بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى في سورة آل عمران : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمينَ (96) فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ (97)} صدق الله العلي العظيم
لقد أنزل الله تعالى في كتابه آيات محكمات وأخر متشابهات، وأودع علم الظاهر والباطن خير خلقه محمد وآله عليهم السلام، فكان تأويله كما تنزيله عندهم.
وغير خفيّ أن ظواهر الكتاب العزيز حجة للخلق وعليهم، فيصح لهم العمل بها ويصح الاحتجاج عليهم إن نبذوها وراء ظهورهم.. ما لم تكن من المتشابهات التي يتبيّن أمرها بالمحكمات، ومن لوازم حجيتها عدم رفع اليد عن معانيها الظاهرة إلا بأدلة أو قرائن تساعد على ذلك. فليس لنا أن نترك ظواهر القرآن اعتباطاً ولا أن نعرض عنها دون وجه وجيه.
أما الباطن والتأويل، فلا يؤخذ إلا من أهله، ولا يصح الركون إليه ما لم يصدر عن النبع الزلال، فكل ادعاء غير مستند إلى ركن وثيق وقول سديد هو رجم بالغيب وتفسير للكتاب أو تأويل لآياته على غير وجه حق.
وتأويل الآيات المباركة لا ينافي العمل بظواهرها، فإنه يثبت معنىً أو معانٍ أخرى مستبطنة في الآية غير ظاهرة لكل أحد يرشدنا إليها مَن عنده علم الكتاب. وقد توهم البعض خلاف ذلك فتصوروا المنافاة بينهما ورفعوا اليد عن حجية بعض الظواهر لذلك، ولو كان ما ذهبوا إليه من تأويل وبطون مأخوذاً عن أهل البيت عليهم السلام لانحصر الاشكال على قولهم في عدم التنافي والتعارض، لكنهم أتوا بمعانٍ من بنات أفكارهم ليفسروا بها الآيات الكريمة !!
ومن ذلك كلام سمعته لأحدهم في أيام عاشوراء هذه حول الآيات المباركة من سورة آل عمران، ينفي فيه أن يكون {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً} هو الكعبة الشريفة زاعماً أن (الوضع) من مختصات (المرأة الحامل) ولا يصح استعماله في بناء البيوت إذ لو أراد الله عز وجل الكعبة الشريفة لقال (أول بيت بني للناس)!!
ولعله لما قرأ كلام الحافظ رجب البرسي عن أهل البيت عليهم السلام وأنهم (البيت المحرم الذي تتوجّه إليه سائر البريات لأنّهم أوّل بيت وضع للناس... مشارق أنوار اليقين ص44) ظن أن البرسي ينفي نزول الآية في الكعبة الشريفة، أو أراد أن يزيد عما عند الحافظ فأتى بما أتى !
وههنا دعويان:
الأولى: أنه لا يصح أن يكون البيت الذي وضع في الآية هو الكعبة الشريفة.
والثانية: أن البيت في الآية هو من ولد ببكة أي علي بن أبي طالب عليه السلام.
والإجابة على الأولى من وجوه:
الأول: أنه لا اشكال عند أهل اللغة في هذا الاستعمال، بل قد صرحوا بأن أول بيت وضع للناس هو البيت العتيق وهذه بعض كلماتهم:
1. و البيت العَتِيق: هو الكعبة لأنه أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس (كتاب العين ج1 ص146)
2. قال الخليل: البيت العتيق: الكعبة، لأنّه أوّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. (معجم مقاييس اللغة ج4 ص220)
3. و البيت العَتيقُ بمكة لقدمه لأَنه أَول بيت وضع للناس (لسان العرب ج10 ص236)
4. قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [3/ 96] يعني الكعبة. (مجمع البحرين ج2 ص192)
الثاني: أن الظاهر من الآية هو كون المقصود من البيت (البيت الحرام أو الكعبة الشريفة)، ومن الآية الثانية {من دخله كان آمناً} الحرم وهو أوسع دائرة من البيت، والظاهر حجة ما لم نرفع اليد عنه بحجة أقوى.
الثالث: أن الروايات الشريفة تؤيد وتؤكد هذا المعنى وهي عديدة نذكر بعضها:
1. عن زرارة قال: سئل أبو جعفر عليه السلام عن البيت: أكان يحج إليه قبل أن يبعث النبي ع ؟
قال: نعم، لا يعلمون أن الناس قد كانوا يحجون، و نخبركم أن آدم و نوحا و سليمان قد حجوا البيت بالجن و الإنس والطير، و لقد حجه موسى على جمل أحمر، يقول: لبيك لبيك فإنه كما قال الله تعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ».(تفسير العياشي ج1 ص186)
فإن النبي صلى الله عليه وآله قد استشهد بالآية الشريفة {أول بيت وضع} لإثبات حج الأنبياء السابقين للبيت المبارك.
2. وعن النبي (صلى الله عليه و آله) و قد سئل عن أول ركن وضع الله في الأرض.
قال (صلى الله عليه و آله): «الركن الذي بمكة، و ذلك قوله في القرآن: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً».(الاختصاص للشيخ المفيد ص50)
وسيأتي بعضها الآخر.
على أنه قد ورد في بعض الأحاديث أن مكة جملة القرية وبكة موضع الحجر(تفسير العياشي ج1 ص187)، وفي حديث أن بكة موضع البيت، وأن مكة جميع ما اكتنفه الحرم(نفس المصدر)
بين (موضع البيت) و (البيت)
ثم إن الأحاديث الشريفة تعرضت تارة (لموضع البيت) وأخرى (للبيت). والمقصود بموضع البيت هو المكان الذي بنيت عليه الكعبة الشريفة، وبالبيت نفس الكعبة الشريفة.
فقد روى الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ج2 ص241 ما نصه:
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ أَمَرَ الرِّيَاحَ الْأَرْبَعَ فَضَرَبْنَ مَتْنَ الْمَاءِ حَتَّى صَارَ مَوْجاً ثُمَّ أَزْبَدَ فَصَارَ زَبَداً وَاحِداً فَجَمَعَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ، ثُمَّ جَعَلَهُ جَبَلًا مِنْ زَبَدٍ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهِ، وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً ، فَأَوَّلُ بُقْعَةٍ خُلِقَتْ مِنَ الْأَرْضِ الْكَعْبَةُ ثُمَّ مُدَّتِ الْأَرْضُ مِنْهَا. وروى الكليني نحوه في الكافي ج4 ص190.
فيكون موضع البيت أول ما خلق من الأرض بحسب هذه الرواية، وتنطبق عليه الآية الشريفة { أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} كما انطبقت على البيت نفسه.
ويكون البيت نفسه أول ما وضع للناس مباركاً للعبادة، أي أول بيت اتخذ مباركاً ليتوجه الناس إليه لعبادة الله تعالى، فقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام : هو أول بيت ؟
قال: لا، قد كان قبله بيوت و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أول من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته قريش.(مناقب آل ابي طالب ج2 ص43)
أنزل البيت أم بني ؟
ثم إن ههنا شبهة وهي أن البيت قد أنزل من السماء أم بني على الأرض ؟
فقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة: و في تسع و عشرين من ذي القعدة أنزل الله الكعبة (المقنعة للشيخ الصدوق ص207)
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: فِي خَمْسَةٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ (من لا يحضره الفقيه ج2 ص241)
وعن الصادق عليه السلام : وَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْزَلَ الْبَيْتَ مِنَ السَّمَاءِ وَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ قِنْدِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّق (من لا يحضره الفقيه ج2 ص241)
فيما ورد في بعض الأحاديث أن آدم عليه السلام قد بناه، وفي أحاديث أخرى أن إبراهيم قد بناه كما مر سابقاً.
ومن هذه الروايات ما ورد عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِنَّ آدَمَ ع هُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ وَ وَضَعَ أَسَاسَهُ وَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الشَّعْرَ وَ أَوَّلُ مَنْ حَجَّ إِلَيْهِ ثُمَّ كَسَاهُ تُبَّعٌ بَعْدَ آدَمَ ع الْأَنْطَاعَ (بساط من الأديم) ثُمَّ كَسَاهُ إِبْرَاهِيمُ ع الْخَصَفَ وَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الثِّيَابَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ع كَسَاهُ الْقَبَاطِيَّ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص235)
وقد يتوهّم التعارض بين الروايات بالنظرة الأولى، لكن التدبّر فيها يرفع التعارض بينها.. إذ أن ما أنزل من السماء هي القواعد التي بنى بها إبراهيم عليه السلام البيت {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيل} (البقرة 127)
وقد بنى الأنبياء البيت بالقواعد التي أنزلت من الجنة.. فيصح بهذا المعنى القول أن البيت قد أنزل من الجنة لأن القواعد التي بني منها قد أنزلت من الجنة، ويتضح هذا المعنى جلياً في حديث الإمام الصادق عليه السلام: .. فَلَمَّا بَلَغَ إِسْمَاعِيلُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ (ع) أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ فَقَالَ: يَا رَبِّ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ ؟
قَالَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْزَلْتُ عَلَى آدَمَ الْقُبَّةَ فَأَضَاءَ لَهَا الْحَرَمُ فَلَمْ تَزَلِ الْقُبَّةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ قَائِمَةً حَتَّى كَانَ أَيَّامُ الطُّوفَانِ أَيَّامُ نُوحٍ ع فَلَمَّا غَرِقَتِ الدُّنْيَا رَفَعَ اللَّهُ تِلْكَ الْقُبَّةَ وَ غَرِقَتِ الدُّنْيَا إِلَّا مَوْضِعَ الْبَيْتِ فَسُمِّيَتِ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنَ الْغَرَقِ.
فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِبْرَاهِيمَ ع أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ وَ لَمْ يَدْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَبْنِيهِ فَبَعَثَ اللَّهُ جَبْرَئِيلَ ع فَخَطَّ لَهُ مَوْضِعَ الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْجَنَّةِ وَ كَانَ الْحَجَرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ فَلَمَّا لَمَسَتْهُ أَيْدِي الْكُفَّارِ اسْوَدَّ، فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ وَ نَقَلَ إِسْمَاعِيلُ الْحَجَرَ مِنْ ذِي طُوًى.... (تفسير القمي ج1 ص61)
وفي حديث آخر : وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْزَلَهُ لآِدَمَ ع مِنَ الْجَنَّةِ وَ كَانَ دُرَّةً بَيْضَاءَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ وَ بَقِيَ أُسُّهُ وَ هُوَ بِحِيَالِ هَذَا الْبَيْتِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ أَبَداً فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ ع بِبُنْيَانِ الْبَيْتِ عَلَى الْقَوَاعِدِ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص242)
فإن أصل الإنزال قد حصل لآدم عليه السلام حيث أنزل عليه حجر أشد بياضاً من الثلج، ومن المحتمل جمعاً بين الروايات أن آدم عليه السلام قد بنى البيت من هذه الحجارة النازلة من الجنة، كما بناه إبراهيم وإسماعيل لاحقاً بقواعد من الجنة أيضاً.. ففي الحديث السابق (إِنَّ آدَمَ ع هُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ وَ وَضَعَ أَسَاسَهُ)..
ثم إن البيت رفع في أيام نوح عليه السلام إلى السماء كمامرّ إلى أن أمر الله إبراهيم ببنائه.
وقد أتى آدم للحج ألف مرة على قدميه، فعن أبي جعفر عليه السلام : أَتَى آدَمُ ع هَذَا الْبَيْتَ أَلْفَ أَتْيَةٍ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْهَا سَبْعُمِائَةِ حَجَّةٍ وَ ثَلَاثُمِائَةِ عُمْرَة (من لا يحضره الفقيه ج2 ص229)
بل قد يقال بأن إنزال الحجر على آدم وبناء آدم للبيت لا يمنع من وجوده في مرحلة سابقة على خلق آدم.. فعن الصادق عليه السلام : لَمَّا أَفَاضَ آدَمُ ع مِنْ مِنًى تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَبْطَحِ فَقَالُوا يَا آدَمُ بُرَّ حَجُّكَ أَمَا إِنَّا قَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص230)
فيكون آدم أول من بناه فعلاً، ولكنه ليس أول من حج إليه إذ سبقته إلى ذلك الملائكة. ويكون قد بني قبل ذلك وأول بانٍ له من البشر هو آدم عليه السلام، أو أنه أنزل قبل ذلك ولم يبن سابقاً.
وإن كان من المحتمل أن يكون الملائكة قد حجوا إلى الضراح لا إلى نفس البيت، والضراح هو البيت المعمور في السماء الذي جعل البيت الحرام حذاءه كما في بعض الروايات، أو بيت آخر في السماء أيضاً جعل البيت المعمور بإزائه ، وكان الملائكة يطوفون به ويستغفرون، ولما هبط آدم إلى الأرض جعل الله البيت الحرام لآدم وذريته بإزاء الضراح الذي صيّره لأهل السماء (كما في تفسير العياشي ج1 ص30، وفي الكافي ج4 ص187، وفي عيون أخبار الرضا ج2 ص91)
ويكون إبراهيم أول من بنى البيت الحرام بعد رفعه إلى السماء (في زمن نوح عليه السلام) وأمر الله له بإعادة البناء وإنزال القواعد إليه، أو أول من بناه على وجه يكون مباركاً فيه الهدى للعالمين كما في الآية والرواية.
فإن تم الجمع بين الروايات بإحدى هذه الطرق فهو المعوّل عليه، وإن عدّ جمعاً تبرّعياً لا شاهد له (وذلك بعيد) فالمرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية أو غيرهما.. وإن فرض عدم وجود مرجح فالتوقف في المسألة خير من الاقتحام بلا برهان.
وأما الدعوى الثانية (أن علياً هو البيت)
فالإجابة عليها أيضاً (إضافة إلى ما مضى) من وجوه:
الأول:لم يستند اصحاب هذه الدعوى إلى رواية ولو ضعيفة في ما ذهبوا إليه، فإن أرادوا مما قالوا المعنى الظاهر فقد عرفت بطلانه، وإن أرادوا باطناً فماذا عندهم مما يصح الاعتماد عليه ؟
الثاني: ورد في الأحاديث والأدعية ما لا يتفق مع هذا المعنى، ومنها ما في دعاء الندبة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ...إِلَى أَنِ انْتَهَيْتَ بِالْأَمْرِ إِلَى حَبِيبِكَ وَ نَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِه....
وَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَوَّأْتَهُ مُبَوَّءَ صِدْقٍ مِنْ أَهْلِهِ، وَ جَعَلْتَ لَهُ وَ لَهُمْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنا.( المزار الكبير لابن المشهدي ص: 573 وما بعدها، إقبال الأعمال ج1ص295 وغيرهما)
فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل أول بيت وضع للناس لحبيبه محمد ولأهله.. أي أن الله سبحانه وتعالى كرّم محمداً وأهل محمد بالبيت.. فكيف يكون البيت نفسه من أهله ؟ أي كيف يكون البيت نفسه علياً والبيت قد جعل كرامة لمحمد وعلي وآلهما ؟
الثالث: إن إنزال البيت من الجنة على آدم عليه السلام، وإنزال القواعد من الجنة على إبراهيم عليه السلام، لا يدل على تفضيل البيت على بني آدم قاطبة بمن فيهم محمد وعلي عليهما السلام، فإن لم تكن الجنة أفضل منهم هل سيكون الحجر النازل منها أو القواعد النازلة منها خيراً منهم عليهم السلام ؟
ولسنا بحاجة إلى تأويلات غير سديدة لإثبات المقامات السامية الرفيعة لآل محمد عليهم السلام، فإنهم خير من الجنة، بل خير خلق الله عز وجل على الإطلاق.
والجنة والبيت كما السماء والأرض وغيرها مخلوقات لله عز وجل لا تضاهي مكانتها مكانة محمد وآل محمد عليهم السلام.
فعن النبي (ص) : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَنِي وَ عَلِيّاً مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، إِذْ لَا تَسْبِيحَ وَ لَا تَقْدِيسَ، فَفَتَقَ نُورِي فَخَلَقَ مِنْهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ وَ أَنَا وَ اللَّهِ أَجَلُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ.
وَ فَتَقَ نُورَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَلَقَ مِنْهُ الْعَرْشَ وَ الْكُرْسِيَّ وَ عَلِيٌّ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِّ. وَ فَتَقَ نُورَ الْحَسَنِ، فَخَلَقَ مِنْهُ اللَّوْحَ وَ الْقَلَمَ، وَ الْحَسَنُ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ اللَّوْحِ وَ الْقَلَمِ، وَ فَتَقَ نُورَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ خَلَقَ مِنْهُ الْجِنَانَ وَ الْحُورَ الْعِينَ، وَ الْحُسَيْنُ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجِنَانِ وَ الْحُورِ الْعِينِ.(الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص112، والفضائل لابن شاذان ص129 مع اختلاف يسير)
ومثل هذه المعاني مسلمة مقطوع بصحتها، وما هذا النص إلا للاستئناس والتأييد.
ارتباط الآية بآل محمد
نعم لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن لهذه الآية كما لكثير من الآيات ارتباط بآل محمد عليهم السلام من جهات أخرى.. فكما كان الداخل إلى الحرم في الدنيا آمناً حتى لو كان عاصياً، كان الداخل امتثالاً لأمر الله عز وجل عارفاً بحق آل محمد آمناً في الدنيا والآخرة.
فقد سئل أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل {ومن دخله كان آمناً} فقال: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: مَنْ أَمَّ هَذَا الْبَيْتَ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ وَ عَرَفَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ حَقَّ مَعْرِفَتِنَا كَانَ آمِناً فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ.(الكافي ج4 ص545)
وللآية انطباق من جهة أخرى على صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعن الصادق عليه السلام: أَمَّا قَوْلُهُ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فَمَنْ بَايَعَهُ وَ دَخَلَ مَعَهُ وَ مَسَحَ عَلَى يَدِهِ وَ دَخَلَ فِي عَقْدِ أَصْحَابِهِ كَانَ آمِنا (علل الشرائع ج1 ص91)
فإنّ أمنَ ذلك اليوم محصور بمبايعته واتباعه، جعلنا الله من أنصاره وأعوانه ومقوية سلطانه، وعجل في فرجه وسهل مخرجه.
وفي الختام
ولقائل أن يقول: إن كنتم تعتقدون أن محمداً وآل محمد أفضل من كل ما خلق الله تعالى بما في ذلك السماوات والأرض والجنة والبيت الحرام، فأين اشكالكم إذا ؟
وما الثمرة من كلامكم ؟
فنقول: اتضح مما سبق أن الاشكال هو على الخطأ المنهجي في التعامل مع الآيات والروايات، فإن تفسير القرآن الكريم بالرأي انحراف عن جادة الصواب، وفضل أهل البيت على غيرهم لا يبرّر اختراع معانٍ مخالفة للمأثور من آية أو رواية، فإن في هذا المنهج لو طبق في مختلف الأبواب تضييع للمعتقدات قبل السنن والأحكام.
ولا يتوهمّن أحد أن للغوص في المتشابهات فضلٌ، بل الفضل بالوقوف عندها وتجنبها والرجوع إلى سفن النجاة التي بها تشق أمواج الفتن المتلاطمة.
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
الثامن من محرم الحرام 1434 للهجرة.. الموافق ل 23-11-2012 للميلاد
والحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى في سورة آل عمران : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمينَ (96) فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ (97)} صدق الله العلي العظيم
لقد أنزل الله تعالى في كتابه آيات محكمات وأخر متشابهات، وأودع علم الظاهر والباطن خير خلقه محمد وآله عليهم السلام، فكان تأويله كما تنزيله عندهم.
وغير خفيّ أن ظواهر الكتاب العزيز حجة للخلق وعليهم، فيصح لهم العمل بها ويصح الاحتجاج عليهم إن نبذوها وراء ظهورهم.. ما لم تكن من المتشابهات التي يتبيّن أمرها بالمحكمات، ومن لوازم حجيتها عدم رفع اليد عن معانيها الظاهرة إلا بأدلة أو قرائن تساعد على ذلك. فليس لنا أن نترك ظواهر القرآن اعتباطاً ولا أن نعرض عنها دون وجه وجيه.
أما الباطن والتأويل، فلا يؤخذ إلا من أهله، ولا يصح الركون إليه ما لم يصدر عن النبع الزلال، فكل ادعاء غير مستند إلى ركن وثيق وقول سديد هو رجم بالغيب وتفسير للكتاب أو تأويل لآياته على غير وجه حق.
وتأويل الآيات المباركة لا ينافي العمل بظواهرها، فإنه يثبت معنىً أو معانٍ أخرى مستبطنة في الآية غير ظاهرة لكل أحد يرشدنا إليها مَن عنده علم الكتاب. وقد توهم البعض خلاف ذلك فتصوروا المنافاة بينهما ورفعوا اليد عن حجية بعض الظواهر لذلك، ولو كان ما ذهبوا إليه من تأويل وبطون مأخوذاً عن أهل البيت عليهم السلام لانحصر الاشكال على قولهم في عدم التنافي والتعارض، لكنهم أتوا بمعانٍ من بنات أفكارهم ليفسروا بها الآيات الكريمة !!
ومن ذلك كلام سمعته لأحدهم في أيام عاشوراء هذه حول الآيات المباركة من سورة آل عمران، ينفي فيه أن يكون {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً} هو الكعبة الشريفة زاعماً أن (الوضع) من مختصات (المرأة الحامل) ولا يصح استعماله في بناء البيوت إذ لو أراد الله عز وجل الكعبة الشريفة لقال (أول بيت بني للناس)!!
ولعله لما قرأ كلام الحافظ رجب البرسي عن أهل البيت عليهم السلام وأنهم (البيت المحرم الذي تتوجّه إليه سائر البريات لأنّهم أوّل بيت وضع للناس... مشارق أنوار اليقين ص44) ظن أن البرسي ينفي نزول الآية في الكعبة الشريفة، أو أراد أن يزيد عما عند الحافظ فأتى بما أتى !
وههنا دعويان:
الأولى: أنه لا يصح أن يكون البيت الذي وضع في الآية هو الكعبة الشريفة.
والثانية: أن البيت في الآية هو من ولد ببكة أي علي بن أبي طالب عليه السلام.
والإجابة على الأولى من وجوه:
الأول: أنه لا اشكال عند أهل اللغة في هذا الاستعمال، بل قد صرحوا بأن أول بيت وضع للناس هو البيت العتيق وهذه بعض كلماتهم:
1. و البيت العَتِيق: هو الكعبة لأنه أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس (كتاب العين ج1 ص146)
2. قال الخليل: البيت العتيق: الكعبة، لأنّه أوّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. (معجم مقاييس اللغة ج4 ص220)
3. و البيت العَتيقُ بمكة لقدمه لأَنه أَول بيت وضع للناس (لسان العرب ج10 ص236)
4. قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [3/ 96] يعني الكعبة. (مجمع البحرين ج2 ص192)
الثاني: أن الظاهر من الآية هو كون المقصود من البيت (البيت الحرام أو الكعبة الشريفة)، ومن الآية الثانية {من دخله كان آمناً} الحرم وهو أوسع دائرة من البيت، والظاهر حجة ما لم نرفع اليد عنه بحجة أقوى.
الثالث: أن الروايات الشريفة تؤيد وتؤكد هذا المعنى وهي عديدة نذكر بعضها:
1. عن زرارة قال: سئل أبو جعفر عليه السلام عن البيت: أكان يحج إليه قبل أن يبعث النبي ع ؟
قال: نعم، لا يعلمون أن الناس قد كانوا يحجون، و نخبركم أن آدم و نوحا و سليمان قد حجوا البيت بالجن و الإنس والطير، و لقد حجه موسى على جمل أحمر، يقول: لبيك لبيك فإنه كما قال الله تعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ».(تفسير العياشي ج1 ص186)
فإن النبي صلى الله عليه وآله قد استشهد بالآية الشريفة {أول بيت وضع} لإثبات حج الأنبياء السابقين للبيت المبارك.
2. وعن النبي (صلى الله عليه و آله) و قد سئل عن أول ركن وضع الله في الأرض.
قال (صلى الله عليه و آله): «الركن الذي بمكة، و ذلك قوله في القرآن: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً».(الاختصاص للشيخ المفيد ص50)
وسيأتي بعضها الآخر.
على أنه قد ورد في بعض الأحاديث أن مكة جملة القرية وبكة موضع الحجر(تفسير العياشي ج1 ص187)، وفي حديث أن بكة موضع البيت، وأن مكة جميع ما اكتنفه الحرم(نفس المصدر)
بين (موضع البيت) و (البيت)
ثم إن الأحاديث الشريفة تعرضت تارة (لموضع البيت) وأخرى (للبيت). والمقصود بموضع البيت هو المكان الذي بنيت عليه الكعبة الشريفة، وبالبيت نفس الكعبة الشريفة.
فقد روى الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ج2 ص241 ما نصه:
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ أَمَرَ الرِّيَاحَ الْأَرْبَعَ فَضَرَبْنَ مَتْنَ الْمَاءِ حَتَّى صَارَ مَوْجاً ثُمَّ أَزْبَدَ فَصَارَ زَبَداً وَاحِداً فَجَمَعَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ، ثُمَّ جَعَلَهُ جَبَلًا مِنْ زَبَدٍ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهِ، وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً ، فَأَوَّلُ بُقْعَةٍ خُلِقَتْ مِنَ الْأَرْضِ الْكَعْبَةُ ثُمَّ مُدَّتِ الْأَرْضُ مِنْهَا. وروى الكليني نحوه في الكافي ج4 ص190.
فيكون موضع البيت أول ما خلق من الأرض بحسب هذه الرواية، وتنطبق عليه الآية الشريفة { أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} كما انطبقت على البيت نفسه.
ويكون البيت نفسه أول ما وضع للناس مباركاً للعبادة، أي أول بيت اتخذ مباركاً ليتوجه الناس إليه لعبادة الله تعالى، فقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام : هو أول بيت ؟
قال: لا، قد كان قبله بيوت و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أول من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته قريش.(مناقب آل ابي طالب ج2 ص43)
أنزل البيت أم بني ؟
ثم إن ههنا شبهة وهي أن البيت قد أنزل من السماء أم بني على الأرض ؟
فقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة: و في تسع و عشرين من ذي القعدة أنزل الله الكعبة (المقنعة للشيخ الصدوق ص207)
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: فِي خَمْسَةٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ (من لا يحضره الفقيه ج2 ص241)
وعن الصادق عليه السلام : وَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْزَلَ الْبَيْتَ مِنَ السَّمَاءِ وَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ قِنْدِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّق (من لا يحضره الفقيه ج2 ص241)
فيما ورد في بعض الأحاديث أن آدم عليه السلام قد بناه، وفي أحاديث أخرى أن إبراهيم قد بناه كما مر سابقاً.
ومن هذه الروايات ما ورد عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِنَّ آدَمَ ع هُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ وَ وَضَعَ أَسَاسَهُ وَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الشَّعْرَ وَ أَوَّلُ مَنْ حَجَّ إِلَيْهِ ثُمَّ كَسَاهُ تُبَّعٌ بَعْدَ آدَمَ ع الْأَنْطَاعَ (بساط من الأديم) ثُمَّ كَسَاهُ إِبْرَاهِيمُ ع الْخَصَفَ وَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الثِّيَابَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ع كَسَاهُ الْقَبَاطِيَّ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص235)
وقد يتوهّم التعارض بين الروايات بالنظرة الأولى، لكن التدبّر فيها يرفع التعارض بينها.. إذ أن ما أنزل من السماء هي القواعد التي بنى بها إبراهيم عليه السلام البيت {وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيل} (البقرة 127)
وقد بنى الأنبياء البيت بالقواعد التي أنزلت من الجنة.. فيصح بهذا المعنى القول أن البيت قد أنزل من الجنة لأن القواعد التي بني منها قد أنزلت من الجنة، ويتضح هذا المعنى جلياً في حديث الإمام الصادق عليه السلام: .. فَلَمَّا بَلَغَ إِسْمَاعِيلُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ (ع) أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ فَقَالَ: يَا رَبِّ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ ؟
قَالَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْزَلْتُ عَلَى آدَمَ الْقُبَّةَ فَأَضَاءَ لَهَا الْحَرَمُ فَلَمْ تَزَلِ الْقُبَّةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ قَائِمَةً حَتَّى كَانَ أَيَّامُ الطُّوفَانِ أَيَّامُ نُوحٍ ع فَلَمَّا غَرِقَتِ الدُّنْيَا رَفَعَ اللَّهُ تِلْكَ الْقُبَّةَ وَ غَرِقَتِ الدُّنْيَا إِلَّا مَوْضِعَ الْبَيْتِ فَسُمِّيَتِ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنَ الْغَرَقِ.
فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِبْرَاهِيمَ ع أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ وَ لَمْ يَدْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَبْنِيهِ فَبَعَثَ اللَّهُ جَبْرَئِيلَ ع فَخَطَّ لَهُ مَوْضِعَ الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْجَنَّةِ وَ كَانَ الْحَجَرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ فَلَمَّا لَمَسَتْهُ أَيْدِي الْكُفَّارِ اسْوَدَّ، فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ وَ نَقَلَ إِسْمَاعِيلُ الْحَجَرَ مِنْ ذِي طُوًى.... (تفسير القمي ج1 ص61)
وفي حديث آخر : وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْزَلَهُ لآِدَمَ ع مِنَ الْجَنَّةِ وَ كَانَ دُرَّةً بَيْضَاءَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ وَ بَقِيَ أُسُّهُ وَ هُوَ بِحِيَالِ هَذَا الْبَيْتِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ أَبَداً فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ ع بِبُنْيَانِ الْبَيْتِ عَلَى الْقَوَاعِدِ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص242)
فإن أصل الإنزال قد حصل لآدم عليه السلام حيث أنزل عليه حجر أشد بياضاً من الثلج، ومن المحتمل جمعاً بين الروايات أن آدم عليه السلام قد بنى البيت من هذه الحجارة النازلة من الجنة، كما بناه إبراهيم وإسماعيل لاحقاً بقواعد من الجنة أيضاً.. ففي الحديث السابق (إِنَّ آدَمَ ع هُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ وَ وَضَعَ أَسَاسَهُ)..
ثم إن البيت رفع في أيام نوح عليه السلام إلى السماء كمامرّ إلى أن أمر الله إبراهيم ببنائه.
وقد أتى آدم للحج ألف مرة على قدميه، فعن أبي جعفر عليه السلام : أَتَى آدَمُ ع هَذَا الْبَيْتَ أَلْفَ أَتْيَةٍ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْهَا سَبْعُمِائَةِ حَجَّةٍ وَ ثَلَاثُمِائَةِ عُمْرَة (من لا يحضره الفقيه ج2 ص229)
بل قد يقال بأن إنزال الحجر على آدم وبناء آدم للبيت لا يمنع من وجوده في مرحلة سابقة على خلق آدم.. فعن الصادق عليه السلام : لَمَّا أَفَاضَ آدَمُ ع مِنْ مِنًى تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَبْطَحِ فَقَالُوا يَا آدَمُ بُرَّ حَجُّكَ أَمَا إِنَّا قَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ. (من لا يحضره الفقيه ج2 ص230)
فيكون آدم أول من بناه فعلاً، ولكنه ليس أول من حج إليه إذ سبقته إلى ذلك الملائكة. ويكون قد بني قبل ذلك وأول بانٍ له من البشر هو آدم عليه السلام، أو أنه أنزل قبل ذلك ولم يبن سابقاً.
وإن كان من المحتمل أن يكون الملائكة قد حجوا إلى الضراح لا إلى نفس البيت، والضراح هو البيت المعمور في السماء الذي جعل البيت الحرام حذاءه كما في بعض الروايات، أو بيت آخر في السماء أيضاً جعل البيت المعمور بإزائه ، وكان الملائكة يطوفون به ويستغفرون، ولما هبط آدم إلى الأرض جعل الله البيت الحرام لآدم وذريته بإزاء الضراح الذي صيّره لأهل السماء (كما في تفسير العياشي ج1 ص30، وفي الكافي ج4 ص187، وفي عيون أخبار الرضا ج2 ص91)
ويكون إبراهيم أول من بنى البيت الحرام بعد رفعه إلى السماء (في زمن نوح عليه السلام) وأمر الله له بإعادة البناء وإنزال القواعد إليه، أو أول من بناه على وجه يكون مباركاً فيه الهدى للعالمين كما في الآية والرواية.
فإن تم الجمع بين الروايات بإحدى هذه الطرق فهو المعوّل عليه، وإن عدّ جمعاً تبرّعياً لا شاهد له (وذلك بعيد) فالمرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية أو غيرهما.. وإن فرض عدم وجود مرجح فالتوقف في المسألة خير من الاقتحام بلا برهان.
وأما الدعوى الثانية (أن علياً هو البيت)
فالإجابة عليها أيضاً (إضافة إلى ما مضى) من وجوه:
الأول:لم يستند اصحاب هذه الدعوى إلى رواية ولو ضعيفة في ما ذهبوا إليه، فإن أرادوا مما قالوا المعنى الظاهر فقد عرفت بطلانه، وإن أرادوا باطناً فماذا عندهم مما يصح الاعتماد عليه ؟
الثاني: ورد في الأحاديث والأدعية ما لا يتفق مع هذا المعنى، ومنها ما في دعاء الندبة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ...إِلَى أَنِ انْتَهَيْتَ بِالْأَمْرِ إِلَى حَبِيبِكَ وَ نَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِه....
وَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَوَّأْتَهُ مُبَوَّءَ صِدْقٍ مِنْ أَهْلِهِ، وَ جَعَلْتَ لَهُ وَ لَهُمْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنا.( المزار الكبير لابن المشهدي ص: 573 وما بعدها، إقبال الأعمال ج1ص295 وغيرهما)
فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل أول بيت وضع للناس لحبيبه محمد ولأهله.. أي أن الله سبحانه وتعالى كرّم محمداً وأهل محمد بالبيت.. فكيف يكون البيت نفسه من أهله ؟ أي كيف يكون البيت نفسه علياً والبيت قد جعل كرامة لمحمد وعلي وآلهما ؟
الثالث: إن إنزال البيت من الجنة على آدم عليه السلام، وإنزال القواعد من الجنة على إبراهيم عليه السلام، لا يدل على تفضيل البيت على بني آدم قاطبة بمن فيهم محمد وعلي عليهما السلام، فإن لم تكن الجنة أفضل منهم هل سيكون الحجر النازل منها أو القواعد النازلة منها خيراً منهم عليهم السلام ؟
ولسنا بحاجة إلى تأويلات غير سديدة لإثبات المقامات السامية الرفيعة لآل محمد عليهم السلام، فإنهم خير من الجنة، بل خير خلق الله عز وجل على الإطلاق.
والجنة والبيت كما السماء والأرض وغيرها مخلوقات لله عز وجل لا تضاهي مكانتها مكانة محمد وآل محمد عليهم السلام.
فعن النبي (ص) : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَنِي وَ عَلِيّاً مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، إِذْ لَا تَسْبِيحَ وَ لَا تَقْدِيسَ، فَفَتَقَ نُورِي فَخَلَقَ مِنْهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ وَ أَنَا وَ اللَّهِ أَجَلُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ.
وَ فَتَقَ نُورَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَلَقَ مِنْهُ الْعَرْشَ وَ الْكُرْسِيَّ وَ عَلِيٌّ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِّ. وَ فَتَقَ نُورَ الْحَسَنِ، فَخَلَقَ مِنْهُ اللَّوْحَ وَ الْقَلَمَ، وَ الْحَسَنُ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ اللَّوْحِ وَ الْقَلَمِ، وَ فَتَقَ نُورَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ خَلَقَ مِنْهُ الْجِنَانَ وَ الْحُورَ الْعِينَ، وَ الْحُسَيْنُ وَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجِنَانِ وَ الْحُورِ الْعِينِ.(الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص112، والفضائل لابن شاذان ص129 مع اختلاف يسير)
ومثل هذه المعاني مسلمة مقطوع بصحتها، وما هذا النص إلا للاستئناس والتأييد.
ارتباط الآية بآل محمد
نعم لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن لهذه الآية كما لكثير من الآيات ارتباط بآل محمد عليهم السلام من جهات أخرى.. فكما كان الداخل إلى الحرم في الدنيا آمناً حتى لو كان عاصياً، كان الداخل امتثالاً لأمر الله عز وجل عارفاً بحق آل محمد آمناً في الدنيا والآخرة.
فقد سئل أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل {ومن دخله كان آمناً} فقال: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: مَنْ أَمَّ هَذَا الْبَيْتَ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ وَ عَرَفَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ حَقَّ مَعْرِفَتِنَا كَانَ آمِناً فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ.(الكافي ج4 ص545)
وللآية انطباق من جهة أخرى على صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعن الصادق عليه السلام: أَمَّا قَوْلُهُ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فَمَنْ بَايَعَهُ وَ دَخَلَ مَعَهُ وَ مَسَحَ عَلَى يَدِهِ وَ دَخَلَ فِي عَقْدِ أَصْحَابِهِ كَانَ آمِنا (علل الشرائع ج1 ص91)
فإنّ أمنَ ذلك اليوم محصور بمبايعته واتباعه، جعلنا الله من أنصاره وأعوانه ومقوية سلطانه، وعجل في فرجه وسهل مخرجه.
وفي الختام
ولقائل أن يقول: إن كنتم تعتقدون أن محمداً وآل محمد أفضل من كل ما خلق الله تعالى بما في ذلك السماوات والأرض والجنة والبيت الحرام، فأين اشكالكم إذا ؟
وما الثمرة من كلامكم ؟
فنقول: اتضح مما سبق أن الاشكال هو على الخطأ المنهجي في التعامل مع الآيات والروايات، فإن تفسير القرآن الكريم بالرأي انحراف عن جادة الصواب، وفضل أهل البيت على غيرهم لا يبرّر اختراع معانٍ مخالفة للمأثور من آية أو رواية، فإن في هذا المنهج لو طبق في مختلف الأبواب تضييع للمعتقدات قبل السنن والأحكام.
ولا يتوهمّن أحد أن للغوص في المتشابهات فضلٌ، بل الفضل بالوقوف عندها وتجنبها والرجوع إلى سفن النجاة التي بها تشق أمواج الفتن المتلاطمة.
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
الثامن من محرم الحرام 1434 للهجرة.. الموافق ل 23-11-2012 للميلاد
تعليق