الفنّ التّشكيلي العاشورائي
بقلم: حسين أحمد سليم
واقعة كربلاء التّاريخيّة بأرض الطّفّ بالعراق في العاشرمن شهر محرّم للعام الهجري الواحد والسّتّين, والجعجعة بالإمام الحسين بن علي بنأبي طالب عليهما السّلام, حفيد النّبي محمّد عليه الصّلاة والسّلام, ثُمّ قتلهوقطع رأسه والتّمثيل بجسمانه وتركه ملقىً في العراء على الرّمال الرّمضاء, وقتل أصحابهظلماً وإعتداءً وزوراً وبهتاناً, والإعتداء السّافر على أهل بيته والتّنكيل بهم,دون وجه حقّ, وهتك أستارهم وقتل غالبيّتهم, دون إيمان أو وازع من ضمير أو رادع منوجدان, وسبي من بقي منهم على قيد الحياة عنوة قهر وإذلال, وممارسات فعل تعذيبهموتجويعهم في مسارات الطّريق الطّويل بمحاذاة نهر الفرات, ومروراً بهم إستعراضاًومهانةً في همروجات سياسيّة ساقطة, بمدن وقرى وبلدات ومسافات ممتدّة, وإجتيازهمالأودية والأماكن الوعرة والجبال والسّهول, مروراً بمدينة بعلبكّ اللبنانيّةالبقاعيّة, حيث دُفنت عند أطرافها الجنوبيّة, خولة بنت الحسين التي فارقت الحياةمن جرّاء العذاب والجوع والمرض الذي فتك بها, وصولا بهم إلى مجلس الحاكم الطّاغيةفي دمشق ببلاد الشّام...
واقعة كربلاء هذه, تُعتبر من زاوية المنظار الدّينيّالرّوحيّ, ومن خلال الرّؤى الأخلاقيّة الإيمانيّة, وعبر المفاهيم التّراثيّةالشّعبيّة السّائدة في بعض المجتمعات, تُعتبر من أهمّ وأوّل وأرقى الموروثاتالتّراثيّة التّاريخيّة, التي إنبثقت من رحم تلك الواقعة المؤلمة, غيرالإفتراضيّة, تلك الشّعائر الحسينيّة العاشورائيّة السّنويّة, التي تتفاعل مع بزوغشمس شهر محرّم ولأيّامه الأولى المعدودات وحتّى نهاية العاشر منه... وراحت هذهالطّقوس والشّعائر تتعاظم في تفاعل ثورتهاعلى صعد كثيرة, حتّى وصلت إلينا متجاوزة حقب التّاريخ الظّالم القاهر, رغم كلّ ممارساتفعل الضّغوطات وقهر وعهر الحروب... وساهمت الشّعائر الكربلائيّة العاشورائيّةالحسينيّة بقوّة, في التأثير الواسع الفاعل في بُنى وتطوير وتفعيل منظومات الفنونالثّقافيّة الأدبيّة منها, والفنّيّة التّشكيليّة والأدائيّة القديمة والحديثة علىحدّ سواء... بحيث غدت منظومات الشّعائر الحسينيّة العاشورائيّة والإحتفاء بها علىأكثر من صعيد, غدت تراثاً عظيماً له أصالته وخصوصيّته وقدسيّته ومرجعيّته في رحابمجتمعات العالمين العربي والإسلامي على مختلف طوائفهم بشكل خاصّ, وغدت لها وقعهاالمميّز في أرحبة باقي مجتمعات العالم الآخر بشكل عام... سيّما في ظلال العولمةالإعلاميّة وشيوع عالم الشّبكات العنكبوتيّة الرّقميّة الأنترنت في جميع أنحاءالكرة الأرضيّة المأهولة...
وعاشوراء هي ذلك الحدث التّاريخيّ, والتي وقعت معركتها غيرالمتكافئة ميدانيّا, في ذلك الزّمن السّالف, غدت ترتبط بواقعنا الذي نعيش اليوم,وتتّصل بحياتنا التي نُريد لها الإستمرار للغد, بحيث تُغذّي ذاكرتنا وتشحذ وجداننا,وتُقلبن عقولنا وتُعقلن قلوبنا, لتتجذّر في ذواتنا وكينوناتنا وثقافاتنا, ومخزونناالشّعبي التّقليدي, وتروي ظمأ فنوننا العامّة من أدبيّة وأدائيّة وغيرها, سيّما فيمجالات ثقافة الفنون التّشكيليّة منها, وبأساليب متنوّعة من حركات فعل الإبتكاروالصّنع في فنون الإبداع بالرّسم, وفنون التّشكيل بالنّحت, وفنون الإبتكاربالأشغال اليدويّة والصّناعيّة والإحترافيّة, بالإعتماد على أسس ومباديء مدارسومذاهب ومسارات الفنون التّشكيليّة العالميّة المعروفة, مع الإحتفاظ بالخصوصيّاتالرّوحيّة الدّينيّة والإلتزام بالمفاهيم المستنبطة إجتهاداً من رحم العباداتوالمعاملات المشروعة, إضافة لإستنباط رؤى ومسارات ومدارس فنّيّة عاشورائيّة تتماشىمع التّقاليد والعادات في غالبيّة المجتمعات الملتزمة دينيّاً...
واقعة كربلاء الطّفّ, التي حدثت في العراق, وشعائر عاشوراءالحسين, وما إستتبعها من سبي وتعذيب لأهل بيت الحسين, جميعها ولّدت وعياًجماهيريّا ثوريّاً لا ينضب له معين, ولا يجفّ له ماء... وعملت على إرثاء ثوابتإرثٍ فكريّ ثقافيّ, تفتّق بثورة عارمة على الظّلم والظّالمين, كائنين من كانوا,تتّقد جذوتها وتلتهب وتتعاظم ولا يخمد أوارها أو يهدأ لظاها...
هذا, ومع تعاقب الأيّام والشّهور والسنّوات, لم تعد كربلاءتلك السّيرة السّرديّة التٌّقليديّة, التي يعكف على قراءتها وتلاوتها وتلحينها وإنشادهابصوت حزين مؤلم, رجال الدّين وقرّاء العزاء التّقليديين, وغيرهم من أولئكالمستفيدين الموسميين, ولم تعد عاشوراء ذلك البكاء والصّراخ والنّحيب ولطم الوجوهوالرّؤوس والصّدور والمناكب والجوانب, ولم تعد فاجعة كربلاء تلك الدّموع التيتذرفها العيون الدّامعة على مصاب الإمام الحسين, تفاعلا مع ترانيم وموسقات ودندناتونشيج قرّاء العزاء, ولم تعد عاشوراء تلك الممارسات التّعذيبيّة التي يُمارسهاالبعض على أجسادهم ورؤوسهم وصدورهم, ولم تعد عاشوراء الحسين تلك النّذور والقرابينوالطّقوس والأدعية والزّيارات ومجالس الأكل والتّطبير...
فعاشوراء الكربلائيّة الحسينيّة بالمفاهيم الثّوريّة الفكريّةوالثّقافيّة المعاصرة, هي تلك الواقعة التّاريخيّة التي أضرمت حركات فعل الإبداعوالإبتكار وحفّزت وجدان المفكّرين والفلاسفة والمبدعين والمبتكرين على تجسيد رؤاهمفعل خلق وتكوين إبداع في كافّة المجالات المميّزة, نفسها الوقائع والشعائرالعاشورائيّة, حفّزت وجدان الفنّانين التّشكيليين من المسلمين وغيرهم رسماً ونحتا,وأثرت خيالهم برؤى وأطياف فنّيّة من إمتدادات البعد الخيالي, لتصوّر الواقعةالكربلائيّة العاشورائيّة بالطّفّ العراقيّ, ورسم معالم ذيولها اللاحقة التيتوالدت من رحمها, كمسيرة السّبي لأهل بيت الحسين وأصحابه إلى بلاد الشّام, ومظاهرالإحتفاءات بهذه الذّكرى الأليمة في الكثير من الأماكن... بما ساهم وساعد علىولادة الإبداع الفنّيّ التّشكيلي الخاصّ, لرسم وتشكيل اللوحة الكربلائيّةوالمشهديّة العاشورائيّة, بأسلوب فنّيّ لافت وجذّاب ترفل له العيون وتهرق دمعها, للإيحاءاتالتي تعكسها تلك اللوحة أو المشهديّة الكربلائيّة العاشورائيّة, التي نمنمتهاونسجتها ورسمتها وشكّلتها أنامل الفنّانين التّشكيليين والرّسّامين الفنّيين فيردهات وقاعات المراسم الخاصّة والعامّة وفي الملتقيات الفنّيّة, تتزركش بالدّماءالحمراء, المنسابة من الرّؤوس المشقوقة بالسّيوف, لتتماهى أمام أنظار النّاسوالمتلقّين والمستقبلين, في أرحبة وأروقة المباني للإحتفالات الدّينيّة, وفي قاعاتوردهات وبهوات المعارض الفنّيّة في المدن, وعلى جدران البيوت والعمارات والأبنيةالعامّة والخاصّة, وفوق المارّة في الشّوارع والطّرقات والسّاحات والدّوّاراتوالحدائق, على شكل صور متنوّعة وأيقونات مختلفة, وشعارات هادفة, ورموز ومصطلحات وتعابيروملصقات, ولوحات ومشهديّات ورسومات, ورايات سوداء وحمراء, ولافتات وعبارات وأقوال وحروفيّاتومجسّمات...
عاشوراء الكربلائيّة الحسينيّة, أزهرت الكثير من المراسمالإحيائيّة لهذه الذّكرى الحزينة والأليمة, وتوالد من صميمها الكثير من حركات فعلالخلق والإبداع والإبتكار في مجالات عديدة, بحيث تحرّرت العقول والنّفوس من سجنالأحزان والبكاء والدّموع, لترود من نوافذ عاشوراء الحسين إلى أرحبة الخلقوالإبداع والإبتكار, وتصوير البعد الثّوري الفكري والثّقافي والفنّي العاشورائي,وإيصاله لمدارك ومفاهيم ووعي النّاس بصور ولوحات ومشهديّات واضحة وجليّة دون لبثأو تمويه... لأنّ ثورة الحسين لم تكن لنفسه, أو لغاية ذاتيّة, بل كانت من أجل دحضالظّلم والجور والكفر والإنحراف عن دروب الحقّ, وفي سبيل مرضاة الله بإقامة دولةالحقّ, ومن أجل الكرامة الإنسانيّة... وهو ما جعل عاشوراء الحسين معلماً تاريخيّاًبارزاً, تجاوز حدود الزّمان الذي حدثت فيه واقعة كربلاء, وتعدّى جغرافية المكانالذي سقط فيه الحسين مقطوع الرّأس مخضّبا بدمائه, لتنعتق عاشوراء الحسين منالإنتماء الخاصّ إلى العامّ, وتتحرّر من منظومة أبجديّات وحروفيّات اللغةالضّاديّة العربيّة, لتتماهى بها غالبيّة اللغات العالميّة الأخرى... وعاشوراءالحسين فعلت فعل السّحر في تطوير شؤون الفنون التّشكيليّة, بحيث كان لها الأثرالأكبر في تحديث جوانب عديدة في الفنون التّشكيليّة القديمة والمعاصرة, سعياً لخلقوإبتكار مدرسة فنّيّة تشكيليّة جديدة, أفخر بتسميتها مدرسة فنون الرّسم والتّشكيلالعاشورائي, والتي تتجاوز وتجاوزت فعلا كلّ المعوقات اللغويّة, لتنفذ إلى القلوبالمموسقة بحنين التّشاغف الإيماني الثّوري, عبر عدسات وشبكات العيون التي أبدعالله في صنعها الإعجازيّ, لتنعكس للعقول المتفكّرة في عظمة الخالق, عبر مرآةالنّفس المطمئنّة بالإيمان الخالص, وتنتشر رسالة الحقّ التي شاءها الحسين وسقطصريعاً من أجلها, تلك الرّسالة هي رسالة الإسلام النّابض بالإيمان والحقّ والعدالةوالإصلاح بما يكفل إستمراريّة الحياة الإنسانيّة العادلة فوق هذه الأرض وفي رضىالخالق...
مدرسة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي الكربلائي الحسيني,هي المدرسة الفنّيّة التّشكيليّة الإيمانيّة المميّزة, التي تحملنا على صهواتأثيريّات ألوانها وأشكالها وعناصرها التّكوينيّة ورموزها ومصطلحاتها وتعابيرها,لترود بنا عالم الفنون الإسلاميّة الهادفة... بناءً على الخصائص الذّاتيّة,والسّمات المتميّزة لهذه المدرسة المبتكرة, بحيث تعكس صورة واضحة وجليّة, تقوم علىأساس عقائدي إسلامي متكامل, وعلى تصوّر شامل وكامل لمسيرة الإنسان ووجوديّة الكونوالحياة... وهذه المدرسة القديمة والمبتكرة حديثاً, ليس إبتكارها من بابالكماليّات الفنّيّة, أو التّحسينات التّشكيليّة, بل من باب المتطلّبات والحاجياتوالضّروريّات في ميادين الفنون الإسلاميّة الهادفة المعاصرة... وهذه المدرسةبالتّحديد هي ضروريّة ومهمّة لتوصيف مكانة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائيالكربلائي الحسيني, بحيث من خلالها يتمّ وضع الأمور في نصابها الصّحيح بعيدا عنالخلل في التّصوّر... ووظيفة مدرسة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي, هي صنعجماليات اللوحات والمشهديّات والصّور العاشورائيّة, بمهارات ودقّة وحرفة وأدواتمتوافرة, لأداء وظيفتها كاملة وشاملة, لأنّ الفنّ الإسلامي العاشورائي, موكلٌبصناعة الجمال بمعناه الواسع الشّامل, الذي لا يقف عند حدود ولا يتقوقع فيمحدود... بل يعكس جماليات بدائع صنع الخالق في الوجود والطبيعة, ويُجسّد جمالياتالإيمان بالله وعظمته التي تتجلّى في عظمة خلقه, وجماليات الأديان السّماويّةوالقيم والعقائد السّماويّة, والأوضاع وأشكال السّياسات التي تهتم بشؤون الخلق,وأشكال الحكم والدّول والنّظم والأفكار والعدالة والسّلام... جميعها من الألوانالتي تحتفي بها مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة, وتجعلها مادّة أصيلةوأساسيّة للتّعبير والتّرميز والتّصوير التّجريدي والسّوريالي والإنطباعيوالإفتراضي, من خلال المعايير الإيمانيّة الشّاملة... ومدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة هي وسيلة وليست غاية, وهذه الوسيلة تتشرّف بشرف الغاية التي وجدتلأجلها والتي تؤدّي إليها... وهذه المدرسة ليست للفنّ فقط, بل نشاؤها أساساً فيخدمة الحقّ والفضيلة والعدالة والسّلام وفي سبيل الخير والجمال... بحيث ترتقي هذهالمدرسة بما تحمل من إبداعات وإبتكارات جماليّة تصل إلى حسّ المشاهد المتلقّي,ترتقي به نحو الأسمى والأعلى والأحسن ونحو الأجمل, وهي بوصلة الإتّجاه نحو السّموّفي المشاعر والتّفكير والإيمان والتّطبيق والمسارات... ولمدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة هدفاً سامياً تسعى إليه, هو إحقاق الحقّ ودحض الظّلم والثّورة علىكلّ أشكال الإنحرافات, ولها باعثاً تدفع إليه, وهو ما يمتدّ في أعماق النّفسالإنسانيّة من جمال الإيمان بالخالق... بحيث تلتقي ما تصبو إليه النّفس الإنسانيّةالمطمئنّة مع ما يتطلّبه المنهج العقائدي, فإذا بهذا الإنسان مدفوع إلى تحقيقجماليات العدالة بباعث من رغبته النّفسيّة, وباعث من الإيمان بإتّقان العمل الفنّيوإحساساته... ومدرسة الفنون العاشورائيّة لها شخصيّتها الفنّيّة المستقلّة, فليستهي فرعاً من فروع الفلسفة التّقليديّة, وليست كذلك فرعاً من فروع العلم البحت, وليستمذهباً مشتقّاً من ناحية ما, بل هي مهارة فنّيّة خاصّة ومميّزة, تُساعد علىتجلّيات الحقائق والكشف عنها, بأساليب ومسارات فنّيّة تشكيليّة رسماً ونحتاً, وهوما يخلق مسارات مستحدثة في كينونة الفنون التّشكيليّة المعاصرة, تحت مسمّى مدرسةالفنون التّشكيليّة العاشورائيّة... والفنون التّشكيليّة العاشورائيّة تنبع مندواخل النّفس الإنسانيّة, بحيث تجيش هذه النّفس بما تكتنز به من عواطف نبيلة راقيةوأحاسيس سامية ومشاعر نقيّة نابضة... فإذا هي ملء الوجدان والخيال والعقلوالتّفكّر وملء السّمع وملء البصر, وهي بهذه السّمات تعبير صادق عن الإلتزامالإيماني بتوكيد وتجسيد الحقائق... والفنون التّشكيليّة العاشورائيّة هي لقاء كاملبين إبداعات المواهب ونتاجات العبقريّات, وهي تفاعل شامل بين دقّة الصّنعة ومهاراتالتّنفيذ وحسن وجماليات الإخراج... إنّها إجتماع وتماذج وإنسجام بين الذّكاء وبينالخبرات والإتّقان, وبهذه المعالم تصل الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة إلى ذروةالجمال في توكيد معالم الحقيقة... وهذه لعمري القواعد الأساسيّة العامّة التيترتكز عليها مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة, هذه الأسس وهذه المباديء هيالتي جعلت وتجعل من مدرسة الفنون العاشورائيّة, فنّا إيمانيّاً ملتزماً ومتميّزاًله شخصيّته المستقلّة وله كيانه الذّاتيّ...
وعليه فليست مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة فقطللجمال, إنّما هي وسيلة فنّيّة تشكيليّة لتدوين حقائق التّاريخ وتوثيق أحداث هذاالتّاريخ بمصداقيّة ومسؤوليّة وإيمان...
فقد بدأت مسيرة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي فور مصرعالإمام الحسين فوق رمال كربلاء, وواكبت مسيرة السّبايا من بقايا أهل بيته... حيثكانت ولادة أوّل عمل فنّي رسّخ في الذّاكرة والوجدان الحدث الكربلائي التّاريخيوما تلاه, رسمة تلك اللوحة الفنّيّة التي قام بنقشها الرّاهب النّصراني قراقوليسلرأس الإمام الحسين, أثناء مسيرة السّبايا من كربلاء إلى الشّام, حين طلب الرّاهبإيداعه الرّأس الشّريف داخل كنيسة دير رأس بعلبك للتّبرّك به... وهذه اللوحة ماتزال محفوظة ضمن ممتلكات متحف موسكو بروسيا...
وإنبثقت بعد ذلك محاولات تشكيليّة محدودة, من قبل البعضالمهتمّ في تجارب وأعمال فنّيّة توثيقيّة, للواقعة الكربلائيّة العاشورائيّةبالرّيشة واللون, وفي مناطق عدّة من الأنحاء المحيطة, منذ زمن الحكم البويهي, حيثأوحت المأساة العاشورائيّة الدّامية, إضافة لأشكال الطّقوس والشّعائر والمجالسالحسينيّة العزائيّة, أوحت بالخلق والإبداع الفنّي التّشكيلي, للفنّانينوالرّسّامين والتّشكيليين في العراق وإيران وأزربيجان والأناضول وبعض مناطقسيبيريا وعدد من الدّول الأخرى, إلى أن عمّت أنحاء كثيرة في العالمين العربيوالإسلامي...
ومع بدايات المراسم والشّعائر الحسينيّة, والإحتفاءالسّنوي التّقليدي بالذّكرى العاشورائيّة الحسينيّة, بدأ الإهتمام من قبل الكتّابوالشّعراء بنظم القصائد وكتابة النّصوص من خلال المديح والرّثاء, وأخذت المراسمالعاشورائيّة بالتّطوّر في ممارسات الشّعائر والطّقوس, ومنها الإفتاء الشّرعيبجواز التّصوير والرّسم والتشكيل... وتشييد المباني الحسينيّة والتّكايا, وتزيينهابالزّخارف واللوحات الفنّيّة العاشورائيّة والمشهديّات الكربلائيّة, بحيث تضمّإحدى هذه التّكايا في كرمنشاه والتي تمّ تشييدها في العام 1917 للميلاد, أكبر لوحةفنّيّة شعبيّة لمشهد السّبايا الحسينيين وهنّ مكبّلات بالسّلاسل والأصفادالحديديّة, بالإضافة إلى لوحات ومشهديّات أخرى, تُحاكي الوقائع الكربلائيّةالتّفصيليّة, بتقنيّات بانوراميّة تصويريّة للواقعة بتفاصيلها وعناصرها ورموزهاوشخصيّاتها... بحيث غدت اللوحة الفنّيّة التّشكيليّة العاشورائيّة لوحة سرديّة,شاء الفنّان التّشكيلي من خلالها القيام بدور الرّاوي التّصويري, لتجسيدالمشهديّات العاشورائيّة البّانوراميّة, وللإحاطة بتفاصيل الواقعة من جميعالجهات... وأصبحت فنون الرّسم العاشورائي تحكي قصّة الثّورة العاشورائيّة بلغةتشكيليّة فنّيّة, تذخر بالرّموز والتّعابير والدّلالات والإشارات التي تدخلالوجدان من دون إستئذان, وتُحرّك العواطف من خلال جماليات فنون التّشكيل والرّسمفي لوحات وجداريّات ومنمنمات, لإيصالها إلى الجمهور المتلقّي بأسلوب ممتع وطريقةسهلة... وتحوّلت اللوحة الكربلائيّة العاشورائيّة, لوسيلة حديثة وعصريّة من وسائلوأدوات الإعلام العاشورائي, لا تقتصر على جماليات الفنون فقط, وإنّما لها وظيفتها الإعلاميّةوالإخباريّة, بما تثير التّفاعل مع المتلقّي ليعيش الواقعة الكربلائيّة وكأنهاحدثت في الحال...
فنون التّشكيل العاشورائي هي حركات فعل محاكاة الواقعةالكربلائيّة, والتّعبير عنها بالرّيشة واللون فوق الخامات المتعدّدة ووفق الأساليبوالمدارس والمذاهب الفنّيّة المتنوّعة, وبمؤازرة الكلمة التّعبيريّة, بحيث يسهلعلى المتلقّي فهمها, كما تخيّلها وهي مدوّنة في بطون الكتب التّاريخيّة... فغداالفنّ التّشكيلي العاشورائي عنصراً مهمّاً لا بُدّ منه لعرض تفاصيل ملحمة كربلاءوإيصال رسالتها المحقّة إلى أبعد ما يُمكن في إثراء مفاهيم عقول الناس وهديهاللحقيقة...
ومع تطوّر فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي, راح الفنّانالخلاّق والرّسّام المحترف يُمارس حركات فعل الإبداع في عمليّات التّعبير عنالواقعة الكربلائيّة العاشورائيّة, فظهرت اللافتات فوق الطّرقات, ورفرفت الرّاياتالحمراء والسّوداء المنتشرة والمعلّقة على الأعمدة, وإرتفعت الأعلام فوق الأقواس التّزينيّةعند مداخل البلدات والمدن والقرى, وأخذت الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة في تأديةدورها الوظيفي الإعلامي الدّيني, كما ظهرت الملصقات والشّعارات العاشورائيّةالفنّيّة التّشكيليّة بالأساليب والمدارس التّشكيليّة الفنّيّة, وعملت هذه الأعمالعلى تحقيق أهدافها بنجاح, مع الإحتفاظ على معالم عناصرها وشخصيّتها التّراثيّةالمميّزة... وإنطلقت المراسم والشّعائر العاشورائيّة الكربلائيّة الحسينيّة,وإخترقت إطارها التّقليدي, وسار المبدعون الفنّانون والرّسّامون بعاشوراء نحوالعولمة الفنّيّة التّشكيليّة, من خلال تجسيد وإسقاط المعاناة الحياتيّة والمعيشيّة,حتّى أصبحت عاشوراء النّاطق الأصدق, تحكي معاناة الشّعوب المغلوب على أمرهاوالمظلومة بحكّامها, والحاضرة من خلال المعاني والرّموز والتّعابير الفنّيّة فيعناصر اللوحة العاشورائيّة, لتتحقّق عاشوراء وتتجسّد في كلّ زمان وفي كلّ مكان وفيكلّ أرض...
ونستطيع تحديد قواعد وأسس مدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة, التي نستكمل إستنباط عناصرها التّشكيليّة ونطمع لترسيخها وتثبيتهاكمدرسة فنّيّة تشكيليّة عالميّة, بمجموعة من الرّموز العاشورائيّة, والتي نُلخّصها:بشكل السّيف الذي يقطر دماً أحمراً قانياً, والذي يرمز تعبيريّا إلى إستشهادالإمام الحسين فوق أرض كربلاء في العراق, وبالرّأس المقطوع عن الجسد والمرفوع علىالرّمح, تعبيرا رمزيّاً لرأس الإمام الحسين الذي رُفع على الرّمح والسّير به إلىالشّام, والأكفّ المقطوعة وقربة الماء الممزّقة والتي تُعبّر عن شخصيّة العبّاسالذي لُقّب بساقي العطاشى, لتتماذج هذه الرّموز مع العناصر الفنّيّة التّشكيليّةالعاشورائيّة, كالصّور التّعبيريّة للإمام الحسين والعبّاس وعليّ الأكبر, وصورالسّبايا: زينب وزوجات الإمام الحسين وزوجات أهل بيته وأصحابه مع الأطفال والجميعمكبّلين بالأصفاد والحديد ومُتشحات بالسّواد, وكذلك صورة الحصان المُدمّى والمثقلبالجراحات, والمُأطيء الرّأس حزنا وألماً على فقدان فارسه الإمام الحسين, إضافةللحروفيّات الكتابيّة التي تتناغم وتتكامل مع تشكيلات الرّسومات الفنّيّة, لتؤلّفالعمل الفنّي الإبداعي العاشورائي, ناهيك عن منظومة أطياف الألوان التي تتميّز بهااللوحة العاشورائيّة, وخاصّة اللونين الأحمر والأسود, بحيث يرمز اللون الأحمر إلىلون الدّمّ ويُعبّر عن القتل والشّهادة, فيما يُعبّر اللون الأسود عن الحزنوالحداد والفاجعة والمأساة في كربلاء, إضافة لرمزيّته للظّلم بحقّ النّاس...
هذا ولقد تعدّدت الأساليب والتّقنيّات وتنوّعت الموادوالخامات التي تُستخدم في صناعة اللوحة العاشورائيّة والتّعبير من خلالها عنالواقعة الكربلائيّة, من نقوش ولوحات جداريّة إلى لافتات إعلانيّة فملصقاتومجسّمات جامدة ومتحرّكة... وتعدّدت كذلك الأساليب الفنّيّة وتمحورت بين فنونالمدارس الكلاسّيكيّة والإنطباعيّة والرّمزيّة والتّجريديّة والسّورياليّةوالبصريّة والمفاهميّة وغيرها من الفنون التّجهيزيّة والإنشائيّة التّشكيليّة...كما تعدّدت أساليب التّقنيّات, ما بين إستخدامات الأقلام التّحبيريّة التي تستخدمالحبر الصّيني, وأقلام الرّصاص, والأقلام الخشبيّة الملوّنة, والأقلام المائيّةالتّلوينيّة, إلى إستخدامات أصناف الألوان التّرابيّة فالألوان المائيّةوالزّيتيّة والطّباشيريّة والصّناعيّة, وصولا لتقنيات الفنون اللونيّة والإبرووالحاسوبيّة, والجمع واللصق والتّشكيل الورقي, والموادّ المختلفة وفنون النّحتوالحفر, والرسم على الزّجاج والخزف بكافّة أشكاله وأنواعه وتقنيّاته الحديثة,وصولا لتقنيّات فنون الرّسم الرّقميّة التي تُستخدم من خلال الحواسيب الشّخصيّة والبرمجياتالعشريّة الرّقميّة التّابعة لها...
إلى هذا فإنّ التّعبير الحزين والمأساوي عن الواقعةالكربلائيّة العاشورائيّة, يختلف من مكان إلى آخر, ومن زمن إلى زمن آخر, ومن مجتمعإلى بيئة أخرى, وتحت ظلّ دولة ما إلى ظلّ دولة أخرى, وما بين ظروف ما وظروف أخرى, وبينحالة وحالة, وبين رسّام ورسّام آخر وفنّان تشكيلي وآخر, وبين مرسم ومرسم آخر وبينمعرض ومعرض آخر... إلاّ أنّ جميع النّتاجات التي تنضوي تحت مدرسة فنون التّشكيلالعاشورائي, تلتقي وتتوافق على جوهر الموضوع, وتوجّهه وقيمته الهدفيّة, وإستلهامالأبعاد الرّوحيّة للثّورة الحسينيّة... بحيث غدت مدرسة الفنون الكربلائيّةالعاشورائيّة غنيّة وثريّة بالرّموز والعناصر التّشكيليّة, التي تغدو متناغمةمتماذجة متجانسة ومنسجمة مع الوحدات الفنّيّة الأخرى...
وقد برز الكثير من الفنّانين المشتغلين في إبداعات الفنونالتّشكيليّة العاشورائيّة في غالبيّة الدّول العربيّة والإسلاميّة والعالميّة,وخاصّة في لبنان وسوريا والعراق وإيران والسّعوديّة وغيرها... هذا وقد سادت في بعضالأقطار والمجتمعات المراسم الفنّيّة العاشورائيّة العامّة والخاصّة, فيما إنتشرتهذه المراسم والمختبرات في عدّة مدن وبلدات وقرى لبنانيّة, والتي غدت مختبراتتجريبيّة للتّعبير عن ملحمة كربلاء الطّفّ وعاشوراء الحسين, بما يختلج في النّفس الإنسانيّةمن مشاعر وأحاسيس وشؤون وشجون, كلّ على مزاجيّته الفنّيّة وطريقته التّشكيليّة ورؤاه الإخراجيّة, لإنتاجأوسع تشكيلة من اللوحات والمشهديّات التي تُعنى بتجسيد وتوكيد معالم الملحمةالكربلائيّة العاشورائيّة الحسينيّة, للتّوعية الهادفة من قبل الدّعاة الفنّيينالتّشكيليين العاشورائيين, تلك اللوحات والمشهديّات التي الهيئات والمؤسّساتوالجمعيّات التي تُعنى بإحياء المراسم والشّعائر الحسينيّة, وتُعرض هذه اللوحات فيالمواسم العاشورائيّة في معارض متنوّعة في بعض الدّول والأقطار, وخاصّة لبنان, ويأتيهاالنّاس والمريدون من كلّ حدب وصوب ليشاركون بها...
بقلم: حسين أحمد سليم
واقعة كربلاء التّاريخيّة بأرض الطّفّ بالعراق في العاشرمن شهر محرّم للعام الهجري الواحد والسّتّين, والجعجعة بالإمام الحسين بن علي بنأبي طالب عليهما السّلام, حفيد النّبي محمّد عليه الصّلاة والسّلام, ثُمّ قتلهوقطع رأسه والتّمثيل بجسمانه وتركه ملقىً في العراء على الرّمال الرّمضاء, وقتل أصحابهظلماً وإعتداءً وزوراً وبهتاناً, والإعتداء السّافر على أهل بيته والتّنكيل بهم,دون وجه حقّ, وهتك أستارهم وقتل غالبيّتهم, دون إيمان أو وازع من ضمير أو رادع منوجدان, وسبي من بقي منهم على قيد الحياة عنوة قهر وإذلال, وممارسات فعل تعذيبهموتجويعهم في مسارات الطّريق الطّويل بمحاذاة نهر الفرات, ومروراً بهم إستعراضاًومهانةً في همروجات سياسيّة ساقطة, بمدن وقرى وبلدات ومسافات ممتدّة, وإجتيازهمالأودية والأماكن الوعرة والجبال والسّهول, مروراً بمدينة بعلبكّ اللبنانيّةالبقاعيّة, حيث دُفنت عند أطرافها الجنوبيّة, خولة بنت الحسين التي فارقت الحياةمن جرّاء العذاب والجوع والمرض الذي فتك بها, وصولا بهم إلى مجلس الحاكم الطّاغيةفي دمشق ببلاد الشّام...
واقعة كربلاء هذه, تُعتبر من زاوية المنظار الدّينيّالرّوحيّ, ومن خلال الرّؤى الأخلاقيّة الإيمانيّة, وعبر المفاهيم التّراثيّةالشّعبيّة السّائدة في بعض المجتمعات, تُعتبر من أهمّ وأوّل وأرقى الموروثاتالتّراثيّة التّاريخيّة, التي إنبثقت من رحم تلك الواقعة المؤلمة, غيرالإفتراضيّة, تلك الشّعائر الحسينيّة العاشورائيّة السّنويّة, التي تتفاعل مع بزوغشمس شهر محرّم ولأيّامه الأولى المعدودات وحتّى نهاية العاشر منه... وراحت هذهالطّقوس والشّعائر تتعاظم في تفاعل ثورتهاعلى صعد كثيرة, حتّى وصلت إلينا متجاوزة حقب التّاريخ الظّالم القاهر, رغم كلّ ممارساتفعل الضّغوطات وقهر وعهر الحروب... وساهمت الشّعائر الكربلائيّة العاشورائيّةالحسينيّة بقوّة, في التأثير الواسع الفاعل في بُنى وتطوير وتفعيل منظومات الفنونالثّقافيّة الأدبيّة منها, والفنّيّة التّشكيليّة والأدائيّة القديمة والحديثة علىحدّ سواء... بحيث غدت منظومات الشّعائر الحسينيّة العاشورائيّة والإحتفاء بها علىأكثر من صعيد, غدت تراثاً عظيماً له أصالته وخصوصيّته وقدسيّته ومرجعيّته في رحابمجتمعات العالمين العربي والإسلامي على مختلف طوائفهم بشكل خاصّ, وغدت لها وقعهاالمميّز في أرحبة باقي مجتمعات العالم الآخر بشكل عام... سيّما في ظلال العولمةالإعلاميّة وشيوع عالم الشّبكات العنكبوتيّة الرّقميّة الأنترنت في جميع أنحاءالكرة الأرضيّة المأهولة...
وعاشوراء هي ذلك الحدث التّاريخيّ, والتي وقعت معركتها غيرالمتكافئة ميدانيّا, في ذلك الزّمن السّالف, غدت ترتبط بواقعنا الذي نعيش اليوم,وتتّصل بحياتنا التي نُريد لها الإستمرار للغد, بحيث تُغذّي ذاكرتنا وتشحذ وجداننا,وتُقلبن عقولنا وتُعقلن قلوبنا, لتتجذّر في ذواتنا وكينوناتنا وثقافاتنا, ومخزونناالشّعبي التّقليدي, وتروي ظمأ فنوننا العامّة من أدبيّة وأدائيّة وغيرها, سيّما فيمجالات ثقافة الفنون التّشكيليّة منها, وبأساليب متنوّعة من حركات فعل الإبتكاروالصّنع في فنون الإبداع بالرّسم, وفنون التّشكيل بالنّحت, وفنون الإبتكاربالأشغال اليدويّة والصّناعيّة والإحترافيّة, بالإعتماد على أسس ومباديء مدارسومذاهب ومسارات الفنون التّشكيليّة العالميّة المعروفة, مع الإحتفاظ بالخصوصيّاتالرّوحيّة الدّينيّة والإلتزام بالمفاهيم المستنبطة إجتهاداً من رحم العباداتوالمعاملات المشروعة, إضافة لإستنباط رؤى ومسارات ومدارس فنّيّة عاشورائيّة تتماشىمع التّقاليد والعادات في غالبيّة المجتمعات الملتزمة دينيّاً...
واقعة كربلاء الطّفّ, التي حدثت في العراق, وشعائر عاشوراءالحسين, وما إستتبعها من سبي وتعذيب لأهل بيت الحسين, جميعها ولّدت وعياًجماهيريّا ثوريّاً لا ينضب له معين, ولا يجفّ له ماء... وعملت على إرثاء ثوابتإرثٍ فكريّ ثقافيّ, تفتّق بثورة عارمة على الظّلم والظّالمين, كائنين من كانوا,تتّقد جذوتها وتلتهب وتتعاظم ولا يخمد أوارها أو يهدأ لظاها...
هذا, ومع تعاقب الأيّام والشّهور والسنّوات, لم تعد كربلاءتلك السّيرة السّرديّة التٌّقليديّة, التي يعكف على قراءتها وتلاوتها وتلحينها وإنشادهابصوت حزين مؤلم, رجال الدّين وقرّاء العزاء التّقليديين, وغيرهم من أولئكالمستفيدين الموسميين, ولم تعد عاشوراء ذلك البكاء والصّراخ والنّحيب ولطم الوجوهوالرّؤوس والصّدور والمناكب والجوانب, ولم تعد فاجعة كربلاء تلك الدّموع التيتذرفها العيون الدّامعة على مصاب الإمام الحسين, تفاعلا مع ترانيم وموسقات ودندناتونشيج قرّاء العزاء, ولم تعد عاشوراء تلك الممارسات التّعذيبيّة التي يُمارسهاالبعض على أجسادهم ورؤوسهم وصدورهم, ولم تعد عاشوراء الحسين تلك النّذور والقرابينوالطّقوس والأدعية والزّيارات ومجالس الأكل والتّطبير...
فعاشوراء الكربلائيّة الحسينيّة بالمفاهيم الثّوريّة الفكريّةوالثّقافيّة المعاصرة, هي تلك الواقعة التّاريخيّة التي أضرمت حركات فعل الإبداعوالإبتكار وحفّزت وجدان المفكّرين والفلاسفة والمبدعين والمبتكرين على تجسيد رؤاهمفعل خلق وتكوين إبداع في كافّة المجالات المميّزة, نفسها الوقائع والشعائرالعاشورائيّة, حفّزت وجدان الفنّانين التّشكيليين من المسلمين وغيرهم رسماً ونحتا,وأثرت خيالهم برؤى وأطياف فنّيّة من إمتدادات البعد الخيالي, لتصوّر الواقعةالكربلائيّة العاشورائيّة بالطّفّ العراقيّ, ورسم معالم ذيولها اللاحقة التيتوالدت من رحمها, كمسيرة السّبي لأهل بيت الحسين وأصحابه إلى بلاد الشّام, ومظاهرالإحتفاءات بهذه الذّكرى الأليمة في الكثير من الأماكن... بما ساهم وساعد علىولادة الإبداع الفنّيّ التّشكيلي الخاصّ, لرسم وتشكيل اللوحة الكربلائيّةوالمشهديّة العاشورائيّة, بأسلوب فنّيّ لافت وجذّاب ترفل له العيون وتهرق دمعها, للإيحاءاتالتي تعكسها تلك اللوحة أو المشهديّة الكربلائيّة العاشورائيّة, التي نمنمتهاونسجتها ورسمتها وشكّلتها أنامل الفنّانين التّشكيليين والرّسّامين الفنّيين فيردهات وقاعات المراسم الخاصّة والعامّة وفي الملتقيات الفنّيّة, تتزركش بالدّماءالحمراء, المنسابة من الرّؤوس المشقوقة بالسّيوف, لتتماهى أمام أنظار النّاسوالمتلقّين والمستقبلين, في أرحبة وأروقة المباني للإحتفالات الدّينيّة, وفي قاعاتوردهات وبهوات المعارض الفنّيّة في المدن, وعلى جدران البيوت والعمارات والأبنيةالعامّة والخاصّة, وفوق المارّة في الشّوارع والطّرقات والسّاحات والدّوّاراتوالحدائق, على شكل صور متنوّعة وأيقونات مختلفة, وشعارات هادفة, ورموز ومصطلحات وتعابيروملصقات, ولوحات ومشهديّات ورسومات, ورايات سوداء وحمراء, ولافتات وعبارات وأقوال وحروفيّاتومجسّمات...
عاشوراء الكربلائيّة الحسينيّة, أزهرت الكثير من المراسمالإحيائيّة لهذه الذّكرى الحزينة والأليمة, وتوالد من صميمها الكثير من حركات فعلالخلق والإبداع والإبتكار في مجالات عديدة, بحيث تحرّرت العقول والنّفوس من سجنالأحزان والبكاء والدّموع, لترود من نوافذ عاشوراء الحسين إلى أرحبة الخلقوالإبداع والإبتكار, وتصوير البعد الثّوري الفكري والثّقافي والفنّي العاشورائي,وإيصاله لمدارك ومفاهيم ووعي النّاس بصور ولوحات ومشهديّات واضحة وجليّة دون لبثأو تمويه... لأنّ ثورة الحسين لم تكن لنفسه, أو لغاية ذاتيّة, بل كانت من أجل دحضالظّلم والجور والكفر والإنحراف عن دروب الحقّ, وفي سبيل مرضاة الله بإقامة دولةالحقّ, ومن أجل الكرامة الإنسانيّة... وهو ما جعل عاشوراء الحسين معلماً تاريخيّاًبارزاً, تجاوز حدود الزّمان الذي حدثت فيه واقعة كربلاء, وتعدّى جغرافية المكانالذي سقط فيه الحسين مقطوع الرّأس مخضّبا بدمائه, لتنعتق عاشوراء الحسين منالإنتماء الخاصّ إلى العامّ, وتتحرّر من منظومة أبجديّات وحروفيّات اللغةالضّاديّة العربيّة, لتتماهى بها غالبيّة اللغات العالميّة الأخرى... وعاشوراءالحسين فعلت فعل السّحر في تطوير شؤون الفنون التّشكيليّة, بحيث كان لها الأثرالأكبر في تحديث جوانب عديدة في الفنون التّشكيليّة القديمة والمعاصرة, سعياً لخلقوإبتكار مدرسة فنّيّة تشكيليّة جديدة, أفخر بتسميتها مدرسة فنون الرّسم والتّشكيلالعاشورائي, والتي تتجاوز وتجاوزت فعلا كلّ المعوقات اللغويّة, لتنفذ إلى القلوبالمموسقة بحنين التّشاغف الإيماني الثّوري, عبر عدسات وشبكات العيون التي أبدعالله في صنعها الإعجازيّ, لتنعكس للعقول المتفكّرة في عظمة الخالق, عبر مرآةالنّفس المطمئنّة بالإيمان الخالص, وتنتشر رسالة الحقّ التي شاءها الحسين وسقطصريعاً من أجلها, تلك الرّسالة هي رسالة الإسلام النّابض بالإيمان والحقّ والعدالةوالإصلاح بما يكفل إستمراريّة الحياة الإنسانيّة العادلة فوق هذه الأرض وفي رضىالخالق...
مدرسة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي الكربلائي الحسيني,هي المدرسة الفنّيّة التّشكيليّة الإيمانيّة المميّزة, التي تحملنا على صهواتأثيريّات ألوانها وأشكالها وعناصرها التّكوينيّة ورموزها ومصطلحاتها وتعابيرها,لترود بنا عالم الفنون الإسلاميّة الهادفة... بناءً على الخصائص الذّاتيّة,والسّمات المتميّزة لهذه المدرسة المبتكرة, بحيث تعكس صورة واضحة وجليّة, تقوم علىأساس عقائدي إسلامي متكامل, وعلى تصوّر شامل وكامل لمسيرة الإنسان ووجوديّة الكونوالحياة... وهذه المدرسة القديمة والمبتكرة حديثاً, ليس إبتكارها من بابالكماليّات الفنّيّة, أو التّحسينات التّشكيليّة, بل من باب المتطلّبات والحاجياتوالضّروريّات في ميادين الفنون الإسلاميّة الهادفة المعاصرة... وهذه المدرسةبالتّحديد هي ضروريّة ومهمّة لتوصيف مكانة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائيالكربلائي الحسيني, بحيث من خلالها يتمّ وضع الأمور في نصابها الصّحيح بعيدا عنالخلل في التّصوّر... ووظيفة مدرسة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي, هي صنعجماليات اللوحات والمشهديّات والصّور العاشورائيّة, بمهارات ودقّة وحرفة وأدواتمتوافرة, لأداء وظيفتها كاملة وشاملة, لأنّ الفنّ الإسلامي العاشورائي, موكلٌبصناعة الجمال بمعناه الواسع الشّامل, الذي لا يقف عند حدود ولا يتقوقع فيمحدود... بل يعكس جماليات بدائع صنع الخالق في الوجود والطبيعة, ويُجسّد جمالياتالإيمان بالله وعظمته التي تتجلّى في عظمة خلقه, وجماليات الأديان السّماويّةوالقيم والعقائد السّماويّة, والأوضاع وأشكال السّياسات التي تهتم بشؤون الخلق,وأشكال الحكم والدّول والنّظم والأفكار والعدالة والسّلام... جميعها من الألوانالتي تحتفي بها مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة, وتجعلها مادّة أصيلةوأساسيّة للتّعبير والتّرميز والتّصوير التّجريدي والسّوريالي والإنطباعيوالإفتراضي, من خلال المعايير الإيمانيّة الشّاملة... ومدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة هي وسيلة وليست غاية, وهذه الوسيلة تتشرّف بشرف الغاية التي وجدتلأجلها والتي تؤدّي إليها... وهذه المدرسة ليست للفنّ فقط, بل نشاؤها أساساً فيخدمة الحقّ والفضيلة والعدالة والسّلام وفي سبيل الخير والجمال... بحيث ترتقي هذهالمدرسة بما تحمل من إبداعات وإبتكارات جماليّة تصل إلى حسّ المشاهد المتلقّي,ترتقي به نحو الأسمى والأعلى والأحسن ونحو الأجمل, وهي بوصلة الإتّجاه نحو السّموّفي المشاعر والتّفكير والإيمان والتّطبيق والمسارات... ولمدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة هدفاً سامياً تسعى إليه, هو إحقاق الحقّ ودحض الظّلم والثّورة علىكلّ أشكال الإنحرافات, ولها باعثاً تدفع إليه, وهو ما يمتدّ في أعماق النّفسالإنسانيّة من جمال الإيمان بالخالق... بحيث تلتقي ما تصبو إليه النّفس الإنسانيّةالمطمئنّة مع ما يتطلّبه المنهج العقائدي, فإذا بهذا الإنسان مدفوع إلى تحقيقجماليات العدالة بباعث من رغبته النّفسيّة, وباعث من الإيمان بإتّقان العمل الفنّيوإحساساته... ومدرسة الفنون العاشورائيّة لها شخصيّتها الفنّيّة المستقلّة, فليستهي فرعاً من فروع الفلسفة التّقليديّة, وليست كذلك فرعاً من فروع العلم البحت, وليستمذهباً مشتقّاً من ناحية ما, بل هي مهارة فنّيّة خاصّة ومميّزة, تُساعد علىتجلّيات الحقائق والكشف عنها, بأساليب ومسارات فنّيّة تشكيليّة رسماً ونحتاً, وهوما يخلق مسارات مستحدثة في كينونة الفنون التّشكيليّة المعاصرة, تحت مسمّى مدرسةالفنون التّشكيليّة العاشورائيّة... والفنون التّشكيليّة العاشورائيّة تنبع مندواخل النّفس الإنسانيّة, بحيث تجيش هذه النّفس بما تكتنز به من عواطف نبيلة راقيةوأحاسيس سامية ومشاعر نقيّة نابضة... فإذا هي ملء الوجدان والخيال والعقلوالتّفكّر وملء السّمع وملء البصر, وهي بهذه السّمات تعبير صادق عن الإلتزامالإيماني بتوكيد وتجسيد الحقائق... والفنون التّشكيليّة العاشورائيّة هي لقاء كاملبين إبداعات المواهب ونتاجات العبقريّات, وهي تفاعل شامل بين دقّة الصّنعة ومهاراتالتّنفيذ وحسن وجماليات الإخراج... إنّها إجتماع وتماذج وإنسجام بين الذّكاء وبينالخبرات والإتّقان, وبهذه المعالم تصل الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة إلى ذروةالجمال في توكيد معالم الحقيقة... وهذه لعمري القواعد الأساسيّة العامّة التيترتكز عليها مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة, هذه الأسس وهذه المباديء هيالتي جعلت وتجعل من مدرسة الفنون العاشورائيّة, فنّا إيمانيّاً ملتزماً ومتميّزاًله شخصيّته المستقلّة وله كيانه الذّاتيّ...
وعليه فليست مدرسة الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة فقطللجمال, إنّما هي وسيلة فنّيّة تشكيليّة لتدوين حقائق التّاريخ وتوثيق أحداث هذاالتّاريخ بمصداقيّة ومسؤوليّة وإيمان...
فقد بدأت مسيرة فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي فور مصرعالإمام الحسين فوق رمال كربلاء, وواكبت مسيرة السّبايا من بقايا أهل بيته... حيثكانت ولادة أوّل عمل فنّي رسّخ في الذّاكرة والوجدان الحدث الكربلائي التّاريخيوما تلاه, رسمة تلك اللوحة الفنّيّة التي قام بنقشها الرّاهب النّصراني قراقوليسلرأس الإمام الحسين, أثناء مسيرة السّبايا من كربلاء إلى الشّام, حين طلب الرّاهبإيداعه الرّأس الشّريف داخل كنيسة دير رأس بعلبك للتّبرّك به... وهذه اللوحة ماتزال محفوظة ضمن ممتلكات متحف موسكو بروسيا...
وإنبثقت بعد ذلك محاولات تشكيليّة محدودة, من قبل البعضالمهتمّ في تجارب وأعمال فنّيّة توثيقيّة, للواقعة الكربلائيّة العاشورائيّةبالرّيشة واللون, وفي مناطق عدّة من الأنحاء المحيطة, منذ زمن الحكم البويهي, حيثأوحت المأساة العاشورائيّة الدّامية, إضافة لأشكال الطّقوس والشّعائر والمجالسالحسينيّة العزائيّة, أوحت بالخلق والإبداع الفنّي التّشكيلي, للفنّانينوالرّسّامين والتّشكيليين في العراق وإيران وأزربيجان والأناضول وبعض مناطقسيبيريا وعدد من الدّول الأخرى, إلى أن عمّت أنحاء كثيرة في العالمين العربيوالإسلامي...
ومع بدايات المراسم والشّعائر الحسينيّة, والإحتفاءالسّنوي التّقليدي بالذّكرى العاشورائيّة الحسينيّة, بدأ الإهتمام من قبل الكتّابوالشّعراء بنظم القصائد وكتابة النّصوص من خلال المديح والرّثاء, وأخذت المراسمالعاشورائيّة بالتّطوّر في ممارسات الشّعائر والطّقوس, ومنها الإفتاء الشّرعيبجواز التّصوير والرّسم والتشكيل... وتشييد المباني الحسينيّة والتّكايا, وتزيينهابالزّخارف واللوحات الفنّيّة العاشورائيّة والمشهديّات الكربلائيّة, بحيث تضمّإحدى هذه التّكايا في كرمنشاه والتي تمّ تشييدها في العام 1917 للميلاد, أكبر لوحةفنّيّة شعبيّة لمشهد السّبايا الحسينيين وهنّ مكبّلات بالسّلاسل والأصفادالحديديّة, بالإضافة إلى لوحات ومشهديّات أخرى, تُحاكي الوقائع الكربلائيّةالتّفصيليّة, بتقنيّات بانوراميّة تصويريّة للواقعة بتفاصيلها وعناصرها ورموزهاوشخصيّاتها... بحيث غدت اللوحة الفنّيّة التّشكيليّة العاشورائيّة لوحة سرديّة,شاء الفنّان التّشكيلي من خلالها القيام بدور الرّاوي التّصويري, لتجسيدالمشهديّات العاشورائيّة البّانوراميّة, وللإحاطة بتفاصيل الواقعة من جميعالجهات... وأصبحت فنون الرّسم العاشورائي تحكي قصّة الثّورة العاشورائيّة بلغةتشكيليّة فنّيّة, تذخر بالرّموز والتّعابير والدّلالات والإشارات التي تدخلالوجدان من دون إستئذان, وتُحرّك العواطف من خلال جماليات فنون التّشكيل والرّسمفي لوحات وجداريّات ومنمنمات, لإيصالها إلى الجمهور المتلقّي بأسلوب ممتع وطريقةسهلة... وتحوّلت اللوحة الكربلائيّة العاشورائيّة, لوسيلة حديثة وعصريّة من وسائلوأدوات الإعلام العاشورائي, لا تقتصر على جماليات الفنون فقط, وإنّما لها وظيفتها الإعلاميّةوالإخباريّة, بما تثير التّفاعل مع المتلقّي ليعيش الواقعة الكربلائيّة وكأنهاحدثت في الحال...
فنون التّشكيل العاشورائي هي حركات فعل محاكاة الواقعةالكربلائيّة, والتّعبير عنها بالرّيشة واللون فوق الخامات المتعدّدة ووفق الأساليبوالمدارس والمذاهب الفنّيّة المتنوّعة, وبمؤازرة الكلمة التّعبيريّة, بحيث يسهلعلى المتلقّي فهمها, كما تخيّلها وهي مدوّنة في بطون الكتب التّاريخيّة... فغداالفنّ التّشكيلي العاشورائي عنصراً مهمّاً لا بُدّ منه لعرض تفاصيل ملحمة كربلاءوإيصال رسالتها المحقّة إلى أبعد ما يُمكن في إثراء مفاهيم عقول الناس وهديهاللحقيقة...
ومع تطوّر فنون الرّسم والتّشكيل العاشورائي, راح الفنّانالخلاّق والرّسّام المحترف يُمارس حركات فعل الإبداع في عمليّات التّعبير عنالواقعة الكربلائيّة العاشورائيّة, فظهرت اللافتات فوق الطّرقات, ورفرفت الرّاياتالحمراء والسّوداء المنتشرة والمعلّقة على الأعمدة, وإرتفعت الأعلام فوق الأقواس التّزينيّةعند مداخل البلدات والمدن والقرى, وأخذت الفنون التّشكيليّة العاشورائيّة في تأديةدورها الوظيفي الإعلامي الدّيني, كما ظهرت الملصقات والشّعارات العاشورائيّةالفنّيّة التّشكيليّة بالأساليب والمدارس التّشكيليّة الفنّيّة, وعملت هذه الأعمالعلى تحقيق أهدافها بنجاح, مع الإحتفاظ على معالم عناصرها وشخصيّتها التّراثيّةالمميّزة... وإنطلقت المراسم والشّعائر العاشورائيّة الكربلائيّة الحسينيّة,وإخترقت إطارها التّقليدي, وسار المبدعون الفنّانون والرّسّامون بعاشوراء نحوالعولمة الفنّيّة التّشكيليّة, من خلال تجسيد وإسقاط المعاناة الحياتيّة والمعيشيّة,حتّى أصبحت عاشوراء النّاطق الأصدق, تحكي معاناة الشّعوب المغلوب على أمرهاوالمظلومة بحكّامها, والحاضرة من خلال المعاني والرّموز والتّعابير الفنّيّة فيعناصر اللوحة العاشورائيّة, لتتحقّق عاشوراء وتتجسّد في كلّ زمان وفي كلّ مكان وفيكلّ أرض...
ونستطيع تحديد قواعد وأسس مدرسة الفنون التّشكيليّةالعاشورائيّة, التي نستكمل إستنباط عناصرها التّشكيليّة ونطمع لترسيخها وتثبيتهاكمدرسة فنّيّة تشكيليّة عالميّة, بمجموعة من الرّموز العاشورائيّة, والتي نُلخّصها:بشكل السّيف الذي يقطر دماً أحمراً قانياً, والذي يرمز تعبيريّا إلى إستشهادالإمام الحسين فوق أرض كربلاء في العراق, وبالرّأس المقطوع عن الجسد والمرفوع علىالرّمح, تعبيرا رمزيّاً لرأس الإمام الحسين الذي رُفع على الرّمح والسّير به إلىالشّام, والأكفّ المقطوعة وقربة الماء الممزّقة والتي تُعبّر عن شخصيّة العبّاسالذي لُقّب بساقي العطاشى, لتتماذج هذه الرّموز مع العناصر الفنّيّة التّشكيليّةالعاشورائيّة, كالصّور التّعبيريّة للإمام الحسين والعبّاس وعليّ الأكبر, وصورالسّبايا: زينب وزوجات الإمام الحسين وزوجات أهل بيته وأصحابه مع الأطفال والجميعمكبّلين بالأصفاد والحديد ومُتشحات بالسّواد, وكذلك صورة الحصان المُدمّى والمثقلبالجراحات, والمُأطيء الرّأس حزنا وألماً على فقدان فارسه الإمام الحسين, إضافةللحروفيّات الكتابيّة التي تتناغم وتتكامل مع تشكيلات الرّسومات الفنّيّة, لتؤلّفالعمل الفنّي الإبداعي العاشورائي, ناهيك عن منظومة أطياف الألوان التي تتميّز بهااللوحة العاشورائيّة, وخاصّة اللونين الأحمر والأسود, بحيث يرمز اللون الأحمر إلىلون الدّمّ ويُعبّر عن القتل والشّهادة, فيما يُعبّر اللون الأسود عن الحزنوالحداد والفاجعة والمأساة في كربلاء, إضافة لرمزيّته للظّلم بحقّ النّاس...
هذا ولقد تعدّدت الأساليب والتّقنيّات وتنوّعت الموادوالخامات التي تُستخدم في صناعة اللوحة العاشورائيّة والتّعبير من خلالها عنالواقعة الكربلائيّة, من نقوش ولوحات جداريّة إلى لافتات إعلانيّة فملصقاتومجسّمات جامدة ومتحرّكة... وتعدّدت كذلك الأساليب الفنّيّة وتمحورت بين فنونالمدارس الكلاسّيكيّة والإنطباعيّة والرّمزيّة والتّجريديّة والسّورياليّةوالبصريّة والمفاهميّة وغيرها من الفنون التّجهيزيّة والإنشائيّة التّشكيليّة...كما تعدّدت أساليب التّقنيّات, ما بين إستخدامات الأقلام التّحبيريّة التي تستخدمالحبر الصّيني, وأقلام الرّصاص, والأقلام الخشبيّة الملوّنة, والأقلام المائيّةالتّلوينيّة, إلى إستخدامات أصناف الألوان التّرابيّة فالألوان المائيّةوالزّيتيّة والطّباشيريّة والصّناعيّة, وصولا لتقنيات الفنون اللونيّة والإبرووالحاسوبيّة, والجمع واللصق والتّشكيل الورقي, والموادّ المختلفة وفنون النّحتوالحفر, والرسم على الزّجاج والخزف بكافّة أشكاله وأنواعه وتقنيّاته الحديثة,وصولا لتقنيّات فنون الرّسم الرّقميّة التي تُستخدم من خلال الحواسيب الشّخصيّة والبرمجياتالعشريّة الرّقميّة التّابعة لها...
إلى هذا فإنّ التّعبير الحزين والمأساوي عن الواقعةالكربلائيّة العاشورائيّة, يختلف من مكان إلى آخر, ومن زمن إلى زمن آخر, ومن مجتمعإلى بيئة أخرى, وتحت ظلّ دولة ما إلى ظلّ دولة أخرى, وما بين ظروف ما وظروف أخرى, وبينحالة وحالة, وبين رسّام ورسّام آخر وفنّان تشكيلي وآخر, وبين مرسم ومرسم آخر وبينمعرض ومعرض آخر... إلاّ أنّ جميع النّتاجات التي تنضوي تحت مدرسة فنون التّشكيلالعاشورائي, تلتقي وتتوافق على جوهر الموضوع, وتوجّهه وقيمته الهدفيّة, وإستلهامالأبعاد الرّوحيّة للثّورة الحسينيّة... بحيث غدت مدرسة الفنون الكربلائيّةالعاشورائيّة غنيّة وثريّة بالرّموز والعناصر التّشكيليّة, التي تغدو متناغمةمتماذجة متجانسة ومنسجمة مع الوحدات الفنّيّة الأخرى...
وقد برز الكثير من الفنّانين المشتغلين في إبداعات الفنونالتّشكيليّة العاشورائيّة في غالبيّة الدّول العربيّة والإسلاميّة والعالميّة,وخاصّة في لبنان وسوريا والعراق وإيران والسّعوديّة وغيرها... هذا وقد سادت في بعضالأقطار والمجتمعات المراسم الفنّيّة العاشورائيّة العامّة والخاصّة, فيما إنتشرتهذه المراسم والمختبرات في عدّة مدن وبلدات وقرى لبنانيّة, والتي غدت مختبراتتجريبيّة للتّعبير عن ملحمة كربلاء الطّفّ وعاشوراء الحسين, بما يختلج في النّفس الإنسانيّةمن مشاعر وأحاسيس وشؤون وشجون, كلّ على مزاجيّته الفنّيّة وطريقته التّشكيليّة ورؤاه الإخراجيّة, لإنتاجأوسع تشكيلة من اللوحات والمشهديّات التي تُعنى بتجسيد وتوكيد معالم الملحمةالكربلائيّة العاشورائيّة الحسينيّة, للتّوعية الهادفة من قبل الدّعاة الفنّيينالتّشكيليين العاشورائيين, تلك اللوحات والمشهديّات التي الهيئات والمؤسّساتوالجمعيّات التي تُعنى بإحياء المراسم والشّعائر الحسينيّة, وتُعرض هذه اللوحات فيالمواسم العاشورائيّة في معارض متنوّعة في بعض الدّول والأقطار, وخاصّة لبنان, ويأتيهاالنّاس والمريدون من كلّ حدب وصوب ليشاركون بها...