إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار

    بقلم:سامح عسكر

    أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار

    مخطئ من يظن أن الماضي يبني الحاضر..التاريخ لا يعترف إلا بالمستقبل....وبدون رؤية المستقبل سنفشل في حاضرنا وسنظل نراوح أمكنتنا مهما حدث...التاريخ غير خطي لأنه ينطلق من الحاضر برؤية المستقبل، فلكل زمن نسبة وتناسب يخدعان الحمقى والمُغفّلين.وبإهمال البعض لمقدمات التناسب يقعون أسرى للوهم..فإذا كان إنسانُ اليوم يخدع ويكذب ويتعصّب فالماضي ليس بريئاً من ذلك..الإنسان كما هو منذ أن وُجِدَ على البسيطة..

    من ينادي بالخلافة والدولة.. "الإسلامية"..فهو يُفكر من ماضيه، ولا توجد لديه رؤية مستقبلية تحمله على تصور أو حتى تفسير واقعه.. وسيظل معزول عن الحضارة وعن العالم إلى ما شاء الله..مِسكين فهو أسير لأكذوبة خير القرون قرني..تلك الأكذوبة التي بُنيت على حديثٍ صحيح السند ولكنه فاسد المتن والمعنى، وما أكثر في تراثنا ما صحّ سَنَده ولكن فَسَد متنه ومعناه...الحديث يقول..قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)..وفي رواية أخرى..(خير الناس قرني)..وهنا يأتي الإشكال..كيف نصدق أن الرسول قال ذلك وفي زمانه- وفي زمن الخلفاء- حدثت المجازر والفِتن والبلايا التي لحفت بالمسلمين؟!.....وهل بتصديقنا بأن أفضل الناس هم أهل القرون الثلاثة الأولى نكون قد صدقنا بضرورة حدوث تلك الفِتن والبلايا في سائر الأعاصير اللاحقة نزولاً إلى مبدأ قياس الأسوأ على الأفضل؟!

    لو صدقنا أكذوبة القرون المُفضّلة الأولى نكون كالذي آمن بتدهور الزمان من عصر رسول الله إلى سائر العصور اللاحقة...وهذا يعني استسلامنا التام لكافة صنوف الظلم والاستغلال- التي تجري الآن- بحُجة أنه ليس في الإمكان أكثر مما كان...وكيف نُصدّق ذلك وقد قال الله في كتابه العزيز .."إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..أين أفضلية السابقين هنا يامن تعقلون بنقلكم..إن هذا القول لهو أعظم الأدلة على فساد مفهوم"القرون المُفضلة وما يرتبط به من مفاهيم سلطوية تُعطي الخيرية للسابقين دون اللاحقين..فإطلاق الحُكم هنا دلالة على قاعدة المفاضلة بالتقوى وليس بمجرد الزمان ولا حتى العلم ولا السُمعة.

    في تقديري أن المسلمون تقبلوا هذه المفاهيم بناءاً على اعتقادٍ راسخ بأفضلية جيل الصحابة وآل البيت على سائر عموم المسلمين في كل زمانٍ ومكان..وهذا الاعتقاد بحاجة لتحرير ومراجعة تعمل على تعريف هذه الأجيال من جديد لنعلم من هو المقصود..فليس الفاروق عمر بن الخطاب- والذي اشتهر بعدله وزُهدِه- كمعاوية بن أبي سفيان -والذي اشتهر بظُلمه وجبروته..هذا مِثال للمقاربة..فلا يصح أن أتخذ حاكماً ظالماً أو رجلاً فاسقاً قدوةً لي ولأولادي..وكذلك في بعض من عدتهم عصور التقليد والانغلاق صحابةً وهم لم يُكملوا العامين عند وفاة رسول الله، أو من رآهم النبي ولكن كانوا فاسقين ومنافقين ومجرمين ..ولكن عدّهم البعض صحابةً لأغراضٍ سياسية أو مذهبية.

    الأزمة ما زالت قائمة..أننا نعتقد في أنفسنا الضعف والقصور بمجرد وجودنا وليس بمجرد أعمالنا، وأن السابقين أفضل من اللاحقين مهما حدث ، حتى لو كان اللاحقون اجتهدوا ونجحوا في صناعة الحضارة..والنتيجة أن تفسد أعمالنا ونعتقد فيها الخطأ مهما بلغت من صواب..فلا نبرح أمكنتنا ونفقد الثقة في أنفسنا...يبقى السؤال لماذا نُصر على احتقار ذواتنا وأن الإنسان مُذنب بطبيعته وليس بعمله؟!..أليست تلك الرؤية هي بعينها رؤية من يقولون أن الإنسان يحمل خطايا آدم إلى يوم القيامة؟!..ولماذا لا ننظر إلى الدين بأنه المُحفّز على الانطلاق والنهوض بدلاً من الاستكانة والرضوخ؟!

    بتحرير هذه المفاهيم سنرى أزماتنا بوضوح أننا بشراً مُقلدين وليسوا مجددين، وأن خرائط أفكارنا مشوّهة أو ليست واضحة.. فلا مُفاضلة ولا خيرية لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى..ولا مفاضلة لزمانٍ على زمان إلا بصلاح أهله..فإذا كان أهل العصور لم يحكم الله لهم بالفضل إلا بتقواهم فهذا إثباتُ واضحُ وجليّ بأن الزمان والمكان لا علاقة له بالمُفاضلة..بل كانت الأخلاق هي المعيار للتفاضل...معياراً لا يعرف الحدود الجُغرافية والتاريخية، بل الأخلاق لذاتها كونها تخص الإنسان لذاته ..والذي هو مُكلفُ من رب العالمين بالإصلاح وعمارة الأرض..والقارئ للقرآن سيرى أن الله يفضح المنافقين والفاسقين والكاذبين ممن كانوا حول رسول الله ويؤذون نبيه ..فكيف نسمح لأنفسنا بأن نُعطي لزمان هؤلاء الأفضلية ونحن نعلم أن غالب أهل هذا العصر كانوا منافقين وكَذبة وفَسَقة لم يسلم منهم مؤمناً ولا شريفاً عفيفا.

    من يزعم بأن القرون المُفضلة هي القرون الأولى للمسلمين....نُذكره بأن الكعبة المُشرفة تم حرقها في القرن الأول الهجري مرتين:

    الأولى :على يد المُجرم الأموي.. "الحُصين بن نمير".. والذي كان يشغل قائداً لجيش يزيد بن معاوية لإخضاع أهل المدينة بعد استباحتها في موقعة"الحِرة" على يد المجرم الأموي الآخر.."مسلم بن عقبة"..هذه الموقعة التي حدثت فيها جرائم تندى لها الجبين من قتل للصحابة وللنساء وللأطفال بمنتهى القسوة والوحشية..

    الثانية:على يد المجرم الأموي الآخر.."الحجاج بن يوسف الثقفي".. والذي كان يشغل قائداً لجيش عبدالملك بن مروان ..وذلك لإخضاع أهل مكة المُكرمة وقائدها الصحابي.."عبدالله بن الزبير"..فكانت النتيجة أن قتل الحجاج الصحابي ابن الزبير ثم قطع رأسه ثم صَلَبه بمنتهى الوحشية..

    تأملوا ما كان يحدث في خير القرون!..فإذا نقدنا مزاعمهم قالوا بأن الصحابة والتابعين هم الأفضل..قلنا بأن ذلك مقبولُ شرعاً وعقلاً..ولكن أن نجعل زمانهم هو الأفضل فهو تفضيل بمجرد الزمان لا الأفراد..وبالتالي تتضمن تلك المفاضلة أفعال وسلوكيات من عاشوا في تلك القرون لانتفاء المفارقة في أصل الدليل وهو حديث رسول الله، فهو لم يُبين أي شئ واكتفت الرواية بإطلاق هذا الحُكم الأعمى والذي لا يصدر عن رسول معصوم..

    هذه هي رؤية التقليديين الجامدة من الذين يروجون لخُدعة..(فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة)..فالرباط وثيق بين هذه وتلك، لِذا ستراهم يُدافعون عن أكذوبة القرون المُفضلة بكل ما أوتوا من قوة ..سيدافعون عنها كونها تخدم عقيدتهم وأيدلوجياتهم باستخدام شعار يقع في أسره الكثيرين من المُغيبين....وهو شعار..(سلف الأمة)..وهنا يُثار السؤال بطريقة مباشرة..من هم سلف الأمة الذين تقصدون؟!..هل هم الأشعرية أم الماتوريدية أم أهل الحديث أم الحنابلة أم المعتزلة أم ماذا بالضبط؟!..وما هي قواعد هذا الفهم الذي تدعون؟!..وهل كان الصحابة متفقين في قضايا الاجتهاد كي نجمعهم على فهمٍ واحد؟!.. وهل قول الصحابي لديكم هو دليل معتمد أم متوهم؟!.فإذا كان مُعتمداً فكيف توفقون بين خلافهم الفقهي والعقدي والسياسي؟

    سؤال آخر..هل هذه القرون المفضلة "المزعومة" هي أفضل لديكم من قرون الأنبياء؟!..يعني هل يزيد والحجاج وبِسر بن أرطأة ومعاوية وحُكّام بني أميّة.. هم أفضل من سيدنا داوود وسليمان وابراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى عليهم السلام؟!...لقد روى القرآن لنا كيف اختلفت أفهام الأنبياء مع بعضهم البعض..فهذا هو النبي داوود وإبنه النبي سليمان -عليهم السلام- قد اختلفا في أمر الحرث..فكانت الحِكمة مع سُليمان والخطأ مع داوود.. ومع ذلك فالإثنين قد آتاهما الله العلم والحكمة.

    ماذا نفهم من ذلك؟

    نفهم مُباشرةً أن الدين الإسلامي لم يُفاضل بين الناس بمجرد الزمان، وأن الفهم والعلم في مقابل الخطأ والجهل هي صفات ضرورية تجتمع في سائر الناس في شتى العصور...وأن الاعتقاد بخيرية زمان على زمان أو جيل على جيل هو ضرب من الدجل والكذب يقضي على خريطة أفكار البشر ممن التحفوا بتلك العقائد والأوهام..والمصيبة أنها تكذيبُ لصريح القرآن الذي وصف أهل الأرض في زمان الأنبياء بأن أكثرهم غافلون ولا يعقلون ولا يعلمون ولا يشكرون وهم جُهّال لا يؤمنون..فالأكثرية لم تكن صالحة- هكذا علمنا القرآن..وأن حكمة الله في الأرض أن الصالحين هم أقلية وقد تصل أحياناً إلى حد النُدرة..ليس لعدم شيوع أفكارهم أو مبادئهم بل هي شائعة والإنسان يعلم الخير من الشر بالفطرة، واختلافه في تعيين كلاهما يأتي تِبَعاً لهواه أو لطبائعه أو لأفكاره وعقائده..ولكن ما يُميز هؤلاء الصالحين أنهم كانوا حُكماء على مرّ العصور، وأنهم يعلمون وظيفة الإنسان الرئيسة في هذا الكون...وأنهم بحكمتهم قادرون على التحكم في سلوكياتهم ومعلوماتهم.

    في تقديري أن الفلاسفة من هؤلاء..أصاب منهم البعض أو ضلّ ليس هنا الإشكال..بل هم اجتهدوا في تحصيل معارفهم ولم يسمحوا لأحد بأن يُشكّل خرائط أفكارهم، لم يستسلموا للتقاليد ولا للأعراف..بل أطلقوا لأذهانهم ولأرواحهم العَنَان..ولا أشك ولو للحظة واحدة بأن الأنبياء لم يكونوا فلاسفة..بل هم فلاسفة وحُكماء عصورهم على مرّ التاريخ..كان الأنبياء يدعون الناس للمِثالية في القول والعمل..ومع ذلك هم يعلمون أنهم يُخاطبون بشراً يُفترض فيهم أن يكونوا هم قدوة أولئك الناس..فالدعوة للمثالية إنما هي في حقيقتها دعوة لمثالية الذات قبل الآخر..والصوفيون يعون هذه القضية بل هي لديهم أصل..أن الإنسان يدعو نفسه ويفتش في ذاته قبل دعوة الآخرين والتفتيش عليهم وعلى نواياهم..وأن الظن بالله هو جزء من عبادته..تلك العبادة والتي هي من المُفترض أن تكون قائمة على الشُكر والرضا وليس على الطَلَب والرغبة..فمن يشكر فهو يعبد الله..وأما من يطلب ويدعو لتحقيق أمنياته ومطامعه فهو في حقيقته إنسان مُخادع ولا يعبد الله حق عبادته إنما يعبد نفسه ويجعل الله وسيلة لتحقيق رغباته وأحلامه.

  • #2
    أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار(2)

    في الحلقة الأولى وصلنا إلى نتيجة مفادها أن المفاضلة بين الناس بمجرد الزمان هي عملية مستحيلة، فالقرآن يُثبت أن الأكثرية على ضلال في كل زمانٍ ومكان..لِذا فثبوت الخيرية يَكُن للأشخاص وليس للزمان أو لعموم الأجيال لنفي وجود أي معيار شرعي أو تاريخي للمُفاضلة، والعقل يحيل هذه القضية لأنه يلزمها أن يكون الزمان متدهوراً باستمرار من الأقدم إلى الأحدث، والقول بخيرية القرون الأولى على ما سواها هو طعن صريح في هذه القاعدة وهو طعن صريح أيضاً في القرون السابقة بما فيها قرون الأنبياء ..وهو طعن صريح أيضاً في القرون اللاحقة بما فيهم قروننا الحديثة وما يتضمنها من خطابات ودعوات لإقامة خلافة إسلامية على غرار تلك القرون التي خرجت كدعوات غريبة ومتناقضة!

    فبينما يؤمن الداعين لها بأن قرون الخلافة الراشدة هي الأفضل يقولون أنه يجب أن نُحقق ما حققوه قديماً ...وهنا التناقض..كيف تعترف بالعجز ثم تسعى لتحقيق ما تؤمن بأنك عاجز عن تحقيقه؟!..فلو قالوا أن الإرادة والطموح يكفيان قلنا أن اعترافكم بكفاية الإرادة والطموح هو اعترافُ ضمني بأن القرون الحالية ليست أسوء من القرون السابقة، وأن ما حققه السابقون من "إنجازات" يجوز أن يحققه اللاحقون سلفاً.. وهذا ما كنا نقوله وننادي به، أن المُفاضلة بين الناس لا يصح أن تكون من وجه الزمان بل من وجه التقوى، والغريب أن القرآن يَعِج بالعديد من المعايير التفاضلية ليس من بينها الزمان أو الأجيال على الإطلاق...فلنقرأ فواتِح سورة البقرة لنقف على المعايير التفاضلية الأكثر أهمية في الدين وهو قوله تعالى:

    (ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويُقيمون الصلاة ومما رزقناهم يُنفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هُدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون)
    .... [البقرة 1: 5].

    سنرى أن المعايير هي كالآتي:

    1-التقوى
    2-الإيمان بالغيب
    3-إقامة الصلاة
    4-الإنفاق في سبيل الله
    5-الإيمان بالقرآن وبما أنزله الله في السابق.
    6-الإيمان بالآخرة

    السؤال هنا:..أين ذَكر الله الزمان أو الجيل أو القوم أو العشيرة هنا؟!!!!!

    الإجابة: لا يوجد..لأن الله لم يجعل للناس تفاضلاً زمانياً أو مكانياً لعِلمه المُسبق بأن دعوته سيرفضها أكثر الناس، وأن المُقلدين هم آفة البشر وهم أول من سيتصدون ويُحاربون دعوة الله الحق..وقد كشف رب العزة تبارك وتعالى عن أحوال هؤلاء في آياتٍ عدة... فلنتأملها سوياً لنرى منطق البشر ولماذا كان الصالحون أقلية:

    (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)
    [الزخرف : 22]
    (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )
    [الزخرف : 23]
    (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)
    [القصص : 36]
    (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)
    [المؤمنون : 24]
    (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير)
    [لقمان : 21]
    (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)
    [المائدة : 104]
    (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون )
    [الأعراف : 28]
    (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين)
    [يونس : 78]
    (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)
    [الأنبياء : 53]
    (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )
    [الشعراء : 74]

    -رأينا أن منطق البشر في رفض دعوة الله أنهم لا يثقون إلا في القديم، يعني أنهم مُقلدين وهنا الآفة ، وهي آفة دائمة تُلازم الإنسان أينما ارتحل أو تعرّض لإحدى ثوابت القديم...والغريب أنهم يعيبون على غيرهم تقليدهم لسَلَفهم ويطالبونهم بتقليدهم هم بدلاً من سلفهم....وقد خُضنا في غُمار ذلك إثر تعرضنا للقاعدة الرياضية المنطقية.."النسبة والتناسب"..ورأينا أن هؤلاء يرتكزون لرفضهم الآخر على مبدأ.."سلف الأولين"..وهو مبدأ تقليدي ملازم لكل طائفة ترى في نفسها الحق وما دونها الباطل، حيث أن الحالة العامة التي تجتمع في سائر الفرق والجماعات هي التقليد...أما المفكر الحر- والذي هو من المُفترض أن يكون هو المؤمن الحق- فيرى أن الجماعات افترقت من سوء فهم للواقع وللنص على حدٍ سواء، وأرادت أن تُخضع الجديد لسُلطة القديم .

    وعليه فمُصطلح كمُصطلح .."سلف الأمة"..بحاجة إلى إسقاطٍ أكثر من مجرد تحصيل معلومات لديه..لأن المفكر المستنير لا يكتفي بتحصيل المعلومات أو بمعرفة الأحداث بل إلى الخوض في ظروف وفهم كيفية حدوث كل حدث، وإخراجه من حيز الفعل والتقوقع في أسبابه ونتائجه إلى حيز الدراية والفَهم... أو بالأحرى الإلمام بكافة القوانين التي تحكمت في صناعته، وهي مهمة ليست سهلة إذ تتطلب يقين جازم في المعلومة وهذا مستحيل من حيثية بُعد زمان السَلَف في العصور القديمة..وأن المؤرخ والراوي هو الذي يتحكّم في الصورة للعامة للسلَف، وأقوال الرواة والمؤرخين لا يُحتمل إلا أن تكون ظنية الثبوت فيما جَرَت عليه العادة في الخِلاف..كمِثال أن الكل يتفق في وقوع معركة صِفّين، ولكن الجميع يختلف في أسباب وأحداث ونتائج والظروف العامة لهذه المعركة.

    أما المُقلّد فيأخذ جانباً من هذه الأحداث والظروف يسير عليها دون إعمالٍ للنظر وللبحث العقلي، ويُطالب المخالف بتبني رؤيته، بينما أن نفس السلوك يحدث تماما وبالتطابق مع الجهة الأخرى أي مع المخالف، فهو يريده أيضاً أن يلتزم بما يؤمن به ويعتقده، والطرفان على شِقاقٍ تام في حدثٍ تاريخي لا نستطيع أن نجزم أيهم كان الأصح والأوجَه.

    لم يعد لدينا حينها لبناء رؤية تاريخية سليمة-إلى حدٍ ما-إلا التاريخ نفسه، وهو أوضح ما لدينا من أدلة، وأظن أن التاريخ كشف لدينا أطر عامة نفهم بها ما حدث، وأن القول بخيرية جيل على جيل لم يكن إلى تحقيقاً لصراعٍ سياسي كان منشأة صراع بعض الأطراف على أحقية كلٍ منهم بالحقيقة والأصل الديني، وأن الروايات التاريخية والحديثية بالمجمل كانت تصب في بناء ليس فقط رؤية تاريخية سياسية بل أيضاً في رؤية عقدية وضعت كل الأطراف في مفاصلة يتبرأ كل طرف من الآخر بمجرد مخالفته، فالراوي الثقة عند هذا ليس ثقةً عند ذاك، والأصل في التوثيق لم يكن يمس الأهلية أو البناء الذهني والتكوين الشخصي..بل كان يعتمد في مُجمله على الاعتقاد..عدا بعض الاستثناءات حدثت أن وثّقت بعض الأطراف رواةً آخرين ليسوا على هذه القاعدة...ولكن الاستثناء يؤكد القاعدة أن التوثيق كان على الاعتقاد والثقة وليس على الكفاءة.

    وآفة التقليد هي التي أنتجت المذاهب..ليست فقط في الإسلام بل في سائر الأديان، ولا يقف اختلاف المذاهب هنا على الرفض بل يتعداه إلى التكفير..فرأينا العديد من علماء الشيعة يُكفّرون السُنة ..والعكس رأينا العديد من علماء السنة يُكفّرون الشيعة...وأما دعوات التقارب فهي تأتي في سياق عاطفي أكثر منه مراجعةً ونقداً للذات، فأهملوا القرآن وتمسك كلُ منهم بسَلَفه معتقدين فيهم العصمة من الزلل والأهواء..بينما يصعب على كل فريق أن يتدبر آيات الله البينات والتي خُوطِب فيها كليهما بنداءٍ واحد وهو الأمة:

    (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)
    [البقرة : 128]
    (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)
    [البقرة : 143]
    (كنتم خير أمة أخرجت للناس)
    [آل عمران : 110]
    (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم)
    [الرعد : 30]
    (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)
    [الأنبياء : 92]
    (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)
    [المؤمنون : 52]

    وكأن القرآن يردهم إلى الأصل الذي ابتُنىَ عليه الدين وهو الوحدة، وأن الافتراق سيأتي بأفعال الإنسان وأن هذه الأفعال هي في حقيقتها ابتلاءُ من الله.. قال تعالى.
    .(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)
    [المائدة : 48]...فيظهر من سياق الآية أن الوحدة وما يتبعها من تعايشِ وسلامٍ إنساني يتوقف على استباق الإنسان بالخيرات...وأن هذه المسابقة هي تصوير حي لمعنى الدين الحقيقي كما أنزله الله على أنبياءه...فلا يقول أحد أن التكفير خير أو القتل خير أو الاعتداء خير...بل هذه الأعمال جميعها مجرد حركة من السكون الافتراضي الذي يأمن به الإنسان على نفسه، وأن الحركة كي تكون مُنتجة لابد وأن تكون حركة تواصلية بِنائية تهدف لفعل الخيرات ابتداء ..مصداقاً لقوله تعالى:

    (لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)
    [البقرة : 148]
    (فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا)
    [المائدة : 48]
    (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون )
    [المؤمنون : 61]
    (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)
    [الأنبياء : 73]
    (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
    [الأنبياء : 90]
    (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)
    [فاطر : 32]

    وكذلك كان درب المُصلحين جميعاً في كل زمانٍ ومكان..فبربكم هل كان قتل الصحابة واغتصاب الصحابيات وقتلهن بأبشع طُرق التعذيب خير؟ أو كان ذبح وتشريد وتنكيس آل البيت هو خير؟..بل هل يجوز أن يكون هدم الكعبة هو عملُ خير؟!...ذلك ما حدث في القرون الأولى أو في عهد الأجيال الأولى للمسلمين، فإذا قُلنا ذلك قال البعض لقد حدثت هذه الأحداث في زمان الفِتن، وقد أُمرنا أن نكف ألسنتنا عن هذه الأحداث، أو أن ننتقص من فاعليها بشئ..وكأنهم يؤمنون بقرارة أنفسهم أن ما حدث لا يجوز وصفه بأقل من جرائم..فهل يجوز القول على فاعليها أنهم مُجرمين؟..سيقولون لا..فهل لو كان فاعليها ممن سواهم أو كانوا من اللاحقين؟... سيقولون نعم...وهذا إثباتُ واضحُ وجليّ بأنهم ينظرون للأشخاص نظرة تقديسٍ وعبادة حملتهم على غُفران ما ارتكبوه من آثام...!

    القضية معقدة ومُتشابكة تحمل في طياتها العديد من الأزمات وهي مبنية على عقيدة واحدة، وهي أن القرون الأولى مُفضله على ما سواها إطلاقاً، ومجرد القول بذلك صنع لدينا ما يُعرف ..
    "بالمُصطلح الأزمة"
    ..والذي أصبح مجرد الخوض فيه يتسبب في الانشقاقات والحروب الأهلية بين المسلمين.. كمصطلحات.."سلف الأمة والخلافة وعدالة الصحابة..وغيرها عند السنة"..ومصطلحات.."كالإمامة وعصمة الأئمة ..وغيرها عند الشيعة"..وهي مصطلحات بحاجة لتحرير وفهم خارج دائرة المذاهب وبالأخص الراوية التي صنعت لدينا كل هذه الافتراقات والانشقاقات العديدة.
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو جهاد المصري; الساعة 27-04-2013, 12:13 PM.

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    x

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

    صورة التسجيل تحديث الصورة

    اقرأ في منتديات يا حسين

    تقليص

    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

    يعمل...
    X