
بقلم: محمّد العباس
فيما تنبّأ أن تكون الولايات المتّحدة الأمريكية أُولى الدول التي تُعلن نهاية الصحف، أي أن تبدأ الصحافة بشكلها الحالي بالاختفاء منها في غضون سبعة أعوام، توقّع عالم المستقبليات الشهير (روس داوسون) اختفاء الصحافة الورقية في السعودية بحلول عام 2034 م، لتصبح بذلك أوّل دولة عربيّة ينقرض فيها هذا النوع من الصحافة، كما رسم في مدونته نهاية هذا النمط السائد من الصحافة في موطنه أستراليا خلال عقدٍ من الزمن، وهي الفترة التي ستحتاجها بريطانيا وايسلندا والنرويج وكندا، مع فارق عام أو عامين بين بلدٍ وآخر، أما ألمانيا وفرنسا فلن تتمكنا من الانتقال الكلّي إلى الصحافة الإلكترونية إلّا بعد عقدين تقريباً بسبب الدعم الحكومي، إذ لا زال الفرنسيّون مثلاً يتحدّثون عن عمليّات إصلاح.
الصحافة الورقيّة آخذة في التآكل، رغم إصرار الاتحاد العالمي للصحف (WAN) على أنّ الصحيفة مؤسّسة إعلامية راسخة وآخذة في النمو، ورغم وتيرة الصعود الواضح لما بات يُعرف بالإمبريالية الإلكترونية، بغضّ النظر عن المُدد الزمنية المحدّدة لذلك التلاشي، وتلك حتميّة حاضرة بقوّة استدعت من المؤسسات الإعلامية التهيّؤ للعصر الجديد، وعلى هذا الأساس منحت وزارة الإعلام والثقافة في السعودية 170 ترخيصاً للصحف الإلكترونية، كما أُعلن قبل عامين تقريباً في ندوة النشر الإلكتروني والثقافة، وهو اتّجاهٌ دفع الصحف الورقيّة إلى الإسراع في تحديث طبعاتها الإلكترونية للتواؤم مع متطلبات اللّحظة.
ولا شكّ أنّ مهبّات العولمة فاجأت الإعلاميّين التقليديّين بصحافة المواطن أو صحافة الشارع، التي تتّسم بطاقتها التفاعليّة وخطابها التشاركي، وهي نقطة تحوّل هائلة تهدّد وجود الشكل المتعارف عليه للصحافة، وهذا هو جوهر الإنذار الذي أطلقه برنار بوليه: "ربّما حان وقت الذعر"، في كتابه اللّافت: "نهاية الصحف ومستقبل الإعلام"، حيث تمّ الإعلان على نطاقٍ عالميّ أُفول سلطة وسائل الإعلام.
وبمقدور أيّ متابعٍ أن يُلاحظ القفزة الهائلة في التواصل الإعلامي وتبادل الأخبار والمعلومات التي أحدثتها الصحافة الإلكترونية في السعوديّة، فهي لا تختلف عن الورقيّة من حيث الشكل والتقنيّة والسرعة وحسب، بل من حيث التصاقها بهموم الناس من حيث المحتوى، إذ تزدحم بالنصوص والصور والمقاطع الصوتيّة والفلميّة، سواءً المنقولة من المصادر الإخبارية أو تلك المنتجة بواسطة المواطن، يساعدها على ذلك التقنيات العالية التي باتت في متناول الجميع، كالكمبيوترات المحمولة وأجهزة الهاتف الذكية، وتوفّر شبكة النت على نطاق واسع، وهي دينامية تمكّن ناقل الخبر من التماسّ مع الحدث بسرعةٍ فائقة، وهو تحوّل دراماتيكي انتبه إليه وبشّر به مبكراً خالد الفرم في كتابه (الإعلام الجديد والصحافة الإلكترونية).
هذا القدر العالي من التفاعليّة هي التي نقلت الجمهور من حيّز الاستهلاك إلى مستوى إنتاج المادّة الإعلامية، بعد أن تحرّرت من سكونيّة القوائم البريدية ومجّانية المنتديات، ودخلت مرحلة المدوّنات، وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر، وهو مآل قلب كلّ المعادلات الاتّصالية التقليديّة القديمة، وهنا حدثت الانتفاضة الجماهيريّة ضد الإعلام المؤسّساتي، بما في ذلك الصحافة المطبوعة، إذ تمثّل هذه الشبكة حالةً من حالات التجلّي للعولمة بمعناها الفاعل، التي توفر فرصة النشر السريع والرخيص، والوصول إلى أوسع شريحة جماهيريّة.
هكذا تحوّل المتلقّي من مجرّد مستخدمٍ إلى منتج رسالةٍ إعلامية، خصوصاً أنّ الإعلام الجديد الذي يضطلع به المواطن، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسؤوليّة الاجتماعية، وبالتالي صار بمقدور أيّ فردٍ أن يبدي موقفه ورأيه تجاه الأحداث، ويعبّر عن رأيه إزاء مختلف القضايا بشكلٍ موضوعي، ويتورّط كناشطٍ وفاعلٍ في الشأن الإنساني، بمعزلٍ عن الضغوطات المجتمعيّة، وبما يكفل له كناشط ثقافيّ وككائن عالمي تعزيز مكانته المجتمعيّة في آن، وهذا ما يسمّيه اندروكين أبالسة النت، أي ذلك الفصيل من الهواة النبلاء الذين يضعون إسهامهم مقابل حِرفية المثقّف الخبير.