ما القرآن؟٭
توبي ليستر
في عام 1972، وخلال عملية ترميم للمسجد الكبير في مدينة صنعاء باليمن، وأثناء عمل العمَّال في شرفة بين سقفي الهيكل الداخلي والخارجي عثروا على مقبرة، إلا أنهم لم يتعرَّفوا عليها في بادئ الأمر. لكن جهلهم كان مبرَّرًا: المساجد في الحالة العادية ليست مقابر، كما أنَّ الموقع لم يكن يحتوي أية شواهد أو أضرحة، لا وجود لبقايا جسدية بشرية، ولا مجوهرات جنائزية. في الواقع، لم تكن هذه المقبرة تحتوي إلا على هريسة مشوَّهة وغير جذَّابة من رق قديم ووثائق ورقية عتيقة – كتب مهترئة وصفحات مشتتة مكتوب عليها بالنص العربي، مصهورة ومخلوطة ببعضها جرَّاء قرون طويلة من الأمطار والرطوبة، مقضومة خلال كل هذه الفترة من الزمن من قبل الجرذان والحشرات. ورغبة منهم بمتابعة عملهم، قام العمَّال بجمع المخطوطات، حشروها داخل حوالي عشرين كيس من البطاطا، ووضعوها جانبًا على سلَّم أحد مآذن المسجد، حيث تمَّ الإقفال عليها، ونُسيت مرةً أخرى، لكن ليس لفترة طويلة، حتى عثر عليها القاضي إسماعيل الأكوع، وقد كان رئيس السلطات اليمنية للعاديات، وهو من أدرك الأهمية الفعلية لهذه المكتشفات.
طلب الأكوع مساعدة دولية لفحص هذه الكسرات وصيانتها، وفي عام 1979 استطاع أن يثير اهتمام باحث ألماني زائر، الذي بدوره أقنع الحكومة الألمانية بتمويل مشروع ترميم. وبعد ما بدأ المشروع، سرعان ما تبيَّن أنَّ هذا الكنز كان مثالاً رائعًا لما كان يسمى في وقتٍ من الأوقات باسم "القبر الورقي" – في هذه الحالة كان الموقع يحتوي على، من بين الكثير من الأشياء الأخرى، عشرات الآلاف من الكسرات من آلاف الصحف التي تحمل مخطوطات مختلفة للقرآن، كتاب المسلمين المقدَّس. جرى الحديث في بعض الدوائر الإسلامية المتشدِّدة أنَّ النسخ التالفة أو المهترئة من القرآن يجب إزالتها وعدم إدخالها في عملية تدوير، لذلك فإنَّ فكرة القبر، والذي حافظ على حرمة وقداسة النصوص المدوَّنة عليها، وفي نفس ضمن عدم قراءة أو تلاوة أي نسخة أخرى، ما عدا نسخة كاملة وسليمة من الكتاب.
بعض الصفحات في ذلك الكنز اليمني بدت أنَّها تعود في تاريخها إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، أو القرنين الإسلاميين الأولين – كانت عبارة عن كسرات، أي أنها كانت أقدم المصاحف الموجودة حتى الآن. والأهمُّ من ذلك، بعض هذه الكسرات أظهرت بعض الزيغان والشذوذات الصغيرة لكن الملفتة للانتباه والمختلفة عن النص القرآني الرسمي. هذه الشذوذات، مع أنها ليست بالجديدة أو المفاجئة بالنسبة لمؤرِّخي النصوص، بدت مزعجة ومقلقة لمعتقدات وأفكار المسلمين الأرثوذكس التي تنصُّ بأنَّ القرآن كامل، خارج عن إطار الزمان، وأنَّه كلام الله الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل.
الجهود العلمانية والموضوعية الرئيسية لإعادة تفسير القرآن – التي تقوم جزئيًا على الدليل النصِّي الذي تقدِّمه الكسرات اليمنية – تعتبر أمرًا مزعجًا ومهينًا بالنسبة للكثير من المسلمين، على غرار المحاولات اللاحقة لإعادة تفسير الإنجيل وحياة يسوع التي أزعجت الكثير من المسيحيين المتشدِّدين والمحافظين. وبرغم ذلك، هناك باحثون، من بينهم علماء مسلمون، شعروا أنَّ هذه الجهود، والتي تسعى أساسًا إلى وضع القرآن في سياقه التاريخي، ستكون بمثابة الصدمة الإنعاشية لنهضة إسلامية جديدة، من خلال إعادة النظر في التراث وتقييمه، والتقدُّم نحو الأمام بالنظر إلى الخلف. إلى هنا تمَّ حصر الأمر ضمن إطار الحجج العلمية، هذا النوع من التفكير يمكن أن يكون بالغ القوَّة والتأثير ويمكن أن يؤدي – كما تظهر تواريخ عصر النهضة والإصلاح – إلى تغييرات اجتماعية عظيمة الأثر. فالقرآن، بعد كل شيء، حاليًا من أكثر الكتب الأيديولوجية تأثيرًا في العالم.
النظر إلى الكسرات
أول شخص يمضي قسمًا كبيرًا من الوقت في التدقيق وفحص الكسرات اليمنية، سنة 1981، كان غيردر بوين، باحث متخصِّص بالخط والرسم العربي والباليوغرافيا[1] القرآنية من جامعة سارلاند، بسار بروكن، ألمانيا. بوين، الذي تمَّ إرساله من قبل الحكومة الألمانية لتنظيم مشروع الصيانة والإشراف عليه، أدرك مدى عتق بعض كسرات الصحف، وكشفت أبحاثه المبدئية التمهيدية ترتيبًا غير مألوف للسور، اختلافات نصية جوهرية ورئيسية، وأساليب نادرة في القواعد الإملائية والرسومات الفنية المزينة. الملفت للانتباه أيضًا، أنَّ الصحف التي كتب عليها القرآن كانت مكتوبة بخط نادر وبالخط العربي الحجازي القديم: قطعًا وأجزاء من المصاحف المبكِّرة من المعروف أنَّها موجودة، كانت أيضًا ألواحًا-نسخًا يبدو أنَّه تمَّت كتابتها في وقت أبكر، نسخًا تمَّ التخلُّص منها. بدأ بوين بالإحساس أنَّ المصاحف اليمنية تشير إلى أنها نصوص متغيرة ومتطوِّرة وليست ببساطة كلمة الله التي تمَّ إنزالها على النبي محمد خلال القرن السابع الميلادي.
منذ باكورة عام 1980 تمَّ استخراج أكثر من حوالي خمسة عشر ألف صحيفة من صحف القرآني اليمني وبسطها، تنظيفها، معالجتها، فرزها، تصنيفها، وجمعها، وهي تقبع الآن (محفوظة لألف سنة أخرى) في دار المخطوطات اليمنية، منتظرة مجيء أحدٍ ما ليجري عليها دراسات تفصيلية أكثر. إلا أنَّ السلطات اليمنية يبدو أنَّها تعارض هذا الأمر ولا تسمح به. والحال، كما يقول بوين موضِّحًا:
أنهم يريدون أن يبقوا على هذا الشيء منزويًا، كما نفعل نحن أيضًا، مع أنهم – ولأسباب مختلفة تمامًا – لا يريدون أن يلفتوا الانتباه إلى حقيقة أنَّ هناك ألمان وآخرون غيرهم يعملون على تلك المصاحف. هم لا يريدون أن ينتشر الخبر بين العامَّة أنَّ هناك أعمالاً تجري، بما أنَّ الموقف الإسلامي يقتضي أنَّ كل ما يجب أن يقال عن القرآن وبخصوصه قد قيل منذ ألف سنة مضت وانتهى الأمر.
حتى الآن لم يحظى سوى اثنين من العلماء بإمكانية الاقتراب من المخطوطات اليمنية بشكل موسَّع: بوين وزميله غراف فون بوتمر، باحث متخصِّص في تأريخ الفنِّ الإسلامي، من جامعة سارلاند أيضًا. لم ينشر بوين وفون بوتمر سوى القليل من المقالات المختصرة في دوريات علمية أكاديمية حول ما تمكَّنا من اكتشافه في الكسرات اليمنية. كانا ممانعان للنشر جزئيًا لأنهما – حتى فترة مؤخرة – كانا منشغلان بتصنيف وفرز الأجزاء أكثر من انشغالهما بفحصها بشكل منتظم، وجزئيًا لأنهما كانا يشعران أنَّ السلطات اليمنية، إن هي أدركت العواقب والنتائج المترتبة عن هذا الاكتشاف، قد تمنعهما من متابعة عملهما. على أيَّة حال، انتهى فون بوتمر في عام 1997 من أخذ أكثر من خمسةٍ وثلاثين صورة مصغَّرة عن الكسرات، وعاد بالصور إلى ألمانيا. وهذا معناه أنَّ فون بوتمر، بوين، وغيرهم من العلماء سيكون لديهم قريبًا الفرصة للتأمُّل وتفحُّص النصوص ونشر أعمالهم بحرية – وهذا ما يترقَّبه بوين بحماسة. إذ يقول:
غالبية المسلمين لديهم ذلك الاعتقاد الذي يقول إنَّ كل ما هو بين دفتي القرآن هو كلام الله غير المحرَّف والمعصوم، فهم يحبُّون دائمًا الاقتباس النصي الذي يظهر أنَّ الكتاب المقدَّس له تاريخ طويل وخاص وأنَّه لم ينزَّل من السماء، لكن حتى هذه اللحظة بقي القرآن محفوظًا وأنَّه بقي بعيدًا عن التحريف والتشويه. والطريقة الوحيدة لاختراق هذا الجدار هي من خلال إثبات أنَّ القرآن له تاريخه النصي الخاص أيضًا. وكسرات صنعاء ستساعدنا في ذلك.
بوين ليس وحيدًا في حماسته التفاؤلية هذه. "فوقع المخطوطات اليمنية ما زال محسوسًا حتى الآن" يقول أندرو ريبين، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة كالغاري، الذي يعدُّ في طليعة الباحثين القرآنيين اليوم،
فقراءاتها المختلفة والمتباينة وترتيب آياتها المختلف جميعها أمور في غاية الأهمية. والجميع متفق على ذلك. هذه المخطوطات تقول إنَّ التاريخ المبكِّر للنص القرآني هو أكثر من مجرَّد سؤال مفتوح وأكثر بكثير ممَّا توقَّع الكثيرون:
فالنص كان أقلَّ استقرارًا، ولذلك فإنَّه يفتقر إلى تلك القداسة والموثوقية اللتان كانتا تنسبان إليه.
تنقيح – تحرير كلام الله
حسب معايير الدراسات الإنجيلية والتوراتية المعاصرة، معظم الأسئلة التي جرى طرحها من قبل الباحثين أمثال بوين وريبين تعتبر متواضعة، ومن خارج إطار السياق الإسلامي، مفترضةً أنَّ القرآن له تاريخ ومقترحةً أنَّه يمكن تفسيره بطريقة مجازية وليس بشكل راديكالي. إلا أنَّ السياق الإسلامي – وحساسيات المسلمين – لا يمكن تجاهلها. "فمن خلال أرخنة القرآن سينتج عن ذلك عملية شرعنة لكافة التجربة والخبرة الدينية للمجتمع الإسلامي" يقول ستيفن همفري، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا.
فالقرآن هو أساس ودستور المجتمع، إنَّه الوثيقة التي أدَّت إلى وجوده. أمَّا مثاليًا – إذ من الواضح أنَّه على أرض الواقع لم يكن الأمر كذلك – فالتاريخ الإسلامي كان نتاج الجهد والسعي لمتابعة وتطبيق الوصايا القرآنية على الحياة الإنسانية. فلو كان القرآن وثيقة تاريخية، عندئذٍ يكون الصراع الإسلامي بأكمله وطوال أربعة عشر قرنًا بلا أيِّ معنى.
نظرة المسلمين الأرثوذوكس إلى القرآن تتلخَّص في أنَّه كلام الله المحفوظ، كامل، وفريد في رسالته، لغته، أسلوبه، وشكله، وهذه النظرة مشابهة لنظرة المسيحيين المتشدِّدين إلى الكتاب المقدَّس بأنَّه "معصوم" و"ملهم"، وهذه الفكرة ظلَّت شائعة حتى يومنا هذا وفي عدَّة أماكن. اكتسبت الفكرة تعبيرًا كلاسيكيًا أكثر بقليل منذ أقل من قرن من الزمن على يد الباحث الإنجيلي جون وليم بورغن.
الإنجيل ما هو إلا "صوت الرب المتربِّع على العرش!" فكل سفر فيه، كل جزء وكل مقطع منه، كل كلمة فيه، كل مقطع لفظي منه... كل حرف، هو الكلمة المباشرة والمعصومة للرب العلي!
والحقيقة أنَّه ليس كل المسيحيين ينظرون هذه النظرة نفسها إلى الكتاب المقدَّس. وفي الواقع، كما تشير موسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam (1981): "النظير الأقرب في الديانة المسيحية إلى دور القرآن في دين الإسلام ليس الكتاب المقدَّس، بل المسيح". فإذا كان المسيح هو كلمة الرب التي تحوَّلت إلى لحم، فالقرآن هو كلمة الله التي تحوَّلت إلى نصٍّ، فالشك في صلاحيته وموثوقيته تعتبر مساسًا بالإسلام وتهجُّمًا عليه – واسألوا سلمان رشدي.
ردود الفعل الارتكاسية العنيفة للمسلمين لم تكن لتحول دون إجراء دراسة نقدية-تاريخية للقرآن، كما بيَّنت مقالات الكتاب الموسوعي أصل القرآن [الذي قام بتحريرها وترجمتها ابن الورَّاق] (1998). وقد استمر العمل حتى خلال قضية سلمان رشدي: ففي عام 1996 قام الباحث القرآني غونتر لولينغ بكتابة مقالة ضمن مجلة النقد الأعلى عن المدى الشاسع الذي تحرَّف فيه كل من النص القرآني والأخبار التراثية الإسلامية عن أصول الإسلام، تحريف تمَّ قبوله بشكل غير متوقَّع من قبل المتخصِّصين الغربيين بالدراسات الإسلامية.
في عام 1994 نشرت مجلة القدس للدراسات بالعربية والإسلام أحدث دراسة كان قد قام بها الباحث يهودا نيفو، من الجامعة العبرية بالقدس، مفصِّلاً فيها النقوش الدينية من القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين والتي تمَّ نقشها على صخور عثر عليها في جميع أرجاء صحراء النقب والتي، اقترح نيفو، تطرح "إشكالات كبيرة ومعتبرة تتعلَّق بالتراث الإسلامي ومرويَّاته عن تاريخ الإسلام". في العام نفسه، وفي المجلة ذاتها، نشرت الباحثة باتريشيا كرونه، متخصِّصة في الإسلام المبكِّر من معهد الدراسات المتقدِّمة في برنستون، في نيوجيرسي، مقالاً قالت فيه إنَّ توضيح الآيات الصعبة والمبهمة في النص القرآني لا يصبح ممكنًا إلا من خلال "ترك الروايات والأخبار التقليدية عن كيفية ظهور القرآن والتخلِّي عنها". ومن هنا عرض جيمس بيلامي عام 1991 ضمن مجلة المجتمع الأمريكي الشرقي سلسلة من التصحيحات والتنقيحات لنص القرآن – تغييرات تعتبر من وجهة نظر المسلمين الأرثوذكس تساوي عملية تنقيح وتحرير كلام الله.
تعتبر كرونه من أشهر وأهمِّ العلماء في هذا المجال. فخلال العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين شاركت في تأليف العديد من الأعمال البحثية والكتب الهامة – أشهرها، عملها مع الباحث مايكل كوك: الهاجريون Hagarism: صناعة العالم الإسلامي (1977) – والتي قدَّمت فيها حججًا راديكالية عن أصول الإسلام ومصادره وكتابة التاريخ الإسلامي. إحدى الأطروحات المميَّزة التي يوردها كتاب الهاجريون تتلخَّص في أنَّ نصَّ القرآن ظهر في فترة لاحقة وزمن أحدث بكثير ممَّا كان يعتقد
إذ لا يوجد أي دليل قاطع يثبت وجود القرآن بأي شكل من الأشكال قبل العقد الأخير من القرن السابع الميلادي،
وأنَّ مكَّة لم تكن المقام الإسلامي الأول
[فالأدلة] تشير بوضوح إلى وجود حرم أو مقام أكثر أهمية في شمال غرب جزيرة العرب... أمَّا مكَّة فكانت ثانوية وغير هامة،
وأنَّ الفتوحات العربية سابقة لمرحلة تمأسس الإسلام
الأوهام اليهودية-المسيحية تمَّ تشريعها على شكل غزو عربي للأراضي المقدَّسة،
وأنَّ فكرة الهجرة، أو انتقال محمد وأتباعه من مكَّة إلى المدينة عام 622، قد انطلقت بعد وفاة محمد بفترة طويلة
لا يوجد أي مصدر يعود إلى القرن السابع الميلادي يعرِّف فترة الهجرة خلال الحقبة العربية،
وأنَّ كلمة "مسلم" لم تكن مستعملة خلال المرحلة المبكِّرة من الإسلام الأولي
فليس هناك أي سبب مناسب يدفعنا للافتراض أنَّ حاملي هذه الهوية البدائية قد أطلقوا على أنفسهم تسمية "مسلمين" [إلا أنَّ] المصادر... تكشف لنا عن تسمية مبكِّرة لتلك الجالية مغاريتاي "Magaritai" [والتي] تظهر في المصادر اليونانية ضمن ورقة بردي تعود إلى عام 642، وضمن المصادر السريانية "مهاغريه/مهجرية" أو "مهجريين" بحدود عام 640.
استقبل كتاب الهاجريون بهجوم عنيف من قبل العلماء المسلمين وغير المسلمين على حدٍ سواء، وذلك جرَّاء اعتماده على مصادر تعتبر معادية جدًا. فقد كتب أحدهم يقول:
هذا كتاب يقوم على ما يمكن أن يعتبر – من أي منظور إسلامي – كشهادة غير منتظمة مستوحاة من مصادر إسلامية كافرة.
منذ ذلك الوقت تراجع كل من كرونه وكوك جزئيًا عن معظم افتراضاتهم الراديكالية – على سبيل المثال، أنَّ النبي محمد كان قد عاش فترة أطول بسنتين ممَّا تقرِّر المصادر الإسلامية، وأنَّ تاريخية هجرته إلى المدينة مشكوك بها. لكن كرونه استمرَّت في تحدِّيها للأفكار ووجهات النظر الإسلامية والغربية حول تاريخ الإسلام. ففي عملها: التجارة المكية وظهور الإسلام Meccan Trade and the Rise of Islam (1987) قدَّمت حجَّة مفصَّلة تتحدَّى من خلال وجهة النظر السائدة بين العلماء والباحثين الغربيين (وبعض المسلمين) أنَّ الإسلام قد ظهر نتيجةً لتجارة التوابل العربية.
إنَّ فكرة غيردر بوين الحالية عن تاريخ القرآن تساهم وتشترك في هذه الأطروحة التصحيحية المعاصرة. يقول بوين:
فكرتي هي أنَّ القرآن هو عبارة عن مزيج من النصوص التي لم تكن مفهومة كلَّها حتى في زمن محمد، حتى أنَّ العديد منها قد يكون قبل ظهور الإسلام بفترة طويلة. وحتى ضمن المصادر التراثية الإسلامية هنالك كم ضخم من المعلومات المتناقضة والأخبار المتعارضة، من ضمن ذلك ركيزة مسيحية مهمة، يمكننا أن نشتقَّ منها نتائج أنتي-تاريخية كاملة لو أردنا.
باتريشيا كرونه تدافع عن أهداف هذه الطريقة في التفكير:
القرآن هو نصٌّ مقدَّس له تاريخه مثله مثل أي نص مقدَّس آخر – باستثناء أننا لا نعرف تاريخه حقَّ المعرفة ونميل إلى إثارة موجات احتجاج عارمة عندما ندرسه وندقِّق فيه. لن يهتمَّ أحدٌ بالاحتجاج إذا كان مصدره الغربيين، لكن الغربيين يبدون محترمين ومراعين عندما تأتي الاحتجاجات من الناس الآخرين: من أنت لتعبث بتراثهم؟ لكننا نحن المتخصِّصين بالدراسات الإسلامية لا نسعى لهدم ديانة أحد.
ليس الجميع متفقون حول هذا التأكيد – وخصوصًا منذ أنَّ حلَّت الدراسات القرآنية الغربية تقليديًا ضمن سياق العدائية المعلنة والمفتوحة بين المسيحية والإسلام. (طبعًا، الحركة الواسعة في الغرب خلال القرنين الماضيين "لتفسير" الشرق، غالبًا ما تمَّت الإشارة إليها بتسمية "الاستشراق" Orientalism، قد أصبحت خلال السنوات الأخيرة عرضةً للهجوم لإظهارها الانحياز الديني والثقافي المماثل). لقد بدا القرآن، بالنسبة للباحثين المسيحيين واليهود بشكل خاص، أنه يتكوَّن من هرطقة، وقد جادل المستشرق الكبير في القرن التاسع عشر، وليم موير، أنَّ القرآن كان أحد
أشرس وأعتى أعداء الحضارة، الحرية، والحقيقة التي سبق وأن عرفها العالم.
العلماء المبكِّرين السوفييت، أيضًا، أجروا دراسة مدفوعة أيديولوجيًا لنشأة الإسلام ومصادره، وبحماس تبشيري تقريبًا: في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين صدرت منشورات سوفييتية بعنوان "Ateist" نشرت سلسلة من المقالات تفسِّر فيها ظهور الإسلام ضمن إطار ماركسي-لينيني. في الإسلام وروسيا Islam and Russia (1956) لخَّصت آن لامبتون معظم هذا العمل، وكتبت تقول إنَّ عدَّة علماء سوفييت نظَّروا بأنَّ
القوى المحرِّكة لهذا الدين الناشئ كانت مجهَّزة مسبقًا من قبل الطبقات البرجوازية في كل من مكَّة والمدينة.
وأنَّ الباحث س، ب، تولستوف قال إنَّ
الإسلام كان عبارة عن حركة دينية-اجتماعية نشأت بصيغة عبودية وليست إقطاعية في المجتمع العربي.
وأنَّ ن. أ. موروزوف جادل بأنَّ
حتى زمن الحملات الصليبية كان من المتعذَّر تمييز الإسلام عن اليهودية و... عندها فقط اكتسب نوعيَّته المميزَّة والمستقلة، في حين أنَّ محمد والخلفاء الأوائل ما هم إلا شخصيات أسطورية.
ظهر موروزوف أنَّه منظِّر متوهِّج ومزخرف بشكل خاص: فقد كتبت لامبتون تقول إنَّه قال أيضًا، في كتابه المسيح Christ (1930)، أنَّه
وخلال العصور الوسطى كان الإسلام مجرَّد مذهب فرعي من الأريوسية ظهر بفعل حدث طقسي في منطقة البحر الأحمر بالقرب من مكَّة.
لا نفاجأ عندئذٍ، بالنظر إلى انحياز العديد من الدراسات النقدية غير الإسلامية للقرآن، لماذا يميل المسلمون إلى رفضها رفضًا قاطعًا. فهناك احتجاج بليغ ظهر سنة 1987، في دورية Muslim World Book Review، ضمن ورقة بعنوان منهج ضدُّ الحقيقة: الاستشراق والدراسات القرآنية بقلم الناقد الإسلامي برفيز منظور. واضعًا أسس وأصول الدراسات القرآنية الغربية ضمن "المستنقعات الجدلية المسيحية للقرون الوسطى" واصفًا وضعها الحالي بأنَّها "طريق مسدود من ذاتها". الذي قام به منظور هو أنه قام بتركيب عقدة أو مركَّب وهجوم مقنَّع على كامل النظرة الغربية إلى الإسلام. إذ يقول في افتتاحية مقالته بغضب:
مشروع المستشرق في الدراسات القرآنية، مهما كانت استحقاقاته الأخرى وخدماته، كان في الأساس مشروع نكاية، نشأ في حضن اليأس والإحباط وتغذى على الكراهية والثأر: نكاية الأقوياء بالضعفاء، إحباط ويأس العقلانيين تجاه المؤمنين بالخرافات، وانتقام "الأرثوذكس" ضدَّ "غير الملتزمين". ففي الساعة الأعظم من نصره الدنيوي، نسَّق الرجل الغربي، سلطات الدولة، الكنيسة والجامعة، مطلقًا هجومه المزمع ضدَّ قلاع الدين الإسلامي. جميع الخطوط الشاذَّة الضالَّة لشخصيته المتغطرسة – بعقلانيتها المتهوِّرة، بأحلامها في السيطرة على العالم وأصوليتها المذهبية – انخرطت ضمن مؤامرة دنيئة لإزاحة كتاب المسلمين المقدَّس من مكانته الحصينة كمثال للأصالة التاريخية والمغزى الأخلاقي. والجائزة النهائية والحاسمة في سعي الرجل الغربي من خلال مجازفته الجريئة كانت عقل المسلم نفسه. ومن أجل أن يتخلَّص الغرب من مشكلة الإسلام بشكل نهائي ومرة وإلى الأبد، فكر، أنَّ وعي المسلم يجب أن يقولب ويتشكَّل لكي ييأس من الحقيقة الإدراكية للرسالة الإلهية المقدَّسة التي أنزلت على النبي. وفقط المسلم الذي ينتابه الشك والريبة حول الأصالة التاريخية أو الاستقلال المذهبي للوحي القرآني هو الذي سيتخلَّى ويتنازل عن مهمَّته الكونية وبذلك لن يشكِّل أي تحدٍّ يقف في وجه الهيمنة الغربية العالمية للشرق.
وهذا – على الأقل – يبدو سببًا ضمنيًا، إذا لم يكن واضحًا أو ظاهرًا، لهجوم المستشرق على القرآن. وبالرغم من هذه المقاومة، فقد استمر الباحثون الغربيون من شتى المجالات والاهتمامات الأكاديمية واللاهوتية بالقيام بعملهم، مطبِّقين أحدث التقنيات الجديدة والمعاصرة في النقد التاريخي والنصي على دراساتهم للقرآن. جزء كبير من هذه الدراسات والأبحاث الموجودة الآن في الوقت الحالي تتكلَّف بنشرها شركة بريل Brill الأوروبية للنشر – وهي شركة نشر عريقة ساهمت بنشر أهم الأعمال الرئيسية كـموسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam والنسخة البحثية من مخطوطات البحر الميت The Dead Sea Scroll Study Edition – وقد تكلَّفت الآن بمهمة إصدار أول طبعة من موسوعة القرآن Encyclopedia of the Quran. جين مكوليف، أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة تورنتو ومحرِّرة الموسوعة، تأمل أنها ستكون بمقام "النظير المثالي" للموسوعات التوراتية والإنجيلية وستكون بمثابة "عمل الألفية الجامع لكافة الدراسات القرآنية". تمَّ حاليًا تحرير مقالات من أجل الجزء الأول من الموسوعة ويتمُّ إعدادها للنشر لاحقًا.
ستكون موسوعة القرآن عملاً تعاونيًا بحق، شارك فيه باحثون من المسلمين وغير المسلمين، كما أنَّ مقالاته ستقدِّم لنا وجهات نظر متعدِّدة حول تفسير القرآن، بعضها قد يشكِّل تحديًا للآراء ووجهات النظر الإسلامية التقليدية – وهذا ما يقلق ويزعج الكثيرين في العالم الإسلامي، حيث أنَّ الوقت لم يحن بعد للقيام بدراسات نقدية جادة للقرآن. إنَّ قضية نصر حامد أبو زيد، الأستاذ المصري المتواضع والخبير باللغة العربية والذي احتلَّ كرسيًا في اللجنة الاستشارية للموسوعة، تُظهر الصعوبات التي تواجه الباحث المسلم الذين يحاول إعادة النظر وتقييم تراثه.
شرُّ البلية
ــــــــــــــــــــ
يتبع
تعليق