مزار الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام
في النجف الأشرف
مشهد الإمام عليّ عليه السّلام عبر العصور
إنّ موضع القبر ظلّ سراً مكتوماً لا يعرفه إلاّ أهل البيت عليهم السّلام وخواصّ شيعتهم إلى انقضاء دولة الاُمويين ومجيء دولة العباسيين، فحينئذ دلّ العلويون بعض الشيعة عليه، وصاروا يتعاهدونه، وصار في معرض الظهور والخفاء، يُثْبته قوم وينفيه آخرون.
فلما رأى داود بن عليّ العباسي إقبال الناس على موضع القبر أمر ـ على ما قيل ـ بعض الفعلة بالمضي إلى هذا القبر الذي افتُتن به الناس، ويقولون: إنه قبر عليّ، حتّى ينبشوه ويجيئوه بأقصى ما فيه، فمضوا إليه وحفروا خمسة أذرع فوصلوا إلى موضع صلب لم يقدروا عليه، فاستعانوا بغلام معروف بالشدة، ولكن هذا الغلام بعد أن ضرب ثلاث ضربات صاح، وصار لحمه ينتثر إلى أن مات، فلما عرف داود بالأمر تاب، وأمر عليَّ بن مصعب بن جابر بأن يبني على القبر صندوقاً، ففعل.
ولكن مطاردة العباسيين للعلويين وشيعتهم أوجبت أن يُهجَر القبر من جديد، فلا يزوره زائر إلا خلسة.
ثمّ جاء أبو جعفر المنصور وحاول أن ينبش القبر، فأمر غلامه بذلك، فبدأ بالحفر حتّى ظهر له القبر، ثمّ أمر بطمّه، وصرفه الله عنه.
وبعد ذلك، وفي زمن الرشيد، عاد القبر إلى الظهور من جديد في قصة معروفة جرت للرشيد وهو يتصيّد حول القبر، حيث رأى الظِّباء تحتمي بالأكمَة التي فيها القبر، فلا تقتحم كلابُ الصيد وطيور الباز إليها، الأمر الذي أثار عجَبه، فسأل أحدَ شيوخ الكوفة عن ذلك، فأخبره أنها تلوذ بقبر الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. فكان أن أقام أول عمارة على القبر، وهو بناء مربع الشكل مبنيّ بحجارة بيضاء فوقه قبة من الطين الأحمر فوقها جرة خضراء.
وبعد ذلك جاء المتوكل العباسي، فخرّب عمارة النجف كما خرب عمارة الحسين عليه السّلام. ثمّ قام بالعمارة الثالثة عمر بن يحيى القائم بالكوفة المقتول سنة 250 هـ.
وكانت العمارة الرابعة على يد محمّد بن زيد الداعي المقتول سنة 287هـ، والذي ولي إمرة طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد، فإنّه بنى على القبر الشريف قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقاً، والظاهر أنّ هذه العمارة هي التي أعقبت خراب المتوكل لبناء القبر كما يظهر من تاريخ طبرستان (الفارسي) ج 1 ص 95.
ثمّ كانت العمارة الخامسة على يد أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان المقتول سنة 317 هـ، وسترها بفاخر الستور، وفرشها بثمين الحُصر.
وبعد ذلك كانت العمارة السادسة، وهي أجلّ العمارات وأحسنها، على يد عضد الدولة المتوفّى سنة 372هـ، أو 373هـ، وقد بذل عليها الأموال الجزيلة، وجلب إليها الزارة والنجارة والعملة من سائر الأقطار.
وقد شاهد هذه العمارةَ الرحالة ابن بطّوطة ووصفها حين وروده النجف سنة 727هـ بأنها: «معمورة أحسن عمارة، وحيطانها مزينة بالقاشاني، وهو شبه الزليج عندنا لكنّ لونه أشرق، ونقشه أحسن، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضّة وكذلك العضادتان، ثمّ يدخل بعد ذلك إلى القبة، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوّة بالخشب، عليها صفائح الذهب المنقوشة المُحكمة العمل، مسمّرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب، لا يظهر منه شيء. وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه السّلام، والثاني قبر نوح عليه السّلام، والثالث قبر الإمام عليّ عليه السّلام. وبين القبور طشوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطِّيِب، يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن بها وجهه تبرّكاً، وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضّة، وعليه ستور الحرير الملوّن، يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربع أبواب عتبتها فضة، وعليها ستور الحرير...».
لكنّ هذه العمارة وإن كان تأسيسها يرجع إلى عضد الدولة، إلا أنّه قد طرأت عليها إصلاحات كثيرة، وتحسينات ثمنية من البويهيين أنفسهم ووزرائهم ومن الحمدانيين، وبعض العباسيين المتشيّعين.
فإنّ المستنصر العباسي قد عمّر الضريح المقدس، وبالغ فيه، وزاره مراراً، وكذلك فقد أصلحه وحسّن فيه وفي الأبنية الملحقة به المسلمون من أسرة جنكيزخان وغيرهم.. ولكنّ عمارة عضد الدولة هذه قد احترقت في سنة 755 هـ وكانت حيطانها قد سترت بخشب الساج المنقوش، فجُدّدت عمارة المشهد سنة 760هـ، وهذه هي العمارة السابعة للمشهد. ولكن عمارة عضد الدولة لم تذهب آثارها بالكلّية، بل بقيت إلى ما بعد التجديد الأخير للمشهد، حيث يذكر النسّابة النجفي محمد حسين كتاب دار أنّه رأى في المشهد بقية عمارة عضد الدولة في سنة 1041هـ.
ثمّ جاء الشاه عباس الأول فأصلح عمارة المشهد، وعمّر الروضة والقبة والصحن الشريف على نظر الشيخ البهائي رحمه الله، الذي عمل رسالة في عمارة المشهد ووضعِه الهندسي.
وبعد ذلك جاءت العمارة الثامنة للمشهد الشريف على يد الشاه صفيّ الصفوي حفيد الشاه عباس الأول، ووسع الصحن الشريف ووسع ساحة الحرم العلوي، وأتمها ولده الشاه عباس الثاني بعد وفاة أبيه سنة 1052هـ.
* * *
وصف إجماليّ للمشهد العلَويّ
إنّ عمارة المشهد القائمة في هذه الأيّام هي عمارة الشاه صفي، وهي بديعة الشكل فخمة الصنعة.
يقع القبر الشريف تحت قبة عالية ويحيط به فسحة طول كل ضلع منها 13 متراً، ويحيط الروضة المقدسة من جوانبها الأربعة رواق مسقّف، ثمّ من الجهة الشرقية إيوان الذهب الذي تقع على جانبيه مئذنتان مذهّبتان، ويحيط بهذا المبنى كلّه الصحن الشريف، الذي له سور عالٍ مؤلّف من طابقين، فيه أربعة أبواب رئيسية، وخامس جانبي. وارتفاع سور الروضة، والرواق المحيط بها، ثمّ السور المحيط بالصحن كلّه واحد لا يختلف.
* * *
وصف الروضة المقدسة:
يقع القبر الشريف وسط الروضة المقدسة المربعة الشكل، يعلوه قبتان: خارجية وداخلية: الخارجية مدببة الشكل، يبلغ سمك جدرانها 8سنتمترات، وارتفاعها عن سطح الضريح 42 متراً، وقطرها 16 متراً، ومحيط قاعدتها 50 متراً.. والداخلية مستديرة الشكل، سمك جدرانها 60 سنتمتراً، وارتفاعها عن سطح الضريح 35 متراً، وقطرها 12 متراً.
وتقوم القبة على رقبة طويلة علوّها 12 متراً، فُتح فيها 12 شبّاكاً للتهوية والإضاءة. وقد زُخرفت القبة الداخلية والخارجية بزخارف تعتبر آية من آيات الفنّ الإسلامي، فالمقرنص الكبير الذي حمل رقبة القبة كُسي بالمرايا المصنوعة على شكل بديع، وبالقاشاني والكتابات الجميلة، والنقوش الرائعة.. وكذلك القبة نفسها من الداخل.
أمّا القبة الخارجية، فقد كانت مغشاة بالبلاط القاشاني ـ وكذلك المئذنتان والايوان وسائر الصحن الشريف ـ إلى أن جاء السلطان نادرشاه لزيارة النجف، فأمر بقلع القاشاني عن القبة والإيوان والمئذنتين واستُبدلا بصفائح الذهب، وصرف على ذلك مبالغ جسيمة، وذلك سنة 1156 هـ.
وفي وسط القبة يوجد القبر الشريف، وقد وُضع عليه صندوق من خشب الساج الهندي المطعَّم بالصدف، والعاج والأَبنوس وأنواع أخرى من الأخشاب المتعددة الألوان، فجاء تحفة رائعة، وقد حُفر على الصندوق الكثير من الكتابات العربية المتعددة الطرز، وتاريخ صناعة هذا الصندوق هو 1202هـ. ووضع فوق الصندوق مقصورة من الحديد، ثمّ فوق هذه المقصورة مقصورة أخرى من الفضة الخالصة يبدو أنها صُنعت ووضعت في عهد الصفويين، وجُدّدت عدة مرات.. ثمّ استُبدلت أخيراً، أي في سنة 1361 هـ بمقصورة أخرى تحوي: عشرة آلاف وخمسمائة مثقال من الذهب، ومليوني مثقال من الفضة، وتعتبر آية من آيات فن صناعة الذهب والفضة، وكذا الترصيع بالميناء المتعددة الألوان.
أما جدران المربع التي تقوم عليها القبة، فيبلغ ارتفاعها 17 متراً، قد غُشيت كلّها بأنواع متعددة من الزخارف النفيسة، والألوان البديعة، والكتابات الرائعة. كما فرشت أرض الروضة المقدسة وكذلك الجدران إلى ثلاثة أذرع ونصف بالمرمر، فوقها على الجدران شريط من القاشاني المزين بالنقوش والآيات، فوق هذا الشريط حتّى رقبة القبة طبقة من الفُسيفساء تتكوّن من أحجار كريمة، كالياقوت والزمرّد والألماس واللؤلؤ النادر، ثمّ يأتي بعد ذلك التزيين بالمرايا على شكل بديع جميل.
* * *
أبواب الروضة المطهّرة
وللروضة المطهرة ستة أبواب تؤدّي إلى الرواق المسقّف المحيط بها..
إثنان من جهة الغرب لا ينفذان إلى الرواق، لأنّ خلفهما شباكاً من الفضة، وإثنان من جهة الشرق يؤديان إلى الرواق في مقابل باب الإيوان الذهبي، واثنان خلف الإمام من جهة الشمال يؤديان إلى الرواق أيضاً. وأما البابان اللذان في مواجهة باب الإيوان الذهبي، فالذي يكون على يمين الداخل نُصب سنة 1283 هـ، والذي على يسار الداخل نصب سنة 1287هـ. والأول كان قد أهداه لطف علي خان الإيرواني، والثاني أهداه ناصر الدين شاه القاجاري، وكلاهما كانا من الفضة، ولكنهما معاً قُلعا في سنة 1376هـ، واستُبدلا ببابين ذهبيين جميلَي الصنعة، بذل نفقتهما الحاج محمّد تقي الاتفاق الطهراني. والبابان اللذان من جهة الشمال خلف الضريح ويؤديان إلى الرواق، فهما من الفضة الخالصة، وكانا في الأصل باباً واحداً لكنّه قُلع في سنة 1366 هـ، وجُعل مكانه البابان اللذان كانا إلى جهة الغرب عند رأس الإمام عليه السّلام. ومن هذه الأربعة فقط يكون الدخول والخروج من الرواق إلى الروضة المطهرة.
* * *
الرواق المحيط بالروضة المقدسة
ويحيط بمبنى القبة (الروضة) من جميع الجهات رواق مفروش أرضه، وقسم من جدرانه متصل بجدار الروضة نفسها بسقف مزيّن بالمرايا الملونة، ذات الأشكال الهندسية المختلفة البديعة. وأرضه والقسم الأسفل من جدرانه مفروش بالمرمر، ويساوي ارتفاع جداره ارتفاع جدار الروضة وجدار الصحن الخارجي، ويبلغ طول ساحته من الشرق إلى الغرب 30 متراً ومن الشمال إلى الجنوب 31 متراً.
وله ثلاثة أبواب:
بابان متقابلان: أحدهما ـ من جهة الشمال مقابل لباب الصحن المعروف بباب الطوسي، والثاني ـ من جهة الجنوب، مقابل لباب القبلة، وهذا قد نصب فيه باب فضي ثمين مُحلّى بالذهب نصب سنة 1341هـ، وقد بذلت نفقته والدة الحاج عبدالواحد زعيم آل فتلة، وهو المعروف بباب المراد.
والباب الثالث: هو الذي في الإيوان الذهبي ويدخل الداخل منه إلى الرواق، وهو من الأبواب الثمينة المتقنة، نُصب سنة 1373هـ. وهو مرصّع بالأحجار الكريمة ومطعّم بالميناء، وهو لوحة فنيّة رائعة كُتبت عليه الآيات القرآنية، والأشعار اللطيفة.
وفتح في سنة 1373هـ باب جديد ينفذ إلى الرواق، ويمرّ على مرقد العلاّمة الحلّي، الذي برز للرائح والغادي حين فُتح هذا الباب.
وجدران مبنى الروضة والإيوان الخارجية مزينة بالقاشاني يرجع معظمها إلى العصر العثماني، ويحيط بالجدران من أعلى شريط من الكتابة بخط الثلث الجميل.
إعجاز هندسيّ للمشهد العلويّ
وبعد.. فقد كان ما تقدم وصفاً موجزاً للمشهد العلويّ المقدس، ويبقى أن نشير إلى أن الهندسة العامة للمشهد المقدس تُحيّر العقول حقاً، فقد رُوعي في المشهد الشريف أمران:
الأول: أن يكون شكل البناء بحيث أنه كلّما وصل الظلّ إلى نقطة معينة عُرف أنّ الشمس قد زالت وأنّ وقت الظهر هو تلك اللحظة، لا يختلف ذلك لا صيفاً ولا شتاءً.
الثاني: أنّ الشمس كلّما طلعت فإنها تطلع وتشرق على الضريح المقدس مباشرةً، سواءً في الصيف أو في الشتاء.
وتحكيم هذين الأمرين ـ كما هو معلوم ـ صعب عادة، يحتاج إلى الكثير من الدقة والمعرفة.
اللهم ارزقنا زيارة هذا المرقد الشريف ببركة حبنا لمن تشرفت الشمس بالحديث معه
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ونسألكم الدعاء جزيتم خيرا
في النجف الأشرف
مشهد الإمام عليّ عليه السّلام عبر العصور
إنّ موضع القبر ظلّ سراً مكتوماً لا يعرفه إلاّ أهل البيت عليهم السّلام وخواصّ شيعتهم إلى انقضاء دولة الاُمويين ومجيء دولة العباسيين، فحينئذ دلّ العلويون بعض الشيعة عليه، وصاروا يتعاهدونه، وصار في معرض الظهور والخفاء، يُثْبته قوم وينفيه آخرون.
فلما رأى داود بن عليّ العباسي إقبال الناس على موضع القبر أمر ـ على ما قيل ـ بعض الفعلة بالمضي إلى هذا القبر الذي افتُتن به الناس، ويقولون: إنه قبر عليّ، حتّى ينبشوه ويجيئوه بأقصى ما فيه، فمضوا إليه وحفروا خمسة أذرع فوصلوا إلى موضع صلب لم يقدروا عليه، فاستعانوا بغلام معروف بالشدة، ولكن هذا الغلام بعد أن ضرب ثلاث ضربات صاح، وصار لحمه ينتثر إلى أن مات، فلما عرف داود بالأمر تاب، وأمر عليَّ بن مصعب بن جابر بأن يبني على القبر صندوقاً، ففعل.
ولكن مطاردة العباسيين للعلويين وشيعتهم أوجبت أن يُهجَر القبر من جديد، فلا يزوره زائر إلا خلسة.
ثمّ جاء أبو جعفر المنصور وحاول أن ينبش القبر، فأمر غلامه بذلك، فبدأ بالحفر حتّى ظهر له القبر، ثمّ أمر بطمّه، وصرفه الله عنه.
وبعد ذلك، وفي زمن الرشيد، عاد القبر إلى الظهور من جديد في قصة معروفة جرت للرشيد وهو يتصيّد حول القبر، حيث رأى الظِّباء تحتمي بالأكمَة التي فيها القبر، فلا تقتحم كلابُ الصيد وطيور الباز إليها، الأمر الذي أثار عجَبه، فسأل أحدَ شيوخ الكوفة عن ذلك، فأخبره أنها تلوذ بقبر الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. فكان أن أقام أول عمارة على القبر، وهو بناء مربع الشكل مبنيّ بحجارة بيضاء فوقه قبة من الطين الأحمر فوقها جرة خضراء.
وبعد ذلك جاء المتوكل العباسي، فخرّب عمارة النجف كما خرب عمارة الحسين عليه السّلام. ثمّ قام بالعمارة الثالثة عمر بن يحيى القائم بالكوفة المقتول سنة 250 هـ.
وكانت العمارة الرابعة على يد محمّد بن زيد الداعي المقتول سنة 287هـ، والذي ولي إمرة طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد، فإنّه بنى على القبر الشريف قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقاً، والظاهر أنّ هذه العمارة هي التي أعقبت خراب المتوكل لبناء القبر كما يظهر من تاريخ طبرستان (الفارسي) ج 1 ص 95.
ثمّ كانت العمارة الخامسة على يد أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان المقتول سنة 317 هـ، وسترها بفاخر الستور، وفرشها بثمين الحُصر.
وبعد ذلك كانت العمارة السادسة، وهي أجلّ العمارات وأحسنها، على يد عضد الدولة المتوفّى سنة 372هـ، أو 373هـ، وقد بذل عليها الأموال الجزيلة، وجلب إليها الزارة والنجارة والعملة من سائر الأقطار.
وقد شاهد هذه العمارةَ الرحالة ابن بطّوطة ووصفها حين وروده النجف سنة 727هـ بأنها: «معمورة أحسن عمارة، وحيطانها مزينة بالقاشاني، وهو شبه الزليج عندنا لكنّ لونه أشرق، ونقشه أحسن، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضّة وكذلك العضادتان، ثمّ يدخل بعد ذلك إلى القبة، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوّة بالخشب، عليها صفائح الذهب المنقوشة المُحكمة العمل، مسمّرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب، لا يظهر منه شيء. وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه السّلام، والثاني قبر نوح عليه السّلام، والثالث قبر الإمام عليّ عليه السّلام. وبين القبور طشوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطِّيِب، يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن بها وجهه تبرّكاً، وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضّة، وعليه ستور الحرير الملوّن، يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربع أبواب عتبتها فضة، وعليها ستور الحرير...».
لكنّ هذه العمارة وإن كان تأسيسها يرجع إلى عضد الدولة، إلا أنّه قد طرأت عليها إصلاحات كثيرة، وتحسينات ثمنية من البويهيين أنفسهم ووزرائهم ومن الحمدانيين، وبعض العباسيين المتشيّعين.
فإنّ المستنصر العباسي قد عمّر الضريح المقدس، وبالغ فيه، وزاره مراراً، وكذلك فقد أصلحه وحسّن فيه وفي الأبنية الملحقة به المسلمون من أسرة جنكيزخان وغيرهم.. ولكنّ عمارة عضد الدولة هذه قد احترقت في سنة 755 هـ وكانت حيطانها قد سترت بخشب الساج المنقوش، فجُدّدت عمارة المشهد سنة 760هـ، وهذه هي العمارة السابعة للمشهد. ولكن عمارة عضد الدولة لم تذهب آثارها بالكلّية، بل بقيت إلى ما بعد التجديد الأخير للمشهد، حيث يذكر النسّابة النجفي محمد حسين كتاب دار أنّه رأى في المشهد بقية عمارة عضد الدولة في سنة 1041هـ.
ثمّ جاء الشاه عباس الأول فأصلح عمارة المشهد، وعمّر الروضة والقبة والصحن الشريف على نظر الشيخ البهائي رحمه الله، الذي عمل رسالة في عمارة المشهد ووضعِه الهندسي.
وبعد ذلك جاءت العمارة الثامنة للمشهد الشريف على يد الشاه صفيّ الصفوي حفيد الشاه عباس الأول، ووسع الصحن الشريف ووسع ساحة الحرم العلوي، وأتمها ولده الشاه عباس الثاني بعد وفاة أبيه سنة 1052هـ.
* * *
وصف إجماليّ للمشهد العلَويّ
إنّ عمارة المشهد القائمة في هذه الأيّام هي عمارة الشاه صفي، وهي بديعة الشكل فخمة الصنعة.
يقع القبر الشريف تحت قبة عالية ويحيط به فسحة طول كل ضلع منها 13 متراً، ويحيط الروضة المقدسة من جوانبها الأربعة رواق مسقّف، ثمّ من الجهة الشرقية إيوان الذهب الذي تقع على جانبيه مئذنتان مذهّبتان، ويحيط بهذا المبنى كلّه الصحن الشريف، الذي له سور عالٍ مؤلّف من طابقين، فيه أربعة أبواب رئيسية، وخامس جانبي. وارتفاع سور الروضة، والرواق المحيط بها، ثمّ السور المحيط بالصحن كلّه واحد لا يختلف.
* * *
وصف الروضة المقدسة:
يقع القبر الشريف وسط الروضة المقدسة المربعة الشكل، يعلوه قبتان: خارجية وداخلية: الخارجية مدببة الشكل، يبلغ سمك جدرانها 8سنتمترات، وارتفاعها عن سطح الضريح 42 متراً، وقطرها 16 متراً، ومحيط قاعدتها 50 متراً.. والداخلية مستديرة الشكل، سمك جدرانها 60 سنتمتراً، وارتفاعها عن سطح الضريح 35 متراً، وقطرها 12 متراً.
وتقوم القبة على رقبة طويلة علوّها 12 متراً، فُتح فيها 12 شبّاكاً للتهوية والإضاءة. وقد زُخرفت القبة الداخلية والخارجية بزخارف تعتبر آية من آيات الفنّ الإسلامي، فالمقرنص الكبير الذي حمل رقبة القبة كُسي بالمرايا المصنوعة على شكل بديع، وبالقاشاني والكتابات الجميلة، والنقوش الرائعة.. وكذلك القبة نفسها من الداخل.
أمّا القبة الخارجية، فقد كانت مغشاة بالبلاط القاشاني ـ وكذلك المئذنتان والايوان وسائر الصحن الشريف ـ إلى أن جاء السلطان نادرشاه لزيارة النجف، فأمر بقلع القاشاني عن القبة والإيوان والمئذنتين واستُبدلا بصفائح الذهب، وصرف على ذلك مبالغ جسيمة، وذلك سنة 1156 هـ.
وفي وسط القبة يوجد القبر الشريف، وقد وُضع عليه صندوق من خشب الساج الهندي المطعَّم بالصدف، والعاج والأَبنوس وأنواع أخرى من الأخشاب المتعددة الألوان، فجاء تحفة رائعة، وقد حُفر على الصندوق الكثير من الكتابات العربية المتعددة الطرز، وتاريخ صناعة هذا الصندوق هو 1202هـ. ووضع فوق الصندوق مقصورة من الحديد، ثمّ فوق هذه المقصورة مقصورة أخرى من الفضة الخالصة يبدو أنها صُنعت ووضعت في عهد الصفويين، وجُدّدت عدة مرات.. ثمّ استُبدلت أخيراً، أي في سنة 1361 هـ بمقصورة أخرى تحوي: عشرة آلاف وخمسمائة مثقال من الذهب، ومليوني مثقال من الفضة، وتعتبر آية من آيات فن صناعة الذهب والفضة، وكذا الترصيع بالميناء المتعددة الألوان.
أما جدران المربع التي تقوم عليها القبة، فيبلغ ارتفاعها 17 متراً، قد غُشيت كلّها بأنواع متعددة من الزخارف النفيسة، والألوان البديعة، والكتابات الرائعة. كما فرشت أرض الروضة المقدسة وكذلك الجدران إلى ثلاثة أذرع ونصف بالمرمر، فوقها على الجدران شريط من القاشاني المزين بالنقوش والآيات، فوق هذا الشريط حتّى رقبة القبة طبقة من الفُسيفساء تتكوّن من أحجار كريمة، كالياقوت والزمرّد والألماس واللؤلؤ النادر، ثمّ يأتي بعد ذلك التزيين بالمرايا على شكل بديع جميل.
* * *
أبواب الروضة المطهّرة
وللروضة المطهرة ستة أبواب تؤدّي إلى الرواق المسقّف المحيط بها..
إثنان من جهة الغرب لا ينفذان إلى الرواق، لأنّ خلفهما شباكاً من الفضة، وإثنان من جهة الشرق يؤديان إلى الرواق في مقابل باب الإيوان الذهبي، واثنان خلف الإمام من جهة الشمال يؤديان إلى الرواق أيضاً. وأما البابان اللذان في مواجهة باب الإيوان الذهبي، فالذي يكون على يمين الداخل نُصب سنة 1283 هـ، والذي على يسار الداخل نصب سنة 1287هـ. والأول كان قد أهداه لطف علي خان الإيرواني، والثاني أهداه ناصر الدين شاه القاجاري، وكلاهما كانا من الفضة، ولكنهما معاً قُلعا في سنة 1376هـ، واستُبدلا ببابين ذهبيين جميلَي الصنعة، بذل نفقتهما الحاج محمّد تقي الاتفاق الطهراني. والبابان اللذان من جهة الشمال خلف الضريح ويؤديان إلى الرواق، فهما من الفضة الخالصة، وكانا في الأصل باباً واحداً لكنّه قُلع في سنة 1366 هـ، وجُعل مكانه البابان اللذان كانا إلى جهة الغرب عند رأس الإمام عليه السّلام. ومن هذه الأربعة فقط يكون الدخول والخروج من الرواق إلى الروضة المطهرة.
* * *
الرواق المحيط بالروضة المقدسة
ويحيط بمبنى القبة (الروضة) من جميع الجهات رواق مفروش أرضه، وقسم من جدرانه متصل بجدار الروضة نفسها بسقف مزيّن بالمرايا الملونة، ذات الأشكال الهندسية المختلفة البديعة. وأرضه والقسم الأسفل من جدرانه مفروش بالمرمر، ويساوي ارتفاع جداره ارتفاع جدار الروضة وجدار الصحن الخارجي، ويبلغ طول ساحته من الشرق إلى الغرب 30 متراً ومن الشمال إلى الجنوب 31 متراً.
وله ثلاثة أبواب:
بابان متقابلان: أحدهما ـ من جهة الشمال مقابل لباب الصحن المعروف بباب الطوسي، والثاني ـ من جهة الجنوب، مقابل لباب القبلة، وهذا قد نصب فيه باب فضي ثمين مُحلّى بالذهب نصب سنة 1341هـ، وقد بذلت نفقته والدة الحاج عبدالواحد زعيم آل فتلة، وهو المعروف بباب المراد.
والباب الثالث: هو الذي في الإيوان الذهبي ويدخل الداخل منه إلى الرواق، وهو من الأبواب الثمينة المتقنة، نُصب سنة 1373هـ. وهو مرصّع بالأحجار الكريمة ومطعّم بالميناء، وهو لوحة فنيّة رائعة كُتبت عليه الآيات القرآنية، والأشعار اللطيفة.
وفتح في سنة 1373هـ باب جديد ينفذ إلى الرواق، ويمرّ على مرقد العلاّمة الحلّي، الذي برز للرائح والغادي حين فُتح هذا الباب.
وجدران مبنى الروضة والإيوان الخارجية مزينة بالقاشاني يرجع معظمها إلى العصر العثماني، ويحيط بالجدران من أعلى شريط من الكتابة بخط الثلث الجميل.
إعجاز هندسيّ للمشهد العلويّ
وبعد.. فقد كان ما تقدم وصفاً موجزاً للمشهد العلويّ المقدس، ويبقى أن نشير إلى أن الهندسة العامة للمشهد المقدس تُحيّر العقول حقاً، فقد رُوعي في المشهد الشريف أمران:
الأول: أن يكون شكل البناء بحيث أنه كلّما وصل الظلّ إلى نقطة معينة عُرف أنّ الشمس قد زالت وأنّ وقت الظهر هو تلك اللحظة، لا يختلف ذلك لا صيفاً ولا شتاءً.
الثاني: أنّ الشمس كلّما طلعت فإنها تطلع وتشرق على الضريح المقدس مباشرةً، سواءً في الصيف أو في الشتاء.
وتحكيم هذين الأمرين ـ كما هو معلوم ـ صعب عادة، يحتاج إلى الكثير من الدقة والمعرفة.
اللهم ارزقنا زيارة هذا المرقد الشريف ببركة حبنا لمن تشرفت الشمس بالحديث معه
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ونسألكم الدعاء جزيتم خيرا
تعليق