کيف يوصف الله تبارک وتعالى بالوجود والشيئية
(الوجود العام والخاص)

العلامة المحقق الشيخ حسن ميلاني
إشارة
العلامة المحقق الشيخ حسن ميلاني
تتوهم الفلسفة والعرفان أن:
حقيقة وجود الخالق والمخلوق جنس واحد وسنخ فارد، ولا فرق بينهما إلا بالتناهي وعدم التناهي، فوجود الخالق هو نفس وجود كل مخلوق مع زيادة، وهو عين وجود الخلق بأجمعه،
و يكشف هذا الفصل عن بطلان ذلك ببيان:
أن وجود الخلق حقيقة مقدارية عددية متجزية، واللّه تعالى يباين خلقه تمام التباين لا أن يكون التفاوت بينهما بأمور اعتبارية ـ كأن يكون أحدهما جزءا أو مرتبة أو حصة من وجود الآخر ـ مع الاتحاد في الوجود العيني، بل يكون بينهما من حيث الواقعية وسنخ الوجود غاية التباين والافتراق،
لا يحكم على اللّه تعالى بالوجود إلا بمعناه الخاص به أو بمعناه العام، ولا يكون الوجود المحكوم به عليه وعلى خلقه مشتركا معنويا تمام الاشتراك، كما أنه لا يكون مشتركا لفظيا أيضا الا أن المقسم لهذين القسمين هوالوجود بمعناه العام الشامل لكليهما.
الوجود والموجود من حيث العينية والمواقعية إما مقدارى عددى متجزي، وإما بخلافه، ويكون بين هذين السنخين تباين تام، لا يمكن التفوه باتحادهما وعينيتهما بوجه.
إن للشيئية معني خاص بالخلق وهو ما يمكن معرفته وإدراكه بنفسه في كمه وكيفه وعدده الخاص به، ومنه معني الهي خاص بالخالق المتعال وهو ما لا يمكن تصوره بنفسه ولا يعرف إلا بأنه شيء بخلاف كل شيء قابل للتصور والتوهم، والمقسم لهذين القسمين هو معني الشيء بعنوانه العام الشامل لكليهما.
الموجود الواقعي[1] الذي يكون شيئا بحقيقة الشيئية، والشيء الحقيقي الذي يكون موجودا واقعيا، فهو إما مقداري عددي قابل للزيادة والنقصان والوجود والعدم، متحقق في الأجزاء والأبعاض، ومتقوم بالحدود والأعراض؛ وإما يكون بخلاف ذلك، ومتعاليا عن ذلك، فلا يتصور بنفسه، ولا يعرف إلا بأثره الدال على وجوده.
فما يمكن معرفته من معنى الشيء والموجود، هو عنوان خاص منه ـ وهو المقدار الموجود القابل للعدم لذاته ـ وهو يكشف بحدوثه ووجوده، عن وجود موجود حقيقي وشيء بحقيقة الشيئية وراء قابلية النسبة إلى الوجود والعدم، والتحقق في المقدار والأجزاء والزيادة والنقصان، والدخول تحت التصور والتوهم والبلاغ. فهو موجود لا كالموجودات، وشيء لا كالأشياء، وذات لا كالذوات، وحقيقة لا كالحقائق.
هذا كلّه من ناحية الوجود والموجود والشيء مصداقا وعينا، ولكن من ناحية الوجود المحمول على الأشياء، والمحكوم به على الموضوعات، فالوجود له معينان معنى يختص بالخلق وهو وجود يقبل نقيضه، ومعنى يختص بالخالق وهو ما لا يتصور له النقيض والمقابل ذاتا والمقسم لهذين القسمين هو معنى عام للوجود وهو حاكٍ عن مجرّد الثبوت وعدم البطلان، كان قابلاً للمقابل أم لم يكن.
إن التصديق المتعلق بوجود المخلوق هو هذا التصديق القابل للنفي ذاتا، وأما الخالق تبارك وتعالى فلا يتعلق التصديق بوجوده كالتصديق بسائر الأشياء، أي بعد إمكان تصوره بنفسه مقداريا متجزيا قابلا للتجريد عن الوجود الخارجي والتحقق الواقعي، وقابلاً للنسبة إلى طرفي الوجود والعدم. بل ليس وجوده إلا إثباته، ولا يحكم عليه بالوجود إلا بمعنى يختص به، أو بمعناه العام الحاكي عن مجرد الثبوت وعدم البطلان.
قيل: إن القائلين بتباين المعاني والمفاهيم المحمولة علي الخالق والمخلوق خلطوا بين المفهوم والمصداق حيث إن التخالف والتباين يكون بين مصداقي الخالق والمخلوق لا المفاهيم المحمولة عليهما من الوجود والعلم والقدرة و...
ونقول: هذا تحليل باطل. وذلك حيث إنا نقول: ”إن الله تعالي عالم بخلاف العلماء وموجود لا كالموجودات” وإلا لكنا من الملحدين والمشبهين ولا نقول: “زيد عالم بخلاف عمرو” و“زيد موجود لا كالموجودات” و... هذا مع أن المصاديق في كل ذلك تكون متبائنة متغايرة بلا شبهة فليس الأمر إلا من جهة تباين المفاهيم والمعاني المحمولة علي الخالق والخلق.
ثانيا: إن اشتراك المصاديق وعدم تبانيهما أمر مستحيل في نفسه ولا فرق في ذلك بين المخلوقات أو الخالق والخلق فلا وجه لتوهم التباين بين الخالق والمخلوق دون مصاديق المخلوقات بأنفسها.
ثالثا: لا معني لحمل مفهوم واحد علي مصاديق متبائنة فإن ذلك أمر مستحيل في نفسه وكأن هذا القائل خلط بين المفاهيم الماهوية مع المعقولات الثانية في اصطلاحهم التي زعم بعضهم أن المعقولات الثانية تحمل بمفهوم واحد علي مصاديق متبائنة. والحق أن المعقولات الثانية أيضا لا تكون من حمل مفهوم واحد علي المصاديق المتبائنة في شيئ بل هي أيضا محمولات ومفاهيم بمعني واحد علي مصاديق من جهة أنها مشتركة في معني واحد محمول عليها. وتباين المصاديق من الجهات الأخري دون المعني المحمول عليها المشترك بين كلها أمر آخر لا ينافي اتحاد المصاديق من جهة المعني الواحد المحمول عليها من جهة آخر.
فالوجود المحكوم به على الخلق، مع الوجود المحمول على الخالق تعالى يشتركان في معنى عام وهو المعنى الحاكي عن مجرد الثبوت والوجود الحقيقي وعدم البطلان، ويفترقان بأن الأول منهما يقبل مقابله ونقيضه ويكون متعلقا بالمقادير، ومتفرعا على معرفة ذوات قابلة للدخول تحت البلاغ والمعرفة بأنفسها، ومتساوية النسبة مع الوجود والعدم، ولكنه يمتنع ذلك كله في ما يحمل على الخالق المتعال الّذي يكون بخلاف كل شيء، متعاليا عن كل شيء.
فبما أن كل موجود مقداري، محتمل للزيادة والنقصان وقابل للوجود والعدم، ومحتاج إلى من يخلقه ويوجده، يخضع العقل لدي الإقرار بأنه لا بد أن يكون هناك شيء بحقيقة الشيئية وموجود حقيقي بخلاف الأشياء كلها، متعال عن إمكان التحقق في المقدار والأجزاء، لا يمكن فرض عدمه لذاته، لان فرض العدم لشيء فرع كونه مقداريا قابلاً للرفع بارتفاع أجزائه. وأما هو تعالى فإنما وجوده إثباته.[2] ولا يكون شيئا مثبتا كسائر الأشياء التي يمكن تصورها مجردة عن النفي والإثبات، بل هو مثبت موجود غير فقيد ولا معدوم، كل ذلك بالمعنى الخاص الذي يليق به تعالى أو بالمعنى العام الذي قد أوضحناه، ويكون علي نحو صرف الإلتفات إلى نحو وجوده يلازم إثباته الخاص به، وهو الإثبات الذي لا يوجد له مثل، كما أنّه لا يمكن فرض النقيض لهذا الإثبات ذاتا، حيث لا يتقدمه تصور الموضوع القابل للنفي والإثبات بالذات فلا يكون إثباته إثباتا يتصور له المقابل والنقيض والنفي.
فهو موجود وراء كل ما يقبل الوجود والعدم، وهو كائن قبل الكون والكينونة بمعناهما الخاص، بل هو متعال عن قبول التحقق والوجود والعدم، وإمكانهما له، ونسبتهما إليه، ـ فإن كل ما يمكن أن يفرض مجردا عن الوجود والعدم ويقبل النسبة إليهما في مرحلة من المراحل فالحكم بضرورة أحدهما له لذاته خلاف الفرض ـ فلا يحكم عليه تعالى بالوجود إلا بعنوانه الخاص به أو بعنوانه العام الطارد للعدم والنفي والبطلان فقط، وهذا هو سرّ وجوب تأويل إثبات وجود الخالق جل وعلا إلى نفي العدم، ولا نحتاج حينئذ أن نقيد هذا العدم بعدم خاص به تعالى، أي لا نحتاج أن نقول: "هو تعالى ليس بمعدوم كالمعدومات" وذلك أنه تعالى لا يكون معدوما مطلقا فيكفينا في ذلك الإطلاق. وذلك بخلاف إثبات الوجود له تعالى حيث يجب علينا أن نقول عند ذلك: هو تعالى موجود لا كالموجودات فتبصر.
فالشيء والموجود المقداري المتجزي (المخلوق)، يشترك مع الشيء المتعالي عن المقدار (الخالق).، في أنهما كليهما شيئان واقعيان ثابتان غير باطلين[3] ويفترقان بأن المخلوق هو الكائن في الأجزاء والمقدار والعدد، محتمل للزيادة والنقصان، جائز النسبة إلى الوجود والعدم لذاته؛ وقابل للتصور بنفسه، وللوضع والرفع المتقابلين؛ والخالق يتعالى عن ذلك كله كما بيناه.
وهاهنا أمر ثالث وهو أن مفهوم الشيء، يكون أيضا على قسمين قسم منه خاص بالخلق وهو صورة الذوات والموجودات المخلوقة القابلة للتعدد والتكثر والزيادة والنقصان، وقسم آخر منه هو المفهوم الخاص بالخالق المتعال وهو ما لا صورة عنه بذاته بل لا يتوجه العقل إليه الاّ بعنوان أنّه شيء بخلاف الأشياء كلّها، والمقسم لهذين القسمين هو المفهوم بمعناه العام الحاكي عن مجرد الشيئته القابلة للتوجه والإلتفات إليه، المخرج له عن كونه مجهولاً مطلقا.
فهاهنا حقائق متعددة:
1. (وجود المخلوق)، وهو الشيء الواقعي الثابت العيني المتجزيء وهو نفس مصاديق الأشياء الخارجية المخلوقة.
2 . (وجود الخالق المتعال).، وهو شيء بحقيقة الشيئية، متعال عن المقدار والعدد، لا يعرف ولا يتصور بنفسه، ولا مفهوم له قابلا لأن يدرك. فلا يعلم ما هو، ولا يدرك ما هو، بل هو شيء لا كالاشياء، وذات بخلاف الذوات كلها، وليس الحكاية عنه بقولنا: "هو شيء" أو "هو موجود" إلا الإشارة إلى مجرد كونه شيئا واقعيا لا موهوما ولا معدوما، لا إخبارا عن تحقق أجزاء معينة قابلة للتصور وقابلة للتجريد عن الوجود والعدم في أي مرحلة من المراحل، كما أن الأمر يكون كذلك في شأن ما سواه تبارك وتعالى.
3 . (المفهوم الخاص بالخلق).، وهو نفس المفاهيم المدركة من الأشياء المقدارية التي تطابق مصاديقها، وهي التي يمكن تجريدها عن الوجود والعدم ونسبتها إليهما ذاتا.
4 . (المفهوم الخاص بالخالق).، فإن الخالق جل وعلا ولا صورة ذهنية له، لا يتصور، ولا يمكن أن يلتفت إليه بنفسه، ولا مفهوم له إلا بعنوان: "هو شيء بخلاف الأشياء" "الذات الذي لا مفهوم له،ولا يدرك مطلقا، ويكون خارجا عن حيطة البلاغ"، و...
ثم إن بين مصداقي الحقيقة العينية للأشياء المقداريةً و"ما بخلافه" يكون تباينا سنخيا (وهو كون أحدهما مقداريا متجزيا عدديا، وكون الآخر متعاليا عن الأجزاء). تاما، وذلك يجري عليهما من حيث معناهما القابل للتصور والإدراك أيضا حرفا بحرف، فإن الشيء الخارجي الواقعي المتحقق في الأجزاء والأبعاض الخارجية، يطابقه مفهومه من حيث تقومه بالحدود والأبعاض التصورية والتوهمية[4] وما يكون بخلاف ذلك عينا وواقعا فلا حدود له ولا أجزاء تصورية وتوهمية أيضا،
"فالمفهوم"، منه خاص بالخلق، ومنه خاص بالخالق، "الخاص" هو المتصور بنفسه في أجزائه وحدوده وأبعاضه، و"العام" ما يكون بخلاف ذلك ولا يعرف إلا بأنه ما يكون بخلاف كل شيء وتصور وتوهم.
5 . (الوجود الحملي الخاص بالخلق).، وهو معنى الوجود والعدم المتقابلين الذين يختص حملهما على الأشياء المقدارية المخلوقة القابلة للوجود والعدم بالذات. (هذا إذا قلنا بأن قضية "زيد موجود" مثلاً يتركب من تصور موضوع ومحمول و...، وأما إذا قلنا بأنه يكون تصورا واحدا وهو تصور واقعية زيد فقط فادعاء اشتراك الوجود يصبح بديهي البطلان، حيث إن تباين واقعيته زيد وواقعية عمرو و... يكون من البداهة بمكان).
6 . (الوجود الحملي الخاص بالخالق تبارك وتعالى)، وهو معنى الوجود والإثبات الذي يحمل على الخالق المتعال فقط ولا مقابل له بالذات؛ فإن الوجود والعدم بمعناهما الخاص بالخلق هو المعنى الذي يقبل مقابله ذاتا، فيكون ملكة وعدما للذات المقداري والشيء بمعناه الخاص، (وهذا السنخ من الموجودات والأشياء هو الذي يصح عليه الحكم بامتناع اجتماعه مع نقيضه وامتناع ارتفاعه مع نقيضه مع الشروط الثمانية، وأما الخالق تعالى فهو خارج عن ذلك موضوعا، لا يتصور له النقيض مطلقا، ولا يدخل تحت ما يشمله شيء من الشروط الثمانية المتفرقة على كون الشيء عدديا مكنها ذاتا) وفي قبال ذلك هو وجود الخالق المتعالي عن المقدار الذي يمتنع تصور العدم له تعالى ذاتا.
إن اللّه تعالى لا يكون ذاتا متصورة منسوبة إلى الوجود، حتى يمكن سلب الوجود عنه، ويمكنَ تصور ذاته جلت عظمته خالية عن الوجود ومتصفة بالعدم في أي مرحلة من المراحل؛ بل إن قبول الوجود ولا قبوله لا يتصور إلا للموجود المقداري ويكونان كالملكة والعدم له.[5]
وأما الموجودية المنسوبة إلى الخالق تبارك وتعالى ـ وهي الموجودية الخاصة بما يكون مبائنا للمقدار والعدد ـ لا يمكن فرض النقيض له ثبوتا، فلا يمكن فرض العدم للذات المتعاليه رأسا، فإن ما يمكن تصوره مجردا عن الوجود والعدم ويمكن أن ينسب إليهما بالذات ليس إلا مقداريا عدديا مخلوقا.
وعلى هذا فوجود المخلوق يكشف عن وجود الخالق تعالى، لا على نحو يمكن أن يفرض عدم وجوده تعالى حتى مع فرض عدم خلقه الخلق أو انعدام المخلوقات بعد ما استكشفنا وجوده تعالى عن وجود خلقه، فإننا بعد أن علمنا بوجود الخلق نعلم أن اللّه تعالى موجود، ونعلم أنه لو لم يكن الخلق موجودا لم يكن لنا طريق إلى العلم بوجود الخالق، ونعلم أيضا بعد العلم بوجوده تعالى أن فرض عدم الوجود للّه تعالى محال ذاتي. فإن ما ثبت وجوده، وهو مخالف للمقدار والأجزاء فقد يستحيل فرض عدمه ذاتا وثبوتا، لأن النسبة إلى الوجود والعدم، فرع إمكان تجريد الذات عن الوجود والعدم، وتصور الذات مجردا عن الوجود والعدم فرع كونها مقدارية متجزية مخلوقة وليس اللّه تبارك وتعالى كذلك. (قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: وجوده إثباته.[6]؛ وقال عليه السلام: الحمد للّه الّذي أعجز الأوهام أن تنال إلاّ وجوده.[7] وقال عليه السلام: كمال معرفته التصديق به[8]).
وبالوقوف على هذه الحقيقة فيظهر أنه لا مجال لما قد يقال:
"ما هو المانع من انعدام الخالق بعد خلقه الخلق؟" (ومن الموهون هاهنا جدا هو قول أصحاب الفلسفة والعرفان بأن: "اللّه تعالى هو نفس حقيقة الوجود غير القابلة للعدم لذاتها المتعين بصور جميع الأشياء" الذي قد بينا بطلانه موضوعا وحكما مرارا). فإن هذا السؤال خارج عن الموضوع الحقيقي اللائق به الألوهية، ويمتنع طرحه في حق من لا يتصور له العدم لذاته، لتعاليه عن الكون المقداري القابل للوجود والعدم لذاته. بل إن كل ما يمكن فرض عدمه لذاته، فهو مقداري متجزيء، والخالق تعالى ليس كذلك. (ويمكن أن يستدل لذلك بقوله تعالى "أفي اللّه شك فاطر السموات والأرض" حيث إنه لو قال قائل إنى أقر بوجود الخالق من حيث كونه محدثا وأشك في كونه باقيا؛ فإنه يقال في جوابه: إن الفطر والخلق يدلان على كون الخالق والفاتر متعاليا عن الاتصاف بالوجود القابل للعدم لذاته).
7 . (المفهوم العام)، وهو مفهوم الشيئية بمعناه العام الذي يجوز حمله على الخالق والمخلوق (وهو المقسم للمفهوم الخاص بالخلق والخاص بالخالق، وذلك كما إذا قلنا: "الخالق والمخلوق شيئان بحقيقة الشيئية")، ويكون مصداق ذلك كل أمر واقعي ليس موهوما ولا معدوما ولا باطلا، مقداريا كان وقابلا للتصور، (وهو كل ما يدرك من معاني الخلق)، أو غير مقداري كان وخارجا عن إمكان التصور والبلاغ بنفسه (وهو الخالق تعالى الذي يمتنع تصوره بنفسه ويكون عنوانه هو نفس "الشيء الخارج عن التصور والتوهم بالذات" و"الشيء الذي يكون بخلاف الأشياء كلها").
والشيئية بهذا المعنى العام هو ما له مجرد الشيئة والواقعية القابلة للالتفات إليها، المخرجة لها عن كونها مجهولة مطلقة.
8 . الوجود الحملي العام: معنى الوجود والإثبات بعنوانه العام الذى يشمل الخالق والمخلوق، وهو يلازم تصورَ المحكوم عليه في كمه وكيفيه الخاصان به تارة ـ وهو ما اذا كان موضوعه ما يتحقق في المقدار والأجزاء والعدد ـ، ويتجرد عن ذلك تارة أخرى فيكون حينئذ إثباتا لا لشيء متصور بمعناه الخاص أي في كم وكيف معينين. والموضوع في هذا القسم هو الشيء بمعناه العام الذي يمتنع تصوره بنفسه ويكون عنوانه هو نفس "الشيء الخارج عن التصور والتوهم بالذات" و"الشيء الذي يكون بخلاف الأشياء كلها"، فلا وجه للإشكال في ذلك باستحالة الحكم لا على الموضوع.
ويستنتج من ذلك كله:
الوجود مصداقا وعينا على سنخين متبائنين بتمام الذات:
أ) وجود مقداري متجزي هو المخصوص بالخلق
ب) وجود متعال عن المقدار والأجزاء وهو ذات الخالق تبارك وتعالى.
2. مفهوم ذوات الأشياء وصفاتها على سنخين: مفهوم خاص بالخلق وهو قابل للتعدد والتكثر کمفهوم المثلث والمربع و...، ومفهوم خاص بالخالق وهو مفهوم الشيء بخلاف الأشياء. والمقسم لهذين القسمين هو مفهوم الشيء بعنوانه العام.
نكتة: إن معني الوجود والشيئية الخاص بالله تعالي والمقسم الشامل له تعالي ولغيره منهما كلها تكون أمورا جديدة قد أحدثها الخالق تبارك وتعالى بتعريفه نفسه إلى عباده، ولم يكن الخلق يعرفها قبل ذلك ـ بل ما كان يمكنه أن يهتدي إلى ذلك دون الرجوع إلى مكتب الوحي كما بيناه في مبحث الانسداد ـ حتى يمكنه أن يضع بإزاء تلك المعاني ألفاظا وأسامي. والطريق إلى الإشارة إلى تلك المعاني والأوصاف المقدسة ينحصر بالاستعانة بما يجري على الخلق من الأسماء والأوصاف مضافة إلى قيود سلبية كقولنا: "شيء بخلاف الأشياء" و"بصير سميع بغير جارحة" و"داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج عنها لا كشيء عن شيء خارج" و"فاعل بلا آلة" و...
كما أن بعد التفات الخلق إلى تلك الذات المقدسة ومعرفة تلك المعاني البديعة لا يكون إجرائها على الخالق والخلق بخصوصهما على نحو واحد وباشتراك لفظي أو معنوي أيضا، بل يكون على النحو الذي بيناه ـ وهو الاستعانة بما يجري على الخلق من الأسماء والأوصاف مضافة إلى قيود سلبية ـ
ومن هنا يعلم أيضا أن اختلاف الوجودين لا يكون مصداقيا فقط، بل يكون في كل الجهات المذكورة المفهومية والمصداقية.
تعليق