
سـيرة بغدادية من داخل الحلم
الحصار وشبح حرب، وكيف تعيشون؟ قلت: مع نهار كل يوم جديد نخترع سعادات صغيرة نتمسك بها حتى نهاية اليوم.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: نرمين المفتي
في البدء أقول إن "سيرة بغدادية" التي كتبها محمد الحجيري في الملحق الثقافي في النهار ليوم 16-2-03 ، كانت جميلة وشجية تبعث على الأسى، لكنه نظر الى بغداد الان من الخارج. وها انا احاول ان اكتب بعض سيرتها من الداخل.
بغداد…
قبيل صلاة المغرب والاف الزوار في مختلف مراقدها حيث القباب والمآذن الذهبية وحيث الساعات القديمة. تدق الساعة في الحضرة الكيلانية والقريبة من قبة بيضاء ضخمة يقال انها الاضخم بين جوامع العالم كما كان يحلم مهندسها الذي لا يعرف الكثيرون انه سنان باشا المعماري العثماني المعروف، مهندس اجمل القصور والجوامع العثمانية. تدق الساعة وتدق القلوب. يوم آخر يمضي دون حرب. وربما لم يمض بعد، فالليل آت وما تزال القلوب المتمسكة ببغداد الما وحلما لم تغادر ذاكرتها تلك الليلة التي ترفض النسيان، ليلة هوجمت بها عند اول دقيقة حرب بالفين طائرة.
بغداد….
الحلم. يقول الخطيب البغدادي ان الشيخ معروف الكرخي الذي غادر مدينته بعد ان اشهر إسلامه وهو النصراني، تنقل كثيرا الى ان وصل بغداد وسكن حيث يدفن بعد وفاته. وفي يوم ما يأتيه تابعه محذرا ان أهله عرفوا مكانه وسيصلون مع الصباح لقتله. يصلي الشيخ الفجر ويلم حاجياته القليلة ويأخذه النوم ليحلم بمن يخبره ان لا يغادر بغداد التي دفن فيها ألف ولي وولي كفيلين بحمايتها وحمايته ويقرر البقاء. ويتحول مرقده الى مزار ويدفن الآلاف قربه. وتتحول المنطقة بأكملها الى مزار للحب وعلى مبعدة خطوات دفن الجنيد البغدادي والحلاج وهنا مقام ابن عربي. بغداد، قلب العراق ومرة أخرى تتذكر القلوب المتمسكة بها تلك الرواية التي يتناقلها العراقيون شفهيا من جيل الى آخر والتي تقول بان ادم (ع) استمر يبكي لسنوات متضرعا الى الله سبحانه ان ينزله بمكان يشبه الجنة التي طرد منها. ويستجيب الله وينزله في القرنة، جنوب العراق، وهناك يلتقي بحواء ليرتبطا بأول فعل حب حقيقي في التاريخ، ذلك الفعل الذي انجب البشرية.
بغداد….
حتى الأشجار العملاقة في منطقة الوزيرية والتي حفظت جذوعها قصص وذكريات الاف الطلبة من جامعتي بغداد والمستنصرية تبدو حزينة. تهدلت اغصانها وشحبت اوراقها وكأن السهام التي ادخلها المحبون في قلوب جذوعها بدأت الان فقط توجعها وتوجع الباحثون عن ذكرى قديمة ليلجئوا من الاتي اليها! ولكن الاشجار بدورها تبحث عما تلجأ اليها. وتدفن اوراقها بالسهام. ويبقى المتمسكون ببغداد ينامون مفتوحي العيون. فالنوم يعني الحلم والموت في ظل الحصار اسهل من الحلم، والامس افضل من الغد. فغد الحصار لا نعلم من سيخطف موتا، سفرا ام صمتا؟ انه الحصار نفسه الذي يترك اثره كل يوم في مقهى الشابندر اذ يخطف الموت الاصدقاء واحدا تلو آخر. ورعد عبد القادر الشاعر الرائع لن يكون الاخير. ورغم الموت والحصار، فان بغداد تصر على الحياة مع كل يوم جمعة. اليوم الذي تلتقي به بمن يتمسك قلبه بها ولم يغادرها رغم كل شيء تلتقي بهم عند شارع المتنبي وسوق السراي. تناقشهم باحدث ما صدر وتتحدث مع شبكات التلفزة العربية والاجنبية ومن ثم ترتاح معهم في مقهى الشابندر او في مقهى حسن عجمي. هنا، تعلم المحبون كيفية الـتأقلم والاصرار على الحياة والتواصل واخترعوا ثقافة الاستنساخ. وهذه ثقافة جد بعيدة عن الرائيلين المستنسخين للبشر. هنا، يستمر التواصل من خلال استنساخ احدث كتاب صدر في الخارج وبمختلف اللغات. وبين الكتب التي يبعث بها الاصدقاء كتاب او اكثر لـ"عراقيين" قرروا ترك بغداد وبينهم من شاركوا في تخريبها بشكل او بآخر وغادروا ليمعنوا في التخريب باحثا عن بطولة زائفة من خلال قصيدة، رواية او مؤتمر، مستغلين تعب الحصار متخيلين بأننا نسينا ما ارتكبوه.
بغداد…
الحصار وشبح حرب، وكيف تعيشون؟ سألتني صديقة لبنانية تعيش في الامارات، التقيتها في احد تجمعات القاهرة. قلت لها من خلال لعبة الحب والحلم. مع نهار كل يوم جديد نخترع سعادات صغيرة نتمسك بها حتى نهاية اليوم، وهكذا على مدى السنوات التي مرت. هي ليست بلعبة سهلة والقلب لا يتحمل ان يرى وجه بغداد مجروحا بفعل صاروخ او كلمة مرة اخرى. لكننا اتقنا هذه اللعبة بكفاءة ثقافة الاستنساخ. لقد خلقنا لنخترع الحب والحلم.
بغداد…
ومثل تركي يقول "لا توجد حبيبة مثل الام ولا يوجد بلد مثل بغداد". بغداد المتبغددة رغم الالم. والبغددة، الكلمة التي نحتتها العرب من بغداد، تعني عند اهل الشام الدلال والجمال والاناقة وتعني عند اهل مصر الثراء والكرم. تعالوا وانظروا الى نخلتها. قطعا لا تشبهها اية نخلة اخرى في العالم. حتى النخلة التي ذبل سعفها بسبب العطش او بتأثير الاسلحة التي استخدمت في حرب 1991 ما تزال متمسكة بالارض. تقف كشمعة مستعدة على الاحتراق لانارة ليل الحرب التي يؤكدون بانها قادمة مرة اخرى. وفي ساحة التحرير، وسط بغداد، يحاط القلب بـ"حريتين وام" وبصمات اجمل فناني العراق. جدارية الحرية لفائق حسن ونصب الحرية لجواد سليم وتمثال الام لخالد الرحال. ونقطع مسافة صغيرة الى شارع "ابو نؤاس" و لابد من المرور بنهاية شارع الرشيد. عند الزاوية، ما تزال تسجيلات الجقماقجي في المكان نفسه منذ عقود طويلة. وفي الداخل وعلى الجدران صور ذلك الزمن الجميل الذي يبدو الان بعيدا جدا وصوت القبانجي يأتي من اسطوانة لم يتعبها الدوران
وسلام على دار السلام جزيل
وعتبي على ان العتاب طويل
أبغداد لا اهوى سواك مدينة
ومالي عن ام العراق بديل.
ونعبر الشارع الى "البيت العراقي" او كما يسميها اصدقاء البيت وصاحبتها السيدة امل الخضيري "بقعة الحلم".. بيت بغدادي قديم يحتفظ بالعمارة البغدادية المميزة. حوش وحديقة في الداخل ودلكات خشبية و رازقي (فل) بغدادي رائحته ازكى من الكاردينيا وصور اعمار البيت. كان البيت قد تهدم مع ضرب جسر الجمهورية الملاصق له في حرب 1991. واصرت السيدة الخضيري على اعادة اعماره واعادت افتتاحه يوم افتتح العراقيون الجسر بعد اعادة تشييده. ومن سطح البيت العراقي يبدو النهر، دجلة، قريبا وحميما ومستعدا كدأبه ان يمسح التعب بـ"مويجة" حنينة تنسي مؤقتا تهديدات الحرب. وعلى مبعدة خطوات تمثال ابو نؤاس الذي لم يهدم وما يزال يمد يده ممسكا بقدحه شاربا نخب الصادقين فقط ونسير لنقف مستمعين باعجاب الى شهرزاد التي ابدعها الفنان الكبير محمد غني حكمت. شهرزاد البغدادية هذه ليست شهرزاد التي تتحدث عنها الاساطير جالسة عند قدمي شهريار. انها واقفة ووجهها نحو الاخرين وشهريار ينظر اليها متوسلا كلمة. وفي مكان آخر من بغداد يقف المتنبي بشموخه الصحراوي ورأسه الممتلئ فخرا وشعرا. بتقاطيع وجه يشبه محمد غني الذي يقول : لم اجد شخصا غيري يشبه المتنبي، لذلك قررت ان انحته بشكلي. وبغداد تستعير شعره الذي نظر اليه الاعمى وتقول "انا من ينظر الاعمى الى صبرها".
بغداد….
والمدرسة المستنصرية اقدم جامعة في التاريخ والتي احتضنت لوحات رشيد القريشي (الجزائري) في امسية عباسية جميلة وفي كل زاوية يكمن حلم طالب عباسي استمر الى الان باحثا وناجحا وعلى امتداد النهر يبدو القصر العباسي الذي يقال ان الرشيد بناه لاخته العباسة لابعادها عن المطرب الذي احبته. كل زاوية فيه تنادي بالحب والى الحب لأتساءل ان كان الرشيد بناه ليبعد العباسة عن الحب او ليضعها في خضم الحب؟ انها بغداد لا تصلح سوى للحب والكتاب الوحيد الذي نجا من محرقة هولاكو تحتفظ به مكتبة الحضرة الكيلانية ليبقى شاهدا بان بغداد استطاعت ان تعيد مجدها من خلال هذا الكتاب وحده. انها بغداد التي يقول عبد الرحمن منيف في مقدمة روايته "ارض السواد" بانه رضع حبها مع حليب امه.
بغداد…
والحرب على الابواب مرة اخرى، افتحي قلبك، اجمعينا به ونحن سنفتح عيوننا لنحفظك ولن يحتلك الامريكان او "ابناؤك" العاقون الا اذا احتلوا العيون.. وتدق الساعة..