ونبقى مع القدوة
(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)(النجم:23). وقوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)(النجم:28). وقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون)(يونس:36)
بعد الوفاء في العهود والأخلاقيات وجهاد النفس وإرغامها على كسر وثاق العجز والتصدي للهواجس الشيطانية وجنودها 75 الذين عاهدوا على كسر شوكة الإنسان
http://www.alshirazi.com/compilation...at/part2/4.htm
إن الظن لا يغني من الحق شيئا
• زاد العاملين، في مواجهة الصعاب ثلاث: الاعتزاز بالله تعالى والثقة بالنفس، واليقين. فإذا اجتمعت في امرئ فلابد أن يستشفع علمه بعمله، ويقينه بإقدامه.
فبمجرد أن تعلموا فلابد أن تعملوا.
وبمجرد أن تتيقنوا فلابدّ أن تقدموا..
وإذا بدأتم فلابد من مواصلة المسير من غير تردد أو تخاذل أو تراجع..
فـ(لا تجعلوا يقينكم شكاً ولا علمكم جهلاً، فإذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فأقدموا) (1).
إن اليقين قد ينقلب إلى شك إذا انفصل عن العمل، فمشاكل الحياة وضغوط الأعداء، قد تحمل الشخص على التشكيك في معتقداته، والتردد في مواقفه، والتراجع عن حقوقه..
وهنا تبرز قيمة (اليقين) في العمل، وضرورة الإصرار على الموقف في الممارسة، فـ(باليقين تدرك الغاية القصوى) (2) و(كفى باليقين غنى) (3) لأن (من أيقن أفلح) (4) و(ما أعظم سعادة من بوشر قلبه اليقين) (5). وهكذا فإن (اليقين رأس الدين) (6) و(عماد الإيمان) (7).
ولقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلب من الناس أن يسألوا الله تعالى اليقين ويقول: (أيها الناس.. سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية فإن أجلّ النعمة: العافية، وخير ما دام في القلب: اليقين، والمغبون من غبن دينه، والمغبوط من غبط يقينه) (8).
ونظراً إلى ما لليقين من الدور الهائل فقد قال (عليه السلام): (نوم على يقين خير من صلاة على شك) (9) وقال: (يحتاج الإيمان إلى إيقان) (10).
وفي الحقيقة فإن يقين الفرد هو الذي يدفعه إلى الجهاد، والصمود فإن (من يستيقن يعمل جاهداً) (11) كما أنه سبب الحزم ومجاهدة النفس، فإن (الموقن أشد الناس حزماً على نفسه) (12) إذ (يستدل على اليقين بقصر الأمل، وإخلاص العمل، والزهد في الدنيا) فإن (المؤمن يرى يقينه في عمله، وإن المنافق يرى شكّه في عمله) (13).
ولهذا كله كان (الصبر أول لوازم الإيقان) (14) فهو الدافع للاستقامة تماماً كما أن (سبب الإخلاص من اليقين) (15) وهو سبب الاستهانة بالمصائب.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): (اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر وحسن اليقين.. وأحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة) (16).
ولقد كان أمير المؤمنين على اليقين من أمره، والثقة بدينه، والاعتزاز بالله وهذه الصفات هي وراء عظمة شخصيته، حيث أنه لم يشك ولا لحظة واحدة في أنه على حق، وأن مناوئيه على باطل.
وكما يقول أحدهم: (كانت لديه الثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها، لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها، ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها، ولأنه يعقدها ولا يتعمّد إبداءها، ولقد كانت فيه ثقة أصيلة لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرّجال فما منعته الطفولة الباكرة يوماً أن يعلم أنه شيء في هذه الحياة الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير.
ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ينذرونه وينكرونه وهو يقلّب عينيه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير. فلو كان بعليّ أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة ورفعتهم آداب القبيلة إلى مقام الخشية والخشوع. ولكنه كان علياً في تلك السن المبكّرة، كما كان علياً وهو في الخمسين أو الستين.
فما تردّد - وهم صامتون مستهزئون - أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك!
فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار. وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم) (17).
ومن شواهد هذه الثقة بالنفس، أنه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها..!).
ومن شواهدها أنه كان يقول - والخارجون عليه يرجمونه بالمروق -: (ما أعرف أحداً من هذه الأمّة عبد الله بعد نبيّنا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين) (18).
لقد كان الإمام على يقين من إيمانه وعلمه، وموقفه، وصدق عزيمته وهو القائل: (إني على يقين من ربّي، وغير شبهة من ديني) (19).
ولقد جاء حبر من الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟
فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره).
قال: وكيف رأيته؟
قال: (ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (20).
لقد عبد الله تعالى عبادة من يراه، وهو القائل: (ما رأيت شيئاً، إلا ورأيت الله قبله، ومعه، وبعده)!
وكما في العبادة، كذلك في المواقف السياسية كان على يقين من أمره قد جاءه أحد رجاله فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى عائشة وطلحة والزبير اجتمعوا إلا على حق.
فقال: (إن الحق والباطل لا يُعْرَفان بالناس ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه).
فقال الرجل: فهلا أكون كعبد الله بن عمر وسعد فأعتزلكم جميعاً؟
فقال الإمام: (إنهما خذلا الحق، ولم ينصرا الباطل، متى كانا إمامين في الخير يتبعهما الناس)!! فأقسم الرجل أن يتبع أمير المؤمنين وحده! (21)
وإذا كان الإمام (عليه السلام) يجادل أعداءه فلكي يهديهم الطريق ويرشدهم السبيل، وإلا فلم تكن به حاجة إلى ذلك فيما يرتبط بيقينه فهو على بصيرة من دينّ، وبينةٍ من ربه، لم يكذب ولم يكذَّب، وهو القائل: (ما كذبت ولا كذّبت، ولا ضللت ولا ضلّ بي) (22) والقائل: (فوالذي لا إله إلا هو إني على جادة الحق، وإنهم (الأعداء) لعلى مزلة الباطل) (23).
وقال قبيل معركة الجمل، بعد أن استيأس من أن عائشة وطلحة والزبير سيجيبونه إلى السلام، أو إلى حقن الدماء، ورأى ما صنعوا آنفاً بعامله على البصرة عثمان بن حنيف، وقتلهم أنصاره، ولما رجعت رسله من عند عائشة وطلحة والزبير يؤذنونه بالحرب لا محالة!..
قال عند ذلك.
(إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يَرْعَوُوا، أو يرجعوا، وَوَّبختهم بنكثهم، فلم يستحيوا، وأخرجوا ابن حنيف عاملي على البصرة بعد الضرب المبرح، والعقوبة الشديدة، وقتلوا رجالاً صالحين، ثم تتبعوا منهم من نجا، وقتلوهم صبراً! ما لهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون؟! وقد بعثوا إليّ أن أبرز للطعان، وأصبر للجلاد هبلتهم الهبول، لقد كنتُ وما أهُدَّد بالحرب ولا أرهب بالضرب. فليرعوا فقد رأوني قديماً، وعرفوا نكايتي، فكيف رأوني)؟! (24).
(أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، وفرقت جماعتهم! وبذلك القلب ألقى اليوم عدوي، وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد، وعلى يقين من ربّي، وفي غير شبهة من ديني).
(أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص. من لم يقتل مات، والذي نفس عليّ بيده لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش)! (25)
وقال عن طلحة والزبير - بعد احتجاج معهما -: (إن شأنهما مختلف، فأما الزبير فما أحسبه يقاتلنا وإن قاده اللجاج! وأما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل ولقيته باليقين، فلقيني بالشك، فوالله ما نفعه حقي، ولا ضرّني باطله، وهو مقاتل غداً فمقتول في الرعيل الأول) (26)!
لقد قال الإمام ذات مرّة: (ما شككت في الحق منذ أُريتُهُ، لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل... من وثق بماء لم يظمأ) (27).
فقال له بعض من سمعه: يا أمير المؤمنين ما سمعنا قبل اليوم مثل هذا!! إنه أفضل تفسير لقوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (28) وأفضل تبرئة لنبي الله من الشك في أمره!
ولقد قال: (ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه) (29).
وحينما أغار أحد أصحاب معاوية - واسمه الضحاك - برجاله على الحيرة واليمامة، فنهبوا بيت المال، وهربوا إلى الشام. أرسل إليه أخوه عقيل بن أبي طالب كتاباً ينبئه فيه بأمر هذه الغارة، ويعرض عليه أن يخرج إليه ليؤيده. فرد عليه الإمام علي (عليه السلام) برسالة جاء فيها: (... إن قريشاً قد اجتمعت على حرب أخيك، اجتماعها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل اليوم. وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب وجدّوا في إطفاء نور الله، اللهم فأجز قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي وظاهرت عليّ.
إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يُعْصَى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون على نفسي من معالجة الأغلال في جهنم وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة) (31).
ومن الذين وصفهم (عليه السلام) بقوله:
(إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد.. قد أبعد طريقه وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنا، فهو من اليقين على ضوء الشمس) (35).
من ذلك ما روي أنه: كان لعليّ (عليه السلام) غلام اسمه قنبر، وكان يحبّ عليّاً حبّاً شديداً، فإذا خرج عليٌّ خرج على أثره بالسيف. فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر ما لك؟
قال: جئت لأمشي خلفك، فإنّ النّاس كما تراهم يا أمير المؤمنين، فخفت عليك.
قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟
قال: لا بل من أهل الأرض؟
قال: (إنّ أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عزّ وجلّ من السماء فارجع فرجع)(25).
(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)(النجم:23). وقوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)(النجم:28). وقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون)(يونس:36)
بعد الوفاء في العهود والأخلاقيات وجهاد النفس وإرغامها على كسر وثاق العجز والتصدي للهواجس الشيطانية وجنودها 75 الذين عاهدوا على كسر شوكة الإنسان
http://www.alshirazi.com/compilation...at/part2/4.htm
إن الظن لا يغني من الحق شيئا
• زاد العاملين، في مواجهة الصعاب ثلاث: الاعتزاز بالله تعالى والثقة بالنفس، واليقين. فإذا اجتمعت في امرئ فلابد أن يستشفع علمه بعمله، ويقينه بإقدامه.
فبمجرد أن تعلموا فلابد أن تعملوا.
وبمجرد أن تتيقنوا فلابدّ أن تقدموا..
وإذا بدأتم فلابد من مواصلة المسير من غير تردد أو تخاذل أو تراجع..
فـ(لا تجعلوا يقينكم شكاً ولا علمكم جهلاً، فإذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فأقدموا) (1).
إن اليقين قد ينقلب إلى شك إذا انفصل عن العمل، فمشاكل الحياة وضغوط الأعداء، قد تحمل الشخص على التشكيك في معتقداته، والتردد في مواقفه، والتراجع عن حقوقه..
وهنا تبرز قيمة (اليقين) في العمل، وضرورة الإصرار على الموقف في الممارسة، فـ(باليقين تدرك الغاية القصوى) (2) و(كفى باليقين غنى) (3) لأن (من أيقن أفلح) (4) و(ما أعظم سعادة من بوشر قلبه اليقين) (5). وهكذا فإن (اليقين رأس الدين) (6) و(عماد الإيمان) (7).
ولقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلب من الناس أن يسألوا الله تعالى اليقين ويقول: (أيها الناس.. سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية فإن أجلّ النعمة: العافية، وخير ما دام في القلب: اليقين، والمغبون من غبن دينه، والمغبوط من غبط يقينه) (8).
ونظراً إلى ما لليقين من الدور الهائل فقد قال (عليه السلام): (نوم على يقين خير من صلاة على شك) (9) وقال: (يحتاج الإيمان إلى إيقان) (10).
وفي الحقيقة فإن يقين الفرد هو الذي يدفعه إلى الجهاد، والصمود فإن (من يستيقن يعمل جاهداً) (11) كما أنه سبب الحزم ومجاهدة النفس، فإن (الموقن أشد الناس حزماً على نفسه) (12) إذ (يستدل على اليقين بقصر الأمل، وإخلاص العمل، والزهد في الدنيا) فإن (المؤمن يرى يقينه في عمله، وإن المنافق يرى شكّه في عمله) (13).
ولهذا كله كان (الصبر أول لوازم الإيقان) (14) فهو الدافع للاستقامة تماماً كما أن (سبب الإخلاص من اليقين) (15) وهو سبب الاستهانة بالمصائب.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): (اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر وحسن اليقين.. وأحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة) (16).
ولقد كان أمير المؤمنين على اليقين من أمره، والثقة بدينه، والاعتزاز بالله وهذه الصفات هي وراء عظمة شخصيته، حيث أنه لم يشك ولا لحظة واحدة في أنه على حق، وأن مناوئيه على باطل.
وكما يقول أحدهم: (كانت لديه الثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها، لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها، ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها، ولأنه يعقدها ولا يتعمّد إبداءها، ولقد كانت فيه ثقة أصيلة لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرّجال فما منعته الطفولة الباكرة يوماً أن يعلم أنه شيء في هذه الحياة الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير.
ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ينذرونه وينكرونه وهو يقلّب عينيه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير. فلو كان بعليّ أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة ورفعتهم آداب القبيلة إلى مقام الخشية والخشوع. ولكنه كان علياً في تلك السن المبكّرة، كما كان علياً وهو في الخمسين أو الستين.
فما تردّد - وهم صامتون مستهزئون - أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك!
فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار. وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم) (17).
ومن شواهد هذه الثقة بالنفس، أنه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها..!).
ومن شواهدها أنه كان يقول - والخارجون عليه يرجمونه بالمروق -: (ما أعرف أحداً من هذه الأمّة عبد الله بعد نبيّنا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين) (18).
لقد كان الإمام على يقين من إيمانه وعلمه، وموقفه، وصدق عزيمته وهو القائل: (إني على يقين من ربّي، وغير شبهة من ديني) (19).
ولقد جاء حبر من الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟
فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره).
قال: وكيف رأيته؟
قال: (ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (20).
لقد عبد الله تعالى عبادة من يراه، وهو القائل: (ما رأيت شيئاً، إلا ورأيت الله قبله، ومعه، وبعده)!
وكما في العبادة، كذلك في المواقف السياسية كان على يقين من أمره قد جاءه أحد رجاله فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى عائشة وطلحة والزبير اجتمعوا إلا على حق.
فقال: (إن الحق والباطل لا يُعْرَفان بالناس ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه).
فقال الرجل: فهلا أكون كعبد الله بن عمر وسعد فأعتزلكم جميعاً؟
فقال الإمام: (إنهما خذلا الحق، ولم ينصرا الباطل، متى كانا إمامين في الخير يتبعهما الناس)!! فأقسم الرجل أن يتبع أمير المؤمنين وحده! (21)
وإذا كان الإمام (عليه السلام) يجادل أعداءه فلكي يهديهم الطريق ويرشدهم السبيل، وإلا فلم تكن به حاجة إلى ذلك فيما يرتبط بيقينه فهو على بصيرة من دينّ، وبينةٍ من ربه، لم يكذب ولم يكذَّب، وهو القائل: (ما كذبت ولا كذّبت، ولا ضللت ولا ضلّ بي) (22) والقائل: (فوالذي لا إله إلا هو إني على جادة الحق، وإنهم (الأعداء) لعلى مزلة الباطل) (23).
وقال قبيل معركة الجمل، بعد أن استيأس من أن عائشة وطلحة والزبير سيجيبونه إلى السلام، أو إلى حقن الدماء، ورأى ما صنعوا آنفاً بعامله على البصرة عثمان بن حنيف، وقتلهم أنصاره، ولما رجعت رسله من عند عائشة وطلحة والزبير يؤذنونه بالحرب لا محالة!..
قال عند ذلك.
(إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يَرْعَوُوا، أو يرجعوا، وَوَّبختهم بنكثهم، فلم يستحيوا، وأخرجوا ابن حنيف عاملي على البصرة بعد الضرب المبرح، والعقوبة الشديدة، وقتلوا رجالاً صالحين، ثم تتبعوا منهم من نجا، وقتلوهم صبراً! ما لهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون؟! وقد بعثوا إليّ أن أبرز للطعان، وأصبر للجلاد هبلتهم الهبول، لقد كنتُ وما أهُدَّد بالحرب ولا أرهب بالضرب. فليرعوا فقد رأوني قديماً، وعرفوا نكايتي، فكيف رأوني)؟! (24).
(أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، وفرقت جماعتهم! وبذلك القلب ألقى اليوم عدوي، وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد، وعلى يقين من ربّي، وفي غير شبهة من ديني).
(أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص. من لم يقتل مات، والذي نفس عليّ بيده لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش)! (25)
وقال عن طلحة والزبير - بعد احتجاج معهما -: (إن شأنهما مختلف، فأما الزبير فما أحسبه يقاتلنا وإن قاده اللجاج! وأما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل ولقيته باليقين، فلقيني بالشك، فوالله ما نفعه حقي، ولا ضرّني باطله، وهو مقاتل غداً فمقتول في الرعيل الأول) (26)!
لقد قال الإمام ذات مرّة: (ما شككت في الحق منذ أُريتُهُ، لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل... من وثق بماء لم يظمأ) (27).
فقال له بعض من سمعه: يا أمير المؤمنين ما سمعنا قبل اليوم مثل هذا!! إنه أفضل تفسير لقوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (28) وأفضل تبرئة لنبي الله من الشك في أمره!
ولقد قال: (ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه) (29).
وحينما أغار أحد أصحاب معاوية - واسمه الضحاك - برجاله على الحيرة واليمامة، فنهبوا بيت المال، وهربوا إلى الشام. أرسل إليه أخوه عقيل بن أبي طالب كتاباً ينبئه فيه بأمر هذه الغارة، ويعرض عليه أن يخرج إليه ليؤيده. فرد عليه الإمام علي (عليه السلام) برسالة جاء فيها: (... إن قريشاً قد اجتمعت على حرب أخيك، اجتماعها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل اليوم. وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب وجدّوا في إطفاء نور الله، اللهم فأجز قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي وظاهرت عليّ.
إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يُعْصَى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون على نفسي من معالجة الأغلال في جهنم وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة) (31).
ومن الذين وصفهم (عليه السلام) بقوله:
(إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد.. قد أبعد طريقه وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنا، فهو من اليقين على ضوء الشمس) (35).
من ذلك ما روي أنه: كان لعليّ (عليه السلام) غلام اسمه قنبر، وكان يحبّ عليّاً حبّاً شديداً، فإذا خرج عليٌّ خرج على أثره بالسيف. فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر ما لك؟
قال: جئت لأمشي خلفك، فإنّ النّاس كما تراهم يا أمير المؤمنين، فخفت عليك.
قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟
قال: لا بل من أهل الأرض؟
قال: (إنّ أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عزّ وجلّ من السماء فارجع فرجع)(25).