إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مسلم بن عقيل

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مسلم بن عقيل

    الإهداء :
    إلى أرواحِ الشٌّهداءِ الَّذينَ قَضَوْا في سَبيلِ الثَّورةِ الإسلاميَّةِ، ولم يُذعِنوا لِطُغاةِ الشَّرقِ والغَربِ.

    نَسَبُهُ:
    يَنحَدِرُ مُسلمُ بنُ عَقيلٍ مِنْ عائلةٍ كَريمةٍ منْ قريشٍ، وأَبوهُ عَقيلُ بنُ أَبي طالبٍ، وهوَ أخو أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (ع)، وكانَ عقيلٌ مَعروفاً بالنَّجابَةِ والعِلمِ والفَضلِ، ويُعَدُّ منْ أصحابِ أخِيهِ المخلِصينَ في طريقِِ الإسلامِ والقرآنِ. وكانَتْ لهُ عنَد رسولِ اللهِ (ص) مكانةٌ خاصَّةٌ، فقد أجابَ يوماً عن تَساؤُلِ أميرِ المؤمنينَ (ع) عن محبَّتِهِ (ص) لِعَقيلٍ بقولِه: أَيْ واللهِ، إنّي لأُحِبُّهُ حُبَّينِ، حُبّاً له، وحُبّاً لِحُبِّ أبي طالبٍ له… وابْنُهُ مُسلمٌ يُسْقى الشَّهادةَ في سبيلِ محبَّةِ ونُصرةِ الحُسينِ، فَيَبكيهِ المؤمنُونَ، وتُبارِكُ ملائكةُ الرَّحمنِ روحَهُ الطّاهِرةَ.
    وأنجبَ عَقيلٌ هذا من زَوجتِه أُمِّ وَلَدٍ، ابنَهُ مُسلماً، أَوَّلَ منْ قُتِلَ في الكوفةِ منْ أصحابِ الحسينِ(ع)، مِنْ بنيِ هاشِمٍ.
    حياتُهُ:
    لقد صَمَتَ التَاريخُ عن الحديثِ عنْ مُسلمِ بنِ عقيلٍ في بَواكيرِ حَياتِهِ، ولَمّا بَلَغَ الثامِنَةَ عَشْرَةَ من عُمرهِ، رَعاهُ عَمُّهُ الإِمامُ عليُّ (ع) بعدَ أنْ قضى أبوهُ. وعن عَمِّهِ تَلَقّى شَتّى فُنونِ المَعارفِ؛ كَما تَلَقّى فُنونَ الشَّجاعَةِ والإِقدامِ. وغَدا مِنْ أَصحابِهِ المُلخصينَ، وبعدَ استِشهادهِ عليهِ السَّلامُ، تابَعَ طريقِ الدّعوةِ إلى الإِسْلامِ الحقِّ، مَعَ أبناءِ عَمِّه الأَكرمينَ، بِتفانٍ وإِخلاصٍ، حتّى قَدَّمَ حياتَهُ في هذا الطَّريقِ.
    عُهودُ الظَّلامِ:
    تَرَّبعَ مُعاويةُ على سَدَّةِ الحُكمِ بعدَ مقتَلِ سَيِّدِ المُتَقينَ (ع)، ومنْ بَعدِهِ أسْلَمَ الحُكمَ لابنِهِ يَزيدَ، كانَ يَزيدُ شابّاً عابثاً فاسِداً، انْصَرفَ إلى الخمرِ واللَّهوِ والقِمارِ، بعدَ أَنْ داسَ بِقَدمَيْهِ تعاليمَ الإِسلامِ وأحكامَهُ، الّتي أقامَها الرّسولُ الأكرمُ (ص)، ورَعاها من بعدِهِ الأَئِمَّةُ منْ أهلِهِ عَليهمْ السَّلامُ.
    اسْتَشْرى الفَسادُ في أيّامِ يزيدَ وتَفَاقَمَ حتّى أَنَّ بعضَ المَؤرِّخينَ ذكروا أنَّ فِرْعَوْنَ الطّاغيةَ كَانَ أَكثَرَ عدلاً وإِنصافاً منْ يزيدَ.
    طلبَ يزيدُ منْ عامِلِهِ على المدينةِ أنْ يأخُذَ لهُ البَيْعَةَ من الحسينِ (ع)، سيِّدِ الأَحرارِ ونَصيرِ المَظلومينَ، لكِنَّ الحُسينَ أبى، وتَوَجَّهَ من ثَمَّ إلى مكَّةَ المَكَرَّمَةَ، يُهَيِّئُ الأّسبابَ، وَيُوقِظُ النّاسَ على الحَقائِقِ المُؤْلِمَةِ، ويُبَينَّ الأَخطارَ الّتي يَتَعرَّضُ لها الدّيُن الحنيفُ على يَدَيْ يَزيدَ وأعوانِهِ، ويَدعو النّاسَ إلى القيامِ في وجهِ زَبانيةِ الطُّغيانِ وأصلِ الفَسادِ.
    الكوفةُ والأحداث:
    كان أهلُ الكوفةِ يَرَوْنَ ما آلَتْ إليهِ الحالُ، ويُعِدّونَ أنفُسَهم لِمُواجَهَةٍ لابُدَّ آتِيَةٍ معَ الحُكمِ الفاسدِ، وعِندما بلَغهُم نبأُ رفْضِ الإِمام الحُسينِ (ع) لبَيعَةِ يزيدَ أَجمَعوا أَمرهُهم على دَعوتِه إلى الكوفَةِ، ومُبايعتِهِ، والتَّحرُّكِ تَحتَ قيادَتِهِ، وكانَ أوَّلَ من بادَر إلى الدعوةِ سليمانُ بنُ صردٍ الخُزاعِيُّ، حيثُ جَمعَ أعيانَ الكوفةِ في دارِهِ، وَوَقَّعَ معهمْ في نهايَةِ المُداوَلاتِ وَثيقَةً هذا فَحواها:
    1 ـ رَدُّ بيعةِ يزيدَ بنِ معاويةَ، ورفضُ سَلطَتِهِ.
    2 ـ إِرسالُ وَفْدٍ منهم إلى الحسينِ (ع) لدَعوتِهِ إلى الكوفةِ.
    3 ـ إِرسالُ كُتُبٍ من جميعِ الأَطرافِ في الكوفِة، تَتَضَمَّنُ دعوتَهُ عليهِ السَّلامُ رسْمِيّاً، والعَهدَ لهُ ببذلِ النَّفْسِ والنَّفيسِ دُونَهُ.
    وهكذا كانَ، وتَوالى وُرودُ الرَّسائلِ، إلى الحسينِ (ع) حتّى بلغتْ حَوالي اثْنَيْ عَشَر ألفاً، كما وَرَدَتْ إليهِ رَسائلُ من البصرةِ، بعدَ أنْ اجْتمعَ أَهلُها في دارِ مارِيَّةَ بنتِ مُنْقِذٍ العَبدِيِّ، وأجْمَعوا أمَرهُم على القيامِ.
    سفرُ مُسلمِ بنِ عقيلٍ إلى الكوفةِ:
    لما رأى الحسينُ (ع) كثرةَ الرَّسائلِ والدَّعواتِ أرسَلَ ابنَ عَمِّه مُسلماً بنَ عقيلٍ إلى الكُوفَةِ لاستطلاعِ حقيقةِ الأمرِ هُناكَ، وأرفَقَ معُه وَفْداً من رجالِهِ قَيسُ بنُ مُسهرٍ الصَّيداوِيُّ، وعُمارةُ بنُ عبدِاللهِ السَّلولِيُّ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عبدِ الله الأَزْدِيُّ، وَحمَّلَهُ كِتاباً جاءَ فيه:
    بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
    منْ الحسينِ بنِ عليٍّ (ع) إلى شيعَةِ ومُسلمي الكوفةِ، أمّا بعدُ، فإِنَّ هانياً وسعيداً (يقصدُ آخِرَ رسولينِ منَ الكوفَةِ إِليهِ وهما هانيءُ بنُ هانِيءٍ السُّبَيْعيُّ وسعيدُ بنُ عبدِاللهِ الحَنَفيُّ) قَدِما عَلَيَّ بكُتبِكُمْ؛ وكانا آخِرَ منْ قَدِمَ عَليَّ منْ رُسُلِكُمْ ، وقد فهِمْتُ ما اقْتَصَصْتُم (ما تَبادلتُم من أَحاديث) مِنْ مَقالَةِ جُلِّكُمْ؛ أَنَّهُ ليسَ علينا إِمامٌ، فَأَقْبلْ لَعَلَّ اللهَ يَجَمعُنا بكَ على الحقِّ والهُدى. وإِنّي باعِثٌ إِليكم أخي وابْنَ عَمّي وثِقَتي منْ أهل بيتي، مُسلمُ بن عَقيلٍ، فإنْ كَتَبَ إِليَّ أَنَّهُ قد اجْتمعَ رأيُ مِلَّتِكُمْ، وَذَوي الحِجى (أهلُ العقلِ والفِطنةِ) والفَضَلِ منكُمْ، على مِثْلِ ما قَدِمَتْ بهِ رُسُلُكُمْ، وقَرَأتُ من كُتُبِكُمِ، فإِنّي أَقْدُمُ إِليكُم وَشيكاً إنْ شاءَ اللهُ، فَلَعَمْري ما الإِمامُ إِلاّ الحاكمُ بِالكتابِ، القائمُ بالقِسْطِ، الدّائنُ بِدينِ الحَقِّ، الحابِسُ نفْسَهُ على ذاتِ اللهِ، والسلام.
    نُلاحِظُ من هذا الكِتابِ أُموراً هامَّةً:
    1ـ يُوَضِّحُ الإِمامُ (ع) اعتمادَهُ وثِقَتَهُ بِمُسلمِ بنِ عَقيلٍ.
    2ـ لِياقَةَ مُسلمٍ وكَفاءتَهُ لِتمثيلِ الإِمامِ، و إِحاطَتِهِ بِأُمورِ النّاسِ.
    3ـ يُعْتَبَرُ الكِتابُ بِمثابَةِ وَرَقةِ اعتمادٍ لسفيرِ الإِسلامِ مسلمِ بن عقيلٍ، مُقَدَّمَةً لأَهلِ الكوفةِ، كي يَتَعرَّفوا عليهِ ويُبايِعوهُ.
    4ـ في نهايةِ الكتابِ يُذَكِّرُ الحسينُ (ع) بِشَرائِطِ وَصفاتِ القائِد المُؤَهَّلِ لِقيادَةِ المُسْلِمينَ وَهيَ:
    1ـ الحكمُ والعَمَلُ بِكتابِ اللهِ.
    2ـ العدالةُ والإِنصافُ.
    3ـ التَّقَيُّدُ بِدينِ الحَقِّ.
    4ـ تَسْليمُ النَّفْسِ للهِ.
    شروطٌ أربعةٌ، يَدعو الحسينُ الأُمَّةَ للانْتِباهِ إليها، ومنْ ثَمَّ للقِيامِ في وجهِ حُكمِ يَزيدَ على أساسِها.
    سارَ مسلمٌ وصَحْبُهُ في طريقِهِمْ إلى الكوفةِ، مع دَليلَيْنِ من قَيْسٍ، فحارا عن الطَّريقِ وماتا عَطَشاً، فَتَطَيَّر مُسلمٌ (تشاءَمَ) من هذا الحادِثِ، وحَوادِثَ أُخرى مماثِلَةٍ، وكَتب إلى الإِمامِ بِذلكَ، لَكِنَّ الإِمامَ حَثَّه على المسيرِ، فتابَعَتْ قافِلَتُهُ طَريقَها بعدَ أنْ أشرَفَ مُسلمُ وأَصحابهُ على الهَلاكِ، لكنَّهمْ أَخيراً وصَلوُا إلى مكانٍ يُدعى المضيقَ، قُربَ نهرِ الفُراتِ، فشَرِبُوا جَميعاً واسْتَراحوا، ثُمَّ أخذوا طريقَهُمْ إلى الكوفَةِ، فَوَصلوها ليلاً، ونزَلوا في دارِ المُختارِ بن أبي عُبَيدةَ الثَّقَفيِّ أحدِ أنصارِ ومُحبِّي الإِمامِ (ع) فاستقبَلَهُمْ بتَرحابٍ كبيرٍ.
    وما إِن سَمِعَ أهلُ الكُوفَةِ بِمقْدَمِ رسولِ الإِمام، حتّى تقاطَروا إليهِ أفواجاً أفواجاً، وبَعدَ أنْ رَحَّبوا بهِ تَرحيباً لا نَظيرَ لهُ، وَسَمِعوا كتابَ الحُسينِ (ع) بَكَوْا مِنْ فَرْطِ فَرْحَتِهم وشَوْقِهم إلى لُقياهُ، وبايَعوا مُسلماً كَنائبٍ عنْ الإِمامِ، وفي مَدّةٍ قَصيرةٍ بلغَ تَعْدادُ المبايعينَ ثَمانِيَةَ عَشَرَ أَلفاً على أَقَلِّ تَقديرٍ، بايَعوهُ ونَصَّبوه إِماماً يَؤُمُّهُم بِالصَّلاةِ في مسجدِ الكوفةِ الكبير، وكانَتَ، تُرى بينَ المُصلّينَ شَخصياتٌ بارزةٌ كَحبيبِ بن مُظاهرٍ وهانيءِ بنِ عُروةَ وسعيدِ بنِ عبدِاللهِ وعابِسِ بنِ شَبيبٍ وغَيرِهم.
    تَبدَّلتْ أوضاعُ الكوفةِ وأشرقَتْ الوُجوهُ بالبِشْرِ وأَعلنَ النّاسُ وفاءَهُم للإِمامِ (ع).
    ومَرّةً قامَ عابسُ الشاكِريُّ، وهُوَ من هَمَدانَ، فخطبَ مُتوجِّهاً إلى مُسلِمٍ فقالَُ
    إِنّي لا أُخبرُكَ عنْ النّاسِ، ولا أعَلمُ ما في نُفوسِهِمْ، وما أَغُرُّكَ منهم، ولكنّي واللهِ أخْبِرُك بما أَنا مُوَطِّنٌ نَفَسي عليهِ، واللهِ لأُجيبَنَّكُمْ إذا دَعَوْتُم، وَلأُقاتِلنَنَّ معكُمْ عَدوَّكُم؛ وَلأَضْرِبَنَّ بِسيفي هذا دونَكُم، حتّى أَلقى اللهَ، ولا أُريُد بذلك إلاّ ما عندَ اللهِ.
    ثم قامَ حبيبُ بن مُظاهرٍ، البطلُ الشَّيخُ وقال: رَحِمكَ اللهُ، قَدْ قَضْيتَ ما في نفسِكَ بِواجِزٍ منْ قَولِكَ، وأنا واللهِ الّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ، على مِثْلِ مَا هَذا عليهِ. (يَقصُدُ عابِساً).
    ثم قامَ سعيدُ بنُ عبدِاللهِ فقالَ مِثْلَ قَولِهِما. وقدْ صَدَقَ أُولئِكَ الثَّلاثَةُ ما عاهَدوا اللهَ ومُسلماً عَليهِ، فَافْتَدوْا نُصْرَةَ الإِسلامِ بأنْفُسِهِمْ ونالوا الشَّهادةَ.
    اطَمأَنَّ مسلمُ بنُ عقيلٍ إلى إخلاص أهلِ الكوفةِ، بعد ما رآهُ وسَمِعَهُ، فكتَبَ إلى الحسينِ (ع) كتاباً يقولُ فيه: أمّا بعدُ فإِنَّ الرّائِدَ لا يَكْذِبُ أهلَهُ، وقد بايَعَني مِنْ أهلِ الكوفةِ ثمانيةُ عشَر ألفاً، فعَجِّلْ بالإِقبالِ حينَ يأتيكَ كِتَابي هذا، فإنَّ النّاسَ كُلَّهُمْ مَعَكَ، لَيس لهمْ في آلِ مُعاويةَ رأيٌ ولا هُدى.
    ثم أرسلَ الكتابَ مع عابسِ بن شبيبٍ الشّاكريِّ إلى الحسينِ (ع) وهو في مكَّة. فَتهَيَّأَ عليه السّلامُ للسفَرِ إلى الكوفةِ.
    الكوفة علي عَتَبَةِ الثَّورة:
    تزايدَ الْتِفافُ الناسِ حولَ مُسلمٍ، كما تزايدَ عددُ المبايعينَ لهُ، الأْمرُ الّذي أحدَثَ تَحَوُّلاً في أوضاعِ الكُوفَةِ،وَاتَّضَحَ، بِجَلاءٍ أنَّ الثورةَ على حكمِ يزيدَ أضحتْ قَريبةً، مِمّا أوقَعَ الرُّعبَ في قلبِ النُّعمانِ بنِ بشير، حاكمِ الكوفةِ منْ قِبَلِ يزيدَ، فجمعَ النّاسَ في مِسجدِ الكوفةِ، وحَذَّرهُمْ من الفتنةِ، وهدَّدَ وتَوَعَّدَ، لكنَّ أحداً لمْ يُعِرْ تهَديدَهُ أدنى اهْتمام، فقد كانَ رَجُلاً ضعيفاً، فَضْلاً عن أنَّ المعارضَةَ كانَتْ قويَّةً؛ الأمرُ الّذي دعا أتباع يزيدَ إلى أنْ يكُتبوا إليه يُحذِّرونَهُ من مَغَبَّة إهمال الأمرِ، الذي اسْتَفْحَلَ بازْديادِ إِقبالِ النّاسِ على مُسلمِ بنِ عقيلٍ أمامَ والٍ لا حَوْلَ له ولا قُوَّةً.
    عند وصولِ الخبرِ إلى يزيدَ جمعَ مُستَشاريهِ يَطلبُ نُصحَهُم، فأشارَ عليه كاتِبُهُ ومُستَشارُهُ ((سِرجَوْنُ الرّوميُّ)) بِعزْلِ عامِلِهِ على الكوفةِ فوراً، وأَنَّ هذا الإِشكالَ الكبيرَ لا يُحَلُّ إلاّ بِخُشونَةِ وقَسْوَةِ عُبَيْدِاللهِ بنِ زيادٍ، وقالَ لهُ لو كَانَ أبوكَ مُعاويةُ حَيّاً لفَعَلَ هذا.
    عَمِلَ يزيدُ بِنصيحةِ مُستشارِهِ، وطلبَ إليه كتابةَ رسالةٍ لابن زيادٍ في البَصرةِ، يأمُرُهُ فيها بالتَّوَجُّهِ فوراً إلى الكوفة وعَزْلِ النُّعمانَ والحُلولِ محلَّهُ، كما أمرهُ بالقَبضِ على مُسلمٍ أو قَتلِهِ أو إِبعادِهِ. وبعدَ أنْ وقَّعَ الرِّسالةَ بعثَ بها إلى ابنِ زيادٍ مع أحَدِ أعوانِهِ ويُدعى مسلمَ بنَ عَمْروٍ الباهِليَّ.
    تلقّي ابنُ زيادٍ كتابَ يزيدَ، وما إِنْ أحاطَ بِمَظْمونِهِ.
    حتى بادَرَ من فَوْرِه مُتَّجِهاً إلى الكوفةِ.

  • #2
    مسلم بن عقيل(3و4 )

    مكرُ ابنِ زيادٍ وخِداعُه :
    كانَ أهلُ الكوفَةِ ينتَظرِونَ بشوقٍ مُقدَمَ الإِمامِ الحسينِ (ع) بعد أن ضاقوا ذَرعاً بِحُكمِ بني أميَّةَ وظُلمِهِم، وكانوا يَرقُبون الطَّريقَ بلهفةٍ حينَ أطَلَّ ابنُ زيادٍ ومُرافقوهُ، وقد اعْتمَرَ عِمامةً سوداءَ وغَطّى وجهَهُ بلثامٍ يُخفي حقيقَتَهُ بعد أنْ انْتظرَ حُلولَ الظَّلامِ قبلَ أن يَدخُلَ المدينةَ. استقبلَهُ النّاسُ بِحَفَاوةٍ، ظنّاً منهم أنه الحسينُ، وكانَ يَرُدُّ على تَحِيّاتِهمْ بالإِشارةِ حتّى وصَلَ إلى قصرِ الحاكمِ.
    كانتْ أبوابُ القصرِ مُغلَقَةً خوفاً من الجماهير التي سَبَقَ وهاجَمت القصرَ مراراً. وعندما طَرقَ ابنُ زيادٍ البابَ ظَنَّ النعمانُ أنَّ الطارقُ هوَ الحسينُ (ع) فلم يفتحْ البابَ وصاحَ قائلاً: يابنَ رسولِ اللهِ! أنا لا أُقَاتِلُكَ، ولا شأْنَ لي معكَ، فاتْركْني لحِالي… لكنَّ الطرقَ ازْدادَ على البابِ، بعد أن تملَّك ابنَ زيادٍ الغضبُ لِسَمَاعهِ أقوالَ النُّعمانِ، وصاحَ بِهِ… افتحْ لا أفلحتَ! فعرفَهُ وفتحَ البَابَ.
    تَعرَّفَ عددٌ من الوُقوفِ على ابنِ زيادٍ، فتجَمْهَروا حولَهُ، وهُمْ يُردِّدونَ شعاراتٍ مُعادِيةً، لكنَّ مطايا عبيدِاللهِ وأَعوانَهُ حَملوا عليهمِ بِخيْلهِم وسُيوفِهم وفَرَّقوهُم. وفُتِحَ البابُ أخيراً وَدَخَلَ ابنُ زيادٍ دارَ الإِمارةِ.
    انتشرَ خبرُ وصولِ ابنِ زيادٍ في كلِّ مكانٍ، فسارعَ أنصارُ يزيدَ ومُؤيِّدو حُكمِهِ إلى التَّجمُّعِ في القصر والاحْتفاءِ بالحاكمِ الجديدِ، وفي تلكَ اللَّيلةِ بَيَّتُوا أمْرَهُم على البَطْشِ بِزُعماءِ الحركةِ المُضادَّةِ.
    وَصَبيحَةَ اليومِ التّالي جمعَ ابنُ زيادٍ النّاسَ في المسجدِ، ووقفَ فِيهمْ مُسْتَلاً سَيفَهُ، وعِمامَتُهُ علي رأسِهِ، و خَطَبَهم قائلاً:
    أيُّها النّاسُ!
    إِنَّ (أميرَ المؤمنينَ) يزيدَ!! قد أَوْكلَ إليَّ الحُكمَ في هذه المدينةِ، وأمرَني بإقامَةِ العدلِ والإِنصافِ بين النّاسِ، وإعادةِ الحقِّ إلى المحرومينَ والمظلومينَ منْ ظالِميهم، و أوصاني كذلكَ بالبِرِّ والإِحْسَانِ.
    فَمنْ أطاعني فأَنا لهُ كالأَب الحنونِ، ومنْ عَصاني ونَقَضَ عَهْدي فإِنَّ سيفي وسَوطي في انْتِظارهِ.
    ثم خرجَ من المسجدِ ورجعَ إلى القَصْرِ، وهناكَ اسْتدعى وُجهاءَ المدينةِ وقالَ لهمْ:
    إنّي مأمورٌ من قِبَلِ يَزيدَ، كما قلتُ في المسجدِ، بأنْ أُعيدَ الأمنَ والهُدوءَ إلى هذه المدينةِ، وأَسحقَ مُثيري الفِتنةِ والفسادِ، فلا تَنْخَدِعوا بهمْ، اعِرِفوهُم وعَرِّفوني بِهم، فَلَديَّ أمرٌ بالدِّفاعِ عنْ أرواحِكُمْ وأموالِكمْ وشَريعتِكمْ.
    ياأهلَ الكوفةِ، أوْفوا بِعهْدي وبَيْعتي، قَبْلَ أنْ يَبعثَ يزيدُ بجيشٍ من الشْامِ، لا قِبَل لكمْ بهِ، يُقَتّلُ رجالَكم ويَسبي نساءَكم.
    • مسلمٌ يَلتجئُ إلي دارِ هانئٍ :
    كان منزلُ المختارِ، حيثُ يقيمُ مُسلمٌ، مكاناً يَكثِرُ تَردُّدُ النّاسِ إليهِ، وكانَ مَعروفاً لأعوانِ ابنِ زيادٍ، وعُرْضَةً للمُداهَمَةِ في أيِّ لحظةٍ، واعتقالِ مُسلمٍ، لِذا فقد صَمَّمَ يَوماً حينَ خُروجهِ من المسجدِ بعدَ صلاةِ الظُّهرِ، أنْ يَلتَجِئَ إلى دار هانئِ بنِ عُروة، أحدِ شيعةِ ومُحِبّي الإِمام الحسينِ (ع).
    اِستقبَلَهُ هانئٌ بِتَرْحابٍ وحَفاوَة، وتَبادلا الأحاديثَ حولَ الأوضاعِ القائمةِ وظروفَ قُدومِ مُسلمٍ إلى الكوفةِ.
    كانَ هانئٌ شخصيَّةً معروفةً من الجميعِ. وحينَ دَعاهُ ابنُ زيادٍ للتَّعاونِ معهَ، تظاهَرَ بالْمَرضِ ولم يَستَجبْ لدَعوتِه، بل كانَ يجلِسُ أمامَ دارِهِ ويَدعو النّاس لِنُصْرِةِ الحسينِ بنِ عليٍّ (ع).
    كذلك كانَ شريكُ بنُ الأعورِ، من شيعةِ وأصحابِ الإِمامِ عليٍّ (ع)، وكانَ يَتظاهرُ بأنَّهُ إلى جانبِ ابنِ زيادٍ.
    مرضَ شريكٌ يوماً، فَلزِمَ الفِراشَ في بيتِ هانئِ بن عُروة،! وعَلِمُ ابنُ زيادٍ بمرضِ شريكٍ، فأرسلَ يُعلِنُه بأنَّهُ سَيعودُه ليلاً.
    فكّر شريكٌ بالتَّخلُّصِ من ابنِ زيادٍ فقالَ لمسْلِمٍ:
    يابنَ عقيلٍ، سَيعودُني ابنُ زيادٍ الليلةَ،فلا تَدَعْ هذه الفرضةَ تَضيُع منكَ، خذْ هذا السَّيفَ واخْتبئْ خلفَ هذه الغُرفَةِ، وحينَ يأتي ابنُ زيادٍ، وتَراني قد رفعتُ عِمامَتي ووضعْتُها على الأرضِ، فاحمِل عليهِ بسيفِكَ، وضعْ خاتِمَةً لحياتِهِ النَّتِنةِ.
    وافقَ مسلمٌ، لكنَّ هانئَ بنَ عُروةَ قال لهُ:
    يامُسلمُ، أنَت ضيفي، ولا أُحبُّ أن يُسفَكَ الدَّمُ في بيتي، فقالَ شريكٌ: وَلِمَ؟! أُقسمُ باللهِ أنَّ قَتْلَ هذا الخبيثِ يُقَرِّبُ إلى الله زُلْفى، ثُمَّ قالَ لمسلمٍ مُتَجاهِلاً قولَ هانئٍ: إيّاكَ أن تَعُودَ عنْ هذا!
    وفي هذهِ اللَّحظَةِ دخَلَ ابنُ زيادٍ الدّارِ، فاخْتفى مُسلمٌ بِسرعةٍ.
    بعد أنْ جلسَ ابنُ زيادٍ إلى شريكٍ، يْحدِّثُهُ ويَطْمَئِنُّ عنْ حالهِ، رفعَ شريكٌ عِمامَتَهُ وَوَضَعها على الأرضِ، لكنَّ شيئاً لم يَحدُثْ. أشارَ بيدِهِ عِدَّةَ مراتٍ عَلَّ مُسلماً يَظهَرُ ويُنَفِّذُ الخُطَّةَ، لكنَّه لم يفعلْ.
    وبعدَ خُروجِ ابنِ زيادٍ ظهرَ مُسلمٌ، فقالَ لهُ شريكٌ: لماذا لمْ تقْتُله؟!
    قالَ مسلمٌ سببانِ منَعاني منْ هذا العملِ؛ أوَّلُهُما أنَّ هانئاً لم يُوافِقْ عليه، وثانيهِما أنّي تذكَّرتُ حديثاً لرسول اللهِ (ص)، يقولُ الحديثُ: إِنَّ الإِيمان قَيْدُ الفَتْكِ، فلا يَفتِكُ مُؤمِنٌ، قالَ شريكُ واللِه لو قَتَلتَهُ لقَتلتَ رجلاً خَبيثاً فاسِداً كافِراً ومُحتالاً، للأسَفِ أنَّهُ سَلِمَ بِروحِهِ، ولَنْ تُدرِكَهُ بعدَها أَبداً..
    ومن الجديرِ ذِكرُهُ أنَّ مُسلماً لم يكنْ يرى في قتلِ ابن زيادٍ في تلكَ المرحلةِ مصلحةً للإِسلام، عَلاوةً على أنًّ النِّظامَ الأُمويَّ يمكنُ أن يستغِلَّ حادثةً كهذِهِ ليُؤلِّبَ النّاسَ، ويَمْتَصَّ فَعاليةَ أهدافِ الحُسينِ السّاميةِ، ومن هذا المُنطَلقِِ أرادَ مسلمٌ أنْ يُثَبِّتَ جُذورَ دَعْوتِهِ، من خلالِ تَوْعِيةِ الناسِ، وقَتْلُ ابنِ زيادٍ لم يكنْ لِيَخْدُمَ هذا الغَرَضَ. وعلى أيِّ حالٍ، فقد عادَ ابنُ زيادٍ إلى دارِ الإِمارة، وتُوفِّيَ شَريكٌ بعدَها بِيومين.
    شرَعَ ابنُ زيادٍ يُخَطِّطُ لاعتقالِ مُسلمٍ وغيرِهِ من الثُّوّارِ المسلمينَ، وَبَثَّ العُيونَ والأَرصادَ لذلك، ودَعا يَوماً أحَد أعوانِهِ واسمُهُ مَعقِل، وأعطاهُ ثلاثةَ آلافِ دِرهمٍ، وطلبَ منهُ التَّظاهُرَ بأنَّه يّنوي التَّبَرُّع بهذا المالُ لِمَصلحةِ الثُّوّارِ، حتّى إذا عرفَ مكان مُسلمٍ عن هذا الطريقِ، أعْلَمَ ابنَ زيادٍ بالأَمرِ. وكانَ مَعْقِلُ هذا يُتقنُ الاْحتيالَ، فشرعَ في مُهِمَّتِهِ، حتّى عثَرُ يوماً على أحدِ أنصارِ الإِمام عليٍّ (ع) واسْمُهُ مُسلمُ بنُ عوسَجَةَ الأَسَدِيُّ. فجاءَه وهو يُصلّي في المسجدِ، وَجَلَسَ إلى جنبهِ، حتى فَرَغَ من صَلاتِهِ ثُمَّ قال: ياعبدَاللهِ، إِنّي امْرُؤٌ منْ أهلِ الشّامِ، أنْعَمَ اللهُ عليَّ بِحُبِّ أهلِ البيتِ، وَحُبِّ مَنْ أحَبَّهُمْ، وتَباكى لَهُ وقالَ: معي ثَلاثَةُ آلافِ دِرهمٍ، أردْتُ بها لِقاءَ رجلٍ منهم، بلغني أنَّهُ قَدِمَ الكوفةَ يُبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللهِ (ص)، فكُنتُ أُريدُ لقاءَهُ فلمْ أجِدْ أحداً يَدُلُّني عليهِ، ولا أَعرفُ مكانَهُ، وإِنّي لَجالِسٌ في المسجدِ الآنَ، إذْ سَمِعْتُ نَفَراً من المؤمنينَ يقولونَ: هذا رجلٌ له عِلمٌ بِأهلِ هذا البيتِ، وإنّي أتَيْتُكَ لِتقبضَ منّي هذا المالَ، وتُدخِلنَي على صاحبكَ، فإنّي أخٌ منْ إخوانِك، وَثِقَةٌ عَليكَ، وإنْ شِئتَ أخَذْتَ بَيعَتي لهُ قَبْلَ لِقائِهِ.
    فقالَ له ابنُ عوسجَةُ: أَحمَدُ اللهَ على لِقائِكَ إِيّايَ، فقد سَرَّني ذلك، لِتنالَ الذي تُحبُّ، ولِينصُرَ اللهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيهِ عليهِ وعليهِمْ السلامُ، ولَقَدْ ساءَني مَعرِفَةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا الأمرِ قَبْلَ أن يَتِمَّ، مَخافةَ هذا الطّاغيةِ وَسطوَتِهِ.
    قالَ له مَعْقِلُ: لايكونُ إلاّ خيراً، خذْ البيعةَ عليَّ فأخذَ بيعَتَه، وأخذَ عليهِ المواثيقَ المَغلَّظَةَ، لَيُناصِحَنَّ وَلَيَكْتُمَنَّ، فأَعطاهُ مِنْ ذلِكَ ما رَضِيَ بِهِ، ثم قالَ: اِختَلفْ إليَّ أيّاماً في منزلي، فإنّي طالبٌ لكَ الإِذنَ على صاحِبِكَ.
    وأخذَ يختَلِفُ مع النّاسِ، فطلبَ الإِذنَ، فأُذِنَ له، فأخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ بَيعتَه، وأمَرَ أبا ثُمامَةَ الصّائِدِيَّ بِقبضِ المالِ منهُ، وهوَ الّذي كانَ يَقبِضُ أموالَهمْ، وما يُعينَ به بَعضهُم بعضاً ويشتري لهم السلاحَ وكانَ بَصيراً وفارساً منْ فُرسانِ العَرَبِ وَوُجوةِ الشّيعَةِ، وأقبلَ ذلك الرَّجلُ يَختلفُ إِليهمْ، فهُوَ أَوَّلُ داخلٍ وآخِرُ خارِجٍ. وهكذا عرفَ ابنُ زيادٍ مكانَ مُسلمٍ، فَشَرعَ يُراقِبُهُ لِيتَعَرَّفَ على أنصارِهِ ومَنْ تَربِطُهُم بهِ عَلاقةٌ.
    اعتقال هانئِ بنِ عُروةَ:
    صمَّمَ ابنُ زيادٍ على إِحضار هانئِ بنِ عُروةَ إلى القَصْرِ بأيِّ وسيلةٍ، ثُمَّ اعتقالِهِ.
    قال يوماً بِحضورِ أَعوانِهِ: ما لي لا أسْمعُ خبراً عن هانئٍ؟ فهوَ لم يأتِ لِرُؤيَتي مُنذُ مُدَّةٍ.
    قال محمّد بنُ الأشعثِ: سَمعْتُ أنَّه مريضٌ…
    قال ابنُ زيادٍ: لا .. يُقالُ إنَّه ليس مَريضاً.. وإِنَّ لِتَخَلُّفِهِ عن زيارَتي لَشَأْناً .. اذهبوا إِليه، وأَحضِروهُ لي مُكَرَّماً، فأنا في شوقٍ إليه…!
    ذهبَ نَفَرٌ من أَعوانِ ابنِ زيادٍ إلى هانئٍ، وأَلحّوا عليهِ أن يزوَر الأميرَ، فاستجابَ لإِلْحاحِهِم بعَدَ مُمانَعةٍ، وعندما دخلَ معَ القومِ على ابنِ زيادٍ، وكانَ عندهُ شَريحٌ القاضي، بادَرَهُ بِقَوْلِهِ.
    أُريدُ حَياتَهُ وَيُريُد قَتْلي عَذيُركَ منْ خَليلِكَ مِنْ مُرادِ

    قال هانئُ؛ وماذاكَ؟
    قال ابنُ زيادٍ: ياهانئُ بنُ عُروةَ، جِئتَ بِمُسلمِ بنِ عقيلٍ فأدْخَلْتَه دارَكَ؛ وجَمعتَ لهُ السِّلاحَ والرِّجالَ، في الدُّورِ حَولَكَ، وظَنَنْتَ أنَّ ذلك يَخفى عَليَّ؟
    قالَ: ما فَعلْتُ.
    نادى ابنُ زيادٍ جاسوسَه مَعْقِلاً، فَما وقَعتْ عينا هانئٍ عليهِ حتّى علمَ أَنَّهُ كانَ عَيْناً لابنِ زيادٍ عَلَيْهم، فَسَقَط في يَدِه، ثُمَّ قالَ: اِسمعْ، فإِنّي لم أدْعُ مُسلماً إلى بيتي، بل سَألَني هُوَ النُّزولَ في داري، فأدْخلتهُ وآوَيتُهُ، طلبَ منه ابنُ زيادٍ تَسليمَه مُسلماً فأبى وقالَ: لا واللهِ لا أَجيئُكَ بِهِ أبداً، أَنا أجيئُكَ بِضَيفي تَقْتُلُه؟! ويْلكُم! لَوْ كانَتْ رِجلي على طِفلٍ من آلِ الرَّسولِ (ص) لا أدْفَعُها حتّى تُقْطَع. عِندَها أمَر ابنُ زيادٍ بايداعِهِ السجنَ، بعد أنْ ضربَهُ بالقَضيبِ حتى سالَ الدَّمُ على ثِيابِهِ.
    حاصرتْ قبيلةُ بني مَذحَجٍ القصرَ، فأمَرَ ابنُ زيادٍ بإغلاق الأبوابِ، ثم لجأَ إلى حيلةٍ من حِيَلهِ، وطلبَ إلى شريحٍ أن يُطِلَّ على القومِ ويَشْهَدَ أمامَهم بِسلامَةِ هانئِ، ففعلَ شريحٌ ما طُلِب منه، وصَدَّقَهُ النّاسُ، فقد كان مُحْتَرماً لديهم لمنصِبِه كقاضٍ، ثم فَكّوا حِصارهِمُ عَنْ القَصرِ وارْتَحلُوا عنهُ.

    تعليق


    • #3
      مسلم بن عقيل(5 )

      قيامُ مُسلمٍ وتخاذُل أهلُ الكوفةِ:
      لما سمعَ مسلمُ باعْتقالِ هانئِ بنِ عروةَ، طلبَ نُصرَةَ القومِ ودَعاهُم إلى القيامِ، وتردَّدَ في جَنَباتِ الكوفةِ شعارُ ((يا منصورَ الأمّة)). وهو نداءٌ مُتَّفقٌ عليهِ بينَ مُسلمٍ وأنصارِهِ، فلبّى النداءَ آلافُ الرِّجالِ، ثم أقبلوا نحَو القَصرِ فأَحاطوا بهِ. فأمَرَ عُبيدُ اللهِ بِسَدِّ الأبوابِ، ثم خرجَ إلى الثائرين نفرٌ منْ أعوانِهِ ونادَوّا بالنّاسِ: أيَّها الناسُ، اَرحموا أنفُسَكُم ونِساءكُم وأطفالَكُم، فإنَّه لآتيكُم من الشّامِ جِيشٌ لاطاقةَ لكمْ بِهِ، يَسْبون نساءَكم ويقتُلون رِجالكم.
      أحدثتْ تهديداتُ ابنِ زيادٍ أثَراً سريعاً في قلوب النّاسِ، فَشَرعوا ينَفضّونَ عن ابنِ عقيلٍ، بينما سارعَ رجالُ ابنِ زيادٍ إلى اعتقالِ أَنْصارِهِ ومُريديهِ مِمَّنْ وصلتْ إليهِ أيديهم، ومْنْ لم يْصِلوا إليهِ لجأَ إلى مخبأٍ يُخفيه عن العيونِ.
      حلَّ الظلامُ.. وَتوَجَّهَ مسلمٌ إلى المسجدِ لأَداءِ الصّلاةِ، وعندما غادرَ المسجدَ وجدَ نفسَه وَحيداً مُنْفَرِداً، فهامَ على وجهِهِ، حتى مَرَّ بدارِ امرأةٍ يُقالُ لها طَوْعةُ فاسْتَسْقاها فسَقَتْهُ، ثم استَضافَها فأضافَتْه وعَرَفَتْه، ثم أخفَتْه في بيتِها. وكانَ لها ابنٌ يُدعى بِلالاً، فوقفَ على حقيقةِ الضَّيْفِ، وأقسمَ لأُمِّهِ أنْ يحفظَ السِّرَّ.
      اعتقالُ مُسلمٍَ:
      حَنِثَ بَلالٌ بِقَسَمِه، وأخبرَ عبدَالرَّحمن بنِ محمدِ ابنِ الأشعثِ بِوجُودِ مُسلمٍ في دارِهِم، فنقَل عبدُالرَّحمن الخبرَ إلى أبيه في دارِ الإِمارةِ، فَأَطْلَعَ محمدٌ بدورِهِ ابنَ زيادٍ على الأمرِ، فَقالَ لهُ: قمْ فَأْتِني بِهِ السَّاعةَ، فخرجَ ومعهُ عَمرُو بنُ حريثٍ على رأسِ ثلاثِمائةِ مُقاتِلِ للقبضِ على مُسلمٍ، سمعَ مُسلمٌ حَوافرَ الخيلِ، فعرَفَ أنَّهُم آتون بِطَلبِهِ، شَكَرَ طَوْعَةَ وَوَدَّعَها، ثم خرجَ لِلِقائِهم مُسْتَلاً سيفَه، فقاتَلهْم قِتالاً شَديداً، وكانَ شُجاعاً مِقداماً، عَجزَ القومُ عنْ الوُصولِ إليهِ فصاروا يَرمونَهُ بالحِجارةِ والقَصبِ المحروقِ، حتّى أثْخَنَتْهُ الحِجارةُ فاستنَدَ إلى الجدارِ يَنْشُدُ الرَّاحةَ. فصاحَ به ابنُ الأشعثُِ يا مُسلمُ، أُقسِمُ باللهِ أَنَّ ابنَ زيادٍ لا يُريُد بِكَ شَرّاً، فتعالَ وأنتَ آمِنٌ، تَقدَّمَ مُسلمٌ منهمْ فأحاطوا بهِ، وَأسَرَعَ أحُدهُم فانتزَعَ سيفَهُ، ثُمَّ أخذوهُ إلى ابنِ زيادٍ والدُّموعُ تجري من مُقلَتيهِ.. قال له عمُرو بنُ عبدِالله بن العبّاسِ: إِنَّ من يَطلبُ مِثْلَ الّذي تَطلبُ لمْ يَبْكِ،
      فَقالَ: واللهِ لا أبكي لِنفسي، ولكنْ أبكي للحسينِ وآلِ الحسينِ. ثم الْتفت إلى ابنِ الأشعثِ وقالَ: أرى أنَّكَ عاجزٌ عن أَماني، فَإِن كانَ عندَكَ خَيرٌ، فَأرسِلْ منْ يُبَلِّغُ حُسَيناً عن لِساني أنَّ ابنَ عمِّهِ يَفديهِ بنفسِهِ ويَرجوهُ أن يَعدِلَ عن السَّفرِ إلى الكوفةِ، فإنَّ أهلَها قد كَذَبوه وكَذَبوني، وَلَيَسَ لمكذوبٍ رَأْيٌ، فقالَ محمُد بنُ الأشعثِ: واللهِ لأَفعَلَنَّ، وَلأُعْلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أَنّي قد أمَّنْتُكَ.
      ويُروى أنَّ مجموعَ من قتَلهم مُسلمٌ بلغَ واحداً وأربعينَ رجلاً، وقيلَ أكثرَ، وبلغَ من قُوَّتِهِ أنَّه كان يأخُذُ الرَّجُلَ بيدِهِ فَيرمي به فوقَ البيتِ. ويُروى أنَّ ابنَ الأشعثِ أرسلَ إلى ابنِ زيادٍ أَنْ أدْرِكْني بالخيلِ والرّجالِ، فأَنْفَذَ ابنُ زيادٍ يقولُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدِمَكَ قومُكَ، رَجلٌ واحدٌ غريبٌ يَقتلُ هذه المقْتَلَةَ العظيمة! فكيفَ بكَ لَوْ أرسلناكَ إلى منْ هوَ أشَدُّ بأساً وأصعبُ مِراساً؟ (يعني الحسينَ (ع) ) ثم أرسلَ إليه بالعساكرِ وقالَ: أعْطِهِ الأمانَ!!
      لما أُدخِل مسلمٌ على ابنِ زيادٍ لم يُسَلِّم عليه، فقالَ له أحدُ الحَرسِ: سَلِّمْ على الأميرِ، فقالَ لهُ اسكتْ ويحَكَ، واللهِ ما هوَ لي بأَميرِ. فقالَ ابنُ زيادٍ: لا عليكَ، سَلَّمتَ أمْ لم تُسَلِّمْ فأنتَ مقتولٌ. قالَ: فاقْضِ ما أنتَ قاضٍ يا عدوَّ اللهِ.
      ثم طلبَ إليهم أنْ يَدَعوه يُمْلي وصِيَّتَهِ على أحدِ أقربائِه، وهوَ عُمُر بنُ سعدٍ، فلم يقبلْ عُمُر إلاّ بعدَ أن نهرَهُ ابنُ زيادٍ، فأمسَكَ بيدِ مسلمٍ وتَلَقّى منهُ وصِيَّتَهُ وفَحواها:
      1ـ أنْ يبيعَ سيفَه وإِزارَه، ويُؤدِّيَ عنه دَيْناً يبلغُ سبعَمائةِ درهمٍ.
      2ـ أن يَستلمَ جُثَّتَهُ بعد اسْتِشهادِهِ ويدْفُنَه.
      3ـ أن يُخبرَ الإِمامَ الحُسَيْنَ (ع) باستِشهادهِ ويطلبَ منهُ العودةَ عَنْ القدومِ إلى الكوفِةِ.
      عرضَ ابنُ سعدٍ وصيَّةَ مُسلمٍ على ابنِ زيادٍ فوبَّخَهُ قائلاً: يابنَ سعدٍ، لقدْ خُنتَ فكشَفْتَ سِرَّهُ، فإنَّ المؤتَمَنَ لايخونُ. بعْ سَيفَهُ وإِزارَه وأَدِّعنهُ دَيْنَهُ، وقُمْ بدفْنِهِ بعدَ استلام جُثَّتِهِ، أمّا ما يعودُ للحسينِ، فإنْ لم يأْتِ إلينا فلنْ نَذَهَبَ إليه.
      استشهادُ مُسلمِ بنِ عقيلٍ:
      أسلمَ ابنُ زيادٍ مُسلماً إلى بكرِ بن حِمرانٍ، وطلبَ إليهِ أنْ يَصعَدَ به إلى سَطحِ القصرِ ويَضْرِبَ عُنُقَهُ.
      شرعَ مُسلمٌ بالتَّكبيرِ والصَّلاةِ على محمدٍ وآلهِ، وحينَ بلغَ معَ بكر أعلى القصرِ ، رفعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ يُناجي ربَّهُ، ويطلُبُ أن يَحكُمَ سُبحانَه بينَهمْ وبينَ القومِ الّذينَ كَذَبوهُمْ وخَدَعوهُمْ وخَذَلوهُمْ، ثم طلَبَ فُرصةً يُصَلّي فيها، فأبى عليهِ الخَبيثُ ذلكَ.
      وهكذا قَضى مُمَثِّلُ الحسينِ (ع)، كما يَقضي الجُنديُّ المُسلمُ المِثالُ. والتَحقَ شهيداً سَعيداً بِرَكبِ الشُّهداءِ الأبرارِ، وذلكَ في اليومِ الثامنِ من ذي الحَجَّةِ سنةَ تسعٍ وَخَمسينَ هِجريةً، رحمهُ اللهُ.
      فسلام عليه يوم ولد .. وسلام عليه يوم مات .. وسلام عليه يوم يبعث حياً

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      x

      رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

      صورة التسجيل تحديث الصورة

      اقرأ في منتديات يا حسين

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
      استجابة 1
      10 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة ibrahim aly awaly
      بواسطة ibrahim aly awaly
       
      أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
      ردود 2
      12 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة ibrahim aly awaly
      بواسطة ibrahim aly awaly
       
      يعمل...
      X