال " ويمكن ان نعترض على كلام الصدر ان نقول: ان قول هؤلاء ( ليس هذا من آل محمد ) ليس تشكيكاً في مهدويته ، فهو بعدُ لم يعلن عن شخصيته الحقيقية، بل قولهم هذا يمكن ان نفهم منه انهم يشككون في انتسابه لآل محمد، بعنوان انه سيد وليس بعنوان انه مهدي. وهذا ما نستنتجه من كلام الصدر نفسه وفق أطروحة خفاء العنوان ." الصدر ممهداً ص229 .
ومما تجدر الاشارة اليه انه توجد لدينا ملاحظات كثيرة على هذا الكتاب والتصريحات الواردة فيه ليس هذا محل ذكرها .
ولأجل تحديد المفاهيم وتمييز التصورات ومحاولة فهم حركة الامام خلال هذه الفترة التي اصطلحنا عليها بالفترة الحرجة قمنا بوضع (مصطلحين) يساعد فهمنا لهما على تجاوز الغموض والتخبط الذي وقع فيه الكثيرون . وهذان المصطلحان هما :
الظهور الحركي : ونعني به الدور الذي يمارسه الامام ( عج ) في المجتمع ولكن بشخصيته الثانوية واسمه المستعار , وهذا الدور هو معلن بطبيعة الحال كما قلنا ان الحكومات الظالمة لا تطارد شبحاً , أو كما يصف السيد الشهيد هذا التحرك للامام بانه تحرك وفق العنوان المعلن , ولكن الحكومات الظالمة المنحرفة وكذلك المجتمع على حد سواء لا يعرفون ان هذا الشخص هو الامام كما عبر السيد الشهيد : " فمن الممكن ان السفياني يعرف تلك ( الشخصية الثانوية ) أعني ما اتخذه المهدي من عنوان مستعار في ذلك العصر. ويتابع اخباره بتلك الصفة، ويرسل جيشا لقتله بتلك الصفة أيضا. الا ان السفياني لن يشعر انه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه, ولن يشعر الناس بذلك أيضا لأنه والناس انما يعرفونه بشخصيته الثانوية دون الحقيقية ." الموسوعة ج 3 ص169 .
اذن فهناك عنوان معلن لا يمت الى شخصية الامام الحقيقية بصلة , أقصد ان الناس تجهل حقيقة الامام ولن تعرف ان هذا المصلح هو الامام المهدي , وهذا معنى الغيبة حسب ( أطروحة خفاء العنوان ) وعليه يكون هذا الدور للإمام في نهاية عصر الغيبة الكبرى .
الظهور الاصطلاحي : وهو المعنى المركوز في الذهن عن معنى ظهور الامام المهدي وارتفاع غيبته و قد عرفه السيد الشهيد بقوله " بل يكفي في الظهور : أن يُبدِّل المهدي (ع) شخصيَّته الثانوية بشخصيّته الحقيقية ، ويُعرِّف الناس بصراحة بصفته الواقعية ، ويُقيم الحجّة على ذلك ." الموسوعة ج3 ص196 , وهذا طبعاً معنى الظهور وفقاً لأطروحة ( خفاء العنوان ) والتي قلنا انها أساس بحثنا هذا .
وهنا تبرز ملاحظة مهمة سنتناولها لاحقاً وهي ان الامام هو من يكشف عن نفسه .
ومن هنا يمكن ان نقول ان ( الظهور الحركي ) هو غيبة وفق الاصطلاح العقائدي والتاريخي لمعنى الغيبة .
وعلى هذا الاساس يتبين لنا بوضوح مقدار الخلط والاشتباه الذي وقع فيه الزيدي ( كما الكثيرين ) بين معنى الظهور الحركي ( غيبة ) ومعنى الظهور الاصطلاحي ( ظهور ) في هذه الفترة الحرجة حيث إنهم تصوروا انها بداية الظهور بينما هي في الحقيقة تمثل نهاية عصر الغيبة .
إن هذه الفترة هي غيبة باعتبار جهل الناس بهوية الامام الحقيقية وظهور باعتبار حركة الامام العلنية في المجتمع باسم مستعار الى درجة يجمع فيها الانصار ويزعج السلطات الحاكمة فتقوم بمطاردته حيث ان السلطات الحاكمة لا تطارد شبحاً بل تطارد شخص له اسم وصفة معينة .
اذن فان هذه الشخصية كقائد يمارس دوره الاصلاحي ظاهر ام غائب ؟.. بالطبع هو ظاهر .
ولكنه كـ ( الامام المهدي محمد ابن الحسن ( ع ) ) ظاهر ام غائب ؟ .. غائب حسب الاصطلاح والتعريف العقائدي والتاريخي للغيبة .
وعليه فإننا عندما نقول ان الامام المهدي يظهر كـ ( مهدي ) بالعنوان الثانوي فهذا خطأ فادح وخلط جسيم بين الظهور الحركي والظهور الاصطلاحي .
وكما وضحنا قبل قليل فأن هناك مجموعة من المخلصين الممحصين يعرفون الامام بحقيقته في فترة الظهور الحركي , ولكن اتصال مجموعة من الذين يمتلكون المؤهلات الفريدة والعالية جداً بالإمام ( عج ) لا يعني انتفاء الغيبة و حسب اطروحة خفاء العنوان , لان انتفاء الغيبة أو الظهور يعني علانية حركة الامام بصفته الحقيقية .
وهؤلاء الذين يمثلون أدوات عمل الامام في هذه المرحلة ورغم اطلاعهم على حقيقة الامام الا انهم يحرم عليهم تسميته أو الاشارة اليه كما يتبين لنا من خلال إشارات كثير للسيد الشهيد وأيضاً من خلال الاحاديث الكثيرة التي تحرم ذكر اسم الامام المهدي ( عج ) , ولكن يا ترى لماذا يحرم الائمة المعصومون علينا تسمية الامام المهدي ( عج ) وقد دلنا على اسمه الرسول الكريم محمد ( ص ) بقوله ( اسمه اسمي ) , وهل يا ترى يصعب على المتتبع لقضية الامام من أي فريق كان ( المؤالف والمخالف والمناصر والمعادي ) معرفة اسمه روحي فداه , وهل يا ترى يوجد من المتشرعين ومن رجال الدين من يفتي بحرمة ذكر اسم المهدي , فما معنى هذه الاحاديث ؟.
أقول ( وحسب فهمي القاصر) أن هذه الحرمة هي تحديداً تكليف هذه الثلة المخلصة التي تعرف حقيقة الامام ( عج ) في الفترة الحرجة التي نوهنا عنها , حيث يحرم عليهم كشف حقيقة الامام للناس والمجتمع بأن يكشفوا صفته الواقعية ، وهي أن يكشفوا ويقولوا إن ( سعيد الخياط مثلاً ) هو الإمام المهدي (ع) حتى لا تبوء حركته بالفشل .
يقول السيد الشهيد في أحد اللقاءات : " إن كان وزعمنا ان واحد صار عنده علم أو اطمئنان بقرب الظهور ينبغي أن يسكت، لانه توجد روايات تقول (أذعتموه فأجَّله الله) أو (أخَّرَهُ الله) ونحن لا نريد أن الله تعالى يؤخر الظهور، نحن مستعجلون بمعنى من المعاني على الظهور، لتمتليء الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، نحن مفتقرون إلى ظهور الإمام كافتقار الصبي إلى محالب امه أو اكثر من ذلك في الحقيقة. فاذا أذعنا شيئاً من هذا القبيل وبلغنا عنه الناس فسوف يكون هناك رد فعل، الله تعالى يغضب علينا، وإذا غضب علينا يؤجل الظهور حتى لو كنا نحتاجه، لأن الأمر ليس بيدنا وانما بيد رب العالمين (أذعتموه فأجَّله الله) وهذا الشيء كأنما قد حدث في عهد المعصومين أو في عصر الغيبة الصغرى، والآن أيضا في أي وقت ينطبق انه متى اُذيع ومتى اُشيع عنه فانه يتأجل، فخير لنا أن نسكت حتى لا يتأجل. إذا كان عندنا شيء من العلم أو الظن أو الاطمئنان بقرب الظهور، فملعون ملعون من يبلغ به. لا يجوز ذلك اطلاقا. على اننا ليس عندنا علم ولا إطمئنان بشيء، لأننا لا نعرف الأسباب، ولا نعرف مسبب الأسباب أن ارادته أي شيء، فخير لنا كما يقول المثل العامي (يمد رجليه على قدر بساطه) لا يَدَّعي ما ليس له. انه انا أدري، وانه بلغني كذا شيء من هذا القبيل . انتهى كلام السيد الشهيد ( قدس ) .
فنحن على هذا الاساس لن نعرف بأي شكل من الاشكال ان هذا القائد الذي يريد ارجاع الامة الى جادة الصواب بعد انتشار الضلالة والعمى ويريد ان يملا الارض بالعدل والهداية بعد انتشار الظلم والفساد لن نعرف ان هذا القائد هو الامام المهدي حتى يعلن هو عن نفسه لان الامام ملتزم بطبيعة الحال بعوامل الحفاظ على الغيبة وان المجموعة المحدودة من خواصه يحرم عليهم تسميته أو الاشارة اليه من قريب أو بعيد بانه هو هذا الامام الموعود , فما حالنا نحن وما هو موقعنا من هذه المنظومة المتعالية , فكيف اذن نعرف ان هذا القائد هو المهدي وكيف يجوز لنا الاشارة اليه , وهذا يعني استحالة معرفتنا بشخصية الامام الحقيقية حتى في حالة قيادته للإصلاح ومباشرة اعمال هداية المجتمع في نهاية عصر الغيبة بنفسه .
ومن هذا نعرف انه ليس هناك ظهور للإمام ( بالمعنى الاصطلاحي للظهور ) بالشخصية الثانوية , وعليه فان أي شخص يشير الى قائد اسلامي معين بانه هو الامام أو أن صفاته تنطبق على الامام فانه :
أولاً : إما حقيقة إنه يعرف بان هذا ( القائد ) هو الامام المهدي, ويكشف ذلك للناس ويدلهم عليه , وهذا كما عرفنا مخالف للشريعة الاسلامية بحرمة الاشارة الى حقيقة الامام في مرحلة تحركه في المجتمع بالشخصية الثانوية والاسم المستعار , وهو مخالف أيضاً لمنهج الامام نفسه بالحفاظ على الظروف والأسباب الموضوعية لغيبته حيث انه ( يحرم على الامام ) نقض شروط غيبته , وهذه أمور لا يمكن تصور صدورها من الخاصة المخلصين الممحصين , لذلك لا مجال من تكذيب هذا المدعي .
ثانياً : أو انه لا يعرف ان هذا القائد هو الامام الموعود , فنقول له اتق الله في عباد الله , ولا تغضب ربك وامامك والسيد الصدر وتأخر الظهور بهذه الاشارات الزائفة .
يبقى هناك اعتراضان قد يخطرا في الذهن ويسببا مشكلة تواجهنا في هذا الفهم , ويمكن بسطهما بالنحو التالي :
v الاعتراض الأول :
قد يقول قائل إنه ورد في الموسوعة قول السيد الشهيد الصدر الثاني ( قدس) إن الأحاديث الواردة عن المعصومين (ع) في حرمة تسمية الامام باسمه تخص الغيبة الصغرى , كما ذكر ذلك السيد الشهيد بشكل صريح حيث قال : " وقد عرفنا في التاريخ السابق أن حرمة التسمية خاصة بعصر الغيبة الصغرى ." الموسوعة ج 2 ص 10 .
ووجه الحرمة هو من أجل عدم تمكن السلطة الحاكمة من مطاردة الامام ( عج ) . يقول السيد الشهيد : " ولكن السلطة القائمة ، إذ تريد أن تطارد المهدي المنتظر في شخص المولود الجديد ، لا بد لها من امرين : أولاً: ان تعرف ولادته. أذ مع الغفلة عنها، لا يمكنها بطبيعة الحال ان تجرد المطاردة الفعلية الحقيقية ضد المولود . وثانياً : ان تعرف شخصه بإسمه . إذ بدونه لا يمكن ان تحارب فيه المهدي المنتظر . " الموسوعة ج1 ص277 . حيث ان الاسم (يكسب الفرد شخصيته القانونية والاجتماعية ) .
وفي مقام الاجابة نقول ان هذا صحيح فقد ذكر السيد الشهيد الصدر ( قدس ) ذلك , ولكن في نفس الوقت أعطى ( قدس ) قواعد عامة , وهذه القواعد تنطبق على الغيبة الكبرى كانطباقها على الغيبة الصغرى , وهي كثيرة ولكن بعضها غير مذكور بنحو القاعدة أو الأطروحة ولكن الذي يقرأ موسوعة الامام المهدي ( عج ) بتمعن وتركيز سوف يستطيع ادراك أسلوب أو منهجية السيد الشهيد في طرح المفاهيم الكلية أو الخطوط العامة وكذلك مواطن التصريح وأماكن التلميح ومواضع الرمزية في كلمات السيد الشهيد , والدليل على ذلك إنه أوكل الكثير من المعاني الى فطنة القارئ واعتمد على ذكاء القارئ أيضاً في كشف مقاصده .
ومن ذلك اشارات السيد الشهيد الى اساليب الامام في الحفاظ على غيبته الكبرى , فكما هو معلوم فإن السيد الشهيد قد رجح ( أطروحة خفاء العنوان ) في كيفية غيبة الامام المهدي ( عج ) , وقد ذكر أساليب كثيرة يقوم بها الامام لتحقيق عوامل نجاح غيبة الامام بهذا الاسلوب , منها " تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات. بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه، ولا يجيب بما يدل على حقيقته ." الموسوعة ج 2 ص 115 .
فاذا اعتبرنا هذه مقدمة أولى , فنذكر كمقدمة ثانية ما برهنا عليه سابقاً من أن هناك عدد قليل من الاشخاص الذين يتمتعون بمؤهلات معينة ويصفهم السيد الشهيد بانهم ( الخاصة المخلصين الموثوقين ) وهؤلاء يعرفون الامام بشخصيته الحقيقية وصفته الواقعية واسمه الصريح , وقد قلنا أن السيد أشار اشارات عابرة الى هذا المعنى ولم يشأ التركيز عليه, ومن هذه الاشارات ( اضافة الى ما ذكرنا سابقاً ) قول السيد الشهيد الصدر ( قدس ) عند تناوله طرق أو أساليب المقابلات مع الامام : " فإن المقابلة قد تقتضي، بحسب المصلحة، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين ." الموسوعة ج 2 ص 113 .
ومن هنا نخرج بنتيجة انه عندما يكون تكليف الامام عدم كشف حقيقته أمام المجتمع فما هو تكليف المجموعة المحدودة التي تعرف ذلك , طبعاً الحرمة . وهذا لا يخص الغيبة الصغرى دون الكبرى , والنص التالي للسيد الشهيد يوضح هذا المعنى بصورة جلية : " فإنه ليس في طلب الحكام للمهدي (ع) ومطاردتهم له، أي خطر ولا أي تأثير، لو كانت الأطروحة الأولى ( خفاء الشخص ) صادقة وكان جسم المهدي (ع) مختفياً، إذ يستحيل عليهم الوصول إليه. وإنما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنباً للمطاردة طبقاً للأطروحة الثانية ( خفاء العنوان ) . فأنه ما دام عنوان المهدي (ع) واسمه مجهولين، يكون في مأمن عن المطاردة، وأما إذا (وقع الاسم) وعرف العنوان، لا يكون هذا الأمن متحققاً ويكون احتمال المطاردة قوياً ." الموسوعة ج 2 ص 35 . وكما قلنا فن السيد يورد أطروحة خفاء العنوان كأسلوب أساسي يتبعه الامام المهدي ( عليه السلام ) في احتجابه عن الناس ونجاته من براثن الظلم .
الاعتراض الثاني :
انه اذا كانت ملابسات الظهور وتحرك الامام ودوره في المجتمع ليس من اختصاصنا , ولا يجوز لنا الخوض فيها , فما معنى كل هذه الكتب والموسوعات والاحاديث حول حركة الامام وصفاته وشؤونه الخاصة وغيرها . فتكون الاجابة على عدة مستويات :
المستوى الأول : إننا لم نقلل من أهمية دراسة تاريخ الامام المهدي وعلامات ظهوره , بل إن هذا الأمر مهم للغاية وقد ذكر السيد الشهيد الشيء الكثير أهميته وسنعرف ذلك في المستوى الثالث للجواب , ويمكن أن نضيف هنا إنه قد يوجد هناك أشخاص يشملهم الله تعالى بلطفه ويرتقون بسلم التكامل ويستطيعون ( من خلال تلك الاوصاف لشخص الامام المهدي وحركته ) أن يتوصلوا لمعرفة امامهم الحقيقي ويتشرفون بخدمته وتنفيذ أوامره , ولكن لن ننتظر منهم ( بطبيعة الحال ) أن يكشفوا لنا ما توصلوا إليه . ولابد من الاشارة هنا انني لا أعني من هذا الحال مفهوم ( النيابة الخاصة ) وهي ممتنعة في عصر الغيبة الكبرى, حسب تصريحات المعصومين بتكذيب مدعي المشاهدة أو النيابة الخاصة في عصر الغيبة الكبرى , بل قد يكون امتناع هذا المفهوم ( النيابة الخاصة ) نقطة قوة في المعنى الذي ذهبت اليه , أقصد ان الذي يتعرف على حقيقة الامام لن يشير اليه ولن ينقل عنه لذلك لا ينطبق عليه مفهوم النيابة الخاصة .
المستوى الثاني : انه لم يرد في هذا البحث النهي عن اتباع الحركات الاصلاحية المخلصة أو القادة الاسلاميين العادلين , وهذا لا يتنافى كون القائد لهذه الحركة الاصلاحية أو تلك هو الامام المهدي بشخصيته الثانوية أم قائد مصلح أخر منّ الله عليه بالانتفاض ضد الظلم والفساد .
المستوى الثالث : ان دراسة الصفات والدور المهدوي بالغ الأهمية في تطبيق هذه الصفات على مدعي المهدوية لمعرفة مدى صدق مدعاه , يقول السيد الشهيد في موسوعته مؤكداً هذا المعنى : " أنَّ الفرد بعد اطِّلاعه على هذا التاريخ ، يستطيع أن يحمل فكرة كافية عن أوصاف المهدي وأعماله عند ظهوره ، وممَّا يوفِّر الدليل الكافي بأن يعرف : أنّ مُدّعي المهدوية هل هو المهدي الموعود قائد العالم ، أو أنّه رجل مُبطِل كذَّاب ؟ .
فان الفرد قد يواجه في غضون حياته او يقرأ في التأريخ دعوات مهدوية متعددة، قد يحار في مبدأ الامر في تصديقها او تكذيبها, إنْ كان ممن يؤمن بالفكرة المهدوية أساساً، فلا يعلم ان هذا هو المهدي المنتظر او غيره، وهذه المشكلة وإنْ إستطاع الفكر الاسلامي أن يذللها عن طريق البرهان العقائدي. الا أنه بغض النظر عن ذلك، نستطيع ان نذللها عن طريق الدليل التأريخي 00 وذلك بمحاولة تطبيق الصفات الثابتة تأريخياً للمهدي الموعود على مدعي المهدوية. فان كانت ثابتة له، اذن فهو على حق، وهو المهدي الموعود. وهذه جهة بطبيعتها مهمة لكل معتقد بالفكرة المهدوية. فانه من المؤسف حقاً ومن المحرم دينياً أنْ يكون المهدي حقيقياً ثم لا يستطيع الفرد التعرف عليه. او ان يكون المدعي كاذباً ثم لا يستطيع الفرد معرفة كذبه وانما ينحرف باتجاهه وينجرف بتياره. فلا بد ان يكون للفرد محك عقائدي وميزان تأريخي في التعرف على رفض من يرفض وقبول من يقبل. وقد وفر الاسلام كلا الجانبين. وما هو محل كلامنا الآن هو الميزان التأريخي . " الموسوعة ج3 ص7 .
وهنا يتبين بوضوح إن تطبيق الصفات الثابتة تاريخياً للامام المهدي ( عج ) لا تكون قبل اعلان المهدي بنفسه عن نفسه , بل إن هذه الصفات والمنهج والدور المذكور في الروايات يمثل الميزان التاريخي ( حسب تعبير السيد الشهيد ) الذي نستند عليه إضافة الى ( المحك العقائدي ) في معرفة صدق ادعاء هذا المدعي للمهدوية .
هذا ما توصل اليه فهمي القاصر , وهو قابل للنقاش يقيناً , فلذلك أرجو من الأخوة رواد المنتدى ابداء ملاحظاتهم على ما ورد في هذا البحث لحاجتي الماسة اليها .
وأخيراً نسأل الله سبحانه وتعالى بتعجيل فرج إمامنا القائد المهدي ونسألكم قراءة سورة الفاتحة واهدائها الى روح السيد الشهيد الصدر الثاني ( قدس ) .
المهندس : عبد الزهرة البهادلي
تعليق