هذه المقالة الرابعة في الكشف عن أسس مدرسة السلفية والوهابية بما صار معروفاً في العصر الحديث بين العرب والمسلمين بالمدرسة التكفيرية التي شاطرهم بها سيد قطب عميد الفكر الإخواني التكفيري ، هذا الفكر الذي يسعى الآن إلى وهبنة سورية، وتسليفها ، لتخضع لسلسلة البلاد العربية التي توهبنت وتسلفت ، وأمام الدولار القطسعودي ، وتحت الوعود استخدم الوهابيون الإخونجية مطبلين مزمرين معهم ، ساعدهم في هذا الإعلام الظلامي الكاذب.
نحن في هذه المقالة نريد أن نكشف الغطاء عن السلفية ، ما السلفية ؟ وهل يمثلها ابن تيمية ، وابن عبد الوهاب ، وهذا الرعيل من أتباع الرجلين؟.
شغل موضوع السلفية كثير من الباحثين .. والموضوع ببساطة يبدأ من الرسول وأصحابه فالرسول أسس القاعدة الأولى للإسلام من أصحابه ، علمهم الدين ، هذبهم ، حضّرهم أسس لهم مجتمعهم الخاص ، وكان ينتقد كل من يصدر عنه قول أو تصرف يخالف تعاليم الإسلام أو يرتبط بالجاهلية ، ولطالما صدرت منه عبارة (إنك امرؤ فيك جاهلية ) أو ما شابه ذلك من أجل إيجاد مجتمع نبوي شفاف وصادق ومتراحم ، ومتحاب ، يفهم الدين من بوابة مكارم الأخلاق، وكل مساحة واسعة من السماحة.
وكلما جاء ذكر السلف والسلفية ، ذكر حديث الخيّرية ، الذي يقول : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " وهنا يحدد الرسول ثلاثة من الأجيال في ثلاثة من القرون ، وقد يكون هؤلاء الخيرية في أقل من ثلاثة قرون ، ماداموا ثلاثة من الأجيال.
والسؤال : هل كل الأفراد كانوا جيدين مسلمين مؤمنين في تلك العصور الثلاث ؟ وإذا كانوا كذلك ، فكيف نسيء إلى كثير من الطوائف الإسلامية اليوم ، وقد نشأت في تلك العصور الثلاث التي جعلها الرسول خير الناس ؟!. وهذا ما دفع الدكتور البوطي أن يسمي كتابه عن السلفية "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب ديني" وهذا كلام صحيح .
وعلى كل ، فمن يجيبنا على سؤالنا هو ابن عبد البر ، يقول : " أن الخيريّة ثابتة لمجموع المسلمين في تلك العصور الثلاث أما الأفراد ، فقد لا تنطبق الخيرّية على بعضهم ، بل يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل منهم " .
ممن عناهم حديث الرسول سابق الذكر " خير الناس قرني ( الصحابة ) ثم الذين يلونهم ( التابعون ) ثم الذين يلونهم ( تابعي التابعين ) . في مرحلة زمنية مباركة.
ولنقف عند كلمة ( الناس ) الأولى ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، لنصل بشفافية إلى الجوهر من كل ناس . ونحن نعرف في الناس الأولى ، أناساً كانوا حول الرسول منهم منافقون ، ومنهم من حاول قتله ، ومنهم من ارتد بعد موته . ومنهم من حارب بعضهم بعضاً.
وفي الناس الثانية يحدثنا التاريخ الإسلامي عمن افترى على الرسول الكذب ، فوضع الأحاديث ، وانحرف عن الإسلام .
وفي الناس الثالثة حدث ولا حرج عن الوضاعين والكذبة ، والمندسين في الإسلام، لغاية ما.. أضعفها الهروب من الجزية.
وإذا عدنا مرة أخرى إلى القرون الثلاثة الأولى ، وبحثنا في الفرق الإسلامية التي ظهرت في تلك القرون ، وعدنا إلى كتابي "الملل والنحل" للشهر ستاني ، "والفرق بين الفرق" للبغدادي ، فإننا نجد كل تلك الفرق الإسلامية قد ظهرت ونشأت وتكون فكرها في تلك القرون الثلاثة الأولى ، وعلمنا كيف كانا يتحدثان عنها كلها ، ليوصلاها إلى ثلاث وسبعين فرقه ، فيخرج منها الفرقة الناجية فيسميها أهل السنة والجماعة ، فيرسلها إلى الجنة ، ويضع الباقين في النار . في حديث الفرقة الناجيه الذي كنا قد عالجناه في مقالة سابقة ولكنهما ينسيان حديث الخيريّة هذا ، الذي تحدث عن ثلاثة من القرون ، فيها من خيار الناس.
ويخوضان في تلقيط الفرق التي ظهرت فرقة فرقة من خوارج ، ومرجئة ، وخيريّة ، وقدرية ومعتزلة ، ومعارضة ( رافضة) وأشاعره ، وأهل الحديث أقسامهم ..
إن كل تلك الفرق وغيرها إلى ما بعد السبعين ظهرت في حديث الخيريّة ، وزمان الخيريّة فكيف يعتدل هذا مع ما وصفها به كل من الشهر ستاني والبغدادي . تلك الكتب كتبت بأمر من السلطان العباسي ، وكان الأمويون أذكى من الدخول بهذا المستنقع..
الموضوع مرة أخرى يعود إلى مفهوم الدكتور البوطي عن السلفية " فالمرحلة مرحلة زمنية مباركة ولكن ليس كل رجالها مقصودين بما قاله وعناه ، وإلا فكيف يتفق هذا مع من ارتد عن الإسلام ، ومع صحابة قاتلوا بعضهم ، ومع كذبة وضّاعين ، ومع أناس مزقوا القرآن .. كل هذا الإشكال كما قلنا يحلّ بالعودة إلى مفهوم البوطي للسلفية بالمرحلة الزمنية المباركة .
يضاف إليها أن ناساً من الناس في كل عصر من تلك العصور ، كانوا متطبعين بأخلاق الرسول ، متعبدين بعبادته ، سالكين سلوكه .. مجموعهم من العصور الثلاثة الأولى يشكلون السلفية ، وهذا ينسحب على جميع كل عصر من العصور ، وبالتالي ، فإننا نلجأ هنا إلى الانتقائية ، ضمن تيار خاص يمثله حفنة من الأشخاص المخلصين في كل عصر ، فيتولد لدينا السلفية في القرن الأول والسلفية في القرن الثاني ، والسلفية في القرن الثالث ومجموع فكرهم وتصرفهم وحركتهم يمكن أن يطلق على حامليه " السلفيين ".
وكان السلفي أحمد بن حجر آل بوطامي ، قد استثنى من مذهب السلف " ما رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرض " مثل : الخوارج ، والروافض ، والمرجئة ، والجهمية ، والمعتزلة ، وسائر الفرق الضالة !.". والواقع أن تحديد أو بوطامي للسلفية بهذا الشكل غامض ومبهم فهذه الفرق – كما قلنا – نشأت في القرون الثلاثة الأولى الموضوعة بالخيريّة.
فإذا عدنا نناقشه في كل من استثناهم من مذهب السلف ، وبدأنا بالروافض ( أي بالمعارضة ) آنذك فمنهم عدد لا يستهان به من الصحابة ومن التابعين ، ومن أتقياء المسلمين من الذين يتدرجون تحت وصف الخيريّة.
وإذا تناولنا الجهمية والمعتزلة ، فقد كان بعض الأئمة الأربعة على آرائهم وإذا عدنا إلى الجبرية ، فقد جعلتها الدولة الأموية العقيدة الرسمية لها .
وأما المرجئة ، فقد عرف منهم بعض الصحابة ، وبعض التابعين ، وفي مقدمتهم أبو حنيفة النعمان وأتباعه .
وقد كان ( عمرو بن عبيد التابعي رأس المعتزلة في زمانه آية من آيات الله في الالتزام الديني. وقد أثنى عليه التابعي الجليل الحسن البصري كثيراً.
وإذن فهؤلاء منتقون من كل عصر من العصور الثلاثة الأولى في المرحلة الزمنية المباركة ، وهم ليسوا على مذهب واحد وبالتالي انتفت المذهبية هنا .
ويذهب بعض الباحثين ( السيد محمد الكثيري في كتابه السلفية ..." بعد تتبع دقيق، يشكر عليه ويثاب إن شاء الله إلى القول " المقصود السلفية هم أولئك الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري ، وكانوا من الحنابلة ، وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيى عقيدة السلف ، وحارب دونها ، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري على يد ابن تيمية .. الذي أضاف إليهما أموراً أخرى .. ثم ظهرت تلك الآراء في القرن الثاني عشر الهجري على يد ابن عبد الوهاب.
وما زال الوهابيون ينادون بها " عن محمد أبو زهرة / المذاهب الإسلامية ص / 0311 ..
يتبين من خلال التعريف الذي وضعه أبو زهرة .. دعاة السلفية شريحة من اتباع المذهب الحنبلي ، مجرد شريحة وليس كل اتباع أحمد ، لأنهم اختصوا بآراء وأفكار ومذهب خاص في الأصول والعقائد ، بينما أحمد هو أحد الأئمة الأربعة المقلدين في الفقه ، وليس له في العقائد أو الأصول مذهب خاص به.
ولم يكن كل الحنابلة في الأصول ، على عقيدة أهل السنة من أشاعرة وما تريدية. فقد كان الحنابلة موزعين على عقائد شتى ، ومذاهب أصولية مختلفة ، فمنهم من كان أشعرياً ، ومنهم من كان صوفياً ، ومنهم مفوّضة يتبعون بعض السلف في مواقفهم وآرائهم العقائدية وأغلبيتهم ، وهم الشق الآخر كانوا حشوية ، يعتقدون بالتشبيه والتجسيم والقول بالجبر وغيرها من الآراء والمعتقدات ، التي تجند المعتزلة أولاً لمحاربتها ، ثم تصدى لها أهل السنة فيما بعد . والذين اشتهروا بالتجسيم تأثروا كثيراً بالإسرائيليات ، وباليهود الذين ادعو أنهم أسلموا، وظلوا على دينهم بالسر
وابن تيمية من هؤلاء الذين تأثروا بالتشبيه والتجسيم ، فجند نفسه لحمل هذه الرسالة وكافح من أحلها ومن أحلها مات بالسجن وكنا في مقالتنا السابقة قد بينا أثر التوراة وأثر الكرامية في فكره .
وبالمختصر فهؤلاء الحشوية المجسمة لا يعتبرون ، ولا يعدون من أهل السنة والجماعة ، بل على العكس من ذلك ، فقد كانوا منذ نشوئهم ، وما زالوا يحاربون أتباع الأئمة مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي. وقد سطر التاريخ الإسلامي لهذه الفئة صفحات سوداء في الماضي ، من إشاعة الفتن ، وتحريف وتشويش العقائد الإسلامية .وقد تصدى أحد علماء الشام ، ابن خليفة عليوي العالم الأزهري لأولئك الحشوية ، فقال : " لقد ظهرت في بلادنا الشامية طائفة تدعو إلى السلفية ومنهجها اعتناق الحشوية الحنبلية ، وتبديع أهل السنة والجماعة .." ابن حنيفة عليوي ، هذه عقيدة السلف والخلف .. / دمشق 1979 .
ويقول فيهم " أما أنتم أيها الحشوية الحنبلية في البلاد الشامية كفاكم شن الغارات على أهل السنة والجماعة بعاديات الأهواء ..".
وقد كان هؤلاء الحشوية في القرنين الرابع والخامس قد شنوا هجوماً دموياً على أهل السنة والجماعة في بغداد وغيرها حتى سالت شوارع وأزقة بغداد بدماء الشافعية ، والمالكية ، والأحناف وأصدروا الفتاوي في تكفير الشافعية ، كما يفعلون ، ويقولون في العصر الحديث .
وكان ابن رشد ، قد قال عن الحشوية التجسيمية " .. أن طريقة معرفة وجود الله تعالى ( عندهم ) هو السمع لا العقل .. وكان يسميها الفرقة الضالة ، وأشار إلى أنهم يعتمدون على النص وحده طريقاً إلى المعرفة الاعتقادية خاصة ، والدينية عامة ، ورفض العقل وأدلته . وقد وقعوا في سوء الفهم للنصوص الدينية ، والاعتماد على الأحاديث الضعيفة ، أو جرأتهم في تكذيب الأحاديث الصحيحة ، كما بين الألباني ذلك في حديثه عن ابن تيمية ، وقد بيناه في مقالتنا السابقة . وأكثر ما أوقعهم في التجسم والتشبيه النزوع إلى الفهم الحرفي لتلك النصوص .) د / حسين الشافعي إلى دراسة علم الكلام ص / 76 .
كما بينا في مقالتنا السابقة أن ابن تيمية لا يؤمن بالمجاز في القرآن الكريم ، وهذه من المسائل التي خالفه بها الألباني.
وكان عدة من المجوس وأحبار اليهود ، وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ، ثم راحوا يبثون ما عندهم من أساطير ، فتأثر بها ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة البسطاء ، فتلقفوها منهم ورددوها فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتقدات الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة ، ونشأ الحشو وترعرع . انظر ابن عساكر ( تبيين كذب المفتري ) مقدمة الشيخ محمد زاهر الكوثري ص / 10 .
ولا بد من الإشارة إلى الصهيونية الإسلامية ، والتي عرفت قديماً باسم الإسرائيليات فإن حشو الأحاديث والروايات التي لا أصل لها في أحاديث الرسول كان في أغلبه من الإسرائيليات ، لا سيما في القصص القرآني من خلال تفسير المتشابه من الآي الكريم . وكان جلة من رجال الأحاديث الأوائل قد اعتمد على تلك الإسرائيليات ونشرها في كتاب الحديث .
" وقد مثل هؤلاء الحشو الهائل في أحاديثهم الضعيفة ، فأجازوا على الله الملامسة والمصافحة والمزاورة وأن المخلصين من المسلمين يعاينونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا من الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص
علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ص / 288 ).
وكانت فكرة التجسيم والتشبيه قد ازدهرت عند ابن كرام ت 255 هـ ( انظر مقالتنا السابقة عنه ) وكان فكره لا يتفق مع أهل السنة والجماعة ، ولهذا تتلمذ ابن تيمية على هذا الفكر وآمن به . ( انظر : نشأة الفكر السلفي ص 297 ) وعند الكرامية أن الرسول أدى الرسالة ، ومات فانتهى الرسول والمرسل وبقيت الرسالة ، ولهذا عندهم لا قيمة للرسول في قبره ، فلا تشد له الرحال ، ولا ضرورة لا سباغ القداسة على الرسول .
وقد أثرت الكرامية في ابن تيمية ، الذي أثر بدوره بابن عبد الوهاب ، لا سيما في مسألة جفاء الرسول فحمل ابن عبد الوهاب راية ( الدعوة الكرامية عن ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزيه ، بالسيف " حيث السعي الجاد اليوم لنشر هذه المعتقدات والآراء في العالم الإسلامي ، ومحاربة غيرها " وقد حصل لهم ذلك فسيطروا على أغلب الفكر الإسلامي في الجزائر ، وبعض الدول العربية والإسلامية .
وهذا ما عليه الوهابية اليوم من تيار حشوي له جذور عميقة في التاريخ الفكري وعقائده .. تكاد ترجو أغلب آرائه إلى الإسرائيليات .." السيد الكثيري مرجع سابق ص / 56 )وبالمختصر يجب أن ندرك ، ونتكلم بما ندركه ، فالناس اليوم صاروا أحوج ما يكونون للخروج من النفق المظلم الذي أدخلهم فيه دعاة التكفير ، ونحن في القرن الخامس عشر الهجري ، فإذا جاء الناس في القرن القادم الهجري وبقينا دون مقاومة هذا الفكر التكفيري بالحق .. الحق والفضح .. الفضح .. والتعرية !. التعرية .. ليدرك المسلمون القادمون أنهم تخلصوا من المبتدعين خوارج القرن العشرين ، والحادي والعشرين ، سيكونون دعاة للسخرية في عصر صار الماضي كله حاضراً ( في الحاضر ) من خلال تطور والعلم على أشكاله ، ولأنهم يعتقدون أنهم يمثلون الإسلام سيكون مدعاة للسخرية بقادم الزمان على كل حال ، إلا إذا كانوا يؤمنون أن عشرات السنين تفصل بينهم وبين يوم القيامة ، الذي لا يعلمه إلا الله.
ويظل السلفي هو ذلك الذي يؤمن بما جاء به النبي المتقيد بوصاياه ، ولا سيما أخرها الداعية إلى تحريم الدماء إلا بحق الله ، والقاضية بتحريم أموال الغير ، والداعية إلى صون أعراض الناس ، ذلك هو السلفي حقاً ، والإيمان بعظمة الله ورسوله ، وتوحيده أبد الآبدين وعدم الإشراك به ، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان حباً في الدين والديان ، تلك هي السلفية لأنها ستكون تحت مظلة الخيريّة .
كتب د. علي الشعيبي - خاص عربي برس
نحن في هذه المقالة نريد أن نكشف الغطاء عن السلفية ، ما السلفية ؟ وهل يمثلها ابن تيمية ، وابن عبد الوهاب ، وهذا الرعيل من أتباع الرجلين؟.
شغل موضوع السلفية كثير من الباحثين .. والموضوع ببساطة يبدأ من الرسول وأصحابه فالرسول أسس القاعدة الأولى للإسلام من أصحابه ، علمهم الدين ، هذبهم ، حضّرهم أسس لهم مجتمعهم الخاص ، وكان ينتقد كل من يصدر عنه قول أو تصرف يخالف تعاليم الإسلام أو يرتبط بالجاهلية ، ولطالما صدرت منه عبارة (إنك امرؤ فيك جاهلية ) أو ما شابه ذلك من أجل إيجاد مجتمع نبوي شفاف وصادق ومتراحم ، ومتحاب ، يفهم الدين من بوابة مكارم الأخلاق، وكل مساحة واسعة من السماحة.
وكلما جاء ذكر السلف والسلفية ، ذكر حديث الخيّرية ، الذي يقول : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " وهنا يحدد الرسول ثلاثة من الأجيال في ثلاثة من القرون ، وقد يكون هؤلاء الخيرية في أقل من ثلاثة قرون ، ماداموا ثلاثة من الأجيال.
والسؤال : هل كل الأفراد كانوا جيدين مسلمين مؤمنين في تلك العصور الثلاث ؟ وإذا كانوا كذلك ، فكيف نسيء إلى كثير من الطوائف الإسلامية اليوم ، وقد نشأت في تلك العصور الثلاث التي جعلها الرسول خير الناس ؟!. وهذا ما دفع الدكتور البوطي أن يسمي كتابه عن السلفية "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب ديني" وهذا كلام صحيح .
وعلى كل ، فمن يجيبنا على سؤالنا هو ابن عبد البر ، يقول : " أن الخيريّة ثابتة لمجموع المسلمين في تلك العصور الثلاث أما الأفراد ، فقد لا تنطبق الخيرّية على بعضهم ، بل يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل منهم " .
ممن عناهم حديث الرسول سابق الذكر " خير الناس قرني ( الصحابة ) ثم الذين يلونهم ( التابعون ) ثم الذين يلونهم ( تابعي التابعين ) . في مرحلة زمنية مباركة.
ولنقف عند كلمة ( الناس ) الأولى ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، لنصل بشفافية إلى الجوهر من كل ناس . ونحن نعرف في الناس الأولى ، أناساً كانوا حول الرسول منهم منافقون ، ومنهم من حاول قتله ، ومنهم من ارتد بعد موته . ومنهم من حارب بعضهم بعضاً.
وفي الناس الثانية يحدثنا التاريخ الإسلامي عمن افترى على الرسول الكذب ، فوضع الأحاديث ، وانحرف عن الإسلام .
وفي الناس الثالثة حدث ولا حرج عن الوضاعين والكذبة ، والمندسين في الإسلام، لغاية ما.. أضعفها الهروب من الجزية.
وإذا عدنا مرة أخرى إلى القرون الثلاثة الأولى ، وبحثنا في الفرق الإسلامية التي ظهرت في تلك القرون ، وعدنا إلى كتابي "الملل والنحل" للشهر ستاني ، "والفرق بين الفرق" للبغدادي ، فإننا نجد كل تلك الفرق الإسلامية قد ظهرت ونشأت وتكون فكرها في تلك القرون الثلاثة الأولى ، وعلمنا كيف كانا يتحدثان عنها كلها ، ليوصلاها إلى ثلاث وسبعين فرقه ، فيخرج منها الفرقة الناجية فيسميها أهل السنة والجماعة ، فيرسلها إلى الجنة ، ويضع الباقين في النار . في حديث الفرقة الناجيه الذي كنا قد عالجناه في مقالة سابقة ولكنهما ينسيان حديث الخيريّة هذا ، الذي تحدث عن ثلاثة من القرون ، فيها من خيار الناس.
ويخوضان في تلقيط الفرق التي ظهرت فرقة فرقة من خوارج ، ومرجئة ، وخيريّة ، وقدرية ومعتزلة ، ومعارضة ( رافضة) وأشاعره ، وأهل الحديث أقسامهم ..
إن كل تلك الفرق وغيرها إلى ما بعد السبعين ظهرت في حديث الخيريّة ، وزمان الخيريّة فكيف يعتدل هذا مع ما وصفها به كل من الشهر ستاني والبغدادي . تلك الكتب كتبت بأمر من السلطان العباسي ، وكان الأمويون أذكى من الدخول بهذا المستنقع..
الموضوع مرة أخرى يعود إلى مفهوم الدكتور البوطي عن السلفية " فالمرحلة مرحلة زمنية مباركة ولكن ليس كل رجالها مقصودين بما قاله وعناه ، وإلا فكيف يتفق هذا مع من ارتد عن الإسلام ، ومع صحابة قاتلوا بعضهم ، ومع كذبة وضّاعين ، ومع أناس مزقوا القرآن .. كل هذا الإشكال كما قلنا يحلّ بالعودة إلى مفهوم البوطي للسلفية بالمرحلة الزمنية المباركة .
يضاف إليها أن ناساً من الناس في كل عصر من تلك العصور ، كانوا متطبعين بأخلاق الرسول ، متعبدين بعبادته ، سالكين سلوكه .. مجموعهم من العصور الثلاثة الأولى يشكلون السلفية ، وهذا ينسحب على جميع كل عصر من العصور ، وبالتالي ، فإننا نلجأ هنا إلى الانتقائية ، ضمن تيار خاص يمثله حفنة من الأشخاص المخلصين في كل عصر ، فيتولد لدينا السلفية في القرن الأول والسلفية في القرن الثاني ، والسلفية في القرن الثالث ومجموع فكرهم وتصرفهم وحركتهم يمكن أن يطلق على حامليه " السلفيين ".
وكان السلفي أحمد بن حجر آل بوطامي ، قد استثنى من مذهب السلف " ما رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرض " مثل : الخوارج ، والروافض ، والمرجئة ، والجهمية ، والمعتزلة ، وسائر الفرق الضالة !.". والواقع أن تحديد أو بوطامي للسلفية بهذا الشكل غامض ومبهم فهذه الفرق – كما قلنا – نشأت في القرون الثلاثة الأولى الموضوعة بالخيريّة.
فإذا عدنا نناقشه في كل من استثناهم من مذهب السلف ، وبدأنا بالروافض ( أي بالمعارضة ) آنذك فمنهم عدد لا يستهان به من الصحابة ومن التابعين ، ومن أتقياء المسلمين من الذين يتدرجون تحت وصف الخيريّة.
وإذا تناولنا الجهمية والمعتزلة ، فقد كان بعض الأئمة الأربعة على آرائهم وإذا عدنا إلى الجبرية ، فقد جعلتها الدولة الأموية العقيدة الرسمية لها .
وأما المرجئة ، فقد عرف منهم بعض الصحابة ، وبعض التابعين ، وفي مقدمتهم أبو حنيفة النعمان وأتباعه .
وقد كان ( عمرو بن عبيد التابعي رأس المعتزلة في زمانه آية من آيات الله في الالتزام الديني. وقد أثنى عليه التابعي الجليل الحسن البصري كثيراً.
وإذن فهؤلاء منتقون من كل عصر من العصور الثلاثة الأولى في المرحلة الزمنية المباركة ، وهم ليسوا على مذهب واحد وبالتالي انتفت المذهبية هنا .
ويذهب بعض الباحثين ( السيد محمد الكثيري في كتابه السلفية ..." بعد تتبع دقيق، يشكر عليه ويثاب إن شاء الله إلى القول " المقصود السلفية هم أولئك الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري ، وكانوا من الحنابلة ، وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيى عقيدة السلف ، وحارب دونها ، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري على يد ابن تيمية .. الذي أضاف إليهما أموراً أخرى .. ثم ظهرت تلك الآراء في القرن الثاني عشر الهجري على يد ابن عبد الوهاب.
وما زال الوهابيون ينادون بها " عن محمد أبو زهرة / المذاهب الإسلامية ص / 0311 ..
يتبين من خلال التعريف الذي وضعه أبو زهرة .. دعاة السلفية شريحة من اتباع المذهب الحنبلي ، مجرد شريحة وليس كل اتباع أحمد ، لأنهم اختصوا بآراء وأفكار ومذهب خاص في الأصول والعقائد ، بينما أحمد هو أحد الأئمة الأربعة المقلدين في الفقه ، وليس له في العقائد أو الأصول مذهب خاص به.
ولم يكن كل الحنابلة في الأصول ، على عقيدة أهل السنة من أشاعرة وما تريدية. فقد كان الحنابلة موزعين على عقائد شتى ، ومذاهب أصولية مختلفة ، فمنهم من كان أشعرياً ، ومنهم من كان صوفياً ، ومنهم مفوّضة يتبعون بعض السلف في مواقفهم وآرائهم العقائدية وأغلبيتهم ، وهم الشق الآخر كانوا حشوية ، يعتقدون بالتشبيه والتجسيم والقول بالجبر وغيرها من الآراء والمعتقدات ، التي تجند المعتزلة أولاً لمحاربتها ، ثم تصدى لها أهل السنة فيما بعد . والذين اشتهروا بالتجسيم تأثروا كثيراً بالإسرائيليات ، وباليهود الذين ادعو أنهم أسلموا، وظلوا على دينهم بالسر
وابن تيمية من هؤلاء الذين تأثروا بالتشبيه والتجسيم ، فجند نفسه لحمل هذه الرسالة وكافح من أحلها ومن أحلها مات بالسجن وكنا في مقالتنا السابقة قد بينا أثر التوراة وأثر الكرامية في فكره .
وبالمختصر فهؤلاء الحشوية المجسمة لا يعتبرون ، ولا يعدون من أهل السنة والجماعة ، بل على العكس من ذلك ، فقد كانوا منذ نشوئهم ، وما زالوا يحاربون أتباع الأئمة مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي. وقد سطر التاريخ الإسلامي لهذه الفئة صفحات سوداء في الماضي ، من إشاعة الفتن ، وتحريف وتشويش العقائد الإسلامية .وقد تصدى أحد علماء الشام ، ابن خليفة عليوي العالم الأزهري لأولئك الحشوية ، فقال : " لقد ظهرت في بلادنا الشامية طائفة تدعو إلى السلفية ومنهجها اعتناق الحشوية الحنبلية ، وتبديع أهل السنة والجماعة .." ابن حنيفة عليوي ، هذه عقيدة السلف والخلف .. / دمشق 1979 .
ويقول فيهم " أما أنتم أيها الحشوية الحنبلية في البلاد الشامية كفاكم شن الغارات على أهل السنة والجماعة بعاديات الأهواء ..".
وقد كان هؤلاء الحشوية في القرنين الرابع والخامس قد شنوا هجوماً دموياً على أهل السنة والجماعة في بغداد وغيرها حتى سالت شوارع وأزقة بغداد بدماء الشافعية ، والمالكية ، والأحناف وأصدروا الفتاوي في تكفير الشافعية ، كما يفعلون ، ويقولون في العصر الحديث .
وكان ابن رشد ، قد قال عن الحشوية التجسيمية " .. أن طريقة معرفة وجود الله تعالى ( عندهم ) هو السمع لا العقل .. وكان يسميها الفرقة الضالة ، وأشار إلى أنهم يعتمدون على النص وحده طريقاً إلى المعرفة الاعتقادية خاصة ، والدينية عامة ، ورفض العقل وأدلته . وقد وقعوا في سوء الفهم للنصوص الدينية ، والاعتماد على الأحاديث الضعيفة ، أو جرأتهم في تكذيب الأحاديث الصحيحة ، كما بين الألباني ذلك في حديثه عن ابن تيمية ، وقد بيناه في مقالتنا السابقة . وأكثر ما أوقعهم في التجسم والتشبيه النزوع إلى الفهم الحرفي لتلك النصوص .) د / حسين الشافعي إلى دراسة علم الكلام ص / 76 .
كما بينا في مقالتنا السابقة أن ابن تيمية لا يؤمن بالمجاز في القرآن الكريم ، وهذه من المسائل التي خالفه بها الألباني.
وكان عدة من المجوس وأحبار اليهود ، وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ، ثم راحوا يبثون ما عندهم من أساطير ، فتأثر بها ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة البسطاء ، فتلقفوها منهم ورددوها فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتقدات الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة ، ونشأ الحشو وترعرع . انظر ابن عساكر ( تبيين كذب المفتري ) مقدمة الشيخ محمد زاهر الكوثري ص / 10 .
ولا بد من الإشارة إلى الصهيونية الإسلامية ، والتي عرفت قديماً باسم الإسرائيليات فإن حشو الأحاديث والروايات التي لا أصل لها في أحاديث الرسول كان في أغلبه من الإسرائيليات ، لا سيما في القصص القرآني من خلال تفسير المتشابه من الآي الكريم . وكان جلة من رجال الأحاديث الأوائل قد اعتمد على تلك الإسرائيليات ونشرها في كتاب الحديث .
" وقد مثل هؤلاء الحشو الهائل في أحاديثهم الضعيفة ، فأجازوا على الله الملامسة والمصافحة والمزاورة وأن المخلصين من المسلمين يعاينونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا من الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص

وكانت فكرة التجسيم والتشبيه قد ازدهرت عند ابن كرام ت 255 هـ ( انظر مقالتنا السابقة عنه ) وكان فكره لا يتفق مع أهل السنة والجماعة ، ولهذا تتلمذ ابن تيمية على هذا الفكر وآمن به . ( انظر : نشأة الفكر السلفي ص 297 ) وعند الكرامية أن الرسول أدى الرسالة ، ومات فانتهى الرسول والمرسل وبقيت الرسالة ، ولهذا عندهم لا قيمة للرسول في قبره ، فلا تشد له الرحال ، ولا ضرورة لا سباغ القداسة على الرسول .
وقد أثرت الكرامية في ابن تيمية ، الذي أثر بدوره بابن عبد الوهاب ، لا سيما في مسألة جفاء الرسول فحمل ابن عبد الوهاب راية ( الدعوة الكرامية عن ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزيه ، بالسيف " حيث السعي الجاد اليوم لنشر هذه المعتقدات والآراء في العالم الإسلامي ، ومحاربة غيرها " وقد حصل لهم ذلك فسيطروا على أغلب الفكر الإسلامي في الجزائر ، وبعض الدول العربية والإسلامية .
وهذا ما عليه الوهابية اليوم من تيار حشوي له جذور عميقة في التاريخ الفكري وعقائده .. تكاد ترجو أغلب آرائه إلى الإسرائيليات .." السيد الكثيري مرجع سابق ص / 56 )وبالمختصر يجب أن ندرك ، ونتكلم بما ندركه ، فالناس اليوم صاروا أحوج ما يكونون للخروج من النفق المظلم الذي أدخلهم فيه دعاة التكفير ، ونحن في القرن الخامس عشر الهجري ، فإذا جاء الناس في القرن القادم الهجري وبقينا دون مقاومة هذا الفكر التكفيري بالحق .. الحق والفضح .. الفضح .. والتعرية !. التعرية .. ليدرك المسلمون القادمون أنهم تخلصوا من المبتدعين خوارج القرن العشرين ، والحادي والعشرين ، سيكونون دعاة للسخرية في عصر صار الماضي كله حاضراً ( في الحاضر ) من خلال تطور والعلم على أشكاله ، ولأنهم يعتقدون أنهم يمثلون الإسلام سيكون مدعاة للسخرية بقادم الزمان على كل حال ، إلا إذا كانوا يؤمنون أن عشرات السنين تفصل بينهم وبين يوم القيامة ، الذي لا يعلمه إلا الله.
ويظل السلفي هو ذلك الذي يؤمن بما جاء به النبي المتقيد بوصاياه ، ولا سيما أخرها الداعية إلى تحريم الدماء إلا بحق الله ، والقاضية بتحريم أموال الغير ، والداعية إلى صون أعراض الناس ، ذلك هو السلفي حقاً ، والإيمان بعظمة الله ورسوله ، وتوحيده أبد الآبدين وعدم الإشراك به ، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان حباً في الدين والديان ، تلك هي السلفية لأنها ستكون تحت مظلة الخيريّة .
كتب د. علي الشعيبي - خاص عربي برس