بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
وبعد..
لقد نصب رب العالمين للإنسان منارات يهتدي بها وآيات تبيّن له الحق في نفسه فضلاً عن ما يراه من مخلوقات في الآفاق، فقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت : 53]
ولم تكن تلك الآيات قابلة لإحصاء محصٍ، ولا لإنكار منكرٍ !
وكان تطابق التشريع الإلهي وانسجامه مع الفطرة وطبيعة النفس البشرية آية من آياته تعالى، يتنبه إليها أهلها فتريهم الحق حقاً.. وكان من مصاديق هذا التطابق حالة الدفاع عن النفس التي لا تنفك عن كل إنسان فيما لو تعرض لأي اعتداء، جسدياً كان أم نفسياً.. حيث جوّزت بل أوجبت الشريعة على الانسان مثلاً أن يدافع عن نفسه وعرضه أمام أي عدو واعتداء.. فاجتمعت الجنبة التشريعية مع الطبيعة البشرية في صورة قانون إلهي متكامل.. وتعددت مراتب الجهاد بحسب موضوعه.. فكان أولها الدفاع عن النفس وقد يكون آخرها الدفاع عن دين الله تعالى تحت راية خليفة الله المعصوم في الأرض..
ثم أكرم رب الأكوان العبدَ الذي يسقط في هذا الطريق بأن جعله شهيداً فخصه بثواب عظيم وحباه بكرامة جزيلة تفضلاً منه تعالى..
بل جعل في ما جلّله به من حلل ودرر عزاءً وسلوةً لأهل قرابته الذين يؤلمهم فراق العزيز.. كما يتألم كل مخلوق سوي لفقد فلذات الأكباد.. وأخوة النسب والدين.. فيتحمل المؤمن منهم ألم الفراق بلا جزع، ويكفكف دموع الاشتياق مسلماً أمره لله تعالى، ويعزي قلبه الذي امتلأ حزناً بأن الحبيب في مقام القرب من محبوبه.. ذلك أن المؤمن حبيب الله.. فيصبر ويشكر الله في الضراء كما شكره في السراء..
ثم تستمر السنة الإلهية بتجدد مسيرة الابتلاء لبني البشر في كل عصر وزمان.. ويأخذ الصراع الأبدي بين نهجي الحق وأعدائه صوراً أشد خطراً.. فكلما تجوهر الإنسان المؤمن وظهرت حقيقة معدنه الصافي كلما صار هدفاً لسهام الغواية.. فقد قال رمزها يوماً ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف : 16-17]
وكان من أساليبه الأولى تحبيط الناس عن كل حق ومنعهم عن كل جهاد، الأكبر قبل الأصغر.. ولما كان الأصغر أقل مؤونة نجحت ثلة من المؤمنين في تجاوز حباله وسلكت طريق الشهادة دفاعاً عن الدين الحنيف تحت راية رسول الله (ص)، ثم توالت النكبات فسقط في هذه الطريق قوم من المؤمنين في أزمنة مختلفة دفاعاً عن النفس أو العرض أو الدين فاحتسبهم أهلهم شهداء عند الله تعالى.
لكن المفارقة كانت ومنذ أعوام سلفت في سقوط بعض الأحبة في فخاخ خفية، فتوهموا أن سلوك بعض أهليهم مثل هذا الطريق والانتقال للرفيق الأعلى كفيل بأن يسلخ الإنسان عن فطرته وطبيعته فيجعل القلب الرحيم للإنسان المؤمن صخرة صمّاء !!
فأطلقوا الدعوات لمنع الحزن والأسى والألم على فراق الأحبة !!
ثم لمّا تعاطف الآخرون معهم مدركين أن كلامهم نفسه ناتج عن شدة الحزن والألم وعدم القدرة على تحمل صدمة الفراق، تصوروا أن هذا التفهم إقرار بمثل هذه الأفكار.. فجزموا بأن البكاء ضعف وانكسار !! وحكموا على أهل الدمعة بأنهم كادوا أن يصبحوا من أهل العار !!
فأكملوا مسيرتهم في الجلد الصامت للذات.. حتى اعتقدوا أن فقيدهم لا يحتاج لفعل خير أو دعاء!! وأنه الشفيع الذي يستغني عن كل شفاعة وعطاء!! ثم صار المتبع عند بعضهم استبدال ذلك بإظهار الفرح والسرور !! وتبادل التهاني والتبريكات !!
وعلى أمل أن تكون هذه الحالة الهجينة طارئة عابرة، تدغدغ القلوب دون أن تستقر في بواطن العقول.. فإن للذكرى موضعاً ومحلاً بين المؤمنين، وربنا هو القائل: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات : 55]
فإن الحزن على الميت ومفارقة الحبيب فطرة إلهية وسنة نبوية وطبيعة بشرية، ما لم تخرج الإنسان عن الحق.. ولم يكن هذا المقدار يوماً مما يُستدلّ عليه بالدليل لوضوحه وبداهته واتفاق كلمة الإنسانية عليه قبل الأديان والشرائع.. لكن ما وصلنا إليه يحتم الإشارة إلى قليل من نماذج كثيرة طفح بها الكتاب والسنة، ففي ذلك الكفاية..
1. نبي الله يعقوب عليه السلام عندما بكى على فراق ولده.
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف : 13]
فحزن عليه السلام على ذهاب ابنه قبل أن يصاب بأي مكروه، ثم لما فقده تغيرت حالته: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف : 84]
فهذا نبيّ من أنبياء الله تبيّض عيناه من الحزن على ولده وهو يعلم بأنه لا يزال حياً، وسمع عليه السلام كلاماً يشبه ما نسمعه اليوم حين قالوا له: ﴿ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ [يوسف : 85]
فبكاء الباكي اليوم صار إلقاء للنفس في التهلكة !!
لكن التهلكة عند يعقوب ممدوحة إن كانت كما يتوهمون !! حيث أجابهم: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف : 86]
فإذا كانت الشكوى لله عز وجل كانت علامة من علامات العبودية واللجوء إلى الله تعالى، وكان خلافها ضعفاً وبعداً عنه تعالى، إذ عقّب عليه السلام شكواه لله تعالى بأنه يعلم من الله ما لا يعلمون، فتحدث عن العلم من الله لا عن مطلق العلم.. وليس النبي كسائر البشر في علومه ومعارفه واعتقاده وسلوكه فإنها ربانية المنشأ والمبدأ..
2. أم موسى عليه السلام حين رده الله عليها لئلا تحزن..
قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص : 13]
فدلت الآية على أن العناية الربانية قد تدخلت في رد موسى إلى أمه لتقر عينها به ولا تحزن لفراقه كما تحزن كل أم لفراق ابنها فكيف لو كان موسى ؟!
بل إن الرعاية كانت قد من قبل أن تؤمر بإلقائه في اليم حيث قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص : 7]
فقد قرن الله تعالى نهيه لها عن الخوف والحزن بوعد إلهي برده، ولولا هذا الوعد الإلهي لأصاب أم موسى من الخوف والحزن ما لا يعلمه إلا الله تعالى..
وقد كان الخطاب موجهاً إلى موسى نفسه في آية أخرى، وذلك في قوله تعالى ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ..﴾ [طه : 40] فأكرمه الله بكرامة إرجاعه إلى أمه وأكرمها به.
كان هذا من الكتاب العزيز الذي اتفق المسلمون على العمل به وأقروا بأنه كلام الله عز وجل..
3. سيد شباب أهل الجنة
ونحن معشر الإمامية ككثير من سائر المسلمين نعتقد أن هناك ما أبكى خير الخلق وسيّدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، رسول الله إلى الإنسانية جمعاء.. أكمل الناس وأصبرهم وأقربهم لله تعالى.. وابن عمه أمير المؤمنين وسيد الوصيين.. والصديقة الكبرى عليها السلام.. وسائر الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الطاهرين، بل كل ما في الكون والوجود من خلق ربنا قد بكى لمصيبة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام.. مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها..
لقد استشهد سيد شباب أهل الجنة وانتقل إلى أرفع منزلة عند الله تعالى، فانكسرت القلوب وكادت السماء أن تسقط على الأرض لولا لطف الله ورحمته.. وعم الحزن الأكوان والعوالم.. وما نهى عاقل أو مؤمن عن عن التأثر بمثل هذه الفاجعة الأليمة..
أيها الأحبة..
ليس في الحزن على فراق الأحبة ما ينافي الصلابة والعزم واليقين، وليس في البكاء على فقدهم ما يحطّ من إيمان المؤمنين، فإن المؤمن ليّن القلب عطوف رحيم، فلا يقفن أحد ليمنع الفطرة الإلهية عن أن تأخذ مجراها بعد أن عزّزتها السنة الإلهية القرآنية والروائية لأن في ذلك انسلاخاً عن القيم الإنسانية وبعداً عن التعاليم السماوية والخلقة الربانية.
وختاماً.. نسأل المولى عزّ وجل، أن يتغمد أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات بواسع رحمته.. إنه سميع مجيب، وأن يلهم ذويهم الصبر وسلامة الفكر معاً..
والحمد لله رب العالمين
20 رجب 1434.. الموافق ل 31-5-2013
شعيب العاملي
والحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
وبعد..
لقد نصب رب العالمين للإنسان منارات يهتدي بها وآيات تبيّن له الحق في نفسه فضلاً عن ما يراه من مخلوقات في الآفاق، فقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت : 53]
ولم تكن تلك الآيات قابلة لإحصاء محصٍ، ولا لإنكار منكرٍ !
وكان تطابق التشريع الإلهي وانسجامه مع الفطرة وطبيعة النفس البشرية آية من آياته تعالى، يتنبه إليها أهلها فتريهم الحق حقاً.. وكان من مصاديق هذا التطابق حالة الدفاع عن النفس التي لا تنفك عن كل إنسان فيما لو تعرض لأي اعتداء، جسدياً كان أم نفسياً.. حيث جوّزت بل أوجبت الشريعة على الانسان مثلاً أن يدافع عن نفسه وعرضه أمام أي عدو واعتداء.. فاجتمعت الجنبة التشريعية مع الطبيعة البشرية في صورة قانون إلهي متكامل.. وتعددت مراتب الجهاد بحسب موضوعه.. فكان أولها الدفاع عن النفس وقد يكون آخرها الدفاع عن دين الله تعالى تحت راية خليفة الله المعصوم في الأرض..
ثم أكرم رب الأكوان العبدَ الذي يسقط في هذا الطريق بأن جعله شهيداً فخصه بثواب عظيم وحباه بكرامة جزيلة تفضلاً منه تعالى..
بل جعل في ما جلّله به من حلل ودرر عزاءً وسلوةً لأهل قرابته الذين يؤلمهم فراق العزيز.. كما يتألم كل مخلوق سوي لفقد فلذات الأكباد.. وأخوة النسب والدين.. فيتحمل المؤمن منهم ألم الفراق بلا جزع، ويكفكف دموع الاشتياق مسلماً أمره لله تعالى، ويعزي قلبه الذي امتلأ حزناً بأن الحبيب في مقام القرب من محبوبه.. ذلك أن المؤمن حبيب الله.. فيصبر ويشكر الله في الضراء كما شكره في السراء..
ثم تستمر السنة الإلهية بتجدد مسيرة الابتلاء لبني البشر في كل عصر وزمان.. ويأخذ الصراع الأبدي بين نهجي الحق وأعدائه صوراً أشد خطراً.. فكلما تجوهر الإنسان المؤمن وظهرت حقيقة معدنه الصافي كلما صار هدفاً لسهام الغواية.. فقد قال رمزها يوماً ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف : 16-17]
وكان من أساليبه الأولى تحبيط الناس عن كل حق ومنعهم عن كل جهاد، الأكبر قبل الأصغر.. ولما كان الأصغر أقل مؤونة نجحت ثلة من المؤمنين في تجاوز حباله وسلكت طريق الشهادة دفاعاً عن الدين الحنيف تحت راية رسول الله (ص)، ثم توالت النكبات فسقط في هذه الطريق قوم من المؤمنين في أزمنة مختلفة دفاعاً عن النفس أو العرض أو الدين فاحتسبهم أهلهم شهداء عند الله تعالى.
لكن المفارقة كانت ومنذ أعوام سلفت في سقوط بعض الأحبة في فخاخ خفية، فتوهموا أن سلوك بعض أهليهم مثل هذا الطريق والانتقال للرفيق الأعلى كفيل بأن يسلخ الإنسان عن فطرته وطبيعته فيجعل القلب الرحيم للإنسان المؤمن صخرة صمّاء !!
فأطلقوا الدعوات لمنع الحزن والأسى والألم على فراق الأحبة !!
ثم لمّا تعاطف الآخرون معهم مدركين أن كلامهم نفسه ناتج عن شدة الحزن والألم وعدم القدرة على تحمل صدمة الفراق، تصوروا أن هذا التفهم إقرار بمثل هذه الأفكار.. فجزموا بأن البكاء ضعف وانكسار !! وحكموا على أهل الدمعة بأنهم كادوا أن يصبحوا من أهل العار !!
فأكملوا مسيرتهم في الجلد الصامت للذات.. حتى اعتقدوا أن فقيدهم لا يحتاج لفعل خير أو دعاء!! وأنه الشفيع الذي يستغني عن كل شفاعة وعطاء!! ثم صار المتبع عند بعضهم استبدال ذلك بإظهار الفرح والسرور !! وتبادل التهاني والتبريكات !!
وعلى أمل أن تكون هذه الحالة الهجينة طارئة عابرة، تدغدغ القلوب دون أن تستقر في بواطن العقول.. فإن للذكرى موضعاً ومحلاً بين المؤمنين، وربنا هو القائل: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات : 55]
فإن الحزن على الميت ومفارقة الحبيب فطرة إلهية وسنة نبوية وطبيعة بشرية، ما لم تخرج الإنسان عن الحق.. ولم يكن هذا المقدار يوماً مما يُستدلّ عليه بالدليل لوضوحه وبداهته واتفاق كلمة الإنسانية عليه قبل الأديان والشرائع.. لكن ما وصلنا إليه يحتم الإشارة إلى قليل من نماذج كثيرة طفح بها الكتاب والسنة، ففي ذلك الكفاية..
1. نبي الله يعقوب عليه السلام عندما بكى على فراق ولده.
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف : 13]
فحزن عليه السلام على ذهاب ابنه قبل أن يصاب بأي مكروه، ثم لما فقده تغيرت حالته: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف : 84]
فهذا نبيّ من أنبياء الله تبيّض عيناه من الحزن على ولده وهو يعلم بأنه لا يزال حياً، وسمع عليه السلام كلاماً يشبه ما نسمعه اليوم حين قالوا له: ﴿ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ [يوسف : 85]
فبكاء الباكي اليوم صار إلقاء للنفس في التهلكة !!
لكن التهلكة عند يعقوب ممدوحة إن كانت كما يتوهمون !! حيث أجابهم: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف : 86]
فإذا كانت الشكوى لله عز وجل كانت علامة من علامات العبودية واللجوء إلى الله تعالى، وكان خلافها ضعفاً وبعداً عنه تعالى، إذ عقّب عليه السلام شكواه لله تعالى بأنه يعلم من الله ما لا يعلمون، فتحدث عن العلم من الله لا عن مطلق العلم.. وليس النبي كسائر البشر في علومه ومعارفه واعتقاده وسلوكه فإنها ربانية المنشأ والمبدأ..
2. أم موسى عليه السلام حين رده الله عليها لئلا تحزن..
قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص : 13]
فدلت الآية على أن العناية الربانية قد تدخلت في رد موسى إلى أمه لتقر عينها به ولا تحزن لفراقه كما تحزن كل أم لفراق ابنها فكيف لو كان موسى ؟!
بل إن الرعاية كانت قد من قبل أن تؤمر بإلقائه في اليم حيث قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص : 7]
فقد قرن الله تعالى نهيه لها عن الخوف والحزن بوعد إلهي برده، ولولا هذا الوعد الإلهي لأصاب أم موسى من الخوف والحزن ما لا يعلمه إلا الله تعالى..
وقد كان الخطاب موجهاً إلى موسى نفسه في آية أخرى، وذلك في قوله تعالى ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ..﴾ [طه : 40] فأكرمه الله بكرامة إرجاعه إلى أمه وأكرمها به.
كان هذا من الكتاب العزيز الذي اتفق المسلمون على العمل به وأقروا بأنه كلام الله عز وجل..
3. سيد شباب أهل الجنة
ونحن معشر الإمامية ككثير من سائر المسلمين نعتقد أن هناك ما أبكى خير الخلق وسيّدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، رسول الله إلى الإنسانية جمعاء.. أكمل الناس وأصبرهم وأقربهم لله تعالى.. وابن عمه أمير المؤمنين وسيد الوصيين.. والصديقة الكبرى عليها السلام.. وسائر الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الطاهرين، بل كل ما في الكون والوجود من خلق ربنا قد بكى لمصيبة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام.. مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها..
لقد استشهد سيد شباب أهل الجنة وانتقل إلى أرفع منزلة عند الله تعالى، فانكسرت القلوب وكادت السماء أن تسقط على الأرض لولا لطف الله ورحمته.. وعم الحزن الأكوان والعوالم.. وما نهى عاقل أو مؤمن عن عن التأثر بمثل هذه الفاجعة الأليمة..
أيها الأحبة..
ليس في الحزن على فراق الأحبة ما ينافي الصلابة والعزم واليقين، وليس في البكاء على فقدهم ما يحطّ من إيمان المؤمنين، فإن المؤمن ليّن القلب عطوف رحيم، فلا يقفن أحد ليمنع الفطرة الإلهية عن أن تأخذ مجراها بعد أن عزّزتها السنة الإلهية القرآنية والروائية لأن في ذلك انسلاخاً عن القيم الإنسانية وبعداً عن التعاليم السماوية والخلقة الربانية.
وختاماً.. نسأل المولى عزّ وجل، أن يتغمد أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات بواسع رحمته.. إنه سميع مجيب، وأن يلهم ذويهم الصبر وسلامة الفكر معاً..
والحمد لله رب العالمين
20 رجب 1434.. الموافق ل 31-5-2013
شعيب العاملي
تعليق