أستقبل المسلمون حكومة معاوية بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب واعتبروها نكسة للإسلام، ونصراً حاسماً للقوى المعادية له والحاقدة عليه، وفي طليعتها الاُسرة الاُموية ومن شايعها من القبائل القرشية، فقد انتعشت الأفكار الجاهلية وعادت لها الحياة من جديد، وانطوت الديمقراطية الإسلامية، وما تنشده من التقدّم والتطوّر للإنسان في مجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات، وكأنها بعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكم الاُمويّين من جند الشام..
....لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجرّت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار.
وورث معاوية عداءه للرسول (ص) من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه وخصومه، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويطفئ نور الله، ولكن الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده. وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية، وهي التي حرّضت وحشياً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل.
ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ عن أبويه، فقد اُترع بالكراهية والبغض له، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذن يؤذن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله (ص)، فلم يملك إهابه، واندفع قائلاً:
لله أبوك يابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين.
وكان من حقده على النبيّ (ص) ما حدّث به مطرف بن المغيرة قال: وفدت مع أبي على معاوية فكان يتحدّث عنده، ثمّ ينصرف إليَّ، وهو يذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، وأقبل ذات ليلة وهوغضبان، فأمسك عن العشاء فانتظرته ساعة، وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له:
ما لي أراك مغتماً هذه الليلة؟
يا بني، جئتك من أخبث الناس.
ما ذاك؟
خلوت بمعاوية فقلت له: إنّك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
فثار معاوية وقال:
هيهات، هيهات، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وأن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خميس مرات أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقي بعد هذا لا اُمّ لك إلاّ دفناً دفناً
وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبيّ (ص)
1 - ستر فضائلهم:
وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وحجبها عن الناس، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس فبادره معاوية قائلاً:
يا بن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليَّ بقتالي إيّاكم يوم صفين، يا بن عباس، إنّ ابن عمّي عثمان قتل مظلوماً...
فردّ عليه ابن عباس:
فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً، فسلّم الأمر إلى ولده، وهذا ابنه - وأشار إلى عبد الله بن عمر-.
فأجابه معاوية: إنّ عمر قتله مشرك..
فانبرى ابن عباس قائلاً:
فمن قتل عثمان؟
قتله المسلمون.
وأمسك ابن عباس بزمامه قائلاً:
فذلك أدحض لحجّتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه، فليس إلاّ بحقّ.
ووجم معاوية ثمّ قال:
إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته فكفّ لسانك يا بن عباس.
فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه:
أفتنهانا عن قراءة القرآن؟
لا.
أفتنهانا عن تأويله؟
نعم.
فتقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟
نعم.
فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به؟
العمل به.
فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟
سل عن ذلك فمن يتأوّله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
إنّما نزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط.
فاقرأوا القرآن، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم وممّا قاله رسول الله (ص) فيكم، وارووا ما سوى ذلك.
وسخر منه ابــــن عباس وتلا قــــوله تعالى: (يريــــدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
وصاح به معاوية:
اكفف نفسك، وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً، ولا تسمعه أحداً علانية.
لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت(ع) ومحو ذكرهم حتى لا يبقى لهم أي رصيد شعبي في الأوساط الإسلامية.
2 - اضطهاد الشيعة:
واضطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية، فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام، وكان ما عانوه منه لا يوصف لشدّة قسوته ومرارته، وهذا عانوه.
أ - القتل الجماعي:
وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم، فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا من أحرقهم بالنار، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب.
ب - ترويع النساء:
وروّع معاوية جمهرة من سيّدات نساء الشيعة .
ج - هدم دور الشيعة:
وأوعز معاوية إلى عماله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه.
د- حرمان الشيعة من العطاء:
وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء وهذا نصها:
انظروا إلى من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه.
وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم فمن وجدوه يتعاطف مع أهل البيت(ع) محوا اسمه، وأسقطوا عطاؤه.
هـ - رفض شهادة الشيعة:
وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعزإلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره مبالغة في التوهين بهم.
و - إبعاد الشيعة إلى خراسان:
ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد ابن أبيه عمدة ولاة معاوية وأخوه اللاشرعي ضد شيعة أهل البيت وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان المقاطعة الشرقية في فارس، وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع في تلك البلاد حتى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويين حتى أطاح بدولتهم.
اغتيال الإمام الحسن
وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضدّ الإسلام والمسلمين اغتياله لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن(ع) الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده، وراح ينشئ دولة اُموية تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه، وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع وذو قلب خال من كل شفقة، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه، فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (ص)، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة.
واستعرض الطاغية السفاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث، فهي من بيت جُبل على الجريمة وطُبع على الغدر والخيانة، فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم، وأمره بإغراء جعدة بالأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت له، وعرض عليها مروان ذلك فاستجابت له فأخذت السمّ ودسّته للإمام، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام حتى تقطّعت أمعاؤه، فالتفت(ع) إلى الخبيثة الماكرة وقال لها:
(قتلتيني قتلك الله، والله لا تصيبن منّي خلفاً، لقد غرّك - يعني معاوية- وسخر منك يخزيك الله ويخزيه..
وأخذ ريحانة رسول الله (ص) يعاني من شدّة السمّ وقسوته وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة، فأمر برفع الطشت لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه قد فتك السمّ به، فانهارت قواها، وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن، فقد علمت أن أخاها سيفارقها عمّا قريب.
وأخذ الإمام يقبّل أخوته وخلّص أصحابه وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وتقوى الله، والاجتناب عن معاصيه، واشتدّت حالته، وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين، ووافاه الأجل المحتوم ولسانه لِهج بذكر الله، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام، وقام الإمام الحسين(ع) بتجهيز جثمان أخيه، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمنعته بنو اُميّة وقد استعانوا بعائشة، فقد خرجت على بغل وهي تقول: لا يدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه، وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميين: لا تّدخلوا بيتي من لا اُحبّ، وكادت الفتنة أن تقع وتراق الدماء، فعدل الإمام عن دفن أخيه بجوار جدّه ودفنه في البقيع، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن(ع).
البيعة ليزيد
وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محل فيه لأي قيمة من القيم الدينية.
وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر والطيش والعداء للإسلام.
وكان يزيد غدّاراً كأبيه ولكن ليس داهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل، كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وهاهم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك لقد كانوا من حثالة المجتمع.
لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانية لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل، وحسبه أنه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي، ووصفه المؤرخون بأنّه كان معرّى من كل صفة إنسانية، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى.
ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر، ويعزو بعض المؤرخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتى أولد فيه انفجاراً في دماغه، ومن أنّه ولعاً بالقرود، فكان له فهد يجعله بين يديه ويكنيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك :
وأرسله مرة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز ورثاه :
كـــــم مــــــن كرام وقوم ذوو محافظة جاءوا لـــــنا ليــــــعـزوا فـي أبي قيس
شيخ العـــــشــــــيرة أمضاها وأجملهـا على الــرؤوس وفي الأعناق والريس
لا يــــبـــــعد الله قبراً أنـــــــت ساكـنـه فـــــيه جـــــــمــال وفيـه لحيـة التـيس
وشــاع ولعه بالقرود، وقد هجاه شاعر من تنوخ :
يـــــزيد صـــــديق القــــرد ملّ جوارنـا فحــــــنّ إلــى أرض القــــــرود يـــزيد
فتـــــبّأ لمـــــن أمســـــى علينا خلـيفـة صحــــــابتـه الأدنــــــون مـــنـه قـرود
وكان كلفاً بالصيد لاهياً بـــه، وكان يُلبس كــــلاب الصيد الأساور من الـــــذهب والجلال المنسوجة منه ويهب لكل كلب عبداً يخدمه.
ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات، وكأنها بعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكم الاُمويّين من جند الشام..
....لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجرّت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار.
وورث معاوية عداءه للرسول (ص) من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه وخصومه، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويطفئ نور الله، ولكن الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده. وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية، وهي التي حرّضت وحشياً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل.
ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ عن أبويه، فقد اُترع بالكراهية والبغض له، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذن يؤذن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله (ص)، فلم يملك إهابه، واندفع قائلاً:
لله أبوك يابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين.
وكان من حقده على النبيّ (ص) ما حدّث به مطرف بن المغيرة قال: وفدت مع أبي على معاوية فكان يتحدّث عنده، ثمّ ينصرف إليَّ، وهو يذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، وأقبل ذات ليلة وهوغضبان، فأمسك عن العشاء فانتظرته ساعة، وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له:
ما لي أراك مغتماً هذه الليلة؟
يا بني، جئتك من أخبث الناس.
ما ذاك؟
خلوت بمعاوية فقلت له: إنّك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
فثار معاوية وقال:
هيهات، هيهات، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وأن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خميس مرات أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقي بعد هذا لا اُمّ لك إلاّ دفناً دفناً
وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبيّ (ص)
1 - ستر فضائلهم:
وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وحجبها عن الناس، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس فبادره معاوية قائلاً:
يا بن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليَّ بقتالي إيّاكم يوم صفين، يا بن عباس، إنّ ابن عمّي عثمان قتل مظلوماً...
فردّ عليه ابن عباس:
فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً، فسلّم الأمر إلى ولده، وهذا ابنه - وأشار إلى عبد الله بن عمر-.
فأجابه معاوية: إنّ عمر قتله مشرك..
فانبرى ابن عباس قائلاً:
فمن قتل عثمان؟
قتله المسلمون.
وأمسك ابن عباس بزمامه قائلاً:
فذلك أدحض لحجّتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه، فليس إلاّ بحقّ.
ووجم معاوية ثمّ قال:
إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته فكفّ لسانك يا بن عباس.
فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه:
أفتنهانا عن قراءة القرآن؟
لا.
أفتنهانا عن تأويله؟
نعم.
فتقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟
نعم.
فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به؟
العمل به.
فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟
سل عن ذلك فمن يتأوّله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
إنّما نزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط.
فاقرأوا القرآن، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم وممّا قاله رسول الله (ص) فيكم، وارووا ما سوى ذلك.
وسخر منه ابــــن عباس وتلا قــــوله تعالى: (يريــــدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
وصاح به معاوية:
اكفف نفسك، وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً، ولا تسمعه أحداً علانية.
لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت(ع) ومحو ذكرهم حتى لا يبقى لهم أي رصيد شعبي في الأوساط الإسلامية.
2 - اضطهاد الشيعة:
واضطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية، فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام، وكان ما عانوه منه لا يوصف لشدّة قسوته ومرارته، وهذا عانوه.
أ - القتل الجماعي:
وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم، فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا من أحرقهم بالنار، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب.
ب - ترويع النساء:
وروّع معاوية جمهرة من سيّدات نساء الشيعة .
ج - هدم دور الشيعة:
وأوعز معاوية إلى عماله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه.
د- حرمان الشيعة من العطاء:
وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء وهذا نصها:
انظروا إلى من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه.
وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم فمن وجدوه يتعاطف مع أهل البيت(ع) محوا اسمه، وأسقطوا عطاؤه.
هـ - رفض شهادة الشيعة:
وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعزإلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره مبالغة في التوهين بهم.
و - إبعاد الشيعة إلى خراسان:
ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد ابن أبيه عمدة ولاة معاوية وأخوه اللاشرعي ضد شيعة أهل البيت وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان المقاطعة الشرقية في فارس، وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع في تلك البلاد حتى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويين حتى أطاح بدولتهم.
اغتيال الإمام الحسن
وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضدّ الإسلام والمسلمين اغتياله لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن(ع) الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده، وراح ينشئ دولة اُموية تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه، وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع وذو قلب خال من كل شفقة، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه، فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (ص)، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة.
واستعرض الطاغية السفاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث، فهي من بيت جُبل على الجريمة وطُبع على الغدر والخيانة، فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم، وأمره بإغراء جعدة بالأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت له، وعرض عليها مروان ذلك فاستجابت له فأخذت السمّ ودسّته للإمام، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام حتى تقطّعت أمعاؤه، فالتفت(ع) إلى الخبيثة الماكرة وقال لها:
(قتلتيني قتلك الله، والله لا تصيبن منّي خلفاً، لقد غرّك - يعني معاوية- وسخر منك يخزيك الله ويخزيه..
وأخذ ريحانة رسول الله (ص) يعاني من شدّة السمّ وقسوته وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة، فأمر برفع الطشت لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه قد فتك السمّ به، فانهارت قواها، وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن، فقد علمت أن أخاها سيفارقها عمّا قريب.
وأخذ الإمام يقبّل أخوته وخلّص أصحابه وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وتقوى الله، والاجتناب عن معاصيه، واشتدّت حالته، وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين، ووافاه الأجل المحتوم ولسانه لِهج بذكر الله، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام، وقام الإمام الحسين(ع) بتجهيز جثمان أخيه، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمنعته بنو اُميّة وقد استعانوا بعائشة، فقد خرجت على بغل وهي تقول: لا يدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه، وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميين: لا تّدخلوا بيتي من لا اُحبّ، وكادت الفتنة أن تقع وتراق الدماء، فعدل الإمام عن دفن أخيه بجوار جدّه ودفنه في البقيع، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن(ع).
البيعة ليزيد
وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محل فيه لأي قيمة من القيم الدينية.
وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر والطيش والعداء للإسلام.
وكان يزيد غدّاراً كأبيه ولكن ليس داهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل، كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وهاهم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك لقد كانوا من حثالة المجتمع.
لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانية لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل، وحسبه أنه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي، ووصفه المؤرخون بأنّه كان معرّى من كل صفة إنسانية، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى.
ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر، ويعزو بعض المؤرخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتى أولد فيه انفجاراً في دماغه، ومن أنّه ولعاً بالقرود، فكان له فهد يجعله بين يديه ويكنيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك :
وأرسله مرة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز ورثاه :
كـــــم مــــــن كرام وقوم ذوو محافظة جاءوا لـــــنا ليــــــعـزوا فـي أبي قيس
شيخ العـــــشــــــيرة أمضاها وأجملهـا على الــرؤوس وفي الأعناق والريس
لا يــــبـــــعد الله قبراً أنـــــــت ساكـنـه فـــــيه جـــــــمــال وفيـه لحيـة التـيس
وشــاع ولعه بالقرود، وقد هجاه شاعر من تنوخ :
يـــــزيد صـــــديق القــــرد ملّ جوارنـا فحــــــنّ إلــى أرض القــــــرود يـــزيد
فتـــــبّأ لمـــــن أمســـــى علينا خلـيفـة صحــــــابتـه الأدنــــــون مـــنـه قـرود
وكان كلفاً بالصيد لاهياً بـــه، وكان يُلبس كــــلاب الصيد الأساور من الـــــذهب والجلال المنسوجة منه ويهب لكل كلب عبداً يخدمه.
تعليق