جان عزيز
للمرة الثانية في غضون نحو سبعة أشهر، يموت أحد أبناء بني سعود، من الشاغلين منصباً متقدماً ضمن تراتبية تلك العائلة. وللمرة الثانية نجدنا أمام سيل من الدجل الإعلامي ومن كتابة التبخير السياسي والاسترزاق الصحافي والابتذال التعبيري والخشبية اللغوية والفكرية، مما يلامس العهر الذهني الخالص، ومما لا قدرة لحد أدنى من كرامة بشرية أن تحتمله.
لا يقتصر الأمر على نوع معين من السياسيين. ولا هو حكر على من يشكل بنو سعود أولياء نعمهم. فهؤلاء ثمة ما يجعلك تفهمهم. مجرد فهمهم. من دون أن يعني الفهم قطعاً لا التبرير ولا القبول ولا حتى التفهم. لكن الأسوأ أن ظاهرة التسول الرثائي الدجال تلك، لم تعد محصورة بالصفحات الصفراء من كتاتيب البلاط وحاشياته، بل باتت موصولة بأسماء مفترضة بعيدة عن تلك السوق العمومية. كتب أحد هؤلاء عن الميت، أنه «كان رجل الدولة الساهر على أمن الوطن والمواطن. الحزم حاضر لترويض العواصف والحوار مفتوح لاستعادة الضالين. الصلابة لا توصد الأبواب. كان رجل الدولة الكامل الولاء والوفاء». أضاف آخر إن من إنجازات الميت أن أميركا باتت تعتمد نهجه الأمني في مكافحة الإرهاب (!) وإنه «كان أولاً وأخيراً وطنياً سعودياً يقدم مصلحة بلده كما يراها على كل مصلحة أخرى، ولا يخاف من اتخاذ موقف حازم جريء عندما تدعو الحاجة (...) ابن بار لبلده وأمته». أما الأسماء والصفحات الأقل رصانة وحصافة، فسالت أريحيات «شحاذتها» المهنية: «أصبح الوطن والمواطن على خبر جلل: ...«فقدنا رجل دولة من طراز نادر»... «الأناة والحلم كانا من طباعه يبذلهما مع القدرة على غيرهما، وعُرف بالإنصات لمن يحدثه مهما كان شخصاً بسيطاً (...) «مع رحيله، فقدت المملكة ركناً كبيراً من أركان نهضتها وتطورها، وقائداً من قادتها المميزين، ورائداً من رواد بنائها، الذي اشتهر بعطاءاته، وإخلاصه، وتفانيه» (...) «شخصية فذة، نذرت حياتها للدفاع عن قضاياها وحماية مقدراتها، في مواجهة العابثين بأمنها والطامعين بخيراتها، وإن اسم الراحل الكبير ارتبط بالتواضع، وبصفات إنسانية، عاشها أفراد الشعب السعودي».
معقول؟ هذا الكلام عن مسؤول في النظام الوحيد على وجه الأرض الذي جعل شعباً ووطناً ودولة، بلا هوية ولا انتماء غير التبعية الاستعبادية لأوتوقراطية عائلية؟ هذا المديح لتركيبة سلطوية أقرنت أوتوقراطيتها بالتيوقراطية الأسوأ في الزمنين الحديث والمعاصر؟ هل يعقل هذا الكذب السافر حيال التركيبة السلطوية الوحيدة في عالم اليوم، التي تنتهك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في ثلاثين مادة فقط من مواده الثلاثين؟ مبالغة هذا القول؟ تعالوا نقيم الجردة كاملة: من «الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية»، إلى «الحق في حرية التفكير والضمير والدين، والذي يشمل حرية تغيير الديانة أو العقيدة، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك سراً أو مع الجماعة»، مع ما بينهما من أبسط مقتضيات الكرامة البشرية. كل حرف من تلك الحقوق الأصيلة الثابتة، وغير القابلة للتصرف أو التنازل عنها، انتهكه نظام الشخص الميت قبل يومين، وداسته سلطة عائلته دوساً. ومع ذلك تقرأ كل ذلك الخبث السياسي والإعلامي. أحد الذين نعوه بكلام مقزز في بهتانه، هو نفسه من أخبر جهة قضائية دولية قبل مدة أن الناس في تلك الأرض المظلومة، يقولون عن نجل الميت إنه «سفاح». قد لا يكون هذا رأي من نقل القول. لكن الأخطر والأكثر مدعاة للأسى أنه قال إنه رأى الناس هناك في ابن المسؤول الميت. وهو في موقع يمكنه من الإدراك فعلاً أنه رأي الناس حقاً. كيف يفسر هذا الناعي ازدواجية وجدانه ولسانه تلك؟ أحد النواب، ويحرص على تصنيف نفسه «مارونياً»، نعى الميت متحدثاً عن «صفاته الإنسانية». يا أخي، عمَّ تتكلم؟ هل تعرف اسم أمه؟ اسم زوجة من زوجاته؟ اسم فتاة من بناته؟ كيف لك أن اكتشفت تلك الفضائل والخصائل، حيث أجمل ما في خلق الأرض، وهي المرأة، مسحوقة حتى الوأد؟
نائب آخر، ومن حزب عريق في «مارونيته السياسية» أيضاً، وصف الموت نفسه بأنه «خسارة للدول العربية والإسلامية» (!) عن أي خسارة تتحدث يا ولد؟ ألم يخبرك المرحوم والدك كيف وقف ابن شقيق الميت يؤنبهم ويوبخهم قبل عقدين ونيف في الطائف؟ وكيف أنهم تحت وطأة الأطماع والأوهام، لم يخرج منهم من يجيب بكلمة، إلا بطرس حرب، للأمانة والتاريخ؟
هل يُعقل ألا يكون كل المتباكين على علم بكل ما سبق؟ جهلة يا ترى؟ أم خبثاء؟ في الحالتين، لا بد من مطالبتهم بأن يتركوا مساحة في فكرنا لغير العهر، أن يتركوا صفحة واحدة بلا ضوع دنانير، قلماً واحداً بلا قطرات نفط أسود. ذلك أنه صحيح أن للموت حرمة. لكن حرمة الحقيقة أقدس وأوجب.
سياسة
العدد ١٧٣٥ الثلاثاء ١٩ حزيران ٢٠١٢
http://www.al-akhbar.com/node/95726
للمرة الثانية في غضون نحو سبعة أشهر، يموت أحد أبناء بني سعود، من الشاغلين منصباً متقدماً ضمن تراتبية تلك العائلة. وللمرة الثانية نجدنا أمام سيل من الدجل الإعلامي ومن كتابة التبخير السياسي والاسترزاق الصحافي والابتذال التعبيري والخشبية اللغوية والفكرية، مما يلامس العهر الذهني الخالص، ومما لا قدرة لحد أدنى من كرامة بشرية أن تحتمله.
لا يقتصر الأمر على نوع معين من السياسيين. ولا هو حكر على من يشكل بنو سعود أولياء نعمهم. فهؤلاء ثمة ما يجعلك تفهمهم. مجرد فهمهم. من دون أن يعني الفهم قطعاً لا التبرير ولا القبول ولا حتى التفهم. لكن الأسوأ أن ظاهرة التسول الرثائي الدجال تلك، لم تعد محصورة بالصفحات الصفراء من كتاتيب البلاط وحاشياته، بل باتت موصولة بأسماء مفترضة بعيدة عن تلك السوق العمومية. كتب أحد هؤلاء عن الميت، أنه «كان رجل الدولة الساهر على أمن الوطن والمواطن. الحزم حاضر لترويض العواصف والحوار مفتوح لاستعادة الضالين. الصلابة لا توصد الأبواب. كان رجل الدولة الكامل الولاء والوفاء». أضاف آخر إن من إنجازات الميت أن أميركا باتت تعتمد نهجه الأمني في مكافحة الإرهاب (!) وإنه «كان أولاً وأخيراً وطنياً سعودياً يقدم مصلحة بلده كما يراها على كل مصلحة أخرى، ولا يخاف من اتخاذ موقف حازم جريء عندما تدعو الحاجة (...) ابن بار لبلده وأمته». أما الأسماء والصفحات الأقل رصانة وحصافة، فسالت أريحيات «شحاذتها» المهنية: «أصبح الوطن والمواطن على خبر جلل: ...«فقدنا رجل دولة من طراز نادر»... «الأناة والحلم كانا من طباعه يبذلهما مع القدرة على غيرهما، وعُرف بالإنصات لمن يحدثه مهما كان شخصاً بسيطاً (...) «مع رحيله، فقدت المملكة ركناً كبيراً من أركان نهضتها وتطورها، وقائداً من قادتها المميزين، ورائداً من رواد بنائها، الذي اشتهر بعطاءاته، وإخلاصه، وتفانيه» (...) «شخصية فذة، نذرت حياتها للدفاع عن قضاياها وحماية مقدراتها، في مواجهة العابثين بأمنها والطامعين بخيراتها، وإن اسم الراحل الكبير ارتبط بالتواضع، وبصفات إنسانية، عاشها أفراد الشعب السعودي».
معقول؟ هذا الكلام عن مسؤول في النظام الوحيد على وجه الأرض الذي جعل شعباً ووطناً ودولة، بلا هوية ولا انتماء غير التبعية الاستعبادية لأوتوقراطية عائلية؟ هذا المديح لتركيبة سلطوية أقرنت أوتوقراطيتها بالتيوقراطية الأسوأ في الزمنين الحديث والمعاصر؟ هل يعقل هذا الكذب السافر حيال التركيبة السلطوية الوحيدة في عالم اليوم، التي تنتهك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في ثلاثين مادة فقط من مواده الثلاثين؟ مبالغة هذا القول؟ تعالوا نقيم الجردة كاملة: من «الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية»، إلى «الحق في حرية التفكير والضمير والدين، والذي يشمل حرية تغيير الديانة أو العقيدة، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك سراً أو مع الجماعة»، مع ما بينهما من أبسط مقتضيات الكرامة البشرية. كل حرف من تلك الحقوق الأصيلة الثابتة، وغير القابلة للتصرف أو التنازل عنها، انتهكه نظام الشخص الميت قبل يومين، وداسته سلطة عائلته دوساً. ومع ذلك تقرأ كل ذلك الخبث السياسي والإعلامي. أحد الذين نعوه بكلام مقزز في بهتانه، هو نفسه من أخبر جهة قضائية دولية قبل مدة أن الناس في تلك الأرض المظلومة، يقولون عن نجل الميت إنه «سفاح». قد لا يكون هذا رأي من نقل القول. لكن الأخطر والأكثر مدعاة للأسى أنه قال إنه رأى الناس هناك في ابن المسؤول الميت. وهو في موقع يمكنه من الإدراك فعلاً أنه رأي الناس حقاً. كيف يفسر هذا الناعي ازدواجية وجدانه ولسانه تلك؟ أحد النواب، ويحرص على تصنيف نفسه «مارونياً»، نعى الميت متحدثاً عن «صفاته الإنسانية». يا أخي، عمَّ تتكلم؟ هل تعرف اسم أمه؟ اسم زوجة من زوجاته؟ اسم فتاة من بناته؟ كيف لك أن اكتشفت تلك الفضائل والخصائل، حيث أجمل ما في خلق الأرض، وهي المرأة، مسحوقة حتى الوأد؟
نائب آخر، ومن حزب عريق في «مارونيته السياسية» أيضاً، وصف الموت نفسه بأنه «خسارة للدول العربية والإسلامية» (!) عن أي خسارة تتحدث يا ولد؟ ألم يخبرك المرحوم والدك كيف وقف ابن شقيق الميت يؤنبهم ويوبخهم قبل عقدين ونيف في الطائف؟ وكيف أنهم تحت وطأة الأطماع والأوهام، لم يخرج منهم من يجيب بكلمة، إلا بطرس حرب، للأمانة والتاريخ؟
هل يُعقل ألا يكون كل المتباكين على علم بكل ما سبق؟ جهلة يا ترى؟ أم خبثاء؟ في الحالتين، لا بد من مطالبتهم بأن يتركوا مساحة في فكرنا لغير العهر، أن يتركوا صفحة واحدة بلا ضوع دنانير، قلماً واحداً بلا قطرات نفط أسود. ذلك أنه صحيح أن للموت حرمة. لكن حرمة الحقيقة أقدس وأوجب.
سياسة
العدد ١٧٣٥ الثلاثاء ١٩ حزيران ٢٠١٢
http://www.al-akhbar.com/node/95726
تعليق