انها مجرد مزحة!
المزاح أمر لا تستقيم حياتنا دونه، نحن نمزح لأننا نعيش حياة جماعية اجتماعية طبيعية، والناس مع بعضها تمزح في كل لحظة لأن الحياة بالمزاح تصير أخف وأجمل وأكثر قبولاً، بينما الصرامة والتجهم يضغطان على النفس ويفترسان الروح ويسقطانها في الرتابة والكآبة، وربما في النبذ والوحدة، نحن نمزح كما نأكل ونشرب ونتسوق ونضحك ونسافر ونتزوج وننجب، ليس المزاح بالأمر الهامشي أو غير المهم، بل العكس هو الصحيح، إن الذين لا يمزحون يحتملون أنفسهم والحياة بصعوبة بالغة، ومع ذلك، فإن شيئاً من المزاح غير المتعمد قد يقلب حياة إنسان بشكل لا يمكن تخيله، وهنا، فإن المزاح يلامس الحاجز السياسي ويرتطم به، محدثاً تهشيم حياة كائن في مقتبل العمر!!
في رواية تعتبر من أجمل روايات الكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا التي أصدرها في فترة الحكم الشمولي في بلده الأصلي تشيكوسلوفاكيا، بعنوان (المزحة)، يتجلى- كما في معظم رواياته- تمرده ورفضه للنظام الاشتراكي الذي حكم بلاده بالحديد والنار، لقد عرى كونديرا طبيعة ذلك النظام القمعي القاهر من خلال حكاية الشاب لودفيك الذي يبعث بطاقة إلى صديقته ماركيتا قال لها فيها أشياء عادية من تلك التي يقولها شاب مغرم بفتاة يحبها، لكنه أنهى البطاقة بهذه العبارة (التفاؤل أفيون الجنس البشري ...) وقد أخذت الفتاة البطاقة للجنة الانضباط الحزبي في الجامعة، ما أدى لاستدعاء لودفيك للتحقيق!
الشاب أفاد بأن المسألة ليست أكثر من مزحة، كان يقول كلاماً لا يقصده لصديقته، هذا كل ما في الأمر، لكن رئيس اللجنة اتهمه بأحد أكثر الاتهامات خطورة: السخرية من الحلم الثوري للحزبالاشتراكي، وعليه فقد صنفته اللجنة باعتباره عدواً للاشتراكية، فماذا يعني ذلك؟ لقد طرد من الحزب ومن الجامعة ومن كل وظائفه الحزبية الأخرى، وحين زج به في الخدمة العسكرية الإجبارية، أعطيت له شارة سوداء اللون، كان عليه أن يلصقها على كتفه، ما يدل بوضوح على أنه ممنوع من حمل السلاح، وكل ما عليه هو الاستسلام للأعمال الشاقة في المناجم، وحين حاول مراراً أن يبرئ نفسه ويشرح موقفه للمسؤول العسكري، علم أن أمره قد انتهى وأن حياته قد حسمت بشكل نهائي!
لقد انتهت به المزحة البسيطة تلك إلى تدمير شامل لحياته، وحين تسلم رسائل والدته تطمئنه فيها بأن عليه ألا ييأس لأن بيته وعائلته موجودان دائماً كمرفأ أمان له، أجابها بأنه حتى لو بقي المرفأ، فإن الطريق إليه قد ضاع منه إلى الأبد !! هكذا تنتهي حياة البعض بسبب مزحة ربما أو بسبب كلام لا يقصد حقيقته، لكنه يفسر على غير المقصد الذي أراده القائل، وأحياناً يدفع البعض حياته نتيجة لأحكام جاهزة أو تصنيفات اجتماعية أو تعميمات تخلط الحابل بالنابل دون مراعاة أو تمحيص، فقد ينقل أحدهم كلاماً على لسان إنسان آخر لجهة متنفذة، لمسؤوله في العمل أو مديره، فتنتهي حياة إنسان بسبب عبارة تحتمل أكثر من معنى، هذا يحصل في حياتنا العامة تماماً كما حصل مع لودفيك مع اختلاف في التفاصيل لا أكثر!!
هذا لا يعني ألا نمزح أو أن الرواية هي توجيه غير مباشر باعتقال المزاح في أضيق الحدود، لكن الأمر عبارة عن أصبع اتهام قوية ضد مفتشي النوايا وحزب تحريف المعاني والكلمات، حتى إن كونديرا نفسه قد اتهم بالتخريب وسحبت منه الجنسية التشيكية بسبب كتابه التخريبي (الضحك والنسيان) حسب سلطات بلاده، مع أن هذا الكتاب تحديداً هو من أجمل ما كتب كونديرا!
عائشة سلطان
تعليق