فتحت المدارس أبوابها
الانسان الذي يستطيع ان يكيف نفسه وفقاً لبيئته وروح عصره تكتب له الحياة ، ويكون عضواً فاعلاًفي مجتمعه ، أما الذي يعجز عن ذلك ، فانه يموت موتاً ، وان هو بقي على قيد الحياة ، فانه يعيش على هامشها ، ويظل عالة على أهله ومواطنيه ، والتربية في نظر العالم هي عملية تكيف ما بين المتعلم وبيئته ، غير ان التربويين على مر العصور قد اختلفوا في هذا الراي ، فمنهم من قال هي عملية يلقن بها المتعلم معلومات في مختلف مواد التعليم، ومنهم من ذهب ان التربية عملية تتفتح بها قابليات المتعلم الكامنة ، كما تتفتح النباتات والأزهار ، اي ان الطفل مجموعة من القابليات ، وما وظيفة التربية الا العمل في سبيل تفتح هذه القابليات ونموها .
لقد ظهرت الضرورة الملحة لخلق المدرسة عندما أخذت الثقافة الاجتماعية تأخذ شكلاً مكتوباً، فعندما إخترعت الكتابة في الأزمنة القديمة كان على الشباب ان يتعلم رموز اللغة المكتوبة ، وقد أدى هذا الى أن يقوم بعض البالغين بتعليم الشباب مبادئ القراءة والكتابة ، وبناء على هذا فانه يمكن القول ان معرفة الكتابة وإختراعها قد أدى بدوره الى ظهور المدرسة ، والى جماعة المدرسين المحترفين لهذه المهنة .
المدرسة هي الأداة التي تعمل مع الأسرة على تربية الطفل ، لان الاسرة لا تستطيع القيام بمفردها بوظيفة التربية ، ولان التربية عملية تخصص تحتاج الى مربين لهم خبراتهم ومعرفتهم بطبيعة الطفل ، وما تحتاج اليه من وسط مناسب ، وأدوات ومعلومات ، وجو يستثير نشاطه ، ورغبته في العمل والتعليم ، وفي المدرسة يجد الطفل من زملائه وأقرانه الصغار من يألفهم ويشاركهم العابهم وأغانيهم وأناشيدهم ، ويتعلم منهم ، ويشعر بينهم بعضويته في مجتمعهم ، فهو اذاً واجد بينهم المجتمع الذي يصلح له ، والذي يشجعه على التعبير عن ميوله وغرائزه .
المدرسة وسيلة للتربية الديمقراطية ، وتتاح فيها الفرصة للقدرات الطبيعية العقلية الخاصة والعامة ، وللظهور والنمو، وقد أثبت الواقع ان الطفل في المدرسة التقليدية يميل الى الهرب، كأنه يرى المدرسة شبحاً رهيباً يخشاه ويحتال على النفور منه ، في حين أن المدارس النموذجية لها جاذبية تجعل التلميذ مدعواً إليها عن رضى ورغبة لأنها قريبة الى نفسه .
في المدرسة النموذجية تتحطم الحواجز بين المدرس والتلميذ ، والتلاميذ فيها شعلة ملتهبة ، محبون للحركة ، دائمو النشاط ، يقبلون على مصادر المعرفة في شغف نابع من الأعماق ، و صفوفهم كخلية من النحل ، والمدرسة النموذجية مصدر تربية للآباء على فنون الأبوة ، ومعهد تدرس فيها الامهات فنون الأمومة ، أبوابها مشرعة أمام الآباء والأمهات يزورونها في فصولها ناقدين وموجهين ، وهي تتقبل النقد وتعمل بالتوجيه ، كما تفتح أبوابها لرجال التربية والتعليم ليروا بأعينهم المدرسين وهم يقومون بالتدريس ، والطفل في المدرسة النموذجية معتمد على نفسه ، شجاع في إبداء آرائه ، لطيف في حديثه ، مؤدب في طرائفه ونكاته ، حازم في أحكامه ، جاد في تصرفاته .
أين نحن في مدارسنا من كل ما سبق من مواصفات في المدرسة النموذجية ؟ ، وهل وصلنا بمدارسنا لمثل هذا النوع من المدارس ، ام ان مدارسنا موحشة يدفع اليها الطالب دفعاً ، معرفتها سطحية ، معلمها متولول كثير الشكوى ، مديرها موظف لا يتمتع بمواصفات القائد التربوي الميداني ، مواصفات المقاتل التربوي المسكون بالانتماء لوطن وأمة ومجتمع؟، مانوع المعرفة التي يتغذى بها ابناؤنا ، هل هي معرفة للاعداد للحياة وتسليحه بعدة المستقبل ، ام معرفة عفا عليها الزمان فباتت منزوعة من الاوراق الصفراء التي باتت لا تسمن ولا تغني من جوع .
لن نعطي الحكم بانفسنا على واقعنا التربوي ، بل على كل من ينتسب الى عالم التمدرس ان يمعن فيما سلف ، فان كنا في مقاربة مع ما سبق فلا نملك الا ان نقول الحمد لله ، ولكن لابد ان نغذ الخطى ، وان كانت مدارسنا بيوت خاوية عروشها ، متساقطة جدرانها ، تكاد تدمر حياة الساكنين فيها ، فاننا جميعاً مدعوون ان نعيد النظر في مسيرتنا التربوية .
فتحت المدارس ابوابها فاية مدارس هذه ، واية ابواب نعني ، فالمدارس باتت على انواع واصناف ، والابواب منها الخشبي ، ومنها الحديدي ، ومنها موصود مغلق في وجه المعرفة والانفتاح والتطور ، ومنها ما هو مشرع امام رياح التقدم والتغيير ، فان كانت التربية البيت الثاني لأطفالنا ، فهل يتمتع هذا البيت بجميع متطلبات الحياة للانسان ، وأي انسان نريد ، هل المتسلح بالمعرفة ، الجريئ في قول الحق ، الشجاع الذي لا يخاف في الحق لومة لائم ، على وعي أن الاعناق والارزاق بيد واحد أحد ، الانسان الذي يحترم رأي الآخر وعقله ، لايدب على من اختلف معه بعصاه ، او بتشويه انسانيته .
فتحت المدارس أبوابها فهل نحن على وعي بدورنا ودور المدرسة ، كلنا اعضاء هيئة تدريس واداريين وفنيين ومستخدمين ، مسؤولين وموظفين ، في الميدان وفي المركز ، في جميع مفاصل المجتمع والدولة ، ان كانت التربية تهم الجميع ومسؤولية الجميع ، فالتربية مسؤولية كل واحد من افراد المجتمع ، لانها في كل بيت ، وهي بوصلة الدولة لاحداث التطور والتقدم والرقي ، فما من أمة وصلت الى التقدم والرقي الا من خلال بوابة التربية .
نحن نتطلع ان نفتح أبواب المعرفة الموصدة في وجوهنا ، والتي سبقنا غيرنا بالولوج اليها، فانجزوا منجزات العلم والتكنولوجيا ، فبتنا بعيدين عن التقدم الى الامام ، بل بتنا بمواصفات التاءات الثلاث : التبعية والتخلف والتجزأة ، على الرغم ان لنا ارثنا الحضاري وبيدنا منهاج حياة ، صنعنا من خلاله وحدتنا مقابل تجزأتنا ، وتقدمنا مقابل تخلفنا ، واستقلالنا وحريتنا مقابل تبعيتنا ، فنحن قادرون ان نعيد لأنفسنا وأمتنا من خلال التربية ما نصبو اليه .
الدكتور غالب الفريجات
تعليق