الآية
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَالْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِـمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)
.................................
نقلا عن التفسير الامثل
التّفسير
تشير هذه الآية إِلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.
وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافاً كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: (وأنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ مصدقاً
[26]
لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...).
فالقرآن بالإِضافة إِلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل ـ أيضاً ـ على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.
إِنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادىء والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإِنسان والسمو به إِلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإِنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإِنسان إِلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإِنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً، والإِتيان بعبارة: (مهيمناً عليه) بعد جملة (مصدقاً لما بين يديه) يدل على هذه الحقيقة، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.
ثمّ تؤكّد على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقاً من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول (فاحكم بينهم بما أنزل الله ...).
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدلّ على شمولية أحكام الإِسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأُخرى، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم، لأنّ هذه الآية ترشد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إِن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إِلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.
ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإِلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: (ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ ...).
ولأجل اكمال البحث تشير الآية إِلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام
[27]
للحياة يهديها إِلى السبيل الواضح، حيث تقول: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ...).
وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إِلى الماء وينتهي به، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإِنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.
نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و«المنهاج» هو أنّ الاُولى تطلق على كل ما ورد في القرآن، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سُنّة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) (وهذا الفرق مع كونه جميلا، إلاّ أنّنا لا نملك دليلا جازماً لتأييده)(1).
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أُمّة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: (ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ...).
وجملة (ليبلوكم فيما آتاكم ...) إِشارة إِلى ما قلناه سابقاً من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الإِختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء، فعندما يطوي بنو الإِنسان مرحلة معينة، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أُخرى على يد نبي آخر، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و«الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمباديء الأُخرى المشتركة بين جميع الديانات، لذلك يكون الدين واحداً في كل الأحوال والأزمنه، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحياناً بين ديانة وأُخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضاً ـ دليلا واضحاً يؤيد هذا القول، لأن هاتين الكلمتين أستخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.
[28]
بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إِلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الإِختلاف والتناحر، حيث تقول: (فاستبقوا الخيرات) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إِلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: (إِلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
..................................
الآيتان
شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الَّدِينَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ( 13 ) وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بِغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَـبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب( 14 )
التّفسير من الامثل
الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء:
بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم، وليس أصل التوحيد فحسب، بل إن جميع دعوات الأنبياء في
[486]
القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.
تقول الآية: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.
وأيضاً: (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى).
وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً و«ما يمتلكه الصالحون جميعاً تملكه لوحدك».
إن عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.
لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اُخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.
فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء، أنّ أوّل دعوة لهم كانت: (يا قوم اعبدوا الله)(1).
وفي مكان آخر نقرأ: (ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولا أن اعبدوا الله).
وأيضاً فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام 130، الأعراف 59، الشعراء 135، طه 15، مريم 31).
أمّا موسى وعيسى وشعيب(عليه السلام) فيتحدثون عن الصلاة (طه 14، مريم 31، هود 87).
وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج 27).
وكان الصوم مشرّعاً عند جميع الأقوام السابقين (البقرة 183).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الأعراف (59، 65، 73، 85) هود (50، 61، 84) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح، هود وصالح(عليهم السلام) .
[487]
لذا، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأُخرى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
فهي توصي بأمرين مهمّين:
الأوّل: إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب، بل إقامته وإحياؤه ونشره).
الثّاني: الإحتراز عن البلاء العظيم، يعني الفرقة والنفاق في الدين.
وبعد ذلك تقول: (كبر على المشركين ماتدعوهم إليه).
فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.
وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب).
* * *
ملاحظات
وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الإنتباه إليها:
1 ـ (شَرَع) من كلمة (شَرْع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.
وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة، لذا فإنّ لهذا المصطلح
[488]
تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري(1).
2 ـ لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام) لأن هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم، أيّ أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.
3 ـ في البداية ذكرت الآية نوحاً، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والإجتماعية) نزلت عن طريقه، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه(2).
ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوح (عليه السلام).
4 ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة، تمّ ذكر نوح(عليه السلام)في البداية ثمّ نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ذلك إبراهيم(عليه السلام) وموسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام)، وهذا الترتيب بسبب أن نوحاً كان هو الباديء والفاتح، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.
5 ـ من الضروري أيضاً أن نشير إلى هذه الملاحظة، وهي أن القرآن يستخدم عبارة: (أوحينا إليك) بخصوص نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الأخرين، وقد يكون هذا الإختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأُخرى.
6 ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤهلات الذاتية للرسل الإلهيين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.
2 ـ هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية 213 من سورة البقرة.
[489]
أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.
جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(1).
وقد ورد هذا الإحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة، وهو أن (الإجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.
وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفرق في الدين، فقد كانوا يدعون لذلك حتماً، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كلّ هذه الإختلافات المذهبية؟
وقد أجابت الآية الأُخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الإختلافات الدينية بأنّه: (وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، فالإختلافات لم تحدث إلاّ بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.
نعم، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعاً، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية، ويكشفوا ـ علانيةً ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.
وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والإنحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.
«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معاً لزرع هذه الإختلافات.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، ص 157 (نهاية الآيات التي نبحثها).
[490]
وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأن الدين أوجد الإختلاف بين البشر، وأدى ألى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائماً هو أساس للوحدة والإتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الإختلافات وأصبحوا أُمة واحدة).
إلاّ أن السياسات الإستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس، وحرضت على الإختلافات، وكانت أساساً لإراقة الدماء، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيراً آخر في إيجاد الفرقة، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضاً.
«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي، يعني (طلب التجاوز والإنحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا، وتختلف كميته وكيفيته، ولهذا السبب فغالباً ما يستخدم بمعنى الظلم.
وأحياناً يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمراً جيداً ومرغوباً.
لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين: (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.
ثم يضيف القرآن الكريم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.
نعم، فالدنيا هي محل الإختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الإختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.
[491]
أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني، لذا لم يسطيعوا إدراك الحق بشكل جيد، حيث تقول: (وإن الذين اورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)(1).
وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيراً بعد أن يزال الستار عنه، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأدلة الواضحة، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلاّب الحق.
...............................
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَالْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِـمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)
.................................
نقلا عن التفسير الامثل
التّفسير
تشير هذه الآية إِلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.
وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافاً كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: (وأنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ مصدقاً
[26]
لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...).
فالقرآن بالإِضافة إِلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل ـ أيضاً ـ على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.
إِنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادىء والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإِنسان والسمو به إِلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإِنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإِنسان إِلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإِنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً، والإِتيان بعبارة: (مهيمناً عليه) بعد جملة (مصدقاً لما بين يديه) يدل على هذه الحقيقة، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.
ثمّ تؤكّد على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقاً من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول (فاحكم بينهم بما أنزل الله ...).
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدلّ على شمولية أحكام الإِسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأُخرى، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم، لأنّ هذه الآية ترشد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إِن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إِلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.
ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإِلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: (ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ ...).
ولأجل اكمال البحث تشير الآية إِلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام
[27]
للحياة يهديها إِلى السبيل الواضح، حيث تقول: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ...).
وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إِلى الماء وينتهي به، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإِنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.
نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و«المنهاج» هو أنّ الاُولى تطلق على كل ما ورد في القرآن، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سُنّة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) (وهذا الفرق مع كونه جميلا، إلاّ أنّنا لا نملك دليلا جازماً لتأييده)(1).
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أُمّة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: (ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ...).
وجملة (ليبلوكم فيما آتاكم ...) إِشارة إِلى ما قلناه سابقاً من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الإِختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء، فعندما يطوي بنو الإِنسان مرحلة معينة، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أُخرى على يد نبي آخر، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و«الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمباديء الأُخرى المشتركة بين جميع الديانات، لذلك يكون الدين واحداً في كل الأحوال والأزمنه، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحياناً بين ديانة وأُخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضاً ـ دليلا واضحاً يؤيد هذا القول، لأن هاتين الكلمتين أستخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.
[28]
بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إِلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الإِختلاف والتناحر، حيث تقول: (فاستبقوا الخيرات) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إِلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: (إِلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
..................................
الآيتان
شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الَّدِينَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ( 13 ) وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بِغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَـبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب( 14 )
التّفسير من الامثل
الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء:
بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم، وليس أصل التوحيد فحسب، بل إن جميع دعوات الأنبياء في
[486]
القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.
تقول الآية: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.
وأيضاً: (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى).
وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً و«ما يمتلكه الصالحون جميعاً تملكه لوحدك».
إن عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.
لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اُخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.
فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء، أنّ أوّل دعوة لهم كانت: (يا قوم اعبدوا الله)(1).
وفي مكان آخر نقرأ: (ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولا أن اعبدوا الله).
وأيضاً فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام 130، الأعراف 59، الشعراء 135، طه 15، مريم 31).
أمّا موسى وعيسى وشعيب(عليه السلام) فيتحدثون عن الصلاة (طه 14، مريم 31، هود 87).
وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج 27).
وكان الصوم مشرّعاً عند جميع الأقوام السابقين (البقرة 183).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ الأعراف (59، 65، 73، 85) هود (50، 61، 84) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح، هود وصالح(عليهم السلام) .
[487]
لذا، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأُخرى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
فهي توصي بأمرين مهمّين:
الأوّل: إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب، بل إقامته وإحياؤه ونشره).
الثّاني: الإحتراز عن البلاء العظيم، يعني الفرقة والنفاق في الدين.
وبعد ذلك تقول: (كبر على المشركين ماتدعوهم إليه).
فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.
وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب).
* * *
ملاحظات
وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الإنتباه إليها:
1 ـ (شَرَع) من كلمة (شَرْع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.
وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة، لذا فإنّ لهذا المصطلح
[488]
تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري(1).
2 ـ لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام) لأن هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم، أيّ أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.
3 ـ في البداية ذكرت الآية نوحاً، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والإجتماعية) نزلت عن طريقه، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه(2).
ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوح (عليه السلام).
4 ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة، تمّ ذكر نوح(عليه السلام)في البداية ثمّ نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ذلك إبراهيم(عليه السلام) وموسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام)، وهذا الترتيب بسبب أن نوحاً كان هو الباديء والفاتح، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.
5 ـ من الضروري أيضاً أن نشير إلى هذه الملاحظة، وهي أن القرآن يستخدم عبارة: (أوحينا إليك) بخصوص نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الأخرين، وقد يكون هذا الإختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأُخرى.
6 ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤهلات الذاتية للرسل الإلهيين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.
2 ـ هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية 213 من سورة البقرة.
[489]
أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.
جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(1).
وقد ورد هذا الإحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة، وهو أن (الإجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.
وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفرق في الدين، فقد كانوا يدعون لذلك حتماً، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كلّ هذه الإختلافات المذهبية؟
وقد أجابت الآية الأُخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الإختلافات الدينية بأنّه: (وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، فالإختلافات لم تحدث إلاّ بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.
نعم، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعاً، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية، ويكشفوا ـ علانيةً ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.
وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والإنحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.
«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معاً لزرع هذه الإختلافات.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، ص 157 (نهاية الآيات التي نبحثها).
[490]
وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأن الدين أوجد الإختلاف بين البشر، وأدى ألى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائماً هو أساس للوحدة والإتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الإختلافات وأصبحوا أُمة واحدة).
إلاّ أن السياسات الإستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس، وحرضت على الإختلافات، وكانت أساساً لإراقة الدماء، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيراً آخر في إيجاد الفرقة، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضاً.
«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي، يعني (طلب التجاوز والإنحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا، وتختلف كميته وكيفيته، ولهذا السبب فغالباً ما يستخدم بمعنى الظلم.
وأحياناً يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمراً جيداً ومرغوباً.
لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين: (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.
ثم يضيف القرآن الكريم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.
نعم، فالدنيا هي محل الإختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الإختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.
[491]
أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني، لذا لم يسطيعوا إدراك الحق بشكل جيد، حيث تقول: (وإن الذين اورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)(1).
وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيراً بعد أن يزال الستار عنه، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأدلة الواضحة، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلاّب الحق.
...............................
تعليق