• الحسين (عليه السلام) يخطب في أصحابه ويأذن لهم بالتفرّق عنه:
رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: جمع الحسين (عليه السلام) أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قُرب المساء، قال: فدنوتُ منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: «أُثني على الله (تبارك وتعالى) أحسن الثناء، وأحمَدهُ على السّراء والضراء. اللّهم إنّي أحمَدُك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين.
أما بعد؛ فإني لا أعلمُ أصحاباً أَولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيت أبرَّ ولا أَوصلَ من أهل بيتي، فجزاكمُ الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظنُّ يومنا من هؤلاءِ الأعداءِ غداً، ألا وإني قد أَذِنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذِمام، هذا اللّيلُ قد غشِيَكم فاتّخِذُوه جَمَلاً، ولْيأخُذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرّجَ الله، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهَوا عن طلب غيري».
• جواب بني هاشم والأنصار للحسين (عليه السلام):
فقال له إخوتُه وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدَكَ! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القولِ العباسُ بن عليّ (عليه السلام)، ثمّ إنهم تكلّموا بهذا أو نحوِه ...
وفي روايةٍ أُخرى: فقام إليه العباس بن عليّ أخوه (عليهما السلام) وعليّ ابنه وبنو عقيل، فقالوا له: مَعاذَ الله والشهرِ الحرام! فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم، إنّا تركنا سيّدنا وابن سيّدنا وعمادنا، وتركناه غرضاً للنبل ودريئةً للرماح وجزراً للسباع، وفررنا عنه رغبةً في الحياة؟! معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك! فبكى وَبكَوا عليه، وجزّاهم خيراً (ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد الله الحسن: 24 - نقلاً عن: مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني: 112).
فقال الحسين (عليه السلام): «يا بني عَقيل، حَسبُكم من القتلِ بمسلِم، إذهبوا قد أذِنتُ لكم»، قالوا: فما يقولُ الناس؟ يقولون: إنّا تركنا شَيخَنا وسيّدنا وبني عمومتِنا خيرِ الأعمام، ولم نرْمِ معَهم بسهمٍ، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسُنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتلُ معك حتّى نردَ مورِدَك، فقبّحَ اللهُ العيشَ بعدَك.
فقام إليه مسلمُ بنُ عوسجة الأسدي فقال: أنحنُ نخلّي عنك، ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقِك؟! أما واللهِ لا أُفارقُك حتّى أكسر في صدورِهم رمحي، وأضربَهمْ بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أقاتُلهم به لَقذفتُهم بالحجارة دونَك، حتّى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي: واللهِ لا نخلّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنّا قد حَفِظنا غَيبةَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيك، والله لو علمتُ أني أُقتلُ ثم أُحيا ثمّ أُحرقُ حيَّاً ثمّ أُذرُّ، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً، ما فارقتُك حتّى ألقى حِمامي دونَك، فكيف لا أفعل ذلكَ وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثمَّ هيَ الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبداً!
ثمّ قام زُهير بن القين وقال: واللهِ لَوددتُ أني قُتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلت، حتّى أُقتلَ كذا ألف قتلة، وأنّ اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِك وعن أنفُس هؤلاءِ الفتيةِ من أهل بيتك!
وتكلّم جماعةُ أصحابه بكلامٍ يُشبهُ بعضه في وجهٍ واحد، فقالوا: واللهِ لا نُفارِقُك، ولكن أنفُسنا لكَ الفداء، نَقيكَ بنحورِنا وجباهِنا وأيدينا، فإذا نحنُ قُتِلنا كُنّا وفَينا وقضينا ما علينا (تاريخ الطبري: 4 / 317 ــ 318، نهاية الإرب للنويري: 20 / 434، الكامل في التاريخ لابن الاثير: 4 / 57 ــ 58، مقتل الحسين للخوارزمي: 246 ــ 247، الإرشاد للمفيد: 231، إعلام الورى للطبرسي: 237 ــ 239، أمالي الصدوق: 133، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 316).
• الحسين (عليه السلام) يأذن للحضرمي بالانصراف لفكاك ولده:
وقيلَ لمحمّدِ بن بشر الحضرمي في تلكَ الحال: قد أُسرَ ابنُك بثغر الرّي، فقال: عندَ اللهِ أحتسبه ونفسي، ما كُنتُ اُحبّ أَن يُؤسرَ وأن أبقى بعده.
فَسمِعَ الحسين (عليه السلام) قولَه، فقال: «رَحِمكَ اللهُ، أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاعملْ في فكاكِ ابنِك».
فقال: أكلَتْني السّباعُ حيّاً إنْ فارقتُك.
قال (عليه السلام): «فأعطِ ابنَكَ هذهِ الأثواب البُرُود، يستعينُ بها في فداء أخيه»، فأعطاه خَمسةَ أثواب قيمتُها ألف دينار (بحار الأنوار: 44 / 394، العوالم: 17 / 244، أسرار الشهادة للدربندي: 1 / 221، ترجمة الإمام الحسين (من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر): 221 ح 202).
ولله درّ السيّد رضا الهندي (عليه الرحمة)، إذ يقول في هذه الصفوة الأنجاب:
• سكينة تصف ليلة العاشر:
روى مؤلف كتاب (نور العيون) بإسناده عن سكينة بنت الحسين (عليهما السلام) أنّها قالت: كنتُ جالسةً في ليلةٍ مقمرة وسط الخيمة، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً، فخشيت أن يفقه بي النساء، فخرجتُ أعثر بأذيالي وإذا بأبي (عليه السلام) جالس وحوله أصحابه وهو يبكي، وسمعته يقول لهم: «إعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقْدم على قومٍ بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر، لأنهم استخوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصدٌ إلّا قتلي وقتل من يجاهد بين يدَي وسبْيُ حرمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكم ما تعلمون وتستحون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم (وفي أسرار الشهادة: «وأخاف أن لا تعلموا ذلك، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت»)، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فإنّ الليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمان، وقد قال جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله): ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء، غريباً وحيداً عطشاناً فريداً، فمَن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم (عجّل الله فرجه)، ولو نصَرَنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة».
قالت سكينة: فوالله ما أتمّ كلامه إلّا وتفرّق القوم من عشرة وعشرين، فلم يبق معه إلّا واحد وسبعون رجلاً، فنظرتُ إلى أبي منكّساً رأسه، فخنقتني العبرة، فخشيت أن يسمعني، ورفعت طَرْفي إلى السماء وقلت: اللّهم إنّهم خذلونا فاخذلهم، ولا تجعل لهم دعاءً مسموعاً، وسلِّطْ عليهم الفقر، ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة. ورجعتُ ودموعي تجري على خدّي، فرأتني عمّتي أُمّ كلثوم فقالت: ما دهاكِ يا بنتاه؟! فأخبرتُها الخبر، فصاحت: وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا قلّة ناصراه، أين الخلاص من الأعداء؟! ليتهم يقنعون بالفداء، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى.. فعلا منّا البكاء والنحيب.
فسمع أبي ذلك، فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري، وقال: «ما هذا البكاء؟»، فقالت: يا أخي، رُدَّنا إلى حرم جدّنا، فقال: «يا أُختاه، ليس لي إلى ذلك سبيل»، قالت: أجل، ذكّرهم محلّ جدّك وأبيك وأُمّك وأخيك، قال: «ذكّرتُهم فلم يذكّروا، ووعظتهم فلم يتّعظوا ولم يسمعوا قولي، فما لهم غير قتلي سبيل، ولابدّ أن تروني على الثّرى جديلاً، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البرية، والصبر على البلية، وكظم نزول الرزيّة، وبهذا أوعد جدُّكم ولا خُلْف لما أوعد، ودّعتكم إلهي الفردَ الصمد»، ثمّ تباكينا ساعة والإمام (عليه السلام) يقول: «﴿وما ظلمونا ولكنْ كانوا أنفسَهم يَظلمون﴾» (الدمعة الساكبة: 4 / 271 ــ 272، أسرار الشهادة: 2 / 222 ــ 223، والآية من سورة البقرة: 57).
• الإمام الحسين (عليه السلام) يُخبر أصحابَه بالشهادة:
رُوي عن أبي حمزة الثمالي (رضي الله عنه) قال: سمعت عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) يقول: لمّا كان اليومُ الذي استُشهد فيه أبي (عليه السلام)، جمعَ أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم، فقال لهم: «يا أهلي وشيعتي، إتّخِذوا هذا الليل جملاً لكم وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، فأنتم في حلٍّ وسعةٍ من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني».
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: والله يا سيدنا يا أبا عبد الله، لا خذَلْناك أبداً، والله لا قال الناس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيّدهم وحده حتّى قُتل، ونبلو بيننا وبين الله عُذراً، ولا نخليك أو نُقتل دونك.
فقال لهم: «يا قوم، إنّي في غَدٍ أُقتلُ وتُقتَلون كلّكم معي، ولا يَبقى مِنكم واحدٌ»، فقالوا: الحمد للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا ابن رَسولِ اللهِ؟
فقال (عليه السلام): «جزاكم الله خيراً»، ودعا لهم بخير، فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون.
فقال له القاسم بن الحسن (عليه السلام): وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفق عليه، فقال له: «يا بُني، كيف الموت عندك؟»، قال: يا عمّ، فيك أحلى مِنَ العسل، فقال: «إي واللهِ فداك عمُّك، إنّك لَأحدُ من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاءٍ عظيم، ويُقتل ابني عبد الله».
فقال: يا عمّ، ويَصِلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟ فقال: «فداك عمك، [يُقتل ابني عبد الله إذا جفّت روحه عطشاً وصرتُ إلى خِيمنا، فطلبتُ له ماءً ولبناً فلا أجد قط، فأقول: ناولوني ابني لأُشربه مِنْ فيَّ] (كان في العبارة تصحيف، وما بين القوسين هو ما أثبته صاحب معالي السبطين)، فيأتوني به فيضعونه على يدَيّ، فأحمله لأُدنيه من فِيّ، فيرميه فاسق بسهمٍ فينحره وهو يناغي، فيفيض دمه في كفي، فأرفعه إلى السماء وأقول: اللّهم صبراً واحتساباً فيك، فتعجلني الأسنّة منهم، والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقاتٍ في الدنيا، فيكونُ ما يُريد الله»، فبكى وبكينا، وارتفع البكاءُ والصراخ من ذراري رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الخيم.
ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن عليٍّ، فيقولون: يا سيدّنا، فسيّدنا عليّ؟ فيشيرون إليَّ ماذا يكون من حاله؟ فيقول مستعبراً: «ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا، فكيف يصلون إليه وهو أبُ ثمانية أئمة؟!» (مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 214 و295 و286 طـ قديم، وروى هذه الرواية بإسناده إلى أبي حمزة ابنُ حمدان الحضيني في الهداية الكبرى، معالي السبطين للحائري: 1 / 343 ــ 344، نفَس المهموم للقميّ: 343 ــ 344).
• الإمام الحسين (عليه السلام) يُري أصحابَه منازلهم في الجنة:
روي أنّ الحسين (عليه السلام) كشف لأصحابه عن أبصارهم، فرأوا ما حباهمُ اللهُ من نعيم، وعرَّفَهم منازلَهم فيها، وليس ذلك في القدرةِ الإلهيةِ بعزيز، ولا في تصرفات الإمام بغريب، فإنَّ سحرةَ فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتْلَهم، أراهم النبيُّ موسى (عليه السلام) منازلَهم في الجنة (أخبار الزمان للمسعودي: 274، مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: 215).
قال شاعر أهل البيت الفرطوسي (عليه الرحمة):
قال: «إنكم تُقتلون غداً كلّكم، ولا يفلت منكم رجل»، قالوا: الحمد لله الذي شرفّنا بالقتل معك.
ثمّ دعا وقال لهم: «إرفعوا رؤوسَكم وانظروا»، فجعلوا يَنظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنة، وهو يقول لهم: «هذا منزِلُكَ يا فلان، وهذا قصرُك يا فلان، وهذه درجتك يا فلان»، فكان الرجلُ يَستقبلُ الرّماحَ والسيوف بصدرِه وَوجهِه، ليصلَ إلى مَنزِلِه مِنَ الجنة (الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 842 ــ 848، بحار الأنوار: 44 / 298، أسرار الشهادة: 2 / 221).
وفي حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، أنّ الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: «أبشروا بالجنّة، فواللهِ إنّا نَمكثُ مَا شاء اللهُ بعد ما يجري علينا، ثمّ يُخرجُنا اللهُ وإياكم حتّى يَظهر قائمُنا، فَينتقمَ من الظالمين، وأنا وأنتم نُشاهِدُهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب»!
فَقيلَ له: ما قائمُكُم يا ابن رسولِ الله؟
قال: «السابعُ مِن وُلدِ ابني محمّد بن عليِّ الباقر، وهو الحجّةُ ابنُ الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ ابني، وهو الذي يَغيبُ مدةً طويلةً، ثمّ يظهر ويملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وَجوراً» (مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: 215).
وروى الصدوق (عليه الرحمة) في علّة إقدام أصحاب الحسين (عليه السلام) على القتل، قال: حدثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه)، قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا محمّد بن زكريا الجوهري، قال: حدثنا جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبِرْني عن أصحاب الحسين (عليه السلام) وإقدامِهم على الموت، فقال: «إنَّهم كُشفَ لَهم الغطاءُ حتّى رَأوا منازلَهم من الجنّةِ، فكان الرجلُ منهم يَقدمُ على القتلِ لِيُبادرَ إلى حَوراءَ يُعانِقُها وإلى مكانِه مِن الجنة» (علل الشرائع للصدوق: 1 / 229 ب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297، مدينة المعاجز: 4 / 214).
وجاء في زيارة الناحية المقدسة: «أَشْهدُ لَقدْ كَشفَ اللهُ لكمُ الغِطاء، وَمَهَّدَ لكُمُ الوِطاء، وأجزل لكمُ العطاء، وكُنْتُم عن الحقِّ غَيرَ بِطاء، وأنتُم لنا فُرطاء، ونحنُ لكُم خُلطاءُ في دارِ البقاء، والسلام عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاته» (الإقبال لابن طاووس: 3 / 80، بحار الأنوار: 98 / 273 ــ 274).
ولقد أجاد من قال فيهم (عليهم السلام):
• الإمام الحسين (عليه السلام) يعظ أصحابه ويبشّرهم:
جاء في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله (عزّ وجل): ﴿وإذْ قُلْنا للملائكةِ اسجُدُوا لآدمَ فسَجَدُوا إلّا إبليسَ أبى واستكبَرَ وكانَ مِنَ الكافرين﴾ (سورة البقرة: 34)، قال (عليه السلام): ولمّا امتُحن الحسين (عليه السلام) ومن معه بالعسكر الذين قتلوه وحملوا رأسه، قال لعسكره: «أنتم مِن بيعتي في حِلٍّ، فالحَقُوا بعشائركم ومواليكم»، وقال لأهل بيته: «قد جعلتُكم في حلٍّ مِن مفارقتي، فإنَّكمْ لا تُطيقونهم لِتَضاعُفِ أعدادهم وقواهُم، وما المقصود غيري، فَدَعوني والقوم، فإنَّ اللهَ (عزّ وجلّ) يُعينُني ولا يُخليني من حُسن نظره، كعاداته في أسلافنا الطيِّبين».
فأمّا عسكره ففارقوه، وأما أهله الأدنون من أقربائه فأبوا، وقالوا: لا نفارقك، ويحلُّ بنا ما يحلُّ بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكونُ إلى الله إذا كنا معك.
فقال لهم: «فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطَّنتُ نفسي عليه، فاعلموا أنَّ الله إنّما يهبُ المنازل الشريفة لعباده لصبرهم باحتمال المكاره، وأنّ الله وإن كان خَصَّني مع مَن مضى مِن أهليَ الَّذين أنا آخرُهم بقاءً في الدُّنيا من الكرامات، بما يَسهل عليَّ معها احتمال الكريهات، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله تعالى، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومرها حُلمٌ (وفي أسرار الشهادة: «واعلموا أنّ الدنيا حلوُها مرّ ومرُّها حلو»)، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيُّ مَن شقي فيها. أوَ لا أُحدّثكم بأوّل أمرنا وأمركم ــ معاشرَ أوليائنا ومحبّينا والمعتصمينَ بنا ــ، ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون؟» (وفي بحار الأنوار: «مقرّون»).
قالوا: بلى يا ابن رسول الله.
قال: «إنَّ الله تعالى لمّا خلقَ آدم وسوّاه، وعلَّمَه أسماءَ كلِّ شيء وعرضهم على الملائكة، جعل محمّداً وعلياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ (عليهم السلام) أشباحاً خمسةً في ظهرِ آدم، وكانت أنوارُهم تُضيءُ في الآفاق من السماوات والحُجُب والجنان والكرسيّ والعرش، فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً له، إنَّه قد فضّله بأن جعله وعاءً لتلك الأشباح التي قد عمَّ أنوارُها في الآفاق، فسجدوا إلّا إبليسَ أبى أن يتواضع لجلال عظمة الله، وأن يتواضع لأنوارنا أهلَ البيت، وقد تواضعت لها الملائكةُ كلُّها، واستكبر وترفَّع، وكان ــ بإبائه ذلك وتكبّره ــ من الكافرين» (تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 218 ــ 219، تأويل الآيات: 1 / 44 ح 18 باختصار، بحار الأنوار: 11 / 149 و45 / 90 ــ 91، الدمعة الساكبة: 4 / 270، أسرار الشهادة: 2 / 223 إلى قوله: «الشقيّ مَن شقيَ فيها»).
ومن جملة البشارات التي بشَّر بها الحسينُ (عليه السلام) أصحابَه (عليهم السلام)، هو ما رواه القطب الراوندي عن أبي سعيد سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن ابن فُضَيل، عن سعد الجلّاب، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الحسين بن عليّ (عليهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتل: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساقُ إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تدعى "عموراء"، وإنك تُستشهد بها، ويُستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: ﴿قُلنا يَا نارُ كُوني برداً وَسلاماً على إبراهيم﴾ (سورة الأنبياء: 69). تكونُ الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً، فابشروا، فوالله لئن قتلونا، فإنَّا نُرَدّ على نبيّنا» (الجرائح والخرائج للراوندي: 2 / 848، بحار الأنوار: 45 / 80 ح 6، مدينة المعاجز للبحراني: 3 / 504 ح 245 ط الحجرية).
رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: جمع الحسين (عليه السلام) أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قُرب المساء، قال: فدنوتُ منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: «أُثني على الله (تبارك وتعالى) أحسن الثناء، وأحمَدهُ على السّراء والضراء. اللّهم إنّي أحمَدُك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين.
أما بعد؛ فإني لا أعلمُ أصحاباً أَولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيت أبرَّ ولا أَوصلَ من أهل بيتي، فجزاكمُ الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظنُّ يومنا من هؤلاءِ الأعداءِ غداً، ألا وإني قد أَذِنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذِمام، هذا اللّيلُ قد غشِيَكم فاتّخِذُوه جَمَلاً، ولْيأخُذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرّجَ الله، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهَوا عن طلب غيري».
• جواب بني هاشم والأنصار للحسين (عليه السلام):
فقال له إخوتُه وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدَكَ! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القولِ العباسُ بن عليّ (عليه السلام)، ثمّ إنهم تكلّموا بهذا أو نحوِه ...
وفي روايةٍ أُخرى: فقام إليه العباس بن عليّ أخوه (عليهما السلام) وعليّ ابنه وبنو عقيل، فقالوا له: مَعاذَ الله والشهرِ الحرام! فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم، إنّا تركنا سيّدنا وابن سيّدنا وعمادنا، وتركناه غرضاً للنبل ودريئةً للرماح وجزراً للسباع، وفررنا عنه رغبةً في الحياة؟! معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك! فبكى وَبكَوا عليه، وجزّاهم خيراً (ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد الله الحسن: 24 - نقلاً عن: مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني: 112).
فقال الحسين (عليه السلام): «يا بني عَقيل، حَسبُكم من القتلِ بمسلِم، إذهبوا قد أذِنتُ لكم»، قالوا: فما يقولُ الناس؟ يقولون: إنّا تركنا شَيخَنا وسيّدنا وبني عمومتِنا خيرِ الأعمام، ولم نرْمِ معَهم بسهمٍ، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسُنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتلُ معك حتّى نردَ مورِدَك، فقبّحَ اللهُ العيشَ بعدَك.
فقام إليه مسلمُ بنُ عوسجة الأسدي فقال: أنحنُ نخلّي عنك، ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقِك؟! أما واللهِ لا أُفارقُك حتّى أكسر في صدورِهم رمحي، وأضربَهمْ بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أقاتُلهم به لَقذفتُهم بالحجارة دونَك، حتّى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي: واللهِ لا نخلّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنّا قد حَفِظنا غَيبةَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيك، والله لو علمتُ أني أُقتلُ ثم أُحيا ثمّ أُحرقُ حيَّاً ثمّ أُذرُّ، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً، ما فارقتُك حتّى ألقى حِمامي دونَك، فكيف لا أفعل ذلكَ وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثمَّ هيَ الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبداً!
ثمّ قام زُهير بن القين وقال: واللهِ لَوددتُ أني قُتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلت، حتّى أُقتلَ كذا ألف قتلة، وأنّ اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِك وعن أنفُس هؤلاءِ الفتيةِ من أهل بيتك!
وتكلّم جماعةُ أصحابه بكلامٍ يُشبهُ بعضه في وجهٍ واحد، فقالوا: واللهِ لا نُفارِقُك، ولكن أنفُسنا لكَ الفداء، نَقيكَ بنحورِنا وجباهِنا وأيدينا، فإذا نحنُ قُتِلنا كُنّا وفَينا وقضينا ما علينا (تاريخ الطبري: 4 / 317 ــ 318، نهاية الإرب للنويري: 20 / 434، الكامل في التاريخ لابن الاثير: 4 / 57 ــ 58، مقتل الحسين للخوارزمي: 246 ــ 247، الإرشاد للمفيد: 231، إعلام الورى للطبرسي: 237 ــ 239، أمالي الصدوق: 133، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 316).
• الحسين (عليه السلام) يأذن للحضرمي بالانصراف لفكاك ولده:
وقيلَ لمحمّدِ بن بشر الحضرمي في تلكَ الحال: قد أُسرَ ابنُك بثغر الرّي، فقال: عندَ اللهِ أحتسبه ونفسي، ما كُنتُ اُحبّ أَن يُؤسرَ وأن أبقى بعده.
فَسمِعَ الحسين (عليه السلام) قولَه، فقال: «رَحِمكَ اللهُ، أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاعملْ في فكاكِ ابنِك».
فقال: أكلَتْني السّباعُ حيّاً إنْ فارقتُك.
قال (عليه السلام): «فأعطِ ابنَكَ هذهِ الأثواب البُرُود، يستعينُ بها في فداء أخيه»، فأعطاه خَمسةَ أثواب قيمتُها ألف دينار (بحار الأنوار: 44 / 394، العوالم: 17 / 244، أسرار الشهادة للدربندي: 1 / 221، ترجمة الإمام الحسين (من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر): 221 ح 202).
ولله درّ السيّد رضا الهندي (عليه الرحمة)، إذ يقول في هذه الصفوة الأنجاب:
صِيداً إذا شبّ الهيـاجُ وشابَتِ الْـ * أرضُ الـدما، والطفـلُ رعباً شابا
ركزوا قناهم في صـدورِ عِداتِهم * ولبِيضِهم جـعلوا الرقـابَ قِرابا
تَجلُو وجوهُهمُ دجى النقـعِ الذي * يـكسو بظلمتِه ذُكـاءَ نـقـابـا
وتـنـادبَـتْ للـذَّبِّ عنه عصبةٌ * وَرِثوا الـمعالي أشـيـباً وشبابا
مَن يَنتدبْهم للكريـهةِ يَـنـتدبْ * منهم ضَراغمةَ الأُسـود غِضابا
خَفُّوا لداعي الحرب حينَ دَعاهمُ * ورَسَوا بعرصةِ كربلاءَ هضابا
أُسْدٌ قدِ اتّخذوا الصـوارمَ حِليةً * وتَسَرْبلوا حلَقَ الدروعِ ثـيابـا
تَخِذت عيونُهمُ القـساطلَ كُحلَها * وأكفُّهـم فَيـضَ النحورِ خِضابا
يتمايلـون كأنّما غنّـى لـهـم * وقْـعُ الضُّبا وسقـاهُمُ أكـوابا
بَرَقت سيـوفهمُ فأمطَرَتِ الطِّلا * بـدمـائِها والنقعُ ثارَ سَحـابـا
وكأنّهم مستقبِـلون كـواعـبـاً * مُسـتقـبِليـنَ أسنّةً وكـعـابـا
وجدوا الردى مِن دونِ آلِ محمّدٍ * عَذْباً، وبَـعدَهـمُ الحـياةَ عذابا
ودعـاهمُ داعي القضاءِ وكلُّهُم * نَدْبٌ إذا الداعي دَعاه أجابا
ركزوا قناهم في صـدورِ عِداتِهم * ولبِيضِهم جـعلوا الرقـابَ قِرابا
تَجلُو وجوهُهمُ دجى النقـعِ الذي * يـكسو بظلمتِه ذُكـاءَ نـقـابـا
وتـنـادبَـتْ للـذَّبِّ عنه عصبةٌ * وَرِثوا الـمعالي أشـيـباً وشبابا
مَن يَنتدبْهم للكريـهةِ يَـنـتدبْ * منهم ضَراغمةَ الأُسـود غِضابا
خَفُّوا لداعي الحرب حينَ دَعاهمُ * ورَسَوا بعرصةِ كربلاءَ هضابا
أُسْدٌ قدِ اتّخذوا الصـوارمَ حِليةً * وتَسَرْبلوا حلَقَ الدروعِ ثـيابـا
تَخِذت عيونُهمُ القـساطلَ كُحلَها * وأكفُّهـم فَيـضَ النحورِ خِضابا
يتمايلـون كأنّما غنّـى لـهـم * وقْـعُ الضُّبا وسقـاهُمُ أكـوابا
بَرَقت سيـوفهمُ فأمطَرَتِ الطِّلا * بـدمـائِها والنقعُ ثارَ سَحـابـا
وكأنّهم مستقبِـلون كـواعـبـاً * مُسـتقـبِليـنَ أسنّةً وكـعـابـا
وجدوا الردى مِن دونِ آلِ محمّدٍ * عَذْباً، وبَـعدَهـمُ الحـياةَ عذابا
ودعـاهمُ داعي القضاءِ وكلُّهُم * نَدْبٌ إذا الداعي دَعاه أجابا
(رياض المدح والرثاء للبحرانيّ: 94 ــ 95)
• سكينة تصف ليلة العاشر:
روى مؤلف كتاب (نور العيون) بإسناده عن سكينة بنت الحسين (عليهما السلام) أنّها قالت: كنتُ جالسةً في ليلةٍ مقمرة وسط الخيمة، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً، فخشيت أن يفقه بي النساء، فخرجتُ أعثر بأذيالي وإذا بأبي (عليه السلام) جالس وحوله أصحابه وهو يبكي، وسمعته يقول لهم: «إعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقْدم على قومٍ بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر، لأنهم استخوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصدٌ إلّا قتلي وقتل من يجاهد بين يدَي وسبْيُ حرمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكم ما تعلمون وتستحون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم (وفي أسرار الشهادة: «وأخاف أن لا تعلموا ذلك، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت»)، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فإنّ الليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمان، وقد قال جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله): ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء، غريباً وحيداً عطشاناً فريداً، فمَن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم (عجّل الله فرجه)، ولو نصَرَنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة».
قالت سكينة: فوالله ما أتمّ كلامه إلّا وتفرّق القوم من عشرة وعشرين، فلم يبق معه إلّا واحد وسبعون رجلاً، فنظرتُ إلى أبي منكّساً رأسه، فخنقتني العبرة، فخشيت أن يسمعني، ورفعت طَرْفي إلى السماء وقلت: اللّهم إنّهم خذلونا فاخذلهم، ولا تجعل لهم دعاءً مسموعاً، وسلِّطْ عليهم الفقر، ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة. ورجعتُ ودموعي تجري على خدّي، فرأتني عمّتي أُمّ كلثوم فقالت: ما دهاكِ يا بنتاه؟! فأخبرتُها الخبر، فصاحت: وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا قلّة ناصراه، أين الخلاص من الأعداء؟! ليتهم يقنعون بالفداء، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى.. فعلا منّا البكاء والنحيب.
فسمع أبي ذلك، فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري، وقال: «ما هذا البكاء؟»، فقالت: يا أخي، رُدَّنا إلى حرم جدّنا، فقال: «يا أُختاه، ليس لي إلى ذلك سبيل»، قالت: أجل، ذكّرهم محلّ جدّك وأبيك وأُمّك وأخيك، قال: «ذكّرتُهم فلم يذكّروا، ووعظتهم فلم يتّعظوا ولم يسمعوا قولي، فما لهم غير قتلي سبيل، ولابدّ أن تروني على الثّرى جديلاً، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البرية، والصبر على البلية، وكظم نزول الرزيّة، وبهذا أوعد جدُّكم ولا خُلْف لما أوعد، ودّعتكم إلهي الفردَ الصمد»، ثمّ تباكينا ساعة والإمام (عليه السلام) يقول: «﴿وما ظلمونا ولكنْ كانوا أنفسَهم يَظلمون﴾» (الدمعة الساكبة: 4 / 271 ــ 272، أسرار الشهادة: 2 / 222 ــ 223، والآية من سورة البقرة: 57).
• الإمام الحسين (عليه السلام) يُخبر أصحابَه بالشهادة:
رُوي عن أبي حمزة الثمالي (رضي الله عنه) قال: سمعت عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) يقول: لمّا كان اليومُ الذي استُشهد فيه أبي (عليه السلام)، جمعَ أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم، فقال لهم: «يا أهلي وشيعتي، إتّخِذوا هذا الليل جملاً لكم وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، فأنتم في حلٍّ وسعةٍ من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني».
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: والله يا سيدنا يا أبا عبد الله، لا خذَلْناك أبداً، والله لا قال الناس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيّدهم وحده حتّى قُتل، ونبلو بيننا وبين الله عُذراً، ولا نخليك أو نُقتل دونك.
فقال لهم: «يا قوم، إنّي في غَدٍ أُقتلُ وتُقتَلون كلّكم معي، ولا يَبقى مِنكم واحدٌ»، فقالوا: الحمد للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا ابن رَسولِ اللهِ؟
فقال (عليه السلام): «جزاكم الله خيراً»، ودعا لهم بخير، فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون.
فقال له القاسم بن الحسن (عليه السلام): وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفق عليه، فقال له: «يا بُني، كيف الموت عندك؟»، قال: يا عمّ، فيك أحلى مِنَ العسل، فقال: «إي واللهِ فداك عمُّك، إنّك لَأحدُ من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاءٍ عظيم، ويُقتل ابني عبد الله».
فقال: يا عمّ، ويَصِلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟ فقال: «فداك عمك، [يُقتل ابني عبد الله إذا جفّت روحه عطشاً وصرتُ إلى خِيمنا، فطلبتُ له ماءً ولبناً فلا أجد قط، فأقول: ناولوني ابني لأُشربه مِنْ فيَّ] (كان في العبارة تصحيف، وما بين القوسين هو ما أثبته صاحب معالي السبطين)، فيأتوني به فيضعونه على يدَيّ، فأحمله لأُدنيه من فِيّ، فيرميه فاسق بسهمٍ فينحره وهو يناغي، فيفيض دمه في كفي، فأرفعه إلى السماء وأقول: اللّهم صبراً واحتساباً فيك، فتعجلني الأسنّة منهم، والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقاتٍ في الدنيا، فيكونُ ما يُريد الله»، فبكى وبكينا، وارتفع البكاءُ والصراخ من ذراري رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الخيم.
ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن عليٍّ، فيقولون: يا سيدّنا، فسيّدنا عليّ؟ فيشيرون إليَّ ماذا يكون من حاله؟ فيقول مستعبراً: «ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا، فكيف يصلون إليه وهو أبُ ثمانية أئمة؟!» (مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 214 و295 و286 طـ قديم، وروى هذه الرواية بإسناده إلى أبي حمزة ابنُ حمدان الحضيني في الهداية الكبرى، معالي السبطين للحائري: 1 / 343 ــ 344، نفَس المهموم للقميّ: 343 ــ 344).
وفتيةٌ من بنـي عـدنانَ مـا نظرَتْ * عـينُ الغـزالةِ أعلـى منهمُ حَسَبا
أكفُّهم يَخصِبُ المرعى الجديبُ بهـا * وفي وجـوهِهِـمُ تَستمطِرُ السُّحـبا
أكرِمْ بهم من مصـاليـتٍ وليـدُهمُ * بغيرِ ضربِ الطِّلى بالبِيضِ ما طَرِبا
أكفُّهم يَخصِبُ المرعى الجديبُ بهـا * وفي وجـوهِهِـمُ تَستمطِرُ السُّحـبا
أكرِمْ بهم من مصـاليـتٍ وليـدُهمُ * بغيرِ ضربِ الطِّلى بالبِيضِ ما طَرِبا
• الإمام الحسين (عليه السلام) يُري أصحابَه منازلهم في الجنة:
روي أنّ الحسين (عليه السلام) كشف لأصحابه عن أبصارهم، فرأوا ما حباهمُ اللهُ من نعيم، وعرَّفَهم منازلَهم فيها، وليس ذلك في القدرةِ الإلهيةِ بعزيز، ولا في تصرفات الإمام بغريب، فإنَّ سحرةَ فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتْلَهم، أراهم النبيُّ موسى (عليه السلام) منازلَهم في الجنة (أخبار الزمان للمسعودي: 274، مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: 215).
قال شاعر أهل البيت الفرطوسي (عليه الرحمة):
وأراهم وقد رأى الصـِّدقَ منهم * في المُوالاة بعد كـشفِ الغطاءِ
ما لهم مـن مـنازلٍ قد أُعدَّتْ * في جِنانِ الخلود يومَ الجـزاءِ
ولَعَمْري وليـس ذا بعـسيـرٍ * أو غـريبٍ من سيّدِ الشُّهـداءِ
فَـلَـقـد أطْلعَ الكليـمُ عليـها * مـنهمُ كلَّ سـاحـرٍ بـجَـلاءِ
حينما آمـنوا بمـا جـاءَ فـيه * عندَ إبطالِ سِحـرِهم والـرياءِ
بعد خوفٍ من آلِ فرعونَ مُردٍ * لهـمُ منـذرٌ بسـوءِ الـبـلاءِ
فأراهم منـازلَ الخيرِ زُلفـىً * وثـوابـاً فـي جنّةِ الأتقيـاءِ
لِازديـادِ اليقينِ بالحقِّ فـيهـم * بعدَ دحضٍ للشكِّ والإفـتـراءِ
وثَباتاً منهم عـلى الـدِّينِ فيما * شاهَدُوه من عالَمِ الإرتقاءِ
ما لهم مـن مـنازلٍ قد أُعدَّتْ * في جِنانِ الخلود يومَ الجـزاءِ
ولَعَمْري وليـس ذا بعـسيـرٍ * أو غـريبٍ من سيّدِ الشُّهـداءِ
فَـلَـقـد أطْلعَ الكليـمُ عليـها * مـنهمُ كلَّ سـاحـرٍ بـجَـلاءِ
حينما آمـنوا بمـا جـاءَ فـيه * عندَ إبطالِ سِحـرِهم والـرياءِ
بعد خوفٍ من آلِ فرعونَ مُردٍ * لهـمُ منـذرٌ بسـوءِ الـبـلاءِ
فأراهم منـازلَ الخيرِ زُلفـىً * وثـوابـاً فـي جنّةِ الأتقيـاءِ
لِازديـادِ اليقينِ بالحقِّ فـيهـم * بعدَ دحضٍ للشكِّ والإفـتـراءِ
وثَباتاً منهم عـلى الـدِّينِ فيما * شاهَدُوه من عالَمِ الإرتقاءِ
(ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) للفرطوسي: 3 / 291)
وروي عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): كنتُ مع أبي في اللّيلة التي قُتل في صبيحتها، فقال (عليه السلام) لأصحابه: «هذا الليل فاتّخِذوه جملاً، فإنَّ القوم إنّما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حِلٍّ وسَعة»، فقالوا: والله لا يكون هذا أبداً!قال: «إنكم تُقتلون غداً كلّكم، ولا يفلت منكم رجل»، قالوا: الحمد لله الذي شرفّنا بالقتل معك.
ثمّ دعا وقال لهم: «إرفعوا رؤوسَكم وانظروا»، فجعلوا يَنظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنة، وهو يقول لهم: «هذا منزِلُكَ يا فلان، وهذا قصرُك يا فلان، وهذه درجتك يا فلان»، فكان الرجلُ يَستقبلُ الرّماحَ والسيوف بصدرِه وَوجهِه، ليصلَ إلى مَنزِلِه مِنَ الجنة (الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 842 ــ 848، بحار الأنوار: 44 / 298، أسرار الشهادة: 2 / 221).
وفي حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، أنّ الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: «أبشروا بالجنّة، فواللهِ إنّا نَمكثُ مَا شاء اللهُ بعد ما يجري علينا، ثمّ يُخرجُنا اللهُ وإياكم حتّى يَظهر قائمُنا، فَينتقمَ من الظالمين، وأنا وأنتم نُشاهِدُهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب»!
فَقيلَ له: ما قائمُكُم يا ابن رسولِ الله؟
قال: «السابعُ مِن وُلدِ ابني محمّد بن عليِّ الباقر، وهو الحجّةُ ابنُ الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ ابني، وهو الذي يَغيبُ مدةً طويلةً، ثمّ يظهر ويملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وَجوراً» (مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرّم: 215).
وروى الصدوق (عليه الرحمة) في علّة إقدام أصحاب الحسين (عليه السلام) على القتل، قال: حدثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه)، قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا محمّد بن زكريا الجوهري، قال: حدثنا جعفر بن محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبِرْني عن أصحاب الحسين (عليه السلام) وإقدامِهم على الموت، فقال: «إنَّهم كُشفَ لَهم الغطاءُ حتّى رَأوا منازلَهم من الجنّةِ، فكان الرجلُ منهم يَقدمُ على القتلِ لِيُبادرَ إلى حَوراءَ يُعانِقُها وإلى مكانِه مِن الجنة» (علل الشرائع للصدوق: 1 / 229 ب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297، مدينة المعاجز: 4 / 214).
وجاء في زيارة الناحية المقدسة: «أَشْهدُ لَقدْ كَشفَ اللهُ لكمُ الغِطاء، وَمَهَّدَ لكُمُ الوِطاء، وأجزل لكمُ العطاء، وكُنْتُم عن الحقِّ غَيرَ بِطاء، وأنتُم لنا فُرطاء، ونحنُ لكُم خُلطاءُ في دارِ البقاء، والسلام عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاته» (الإقبال لابن طاووس: 3 / 80، بحار الأنوار: 98 / 273 ــ 274).
ولقد أجاد من قال فيهم (عليهم السلام):
وذَوُو المُـروّة والوفا أنصارُهُ * لهمُ على جـيـشِ اللئامِ زئيرُ
طَهُرَت نفوسُهمُ لطِيبِ أُصولها * فعناصرٌ طابَتْ لـهم وحُجورُ
فتمَثَّلتْ لهمُ القصورُ وما بـهِم * لولا تمثّلتِ القـصورُ قصورُ
ما شاقَهم للمـوتِ إلّا دَعْـوَةُ الـ * رحمانِ لا وِلْدانُها والحُورُ
طَهُرَت نفوسُهمُ لطِيبِ أُصولها * فعناصرٌ طابَتْ لـهم وحُجورُ
فتمَثَّلتْ لهمُ القصورُ وما بـهِم * لولا تمثّلتِ القـصورُ قصورُ
ما شاقَهم للمـوتِ إلّا دَعْـوَةُ الـ * رحمانِ لا وِلْدانُها والحُورُ
(نفثة المصدور للشيخ عباس القميّ: 629)
وقال الآخر:وفتيةٌ مِن رجـالِ اللهِ قد صـبروا * على الجِـلادِ وعـانَوا كلَّ مَحذورِ
حـتّى تَراءت لـهمْ عَدْنٌ بزينتِـها * مآتماً كُنَّ عُرسَ الخُرَّدِ الحُورِ
حـتّى تَراءت لـهمْ عَدْنٌ بزينتِـها * مآتماً كُنَّ عُرسَ الخُرَّدِ الحُورِ
(أدب الطف للسيّد جواد شبر: 6 / 261)
وقال آخر أيضاً:وبيّـتوه وقـد ضـاقَ الفـسيحُ بهِ * منهم على موعـدٍ مِن دونهِ العـَطَلُ
حتّى إذا الحربُ فيهم من غدٍ كشَفَتْ * عن ساقِهـا وذكا من وَقْدِ ما شُـعَلُ
تـبادرت فـتـيةٌ مـن دونِـه غررٌ * شُمُّ العرانـينِ مـا مالـوا ولا نَكَلوا
كـأنّمـا يُـجتـنى حُـلْواً لأنفسِهم * دونَ المَـنـونِ مـنَ العسّالةِ العَسَلُ
تراءتِ الحُورُ في أعلى القصورِ لهم * كشفاً فهانَ عليهم فيه ما بَـذَلوا
حتّى إذا الحربُ فيهم من غدٍ كشَفَتْ * عن ساقِهـا وذكا من وَقْدِ ما شُـعَلُ
تـبادرت فـتـيةٌ مـن دونِـه غررٌ * شُمُّ العرانـينِ مـا مالـوا ولا نَكَلوا
كـأنّمـا يُـجتـنى حُـلْواً لأنفسِهم * دونَ المَـنـونِ مـنَ العسّالةِ العَسَلُ
تراءتِ الحُورُ في أعلى القصورِ لهم * كشفاً فهانَ عليهم فيه ما بَـذَلوا
(الدمعة الساكبة: 4 / 278)
• الإمام الحسين (عليه السلام) يعظ أصحابه ويبشّرهم:
جاء في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله (عزّ وجل): ﴿وإذْ قُلْنا للملائكةِ اسجُدُوا لآدمَ فسَجَدُوا إلّا إبليسَ أبى واستكبَرَ وكانَ مِنَ الكافرين﴾ (سورة البقرة: 34)، قال (عليه السلام): ولمّا امتُحن الحسين (عليه السلام) ومن معه بالعسكر الذين قتلوه وحملوا رأسه، قال لعسكره: «أنتم مِن بيعتي في حِلٍّ، فالحَقُوا بعشائركم ومواليكم»، وقال لأهل بيته: «قد جعلتُكم في حلٍّ مِن مفارقتي، فإنَّكمْ لا تُطيقونهم لِتَضاعُفِ أعدادهم وقواهُم، وما المقصود غيري، فَدَعوني والقوم، فإنَّ اللهَ (عزّ وجلّ) يُعينُني ولا يُخليني من حُسن نظره، كعاداته في أسلافنا الطيِّبين».
فأمّا عسكره ففارقوه، وأما أهله الأدنون من أقربائه فأبوا، وقالوا: لا نفارقك، ويحلُّ بنا ما يحلُّ بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكونُ إلى الله إذا كنا معك.
فقال لهم: «فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطَّنتُ نفسي عليه، فاعلموا أنَّ الله إنّما يهبُ المنازل الشريفة لعباده لصبرهم باحتمال المكاره، وأنّ الله وإن كان خَصَّني مع مَن مضى مِن أهليَ الَّذين أنا آخرُهم بقاءً في الدُّنيا من الكرامات، بما يَسهل عليَّ معها احتمال الكريهات، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله تعالى، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومرها حُلمٌ (وفي أسرار الشهادة: «واعلموا أنّ الدنيا حلوُها مرّ ومرُّها حلو»)، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيُّ مَن شقي فيها. أوَ لا أُحدّثكم بأوّل أمرنا وأمركم ــ معاشرَ أوليائنا ومحبّينا والمعتصمينَ بنا ــ، ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون؟» (وفي بحار الأنوار: «مقرّون»).
قالوا: بلى يا ابن رسول الله.
قال: «إنَّ الله تعالى لمّا خلقَ آدم وسوّاه، وعلَّمَه أسماءَ كلِّ شيء وعرضهم على الملائكة، جعل محمّداً وعلياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ (عليهم السلام) أشباحاً خمسةً في ظهرِ آدم، وكانت أنوارُهم تُضيءُ في الآفاق من السماوات والحُجُب والجنان والكرسيّ والعرش، فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً له، إنَّه قد فضّله بأن جعله وعاءً لتلك الأشباح التي قد عمَّ أنوارُها في الآفاق، فسجدوا إلّا إبليسَ أبى أن يتواضع لجلال عظمة الله، وأن يتواضع لأنوارنا أهلَ البيت، وقد تواضعت لها الملائكةُ كلُّها، واستكبر وترفَّع، وكان ــ بإبائه ذلك وتكبّره ــ من الكافرين» (تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 218 ــ 219، تأويل الآيات: 1 / 44 ح 18 باختصار، بحار الأنوار: 11 / 149 و45 / 90 ــ 91، الدمعة الساكبة: 4 / 270، أسرار الشهادة: 2 / 223 إلى قوله: «الشقيّ مَن شقيَ فيها»).
ومن جملة البشارات التي بشَّر بها الحسينُ (عليه السلام) أصحابَه (عليهم السلام)، هو ما رواه القطب الراوندي عن أبي سعيد سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن ابن فُضَيل، عن سعد الجلّاب، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الحسين بن عليّ (عليهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتل: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساقُ إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تدعى "عموراء"، وإنك تُستشهد بها، ويُستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: ﴿قُلنا يَا نارُ كُوني برداً وَسلاماً على إبراهيم﴾ (سورة الأنبياء: 69). تكونُ الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً، فابشروا، فوالله لئن قتلونا، فإنَّا نُرَدّ على نبيّنا» (الجرائح والخرائج للراوندي: 2 / 848، بحار الأنوار: 45 / 80 ح 6، مدينة المعاجز للبحراني: 3 / 504 ح 245 ط الحجرية).
تعليق