خطر الدعوة الى معرفة الله بمعرفة النفس

(الشيخ علي الكوراني)
كان التصوف في الأمة وما زال تياراً قوياً وجذاباً ، وبسبب بُعده عن أهل البيت عليهم السلام كان الخطأ فيه أكثر من الصواب ، والكذابون أكثر من الصادقين ، ولقلقة اللسان أكثر من عقد الجنان .
أما دليله العلمي فأشهره منهج معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس وقد نظَّرَ له المتأثرون بالفلسفة اليونانية وكتبوا فيه واستدلوا لها بآيات وأحاديث ، وهو الطريقة الأكثر رواجاً في قم والنجف وغيرهما .
ومن أعلامه السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان رحمه الله وهذه فقرات من كلامه المطول في تفسيره:6/169: (في الغرر والدرر للآمدي عن علي عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه. أقول ورواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله أيضاً وهو حديث مشهور ، وقد ذكر بعض العلماء أنه من تعليق المحال ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه. ورُدَّ أولاً، بقوله صلى الله عليه وآله في رواية أخرى:أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه. وثانياً،بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ . وفيه عنه عليه السلام : قال الكيِّس من عرف نفسه وأخلص أعماله...
وفيه عنه عليه السلام قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين. أقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الأفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدٌ.(حم السجده:53)وقال تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.(الذاريات: 21). وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لاتنفك عادةً من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية....وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين...
فتلخص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه ، بها يهتدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية....
وفي الدرر والغرر عن علي عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها . أقول: أي أعتقها عن إسارة الهوى وَرِقِّية الشهوات . وفيه، عنه عليه السلام قال: أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه...
وأما سائر الفرق المذهبية ، من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس والأوهام ، وكأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الحكمة ، وغيرهم ، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس... وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها ، للحصول على حقيقة المعرفة...
وأما الصابئون ، ونعني بهم أصحاب الروحانيات ، فهم وإن أنكروا أمر النبوة ، غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيين...
وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الإختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد ، لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة .
وأما المانوية من الثنوية ، فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان ، وأن سعادتها وكمالها التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور ، إما اختياراً بالترويض النفساني ، وإما اضطراراً بالموت الطبيعي المعروف.
وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس ، فكتبهم المقدسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا ، مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها...وأما الفرق المختلفة من أصحاب الإرتياضات والأعمال النفسية ، كأصحاب السحر والسيمياء ، وأصحاب الطلسمات وتسخير الأرواح والجن ، وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها ، وأصحاب الإحضار وتسخير النفوس ، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس....
وجملة الأمر على مايتحصل من جميع ما مرَّ: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان والمذاهب والأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها ، والإشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق والأحوال غير المناسبة للمطلوب..
فالأعمال والمجاهدات والإرتياضات الدينية ترجع جميعاً إلى نوع من الإشتغال بأمر النفس...فظهر بهذا البيان أن الأديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها تروم الإشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا...
إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف، أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين.... والتأمل العميق في جميع الأديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية ، وإنما وقع الإختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل والإصابة والخطأ فيه...
واعلم أن عرفان النفس بغيةٌ عملية لايحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري...). انتهى
يتبع....
يتبع....
تعليق