ذكرى ولادة الامام جعفر الصادق(ع).
بقلم |مجاهد منعثر منشد
قال أبو العلاءِ المعرّيّ :
لـقد عجِبُوا لآل البيتِ لمّا أتـاهم علمُهم في جلْدِ جَفْرِ
ومرآةُ المُنجِّمِ وهْي صُغرى تُـريهم كـلَّ عامرةٍ وقَفْرِ!
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) مشيرا الى الامام الصادق ( عليه السلام ) :ـ هذا خير البريّة (1) .
وقال عم الامام الصادق ( عليه السلام ) زيد بن علي :ـ في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لايضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه (2) .
في الذكرى الثمانين تحتفل الأمة الإسلامية بمولد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... وفي مظاهر السرور والبهجة ولد الامام ابو عبد الله جعفرالصادق (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم17 من شهر ربيع الأول عام 80 هـ (3) ، وهو السادس من أئمة أهل البيت ( عليه السلام )، ودامت فترة إمامته ثلاث وأربعون سنة ، وقد نسب إليه الشيعة الاثنى عشرية، فيقال لهم ايضا ( الجعفرية ).
وكانَتْ ولادَتُه ( عليه السلام ) في زمن الأموي عبد الملك بن مَرْوان ، وتربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه الإمام السجَّاد ( عليهما السلام ) ، وعنهما أخذَ ( عليه السلام ) علوم الشريعةِ ومعارِفَ الإسلام .
أمّه السيدة المهذبة الزكية أم فروة بنت الفقيه قاسم بن عمر بن أبي بكر ، والقاسم ابوها من ثقاة الامام زين العابدين واحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، وجدها محمد بن ابي بكر كان بمثابة ولد من اولاد الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (4) .
كان يُكنَّى بأبي عبد اللّه، وأبي إِسماعيل ، وأبي موسى ، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق (5) ، والفاضل (6) ، والقائم (7) ، والكافل (8) ، والمنجي (9) ، الصابر (10) ، الطاهر (11) ، و لقَّبه بالصادق أبوه رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلم ) ، كما في كفاية الأثر لعلي بن محمّد بن علي الخزاز عند ترجمة الصادق (عليه السلام) مسنداً عن أبي هريرة عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) في حديث طويل ، ومنه أنه قال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : ويخرج اللّه من صُلبه ـ أي صُلب محمّد الباقر ـ كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود : فما اسمه يا نبيّ اللّه ؟ قال : يقال له جعفر ، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ، (12) .
وأبلغت القابلة جده الامام زين العابدين له عينين زرقاوين جميلتين فتبسم الإمام ( عليه السلام ) وقال: إنه يشبه عيني والدتي (13) ، فعيناه تشبهان عيني جدنه السيدة شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك الامبراطورية الساسانية، وهي والدة الإمام زين العابدين ، عينان زرقاوان ، وها هو جعفر الصادق يرث حسب قانون مندل (14) ، لون عينيه من جدّته .
وهناك رواية تقول أن كيهان بانو ، وهي شقيقة شهر بانو بنت يزدجرد ، وقعت في الأسر في فتح عاصمة الأكاسرة ( المدائن )، حيث أتوا بها مع بقية الأسرى إلى المدينة وكانت لها بدورها عينان زرقاوان ، فإن صحت هذه الرواية، فالإمام الصادق قد ورث عينيه من أميرتين فارسيتين ، لأن كيهان بانو بنت يزدجرد كانت جدة الإمام الصادق من ناحية الأم أيضاً.
وكان الإمام علي ( عليه السلام ) قد عطف على الأسرى من الأسرة المالكة، وزوج شهر بانو بنت يزدجرد لابنه الحسين ( عليه السلام )، وكذلك زوج كيهان بانو لمحمد ابن أبي بكر (الخليفة الأول)، والذي كان يحبه ويرعاه كأحد أبنائه، وقد ولاّه في ما بعد مصر ، ولكنه قُتل في أثناء ولايته بتواطوء من معاوية بن أبي سفيان.
وقد ولد لمحمد بن أبي بكر وكيهان بانو ولد سمي ( القاسم )، وولدت للقاسم بنت سميت ( أم فروة ) تزوجها الامام محمد الباقر ( عليه السلام )، فأنجبت له جعفراً الصادق ( عليه السلام )، وبهذا ارتبط جعفر الصادق (عليه السلام) من ناحيتي الأب والأم بأميرتين فارسيتين كما ارتبط بالخليفة أبي بكر من ناحيتين أيضاً.
وأن والد الصادق وجده ( عليهما السلام ) اهتما برعايته وتعليمه وتربيته من السنة الثانية، ويعترف علماء التربية في هذا العصر بأن أفضل سني تعليم الطفل هي ما بين الثانية والخامسة ، لأن قوة الذاكرة لدى الطفل تكون في هذه الفترة أقوى منها في غيرها .
كان الإمام الباقر ( عليه السلام ) والد الصادق ( عليه السلام ) باعتراف الجميع، أعظم العلماء في عصره ، وكان جدُّه زين العابدين ( عليه السلام ) أيضاً من أكابر العلماء والزّهاد (15) .
حيث كانت حياة الامام ما بين عام 83 و148 هـ فقد قارنت شطراً من حياة الامام السجاد وأيام امامته، حيث كانت امامته ما بين عام 61 و95 هـ ، فقد عاش معه أثنى عشر سنة ، ثم عايش إمامة أبيه الباقر (عليه السلام )التي شرعت عام 95 هـ وامتدت إلى عام 114هـ .
وقد تميزت امامة الباقر ( عليه السلام ) بتصديه لنشر العلم، ولذا يقول الشيخ المفيد: ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين ( عليهما السلام ) من علم الدين والاثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الادب ما ظهر عن أبي جعفر.
و قام جعفر بن محمَّد الصادق ( عليه السلام ) بإمامة الأمّة في سنة 114هجرية ، عاصر في مجمل فترة إمامته عدّة حكّام من بني أميّة وبني العباس، فمن الأمويين: هشام بن عبد الملك بن مروان ، ووليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك ، وإبراهيم بن وليد بن عبد الملك ، ومروان بن محمَّد ، ومن العباسيين: أبي عبد اللّه بن محمَّد السفاح وأبي جعفر منصور الدوانيقي.
وعاصر من المجازر المروعة في عهد بني أميّة ما لحق بزيد بن عليّ الذي صلب وعلق على المشنقة في سنة 122هـ ، ناهيك عما لحق به من تمثيل ، ولـم يكتفِ الأمويون بذلك فقتلوا ولده يحيى بشكل مروع .
وعايش الامام الصادق ( عليه السلام ) حقائق ثلاثة في تاريخ الامة الاسلامية وهي قدرة الإسلام على التجديد والابداع والعطاء في كافة المجالات.
وانحراف الحكام وحدوث هوة سحيقة بين المبادئ الإسلامية وبين السلطة الحاكمة .
وحيوية الامة الإسلامية وقدرتها على التحرك ضد الحكام المنحرفين عن الإسلام .
فكان الامام الصادق ( عليه السلام ) منصرفا عن الصراع السياسي المكشوف الى بناء المقاومة بناءً علميا وفكريا وسلوكيا يحمل روح الثورة، ويتضمن بذورها لتنمو بعيدة عن الانظار وتولد قوية راسخة ، وبهذه الطريقة راح يربّي العلماء والدعاة وجماهير الامة على مقاطعة الحكام الظلمة ، ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احكام الشريعة ومفاهيمها ، ويثبت لهم المعالم والاسس الشرعية الواضحة، كقوله ( عليه السلام ) : ( من عذر ظالما بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه ، فان دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته )، ( العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم ) ، واستفاد الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حالة الارتباك والفوضى التي سادت أوضاع الدولة الإسلامية ما بين نهايات الحكم الأموي وبدايات الحكم العباسي ، وسمحت الظروف السياسية والاجتماعية في هذه الفترة للإمام ، لأن يقوم بواجبه عن طريق نشر العلوم والآثار الإسلامية وتربية التلاميذ ، وأن يستكمل بناء تلك الجامعة الكبرى التي وضع والده الكريـم أساسها.
واحد اهل الخلاف ابن أبي العوجاء قال فيه : ولقد سمع جعفرُ بنُ محمّدٍ كلامَنا أكثرَ ممّا سمعت ، فما أفحشَ في خطابنا ، ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه الحليمُ الرزين ، العاقلُ الرصين ، لا يعتريه خرْق ، ولا طيشٌ ولا نزْق ، يسمع كلامنا ويُصغي إلينا ، ويتعرّف حجّتَنا ، حتّى إذا استفرَغْنا ما عندنا ، وظننّا أنّا قد قطعناه... دحض حجّتَنا بكلامٍ يسير ، وخطابٍ قصير ، يُلزِمُنا به الحُجّة، ويقطع العُذْر، فلا نستطيع لجوابه ردّا، و أن الامام الصادق ( عليه السلام ) هو استاذ العلماء وامام الفقهاء وهو امام عصره كما هو امام العصور واستاذ الاجيال ، و قد انصرف هو وابوه الباقر ( عليه السلام ) لانشاء مدرسة أهل البيت العلمية في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه و آله وسلم ) في المدينة المنورة ، ثم استمر في تنمية هذه الجامعة العلمية ومواصلة حماية الشريعة ، وحرية الرأي والبحث ما تميزت به مدرسة الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) على المذاهب الأخرى ...
أن المذهب الكاثوليكي بقي طوال ألف سنة في حالة من الركود والافتقار إلى النشاط الفكري، و المذهب الأرثوذكسي لا يختلف اليوم عما كان عليه في القرن الثاني الميلادي في أنطاكية.
وقبل نهاية القرن الثاني الهجري أرسى الثقافة والمعارف الشيعية الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، فاصبحت هذه الثقافة نموذجاً لحرية الرأي والبحث ، فاقتدت الفرق الإسلامية الأخرى بالشيعة في المباحث الكلامية والعلمية ، وحرية البحث في أمور الدين ، فقد بدأت في الإسلام بعصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وبعد انتشار المذهب الجعفري.
وقد تولى الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنفسه تدريس هذه العلوم، ولم يستبعد منها الفلسفة أو الحكمة أو العرفان، لأن هذه العلوم كانت تمثل المبادئ والمجادلات التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله والكون ، وهي علوم كانت قد وصلت فعلاً إلى المدينة .
وقد ابتدأ الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) بتدريس مبادئ الفلسفة أو أسلوب الاستدلال والجدل المنطقي، وكانت مباحث الفلسفة في مدرسته تتناول في بادئ الأمر آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو ونظريتهم .
وأن مجلس الإمام الصادق ( عليه السلام ) ومدرسته كانا يمثلان منبراً حراً لتلامذته ومريديه ، لهم أن يسألوا ، ولهم أن يعترضوا ، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وإحساساتهم بحرية تامة ، كما أن من حقهم أن ينتقدوا آراء أساتذتهم، ولم يكن الإمام يفرض على تلامذته رأياً معيناً ، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بإذعانهم ، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة والمنطق السليم والبيان الرائق.
وكان الإمام الصادق ( عليه السلام ) يؤمن بما يقول ، ويأخذ بالواقع لا بالمثاليات ، ولهذا لم يتوسل أبداً في دروسه بأسلوب ( البوتوبيا ) ، الذي سيطر على تفكير المجتمع الأوروبي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، ومن هنا انتفت من دروس الإمام الصادق ( عليه السلام ) أي دعوة إلى قيام حكومة مثالية لا تتفق مع واقع الحياة في المجتمع البشري.
وقد اغتذت الثقافة الشيعية من هذه الحرية التي هيأت لهذه الثقافة أسباب الذيوع والانتشار الواسعين ، وأقبل عليها الراغبون في حرية البحث والاستدلال ، كما أقبل عليها الموالون للشيعة مدفوعين إلى ذلك برغبة باطنية ، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات ، وكانوا أربعة آلاف رجل (16) .
ومن يتصفح التاريخ قبل قيام الدولة الصفوية ، يلاحظ أن الحكومات الشيعية التي قامت في البلاد الشرقية كانت معدودة ، وأشهرها حكومة البويهيين ، كما يلاحظ أن هذه الدول لم تتوسل بالقوة أو النفوذ السياسي لنشر المذهب الشيعي ، وإنما اقتصرت على التمسك بالتقاليد والأعراف والمبادئ الشيعية، وفي مقدمتها الاحتفالات الدينية في أيام التعزية، وبصورة خاصة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي ( عليه السلام ) في كربلاء ، ولم يكتب لدولة شيعية أن تستقر طويلاً في بلاد الشرق بعد البويهيين، باستثناء دولة الفاطميين في غرب العالم الإسلامي، إلى أن قامت الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري ( 1502 ـ 1736م ).
ومع ذلك ، أخذ التشييع ينتشر في ربوع الشرق بثقافته العلمية المنطقية المبسطة ، بإصرار وثبات في مقاومة التيار الحكومي المعادي له ، وإن لم ينجح في إنشاء مركز سياسي أو نظام حكومي يستند إليه، أي أنه نجح بالفكر لا بالسلطان ، وبالروح لا بالقدرة المادية .
ان الامام كان يستهدف بعمله ومدرسته الاهداف الاتية:
بقلم |مجاهد منعثر منشد
قال أبو العلاءِ المعرّيّ :
لـقد عجِبُوا لآل البيتِ لمّا أتـاهم علمُهم في جلْدِ جَفْرِ
ومرآةُ المُنجِّمِ وهْي صُغرى تُـريهم كـلَّ عامرةٍ وقَفْرِ!
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) مشيرا الى الامام الصادق ( عليه السلام ) :ـ هذا خير البريّة (1) .
وقال عم الامام الصادق ( عليه السلام ) زيد بن علي :ـ في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لايضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه (2) .
في الذكرى الثمانين تحتفل الأمة الإسلامية بمولد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... وفي مظاهر السرور والبهجة ولد الامام ابو عبد الله جعفرالصادق (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم17 من شهر ربيع الأول عام 80 هـ (3) ، وهو السادس من أئمة أهل البيت ( عليه السلام )، ودامت فترة إمامته ثلاث وأربعون سنة ، وقد نسب إليه الشيعة الاثنى عشرية، فيقال لهم ايضا ( الجعفرية ).
وكانَتْ ولادَتُه ( عليه السلام ) في زمن الأموي عبد الملك بن مَرْوان ، وتربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه الإمام السجَّاد ( عليهما السلام ) ، وعنهما أخذَ ( عليه السلام ) علوم الشريعةِ ومعارِفَ الإسلام .
أمّه السيدة المهذبة الزكية أم فروة بنت الفقيه قاسم بن عمر بن أبي بكر ، والقاسم ابوها من ثقاة الامام زين العابدين واحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، وجدها محمد بن ابي بكر كان بمثابة ولد من اولاد الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (4) .
كان يُكنَّى بأبي عبد اللّه، وأبي إِسماعيل ، وأبي موسى ، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق (5) ، والفاضل (6) ، والقائم (7) ، والكافل (8) ، والمنجي (9) ، الصابر (10) ، الطاهر (11) ، و لقَّبه بالصادق أبوه رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلم ) ، كما في كفاية الأثر لعلي بن محمّد بن علي الخزاز عند ترجمة الصادق (عليه السلام) مسنداً عن أبي هريرة عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) في حديث طويل ، ومنه أنه قال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : ويخرج اللّه من صُلبه ـ أي صُلب محمّد الباقر ـ كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود : فما اسمه يا نبيّ اللّه ؟ قال : يقال له جعفر ، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ، (12) .
وأبلغت القابلة جده الامام زين العابدين له عينين زرقاوين جميلتين فتبسم الإمام ( عليه السلام ) وقال: إنه يشبه عيني والدتي (13) ، فعيناه تشبهان عيني جدنه السيدة شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك الامبراطورية الساسانية، وهي والدة الإمام زين العابدين ، عينان زرقاوان ، وها هو جعفر الصادق يرث حسب قانون مندل (14) ، لون عينيه من جدّته .
وهناك رواية تقول أن كيهان بانو ، وهي شقيقة شهر بانو بنت يزدجرد ، وقعت في الأسر في فتح عاصمة الأكاسرة ( المدائن )، حيث أتوا بها مع بقية الأسرى إلى المدينة وكانت لها بدورها عينان زرقاوان ، فإن صحت هذه الرواية، فالإمام الصادق قد ورث عينيه من أميرتين فارسيتين ، لأن كيهان بانو بنت يزدجرد كانت جدة الإمام الصادق من ناحية الأم أيضاً.
وكان الإمام علي ( عليه السلام ) قد عطف على الأسرى من الأسرة المالكة، وزوج شهر بانو بنت يزدجرد لابنه الحسين ( عليه السلام )، وكذلك زوج كيهان بانو لمحمد ابن أبي بكر (الخليفة الأول)، والذي كان يحبه ويرعاه كأحد أبنائه، وقد ولاّه في ما بعد مصر ، ولكنه قُتل في أثناء ولايته بتواطوء من معاوية بن أبي سفيان.
وقد ولد لمحمد بن أبي بكر وكيهان بانو ولد سمي ( القاسم )، وولدت للقاسم بنت سميت ( أم فروة ) تزوجها الامام محمد الباقر ( عليه السلام )، فأنجبت له جعفراً الصادق ( عليه السلام )، وبهذا ارتبط جعفر الصادق (عليه السلام) من ناحيتي الأب والأم بأميرتين فارسيتين كما ارتبط بالخليفة أبي بكر من ناحيتين أيضاً.
وأن والد الصادق وجده ( عليهما السلام ) اهتما برعايته وتعليمه وتربيته من السنة الثانية، ويعترف علماء التربية في هذا العصر بأن أفضل سني تعليم الطفل هي ما بين الثانية والخامسة ، لأن قوة الذاكرة لدى الطفل تكون في هذه الفترة أقوى منها في غيرها .
كان الإمام الباقر ( عليه السلام ) والد الصادق ( عليه السلام ) باعتراف الجميع، أعظم العلماء في عصره ، وكان جدُّه زين العابدين ( عليه السلام ) أيضاً من أكابر العلماء والزّهاد (15) .
حيث كانت حياة الامام ما بين عام 83 و148 هـ فقد قارنت شطراً من حياة الامام السجاد وأيام امامته، حيث كانت امامته ما بين عام 61 و95 هـ ، فقد عاش معه أثنى عشر سنة ، ثم عايش إمامة أبيه الباقر (عليه السلام )التي شرعت عام 95 هـ وامتدت إلى عام 114هـ .
وقد تميزت امامة الباقر ( عليه السلام ) بتصديه لنشر العلم، ولذا يقول الشيخ المفيد: ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين ( عليهما السلام ) من علم الدين والاثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الادب ما ظهر عن أبي جعفر.
و قام جعفر بن محمَّد الصادق ( عليه السلام ) بإمامة الأمّة في سنة 114هجرية ، عاصر في مجمل فترة إمامته عدّة حكّام من بني أميّة وبني العباس، فمن الأمويين: هشام بن عبد الملك بن مروان ، ووليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك ، وإبراهيم بن وليد بن عبد الملك ، ومروان بن محمَّد ، ومن العباسيين: أبي عبد اللّه بن محمَّد السفاح وأبي جعفر منصور الدوانيقي.
وعاصر من المجازر المروعة في عهد بني أميّة ما لحق بزيد بن عليّ الذي صلب وعلق على المشنقة في سنة 122هـ ، ناهيك عما لحق به من تمثيل ، ولـم يكتفِ الأمويون بذلك فقتلوا ولده يحيى بشكل مروع .
وعايش الامام الصادق ( عليه السلام ) حقائق ثلاثة في تاريخ الامة الاسلامية وهي قدرة الإسلام على التجديد والابداع والعطاء في كافة المجالات.
وانحراف الحكام وحدوث هوة سحيقة بين المبادئ الإسلامية وبين السلطة الحاكمة .
وحيوية الامة الإسلامية وقدرتها على التحرك ضد الحكام المنحرفين عن الإسلام .
فكان الامام الصادق ( عليه السلام ) منصرفا عن الصراع السياسي المكشوف الى بناء المقاومة بناءً علميا وفكريا وسلوكيا يحمل روح الثورة، ويتضمن بذورها لتنمو بعيدة عن الانظار وتولد قوية راسخة ، وبهذه الطريقة راح يربّي العلماء والدعاة وجماهير الامة على مقاطعة الحكام الظلمة ، ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احكام الشريعة ومفاهيمها ، ويثبت لهم المعالم والاسس الشرعية الواضحة، كقوله ( عليه السلام ) : ( من عذر ظالما بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه ، فان دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته )، ( العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم ) ، واستفاد الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حالة الارتباك والفوضى التي سادت أوضاع الدولة الإسلامية ما بين نهايات الحكم الأموي وبدايات الحكم العباسي ، وسمحت الظروف السياسية والاجتماعية في هذه الفترة للإمام ، لأن يقوم بواجبه عن طريق نشر العلوم والآثار الإسلامية وتربية التلاميذ ، وأن يستكمل بناء تلك الجامعة الكبرى التي وضع والده الكريـم أساسها.
واحد اهل الخلاف ابن أبي العوجاء قال فيه : ولقد سمع جعفرُ بنُ محمّدٍ كلامَنا أكثرَ ممّا سمعت ، فما أفحشَ في خطابنا ، ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه الحليمُ الرزين ، العاقلُ الرصين ، لا يعتريه خرْق ، ولا طيشٌ ولا نزْق ، يسمع كلامنا ويُصغي إلينا ، ويتعرّف حجّتَنا ، حتّى إذا استفرَغْنا ما عندنا ، وظننّا أنّا قد قطعناه... دحض حجّتَنا بكلامٍ يسير ، وخطابٍ قصير ، يُلزِمُنا به الحُجّة، ويقطع العُذْر، فلا نستطيع لجوابه ردّا، و أن الامام الصادق ( عليه السلام ) هو استاذ العلماء وامام الفقهاء وهو امام عصره كما هو امام العصور واستاذ الاجيال ، و قد انصرف هو وابوه الباقر ( عليه السلام ) لانشاء مدرسة أهل البيت العلمية في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه و آله وسلم ) في المدينة المنورة ، ثم استمر في تنمية هذه الجامعة العلمية ومواصلة حماية الشريعة ، وحرية الرأي والبحث ما تميزت به مدرسة الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) على المذاهب الأخرى ...
أن المذهب الكاثوليكي بقي طوال ألف سنة في حالة من الركود والافتقار إلى النشاط الفكري، و المذهب الأرثوذكسي لا يختلف اليوم عما كان عليه في القرن الثاني الميلادي في أنطاكية.
وقبل نهاية القرن الثاني الهجري أرسى الثقافة والمعارف الشيعية الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، فاصبحت هذه الثقافة نموذجاً لحرية الرأي والبحث ، فاقتدت الفرق الإسلامية الأخرى بالشيعة في المباحث الكلامية والعلمية ، وحرية البحث في أمور الدين ، فقد بدأت في الإسلام بعصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وبعد انتشار المذهب الجعفري.
وقد تولى الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنفسه تدريس هذه العلوم، ولم يستبعد منها الفلسفة أو الحكمة أو العرفان، لأن هذه العلوم كانت تمثل المبادئ والمجادلات التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله والكون ، وهي علوم كانت قد وصلت فعلاً إلى المدينة .
وقد ابتدأ الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) بتدريس مبادئ الفلسفة أو أسلوب الاستدلال والجدل المنطقي، وكانت مباحث الفلسفة في مدرسته تتناول في بادئ الأمر آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو ونظريتهم .
وأن مجلس الإمام الصادق ( عليه السلام ) ومدرسته كانا يمثلان منبراً حراً لتلامذته ومريديه ، لهم أن يسألوا ، ولهم أن يعترضوا ، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وإحساساتهم بحرية تامة ، كما أن من حقهم أن ينتقدوا آراء أساتذتهم، ولم يكن الإمام يفرض على تلامذته رأياً معيناً ، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بإذعانهم ، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة والمنطق السليم والبيان الرائق.
وكان الإمام الصادق ( عليه السلام ) يؤمن بما يقول ، ويأخذ بالواقع لا بالمثاليات ، ولهذا لم يتوسل أبداً في دروسه بأسلوب ( البوتوبيا ) ، الذي سيطر على تفكير المجتمع الأوروبي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، ومن هنا انتفت من دروس الإمام الصادق ( عليه السلام ) أي دعوة إلى قيام حكومة مثالية لا تتفق مع واقع الحياة في المجتمع البشري.
وقد اغتذت الثقافة الشيعية من هذه الحرية التي هيأت لهذه الثقافة أسباب الذيوع والانتشار الواسعين ، وأقبل عليها الراغبون في حرية البحث والاستدلال ، كما أقبل عليها الموالون للشيعة مدفوعين إلى ذلك برغبة باطنية ، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات ، وكانوا أربعة آلاف رجل (16) .
ومن يتصفح التاريخ قبل قيام الدولة الصفوية ، يلاحظ أن الحكومات الشيعية التي قامت في البلاد الشرقية كانت معدودة ، وأشهرها حكومة البويهيين ، كما يلاحظ أن هذه الدول لم تتوسل بالقوة أو النفوذ السياسي لنشر المذهب الشيعي ، وإنما اقتصرت على التمسك بالتقاليد والأعراف والمبادئ الشيعية، وفي مقدمتها الاحتفالات الدينية في أيام التعزية، وبصورة خاصة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي ( عليه السلام ) في كربلاء ، ولم يكتب لدولة شيعية أن تستقر طويلاً في بلاد الشرق بعد البويهيين، باستثناء دولة الفاطميين في غرب العالم الإسلامي، إلى أن قامت الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري ( 1502 ـ 1736م ).
ومع ذلك ، أخذ التشييع ينتشر في ربوع الشرق بثقافته العلمية المنطقية المبسطة ، بإصرار وثبات في مقاومة التيار الحكومي المعادي له ، وإن لم ينجح في إنشاء مركز سياسي أو نظام حكومي يستند إليه، أي أنه نجح بالفكر لا بالسلطان ، وبالروح لا بالقدرة المادية .
ان الامام كان يستهدف بعمله ومدرسته الاهداف الاتية:
تعليق