بقراءة لما ورد في نصوص المحدثين نجد أن هذا الإمام اُتهم في منهجة بكونه من المتساهلين، في هذا البحث نريد أن نحلل ونقارب في بعض النصوص لمعرفة الحقيقة في هذا الوصف، فهل هو كذلك أو أن هناك علة أخرى جعلت منه متساهلاً بنظر بعض المحدثين؟
نظرة في بعض النصوص التي تشير الى تساهله
لعل الامام الذهبي له قصب السبق وذلك من خلال اتهامه بتوثيقه للمجهول ، فقد عَرّض به في ترجمة أبو هند البجلي ، بقوله :> لا يُعرف، لكن احتج به النسائي على قاعدته»([1]). أي إشارة إلى إحتجاجه بالمجهول.
وقال الزيلعي: «والنسائي وابن حبان وغيرهما يحتجون بمثل هؤلاء، مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو واحد منهم حديثاً ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات»([2]).
وهكذا المعلمي :> وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري. على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل <([3]).
مذهب النسائي تخريجه عمن لم يُجمع على تركه من الرواة
ولعل ما تهم به هذا الإمام هو كونه لا يعتد بالجرح الا إذا اتفق عليه المحدوثون، بل يعتمد عليه ويخرّج حديثه إذا وثقه البعض ممن يعتمد عليهم ويكون حديثه معتبراً على شرطه ؛ ولعل السبب هو أن التراث السني لا سيما في الجرح والتعديل يحمل في طياته مزيج غير متجانس في التوثيق والتضعيف للرواة ولا يكاد نجد أحداً متفق عليه.
قال النسائي : > لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه < ([4]). وعبارته واضحة جداً أن الراوي لا يترك عنده الا إذا اتفق الجميع على تركه . وهذا ما لايحصل أبداً ؛ ولذا اتهمه العراقي بأن مذهبه متسع جداً .
مبررات ابن حجر للدفاع عن النسائي
ومن هنا جاءت تهمة التساهل للنسائي فدافع عنها ابن حجر وبررها قائلاً : > فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلا فلا يترك ، لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقل، وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي متسع ليس كذلك..<
عبارة النسائي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار
ولكن عبارة النسائي لا تحتاج إلى قيود توضحها فهو بلغة عربية واضحة وسهلة فقوله: فلا يُترك الرجل عنده حتى يجتمع جميع أرباب الجرح والتعديل على ترك هذا الراوي، فمنطوقها في غاية الوضوح ، وأما ملزومها فلو لم يجتمع هؤلاء الاعلام على التوثيق أو عدمه فهم ما بين موثق ومُضعف، وهذا بنظر النسائي لا يمكن أن يترك لهذه العلة لعدم الجزم بأحدهما .
ولذا نجد النسائي كثيراً ما يخرج لبعض الرواة المختلف فيهم كالحارث الاعور، قال الذهبي في الميزان في ترجمته: >حديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به، وقوى أمره، والجمهور على توهين أمره، مع روايته لحديثه في الأبواب<
وكذلك ابن حجر في ترجمة أحمد بن عيسى التستري: > قد احتج به النسائي مع تعنته< فالرجل أقرب إلى الاعتدال منه إلى التشدد أو التساهل؛ وهذا ما كان ملتفتاً إليه الدكتور قاسم علي أسعد في دراسته لمنهجية النسائي في الجرح والتعديل؛ فهو يرى أن هناك مقياساً خاطئاً قد قِيس على ضوئه الاحكام على النسائي، وبتعبيره: أنه ينبغي أن تلاحظ مراتب ألفاظ الجرح والتعديل التي اعتنى بها المتأخرون وجُعلت مقياساً لبيان حال النقاد في التشدد والتساهل والاعتدال، وهذا المقياس لا يُعتبر الا بعد الاستقراء وهذا ما لم يحص ؛ لذا ترى الاضطراب واضحاً في الاعتماد على تلك المراتب([5]).
ولكننا نرى أن كلام الدكتور لا يلامس الحقيقة بكل زواياها وحيثياتها؛ نعم قد تغطي وجهاً واحداً وهو أن هناك اضطراباً في فهم المصطلحات، ولكن هناك ماوراء المصطلحات شيئاً آخر وهو التضارب الحقيقي في التوثيق والتضعيف؛ لأنه لا يوجد إجماع أو قاعدة واضحة المعالم تفرز لنا هذا التضاد الذي حوته كتب الجرح والتعديل .
إذن من الجدير بالذكر أن نفهم المبرر الأساسي لما اُتهم به النسائي من التساهل، ولعلنا نضع أيدينا على سبباً آخر قد يكون أقرب إلى الواقع أو يكون مكملاً لما قرّره الدكتور قاسم أسعد وهو الاضطراب في فهم المصطلحات أو ما نفهمه نحن من كثرة التوثيق والتضعيف لرواة الحديث مما يؤدي إلى اضطراب في الحكم على الرواة .
تشّيع النسائي
بعدما تقدم وانجلت الصورة، فأن رواية النسائي عن بعض المجاهيل لاتضر بتساهله؛ وكذلك تخريجه عمن اختلف فيه؛ لانه منهج استقل به النسائي وغيره من الحفاظ ؛ لذا نعتقد ان هناك سبباً آخر لعله يلقي بضلاله على تداعيات هذا الأمر، وهو أن النسائي اتُهم بالتشيع، مع أن النسائي عندما سُئِل الذهبي عنه: أيهما أحفظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح ، أو النسائي ؟ فقال: النسائي([6]).
ولكن مع ذلك عادَ الذهبي وأضفى عليه هذه النسبة، قائلاً : > وهـو جـار في مضمار البخاري وأبي زرعة ، إلا أنّ فيه قليل تشّيع وانحراف عن خصوم الإمـام علي ،كمعاوية وعمرو ، والله يسامحه<([7]). إذن فالمعيار في التقييم قائم على حب معاوية وموالاته ، ولو كان النسائي أفقه من مسلم وأفقه مشائخ عصره ، وأعرفهم بالصحيح والسقيم وأعلمهم بالرجال وأنه من بحور العلم ، مع الفهم ، والاتقان ، والبصر ، ونقد الرجال([8]).
ولكن هذا لا يشفع له بلغ ما بلغ من العلم . وعلى أثر ذلك قُتل النسائي وكان سبب هذا القتل تصنيفه لكتاب الخصائص الذي ذكر فيه فضائل علي عليه السلام ، ورفْضه أن يذكر معاوية وأنه ليس بذلك الشخص المؤهل لإعطائه مزايا وفضائل لا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة. وهذا أبو بكر المأموني يسأله عن تصنيفـه كتاب الخصائص؟ فقال : دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، وصنف كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله، ثم صنف بعد ذلك كتاب فضائل الصحابة وقرأها على الناس . وقيل له وأنا : حاضر ألا تخرج فضائل معاوية ؟ فقال : أي شيء أخرج اللهم لا تشبع بطنه ؟ ([9]). أو بلفظ آخر أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يُروى له فضائل([10]).
وبعد هذه الحادثة وإمساكه عن نقل فضائل هذا الرجل ضُرب في الجامع واُخرج إلى مكة وهو عليل، وتـوفي مقتولا شهيداً ([11]).
إذن تهمة النسائي بالتساهل نعتقد أنها ناشئة من هذا المعنى لميله للتشيع وإن كان خفيفاً، وهذا غير خفي فقد اتهم الحاكم النيسابوري بذلك فالسخاوي يُرجع تساهله لهذه العلة، وهو كونه متعصباً لما رميّ به من التشيع ([12]). وهذا شاهد واضح على صدق ما ندعي .
نظرية تصنيف علماء الجرح والتعديل، يحيى الدوخي، ص 176 . عن موقعه: d-yahya.net/
([1]) ميزان الأعتدال ، ج7 ص 437.
([2]) نصب الراية لأحاديث الهداية، ج 1ص333.
([3]) التنكيل، ج2ص935.
([4]) النكت على ابن الصلاح ، ج1ص 482.
([5]) منهج الامام النسائي في الجرح والتعديل، ج5 ص 2321.
([6]) والسائل هو تاج الدين السبكي ، طبقات الشافعية ، ج 3 ص16.
([7]) سير أعلام النبلاء، ج14، ص 133.
([8]) المصدر نفسه، ج14، ص 128.
([9]) تهذيب التهذيب ، ج1 ص34.
([10]) ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج 11، ص 141.
([11]) تهذيب الكمال ، ج1 ص33.
([12]) فتح المغيث ، ج1 ص 35.
نظرة في بعض النصوص التي تشير الى تساهله
لعل الامام الذهبي له قصب السبق وذلك من خلال اتهامه بتوثيقه للمجهول ، فقد عَرّض به في ترجمة أبو هند البجلي ، بقوله :> لا يُعرف، لكن احتج به النسائي على قاعدته»([1]). أي إشارة إلى إحتجاجه بالمجهول.
وقال الزيلعي: «والنسائي وابن حبان وغيرهما يحتجون بمثل هؤلاء، مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو واحد منهم حديثاً ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات»([2]).
وهكذا المعلمي :> وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري. على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل <([3]).
مذهب النسائي تخريجه عمن لم يُجمع على تركه من الرواة
ولعل ما تهم به هذا الإمام هو كونه لا يعتد بالجرح الا إذا اتفق عليه المحدوثون، بل يعتمد عليه ويخرّج حديثه إذا وثقه البعض ممن يعتمد عليهم ويكون حديثه معتبراً على شرطه ؛ ولعل السبب هو أن التراث السني لا سيما في الجرح والتعديل يحمل في طياته مزيج غير متجانس في التوثيق والتضعيف للرواة ولا يكاد نجد أحداً متفق عليه.
قال النسائي : > لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه < ([4]). وعبارته واضحة جداً أن الراوي لا يترك عنده الا إذا اتفق الجميع على تركه . وهذا ما لايحصل أبداً ؛ ولذا اتهمه العراقي بأن مذهبه متسع جداً .
مبررات ابن حجر للدفاع عن النسائي
ومن هنا جاءت تهمة التساهل للنسائي فدافع عنها ابن حجر وبررها قائلاً : > فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلا فلا يترك ، لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقل، وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي متسع ليس كذلك..<
عبارة النسائي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار
ولكن عبارة النسائي لا تحتاج إلى قيود توضحها فهو بلغة عربية واضحة وسهلة فقوله: فلا يُترك الرجل عنده حتى يجتمع جميع أرباب الجرح والتعديل على ترك هذا الراوي، فمنطوقها في غاية الوضوح ، وأما ملزومها فلو لم يجتمع هؤلاء الاعلام على التوثيق أو عدمه فهم ما بين موثق ومُضعف، وهذا بنظر النسائي لا يمكن أن يترك لهذه العلة لعدم الجزم بأحدهما .
ولذا نجد النسائي كثيراً ما يخرج لبعض الرواة المختلف فيهم كالحارث الاعور، قال الذهبي في الميزان في ترجمته: >حديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به، وقوى أمره، والجمهور على توهين أمره، مع روايته لحديثه في الأبواب<
وكذلك ابن حجر في ترجمة أحمد بن عيسى التستري: > قد احتج به النسائي مع تعنته< فالرجل أقرب إلى الاعتدال منه إلى التشدد أو التساهل؛ وهذا ما كان ملتفتاً إليه الدكتور قاسم علي أسعد في دراسته لمنهجية النسائي في الجرح والتعديل؛ فهو يرى أن هناك مقياساً خاطئاً قد قِيس على ضوئه الاحكام على النسائي، وبتعبيره: أنه ينبغي أن تلاحظ مراتب ألفاظ الجرح والتعديل التي اعتنى بها المتأخرون وجُعلت مقياساً لبيان حال النقاد في التشدد والتساهل والاعتدال، وهذا المقياس لا يُعتبر الا بعد الاستقراء وهذا ما لم يحص ؛ لذا ترى الاضطراب واضحاً في الاعتماد على تلك المراتب([5]).
ولكننا نرى أن كلام الدكتور لا يلامس الحقيقة بكل زواياها وحيثياتها؛ نعم قد تغطي وجهاً واحداً وهو أن هناك اضطراباً في فهم المصطلحات، ولكن هناك ماوراء المصطلحات شيئاً آخر وهو التضارب الحقيقي في التوثيق والتضعيف؛ لأنه لا يوجد إجماع أو قاعدة واضحة المعالم تفرز لنا هذا التضاد الذي حوته كتب الجرح والتعديل .
إذن من الجدير بالذكر أن نفهم المبرر الأساسي لما اُتهم به النسائي من التساهل، ولعلنا نضع أيدينا على سبباً آخر قد يكون أقرب إلى الواقع أو يكون مكملاً لما قرّره الدكتور قاسم أسعد وهو الاضطراب في فهم المصطلحات أو ما نفهمه نحن من كثرة التوثيق والتضعيف لرواة الحديث مما يؤدي إلى اضطراب في الحكم على الرواة .
تشّيع النسائي
بعدما تقدم وانجلت الصورة، فأن رواية النسائي عن بعض المجاهيل لاتضر بتساهله؛ وكذلك تخريجه عمن اختلف فيه؛ لانه منهج استقل به النسائي وغيره من الحفاظ ؛ لذا نعتقد ان هناك سبباً آخر لعله يلقي بضلاله على تداعيات هذا الأمر، وهو أن النسائي اتُهم بالتشيع، مع أن النسائي عندما سُئِل الذهبي عنه: أيهما أحفظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح ، أو النسائي ؟ فقال: النسائي([6]).
ولكن مع ذلك عادَ الذهبي وأضفى عليه هذه النسبة، قائلاً : > وهـو جـار في مضمار البخاري وأبي زرعة ، إلا أنّ فيه قليل تشّيع وانحراف عن خصوم الإمـام علي ،كمعاوية وعمرو ، والله يسامحه<([7]). إذن فالمعيار في التقييم قائم على حب معاوية وموالاته ، ولو كان النسائي أفقه من مسلم وأفقه مشائخ عصره ، وأعرفهم بالصحيح والسقيم وأعلمهم بالرجال وأنه من بحور العلم ، مع الفهم ، والاتقان ، والبصر ، ونقد الرجال([8]).
ولكن هذا لا يشفع له بلغ ما بلغ من العلم . وعلى أثر ذلك قُتل النسائي وكان سبب هذا القتل تصنيفه لكتاب الخصائص الذي ذكر فيه فضائل علي عليه السلام ، ورفْضه أن يذكر معاوية وأنه ليس بذلك الشخص المؤهل لإعطائه مزايا وفضائل لا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة. وهذا أبو بكر المأموني يسأله عن تصنيفـه كتاب الخصائص؟ فقال : دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، وصنف كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله، ثم صنف بعد ذلك كتاب فضائل الصحابة وقرأها على الناس . وقيل له وأنا : حاضر ألا تخرج فضائل معاوية ؟ فقال : أي شيء أخرج اللهم لا تشبع بطنه ؟ ([9]). أو بلفظ آخر أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يُروى له فضائل([10]).
وبعد هذه الحادثة وإمساكه عن نقل فضائل هذا الرجل ضُرب في الجامع واُخرج إلى مكة وهو عليل، وتـوفي مقتولا شهيداً ([11]).
إذن تهمة النسائي بالتساهل نعتقد أنها ناشئة من هذا المعنى لميله للتشيع وإن كان خفيفاً، وهذا غير خفي فقد اتهم الحاكم النيسابوري بذلك فالسخاوي يُرجع تساهله لهذه العلة، وهو كونه متعصباً لما رميّ به من التشيع ([12]). وهذا شاهد واضح على صدق ما ندعي .
نظرية تصنيف علماء الجرح والتعديل، يحيى الدوخي، ص 176 . عن موقعه: d-yahya.net/
([1]) ميزان الأعتدال ، ج7 ص 437.
([2]) نصب الراية لأحاديث الهداية، ج 1ص333.
([3]) التنكيل، ج2ص935.
([4]) النكت على ابن الصلاح ، ج1ص 482.
([5]) منهج الامام النسائي في الجرح والتعديل، ج5 ص 2321.
([6]) والسائل هو تاج الدين السبكي ، طبقات الشافعية ، ج 3 ص16.
([7]) سير أعلام النبلاء، ج14، ص 133.
([8]) المصدر نفسه، ج14، ص 128.
([9]) تهذيب التهذيب ، ج1 ص34.
([10]) ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج 11، ص 141.
([11]) تهذيب الكمال ، ج1 ص33.
([12]) فتح المغيث ، ج1 ص 35.