خطبة الامام زين العابدين عليه السلام في الشام
تقديم
استُبدلت الخلافةُ بـ «المُلْكِ الَعضُوض» [= الشّديد. فيه ظلمٌ للرّعيَّة]، وأصبحَ معاويةُ بنُ أبي سفيان «مَلِك الوقت» كما يعبّر «الدِّيار بكري» في (تاريخ الخميس).
يعني ذلك أنّ أبا سفيان الأمويّ الذي قاد أكثر حروب «قريش» الخائبة، ضدّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، قد تمكّنَ -بعد موتِه- من استعادة زمام المبادرة في الظّاهر، وهذا ابنُه «معاوية» الذي تظاهرَ بالإسلام قبلَ وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله بخمسة أشهُر، يقالُ له: «خليفة المسلمين».
ظنَّ الأمويّون أنّ حُلُمَهم قد تحقّق. كان أبو سفيان قد عبّر عن هذا «الحُلُم» عندما وقفَ على قبر «الحمزة» عمِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، «وضربَه برِجلِه، وقال: يا أبا عمارة، إنّ الأمر الذي اجْتَـلَدْنا عليه بالسّيف، أمسى في يد غِلماننا اليومَ يتلاعبون به!».
كان على معاوية لتثبيتِ هذا الإنقلاب على الأعقاب أن يتخلّصَ من الحسنَين سِبْطَي رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وكان التّخطيطُ الإلهيّ -الذي لأجلِه ثبّتَ النّبيُّ الأكرم في الأمّة بأجيالها موقعَ الحسنَين عليهما السلام- أن يحفظَ اللهُ تعالى الذِّكرَ بالإمامين إنْ قاما وإنْ قعدا، الحسن والحسين عليهما السلام، وأن يحفظَ إنجازاتهما النّبويّة بالتّسعة من ذرِّيّة الحسين عليه السلام، وأوّلُهم زينُ العابدين الإمام السّجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
مضى الإمامُ الحسن عليه السلام يؤسّسُ لكربلاء وينفّذُ الخطّة الإلهيّة التي رسمَها له جدُّه المصطفى صلّى الله عليه وآله.
وهلَك معاوية بعد شهادة السّبط الأكبر الإمام الحسن عليه السلام، وكانت خطّة قريش الأمويّة، قتْل الإمام الحسين، واستئصال أهل البيت عليهم السلام، لإعلانِ دفنِ الإسلام، في سياق ما عبّر عنه معاوية بقولِه للمغيرة بن شُعبة: «دَفْناً دفْنا»!!
في كربلاء كان الشِّعار: «لا تُبقوا لأهلِ هذا البيت من باقية»! ولذلك تمَّ استهدافُ رضيعِ الحسين عليه السلام وهو في حِجره بسهمٍ ذبحَه من الوريدِ إلى الوريد.
وتحت هذا الشّعار قال رمزٌ من رموزهم، وصفوه بأنّه «صحابيّ»!! وتكتّموا على اسمه، -كما نَصّ «ابن عساكر» في (تاريخ دمشق)- رغم أنَ «ريا» حاضنة يزيد قد أخبرَتهم به، وشهدت أنّها سمعتُه يقول ليزيد: «قد أمكَنك اللهُ من عدوِّ اللهِ وابنِ عدوِّ أبيك، فاقتُلْ هذا الغلام يَنقطعْ هذا النَّسْل، فإنّك لا ترى ما تحبُّ وهم أحياء. [هذا] آخرُ من ينازعُ فيه -يعني عليَّ بن حسين بنِ عليّ- لقد رأيتََ ما لَقِيَ أبوك من أبيه، وما لَقيتَ أنت منه، وقد رأيتَ ما صنعَ مسلمُ بنُ عقيل، فَاقْطَعْ أصلَ هذا البيت، فإنّك إنْ قتلتَ هذا الغلامَ انقطعَ نسلُ الحسين خاصّة، وإلّا فالقومُ ما بَقِيَ منهم أحدٌ طالبك بهم، وهم قومٌ ذَوو مَكر، والنّاسُ إليهم مائلون، وخاصّة غوغاءُ أهل العراق، يقولون: ابنُ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ابنُ عليٍّ وفاطمة. اقتُله فَليسَ هو بأكرم من صاحبِ هذا الرّأس.
فقال [يزيد، على ذمّة الرّاوي الذي تكتّمَ عن اسم القائل -كما سيأتي- وعلى نسَقِه المتعاطف مع يزيد]: لا قمتَ ولا قعدت، فإنّك ضعيفٌ مَهين، بل أَدَعُهم، كلّما طلعَ منهم طالعٌ أخذَتْه سيوفُ آلِ أبي سفيان.
قال [الرّاوي]: إنّي قد سمّيت الرَّجل [أي أخبرَته ريا بإسمِ] الّذي من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ولكنْ لا أُسمِّيه أبداً ولا أذكرُه».
ولم يوافق «ابن كثير» في (البداية والنّهاية)، هذا الرّاوي رغمَ تجانس النَّسَق: فلَم يَرْوِ عن يزيد أنّه أجابَ مَن أشار عليه باستئصال أهل البيت بما تقدّم، بل قال ابنُ كثير: «فسكتَ يزيد».
الأرجح أنّ هذا السكوت كان قبلَ المحاولة الثّالثة لقتلِ الإمام السجّاد عليه السلام، والتي حصلتْ في الشّام -بعد محاولة ابنِ سعد في كربلاء إثر استشهاد الإمام الحسين والهجوم على معسكره عليه السلام، ومحاولة ابن زياد في الكوفة- وكانت هذه الثّالثة بأمرٍ مباشرٍ من يزيد.
روى خبرَ هذه المحاولة المؤرّخُ الثَّبْتُ «المدائني»، فقال: «لمّا انتسبَ السجّادُ إلى النّبيِّ، قال يزيد لجِلوازه: أَدْخِله في هذا البستان واقتُله وادْفنهُ فيه، فدخلَ به إلى البستان، وجعلَ يحفر، والسجّادُ يُصلّي، فلمّا همَّ بقتلِه ضرَبَته يدٌ من الهواء، فخرَّ لوجهِه وشهقَ ودهش، فرآه خالدُ بنُ يزيد وليس لوجهِه بقيّة، فانقلبَ إلى أبيه وقصَّ عليه، فأمرَ بدفنِ الجِلواز في الحفرة وإطلاقه..».
وبقطع النّظر عن روايات هذه المحاولات وهي على درجة عالية جدّاً من الوَثاقة، فإنّ بقاء الإمام السجّاد عليه السلام حيّاً هو معجزة إلهيّة عظيمة للأسباب الثلاثة التالية:
1- الحقدُ الأمويّ الدَّفين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، لثاراتِ بدرٍ وأُحد، وإلى فتح مكّة وحُنين.
2- القرار الأموي النّهائيّ باستئصالِ أهل البيت عليهم السلام، وهو أوضحُ من أن يحتاجَ إلى دليل.
3- خطبة الإمام السجّاد عليه السلام في الشّام، كما ستجدُه واضحاً كالشّمس في رابعة النّهار، لدى التّدبّر في هذا البيان النّبوي الأوّل بعد عاشوراء.
الأرجح قويّاً أنّ محاولة يزيد الثّالثة لقتل الإمام السجّاد عليه السلام، كانت بعد هذه الخطبة، كما يشيرُ إليه قول «المدائني»: «لمّا انتسبَ السَّجَّادُ إلى النّبيّ، قال يزيد لجِلوازه..».
انتسبَ الإمامُ في هذه الخطبة إلى جدّه صلّى الله عليه وآله مرّتين: الأولى مطوّلة، وهي اثنا عشرة فقرة، تبدأ عند: «أنا ابنُ مَن حملَ (الرّكن) بأطرافِ الرّدا..»، وتُختَم بقوله عليه السلام: «أنا ابنُ النبيِّ المُصطفى».
والثانية وهي الأشدُّ وطأةً وأبلغ، وهي عندما قال المؤذِّن: أشهدُ أنّ محمّداً رسولُ الله، عندها استمهلَ الإمامُ عليه السلام المؤذّنَ «والتفتَ ".." من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد، محمّدُ هذا جدّي أمْ جَدُّك؟ فإنْ زعمتَ أنه جَدُّك فقد كذبت. وإنْ قلتَ إنّه جدّي، فَلِمَ قتلتَ عترتَه؟».
***
لا ينفصلُ قانونُ حفظِ الله تعالى للذِّكر عن معجزةِ سلامةِ وارثِ الحسين والنّبيّين، ولا ينفصلُ أبداً عن هذه الخطبة التاريخيّة التي وفّقَ اللهُ تعالى وصيَّ نبيّه الأعظم صلّى الله عليه وآله للتّأسيس لاسثمار جهاد سيّد الشهداء عليه السلام ودمه الذي سكنَ في الخُلد، لبقاء الإسلام.
قالت السيّدة زينب عليها السلام: «فَوَاللهِ لن تمحو ذِكرَنا» وبإمامِ زمانِها بعد الحسين وبهما عليهما السلام استقرّ مبدأُ انتصارِ الدّمِ على السّيف.
كلُّ موحِّدٍ من أجيال الأمّة مَدينٌ بصلاتِه وكلِّ مفرداتِ عبادته وخلجَات توحيدِه لخطبة الإمام السجّاد عليه السلام في الشّام، وخطبة السيّدة زينب بنت عليّ عليهما السلام، وتمسُّ الحاجة إلى المزيد من العناية بالخطبتَين، خصوصاً هذه الخطبة السّجّاديّة.
إنّها -بحقّ- البيانُ النّبويّ الأوّل بعدَ عاشوراء.
عن مجلة «شعائر» العدد 33
تعليق