بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في بحثنا السابق والمعنون بـ "النفس وأنفسها" كنّا قد تناولنا البحث والتدبر في شؤون أجزاء النفس الانسانية الأربعة والنفس الالهية الكلية والعقل الكل، وفي هذا البحث سنتناول ان شاء الله طريقة تشكل النفس الإنسانية الثلاثية الأنفس وعلاقتها بنفسها العليا الثلاثينية وعلاقتهم بالنفس الإلهية الكلية وكيفيّة التجلي وعلاقة الجميع بالعقل من خلال روايات قد تناولنا بعضها سابقا في بحوث متعددة سابقة بالفحص وإمعان التّدبّر فيها،
وفي هذا البحث ولصعوبة تصوره وفهمه بالصورة الكاملة التي نريد إيصالها فسنبتدء به من الآخر، أي سنبتدء به من الصورة النهائية التي نريد أن نصل لها من هذا البحث،
ولذلك فإننا أول ما سنبتدء به هذا البحث هو ترتيب مستويات الوعي الكوني كما نتصورها، ابتداءا من العقل ثم النفس الالهية الكلية والتي هي ثاني أعلى مستوى من مستويات الوعي، وصولا إلى أدنى مستوى من مستويات الوعي، وهي على الترتيب التالي من الأعلى للأدنى :
1- النفس الإلهية الكلية/ قوة لاهوتية
2- النفس العليا الثلاثينية/ وعقلها قوة لاهوتية
3- النفس الناطقة القدسية/ وعقلها قوة لاهوتية
4- النفس الحسية الحيوانية/ وعقلها ملكوتي أو فيزيائي لا مادي
5- الإعتقادات
6- العواطف
7- الأفكار
8- النفس النامية النباتية/ وعقلها مادي
9- التوافق الجماعي بين الأنفس العليا في عالم الأرواح على تفاصيل الأحداث وظروف عالم التجلي في الحياة الدنيا
أمّا العقل فهو وسط الكل، والكل وسطه، فهو متداخل معها لا بممازجة وخارج عنها لا بمزايلة
ومن البحوث والروايات الشريفة في البحوث السابقة كان قد تبين لنا أن المستويات الثلاثة في هذا الترتيب هي مستويات خالدة خلود العقل ولا يصيبها الموت أو الفناء، ونقصد بتلك المستويات :
1- النفس الإلهية الكلية
2- والنفس العليا الثلاثينية
3- والنفس الناطقة القدسية
فهذه النفوس الثلاثة لا يصيبها لا الموت ولا الفناء الا بالمشيئة الالهية العليا وحينها لن يبقى الا نفس المشيئة، وهي وجه الله الذي منه يؤتى، وهو العقل
وأدنى تلك المستويات الثلاثة الخالدة منزلة هي النفس الناطقة القدسية، فهي كما قالت الآية والروايات أنها لا تموت ولا تفنى ولا تتحلل، بل ترجع وتجاور، وهي مجمع جميع القوى العقلية الفردية، بل هي العقل الفردي، أو بتعبير آخر هي العقل الجزئي، ولهذه الصفة بالذات وصفها أمير المؤمنين سلام الله عليه أنها هي الأقرب شبها من النفوس الثلاثة (النامية والحسية والناطقة) للنفوس الملكية، أو للمستويين الاول والثاني، فكلاهما أيضا عقليان، لكن بدرجتين، فاضل ومفضول
ووجدنا في بحثنا السابق "النفس وأنفسها" أن مواد فعل النفس الناطقة القدسية هي التأييدات العقلية، وبتعبير آخر نفهم أن مواد الفعل هي المحرك الخفي والدافع الرئيسي للنفس الناطقة القدسية للحركة والاختيار، وحينها ستعيشها عمليا ((أي ستعيش التأييدات العقلية عمليا)) فتستشعر بتلك المعايشة نتائج اختياراتها حضوريا من خلال النفسين الحسية الحيوانية والنامية النباتية
وأن هذه التأييدات العقلية او هذه المفاهيم العقلية هي بمثابة البذور التي ستزرعها النفس العليا الثلاثينية في النفس الناطقة القدسية في كل دورة حياة جديدة ستخوضها، فعلى أساسها ستبدء النفس الناطقة القدسية باختيار طريقها أو باختيار اختياراتها التي تريد معايشتها من كتاب المعارف الدينية الحقيقية، أي من الكتاب التكويني، والذي به ومن خلال استخدامها للنامية النباتية والحسية الحيوانية ستتفاعل مع بقية النفوس من خلال استشعارها لجميع ما ومن هم حولها من خلالهما، واستشعارهم بدورهم لأنفسهم ولها من خلال أنفسهم النامية النباتية والحسية الحيوانية،
ونزيد الآن أن تلك التأييدات أو المفاهيم العقلية هي نفسها تلك التي أطلقنا عليها في الترتيب السابق "الاعتقادات"، ولذلك فإننا قد جعلنا ترتيبها بعد النفس الحسية الحيوانية، فالنفس العليا الثلاثينية عندما تريد أن تتجلى بشخصية إنسانية جديدة في عالم التجلي فإنها أول ما ستفعله ستقوم وبالاتفاق مع الناطقة القدسية باختيار نوع الاعتقادات أو المفاهيم العقلية الآتي تريدان أن تختبرا نتائجها حضوريا وأن تتذوقا نتائجها سوية
ومن أجل ذلك الهدف سيقومان بالاتفاق بينهما على نوع ونسب تلك المفاهيم العقلية أو نوع ونسب تلك العقائد، ثم ستقوم النفس العليا الثلاثينية بغرسها في النفس الناطقة القدسية وتغطية ذاكرتها السابقة، وعلى أساس تلك الاعتقادات التي غُرست في صميم النفس الناطقة القدسية ستتولد بها لاحقا دوافع جميع الاختيارات وجميع المسارات التي ستسلكها في الكتاب الكويني،
وستحدد تلك الاعتقادات بالتالي جميع أنواع المواقف الانسانية التي ستختار النفس الناطقة القدسية المرور بها وتصورها، وبالتالي اختبار وتذوق جميع أنواع العواطف والمشاعر التي ستتحسسها النفس الحسية الحيوانية بعقلها الفيزيائي أو بعقلها الملكوتي من خلال تلك المواقف التي ستمر بها، وكذلك ستختبر بسببها جميع أنواع الأفكار التي ستدور في العقل المادي للنفس النامية النباتية
فتلك التأييدات العقلية أو تلك العقائد التي غرزتها النفس العليا الثلاثينية منذ البدء في صميم النفس الناطقة القدسية، ستكون هي بالفعل المحرك الرئيسي لجميع أفعالها واختياراتها، وهي المسبب الرئيسي لجميع أنواع عواطفها وأفكارها المستقبلية في دورة حياتها الدنيوية من بدئها حتى نهايتها، بل انها ستستمر بهذه الصفة بعد ذلك أيضا في العوالم البرزخية
أمّا المستوى التاسع وهو الذي أطلقنا عليه:
" التوافق الجماعي بين الأنفس العليا في عالم الأرواح على تفاصيل الأحداث وظروف عالم التجلي في الحياة الدنيا"
فهذا يعتبر من مكونات وأساسيات النفس النامية النباتية، ولكنه جزء مستتر في عقلها المادي ويعمل بشكل تلقائي بدون الحاجة للتفكير به مع كل حركة أو مع كل اختيار، مثل جميع القوانين الفيزيائية التي تحكم عالم التجلي، والذي اتفقت الأنفس العليا عليها بكل تفاصيلها قبل بدئهم لعملية التجلي فيه، مثل مبدء الجاذبية والحرارة والرطوبة والاتجاهات والاصوات والاضواء والالوان، وغير ذلك
فكل ذلك سيتم الاتفاق عليه بكل تفاصيله، ثمّ يخزّن في العقل المادي فيكون حينها كاللوحة الخلفية التي ستنطبع عليها جميع التصورات العقلية التي سيختارها عقل النفس الناطقة القدسية أولا من بحر العلوم الدينية الحقيقية ثم يبثها نحو النفس النامية النباتة فيستقبلها عقلها المادي ((المخ)) عن طريق هوائياته الثمانية
الغدة الصنوبرية وهوائياتها الثمانية 1

طبعا الأنفس العليا لكي تستطيع القيام بهذه الترتيبات والاتفاقات المهيئة لعملية التجلي فإنها تستسقي جميع تلك التفاصيل من العلوم الدينية الحقيقية في الكتاب التكويني الذي كتب به الله تبارك وتعالى المعنى المعبود منذ البدء جميع التفاصيل والاحتمالات والصور التكوينية الممكنة،
ونستطيع هنا أن نقول أن تأييدات الأنفس العليا العقلية تختلف نوعيتها عن التأييدات العقلية للنفوس الناطقة القدسية، وأن نوع المعارف الدينية الحقيقية التي يحتاجونها لتحقيق كمالهم يختلف عن نوع المعارف الدينية الحقيقية التي ستحقق النفوس الناطقة القدسية كمالها بها، وكذلك أن أفعالهم الربانية تختلف عن أفعال النفوس الناطقة القدسية الربانية
فلكل حادث حديث، ولكل مقام مقال، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
وهذا هو وصف مختصر لمقدمة هذا البحث، وسنورد إن شاء الله في طيّات البحث ما سيتيسر لنا معرفته وفهمه من الآيات الكريمة وما تمكنا من الاطلاع عليه من الروايات الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين والمؤيدة لهذه الصورة الكونية التي ترى أن كل نفس انسانية هي عبارة عن مشكاة عقلية ومصباح وزجاجة ووقودها من بحر العلوم الدينية الحقيقية، أي من الكتاب التكويني الذي كتب الله تبارك وتعالى به منذ البدء ما كان وما يكون الى انقضاء الساعة.
ولا يسعنا المقام هنا ونحن نتكلم عن التجليات النورية إلا أن نبتدء الكلام عن نور التجلي نفسه قبل تجلياته، ومن أجل ذلك سنبتدء بتدبر بسيط للآية الخامسة والثلاثون من سورة النور المباركة
بِسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
صدق الله العلي العظيم
فهذه الآية الكريمة وصفت مَثَل النور بأوصاف مفادها بأنه واحد متكثّـر وأنه بنفس الوقت متكثّـر واحد
فهو نور مخلوق واحد، لكنه أجزاء متعددة في نفس الوقت، وأجزائه هي:
1- المشكاة
2- المصباح
3- الزجاجة كأنها كوكب دري
4- الشجرة المباركة
5- الزيت الذي يكاد أن يضيء ولو لم تمسسه نار
فمَثَل نوره هو إذن خمسة أجزاء متوحّدة في كيان واحد هو مَثَل النور الذي لا يسبق أوله أوسطه أو آخره، ولا يسبق أخره أوسطه أو أوله، ومن هذه الصفة يمكن القول أنه هو الواحد المتكثر وأنه هو المتكثر الواحد، وأنّ كبير علماء اليهود أو رأس الجالوت في الرواية التالية كان يسأل الإمام الرضا عليه السلام عن نور السماوات والأرض، عن العقل الذي خلقه الله أول ما خلق وبه رؤوس بعدد الخلائق،
فقد روي:
أنه رأس الجالوت سأل الرضا عليه السلام بأن قال: يا مولاي، ما الكفر والإيمان؟
وما الكفران؟
وما الجنة والنيران؟
وما الشيطانان اللذان كلاهما المرجوان؟
وقد نطق كلام الرحمن بما قلت حيث قال في سورة الرحمن: *(خلق الإنسان علمه البيان).
فلما سمع الرضا عليه السلام كلامه لم يحر جوابا، ونكت بأصبعه الأرض، وأطرق مليا، فلما رأى رأس الجالوت سكوته عليه السلام حمله على عيه وشجعته نفسه لسؤال آخر.
فقال: يا رئيس المسلمين، ما الواحد المتكثر، والمتكثر المتوحد، والموجد الموجد، والجاري المنجمد، والناقص الزائد؟
فلما سمع الرضا عليه السلام كلامه، ورأى تسويل نفسه له، قال: (أيش تقول يا بن أبيه، وممن تقول، ولمن تقول؟!
بينما أنت أنت صرنا نحن نحن، فهذا جواب موجز.
وأما الجواب المفصل فأقول: إعلم إن كنت الداري والحمد لله الباري:
أنّ الكفر كفران، كفر بالله وكفر بالشيطان،
وهما السيان المقبولان المردودان،
أحدهما الجنة وللآخر النيران،
وهما اللذان المتفقان المختلفان،
وهما المرجوان،
ونص به الرحمن حيث قال: *(مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) ويعلم قولنا من كان من سنخ الإنسان، وبما قلنا ظهر جواب باقي سؤالاتك والحمد لله الرحمن، والصلاة على رسوله المبعوث إلى الإنس والجان، ولعنة الله على الشيطان).
فلما سمع رأس الجالوت كلامه عليه السلام بهت وتحير وشهق شهقة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك ولي الله، ووصي رسوله، ومعدن علمه حقا حقا. إنتهى
وقد قلنا سابقا واعتمادا على فهمنا للروايات الشريفة التي تدبرنا معانيها سويا أن هذا النور هو نفسه المشيئة التي خلقها الله تبارك وتعالى وخلق الأشياء بها، وأنه هو نفسه العقل الذي خلقه الله تبارك وتعالى ملك له رؤوس بعدد الخلائق، وأنه هو نفسه الذي يتوسط الكل، وأنه هو نفسه الاسم الذي خلقه ثم جعله كلمة تامة على ثلاثة اسماء، وأنه وأنه وأنه ووووو
فهذا النور أو هذا الواحد المتكثر هو نفسه الاسم، وهو نفسه كلمة الإسم التي تجلّي بها الله المعنى المعبود، وهو نفسه العقل الكلّي الذي له رؤوس بعدد الخلائق، وهذا المعنى توجد الكثير من الشواهد الروائية الولائية الدالة عليه، مثل روايات النور الآول وما صدر عنه أو كيف انقسم لقسمين أو كيف انقسم لاقسام متعددة أو كيف أن منه صدر كل جميل، وكذلك مثل رواية العقل الكلي وعقوله الجزئية ورواية الاسم وكلمته وأركانه واسماء أفعال أركانه، ورواية أنه تبارك وتعالى خلق الحروف قبل الخلائق، واللآئحة تطول وتطول، وتطول
ولست هنا بمحل تعديد وتسطير الروايات الشريفة التي تتكلم عن علو شرف هذا النوار وعن تعدد مراتب هذا النور وعن بدء هذا النور وانقسامه، فهي أكثر من أن تحصى في موضوع واحد، وأشهر من أن أحاول أن أبينها أو أن أستدل على وجودها، ولكنها جميعها تشدد على أن البداية كانت بشيء واحد بسيط، ثم أن هذا الواحد البسيط تكثّر وتكثّرت معه كثراته حتى ظهر الوجود كما نعرف صورته ونراها اليوم
وهذا النور من حيث أنه هو نفسه العقل كما بيّـنّا من الروايات، فهو إذن هو الذي هو وسط الكل،
وهو نور متكون من خمسة مستويات وعي نورية متطابقة، وهذا هو معنى انه ((نُّورٌ عَلَى نُورٍ))
والآية الكريمة تقول لنا كذلك أن الإهتداء لصاحب النور ((الله)) غير ممكن نهائيا، وذلك حين بينت لنا أن قمة الهداية أو قمة المعرفة الممكنة هي الاهتداء لنوره، وذلك من قوله تعالى ((يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء))
وهذا الموضوع يدور بمجمله حول محاولة فهم هذا النور من خلال الايات الكريمة والروايات الشريفة، ومعرفة كيفية تحوله من نور الى سماوات وأرض وما بينهما، وكذلك من أجل معرفة معنى السماوات والأرض حين نقول أن كل نفس إنسانية هي عبارة عن مشكاة ومصباح وزجاجة كأنها كوكب دري، أو حين نقول أن العالم الأكبر انطوى بسماواته وأرضه في كل نفس إنسانية، أو أن خارج وعي كل إنسان لا يوجد شيء اسمه خارج، وأنه لا يوجد سماوات وأرض خارج وعينا كما نتصورها،
وأن العالم مخلوق فينا لا أننا نحن المخلوقون في العالم، وأن الله يدير عملية الخلق من داخل وجود كل انسان منّا لا من خارجه، ولمعرفة كيف انه أقرب إلينا من حبل الوريد، ومعرفة كيف من الممكن أن يقول إنسان انه هو فلان وفلان وفلان وفلان وفلان وبين كل شخصية منها والاخرى زمن طويل جدا
وعلاقة إمكانية تحقق ذلك بالجزء الإنساني الخالد وهو النفس الناطقة القدسية التي لا تموت ولا تفنى بل انها ترجع وتجاور نفسها العليا بعد أن تتحلل النفس النباتية لما منه بدت، ورجوع قوى النفس الحيوانية إليها، فترجع هي بدورها حينها لنفسها العليا التي تستطيع بالتراضي والاتفاق معها أن توضّفها مرة أخرى وأخرى وأخرى وأخرى وووووو، في عوالم مختلفة مكانيا وزمانيا أو متوازية زمانيا ومكانيا، وفي كل مرة منها قد تكون بصورة وشخصية أخرى، وبإسم آخر، وبين قوم آخرين،
وهنا لا يوجد تناسخ في الأرواح أو حلول ارواح بأجساد غيرها، فكل نفس ناطقة قدسية هي التي تخلق بالتعاون مع نفسها العليا الثلاثينية جزئيها الآخرين، لتعيش بهما ومن خلالهما حضوريا أي تجربة حياتية تريد أن تخوضها وتعيشها
وقبل أن نبدء البحث في تفاصيل المستويات التسعة سأعيد إدراجها مرة أخرى، وقبلها توضيح أن قولي أنها مستويات وعي تسعة لا يعني عدم وجود مستويات وعي أخرى، بل ان هذه المستويات التسعة هي المؤثرة المباشرة في بناء الشخصية الفردية لكل نفس انسانية، بينما المستويات الأخرى لها علاقة بها من حيث العطاء والامداد كما والشعور بما ستشعر به كذلك،
تماما كدور الجذع والفرع في الشجرة بحياة الورقة، فالمسؤول المباشر القريب عن الورقة هو الغصن فهي (الورقة) تأخذ منه (الغصن) بشكل مباشر ومن الشمس، وهي (الورقة) تتبادل معه (الغصن) أيضا بشكل مباشر ما تأخذه من الشمس،
فعلاقتها محصورة بالغصن رغم أن الجذع والفرع هما الذان يمدانها هي والغصن بكل ما يحتاجانه للبقاء والنمو مما يأخذه الجذع ابتداءا من الجذور المتصلة بالأرض ويمده بها بعد ذلك، ليستطعمان بعد ذلك ما ستأخذه الورقة من نور الشمس وتحوله لمواد تستطعمها هي أولا ويستطعمها الغصن من بعدها، وهما ((الفرع والجذع)) معهما
المهم أنه توجد مستويات وعي كثيرة تماما كما توجد بالشجرة فروع وأغصان وأوراق كثيرة، لكن جميع تلك الفروع والأغصان والأوراق لا علاقة لها بما تتحسسه ورقة معينة موجودة على غصن معين مرتبط بفرع معين،
وهكذا هي شجرة الوجود مثل هذه الشجرة الأرضية التي نعرفها ونراها والتي أصلها واحد يأخذ بواسطة الجذور من الأرض ما يشائه ويحتاجه من الماء والغذاء، ويحصل من السماء بواسطة الأوراق على ما تجود به الشمس عليها من نورها وعلى ما يسبح فيها من هوائها
وهكذا هي شجرة الوجود النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية فجذورها ضاربة في العقل ((القوة اللاهوتية)) فتستمد منه جميع ما تحتاجه من القوة اللاهوتية التي هي مصدر وابتداء الطبايع الاربع وأصل كل المعارف الدينية الحقيقة وكل التأييدات العقلية وكل الأفعال الربانية وووو
المهم أنني أردت توضيح أنه في شجرة الوجود توجد مستويات عديدة للوعي نحن هنا لن نبحث فيها جميعها، بل سنبحث فقط في تلك المستويات التي لها علاقة مباشرة بتكوين الوعي الإنساني إنسانيته ووجوده، وقلنا أن تلك المستويات هي تسعة مستويات وهي:
1- النفس الإلهية الكلية
2- النفس العليا الثلاثينية
3- النفس الناطقة القدسية
4- النفس الحسية الحيوانية
5- الإعتقادات
6- العواطف
7- الأفكار
8- النفس النامية النباتية
9- التوافق الجماعي بين الأنفس العليا في عالم الأرواح على تفاصيل الأحداث وظروف عالم التجلي في الحياة الدنيا
وقلنا أن العقل هو وسط الكل، وأن الكل وسطه، وأنه متداخل معها لا بممازجة وخارج عنها لا بمزايلة، فهو بهذا ليس مستوى من مستويات الوعي بل هو الذي أوجد تلك المستويات الواعية وعدّدها وسوّاها على صورها وأعطى لها خواصها وحدّد لها حدودها، وجعل لكل مستوى واعي منها قدر معلوم لا يحتمل أكثر منه ((فسالت أودية بقدرها))
وحيث أننا قد سبق وبحثنا في مستويات الوعي الأربعة الأولى والمستوى الثامن أيضا، أي أننا قد بحثنا سابقا في بحثنا المعنون "النفس وأنفسها" في النفس الإلهية الكلية، والنفس العليا الثلاثينية، والنفس الناطقة القدسية، والنفس الحسية الحيوانية، والنفس النامية النباتية، فإننا هنا لن نعيد البحث فيهم مرة أخرى بشكل مفصل، بل ربما بشكل عرضي في ثنايا البحث وفقط بما يتعلق بارتباطها ببقية المستويات الأربعة وهي: الإعتقادات، والعواطف، والأفكار، والتوافق الجماعي بين الأنفس العليا في عالم الأرواح على تفاصيل الأحداث وظروف عالم التجلي في الحياة الدنيا
والمطلوب إنتاجه من هذه المستويات الأربعة هو شيء واحد فقط، ألا وهو المشاعر، فكما قلنا من قبل أن الله تبارك وتعالى المعنى المعبود عندما خلق النور أو خلق العقل الكل وأوجد به منذ البدء جميع الإحتمالات الوجودية كاملة غير منقوصة وبلا نهاية فهو إنما أوجدها لكي يَعْرِفَ نفسه معرفة حضورية،
وهو قد عرف نفسه بهذه المشيئة التكوينية (بين الكاف والنون) معرفة حضورية بكل المشاعر الممكنة، معرفة حضورية بكل الوجوه والإحتمالات، وعلى شكل كن فيكون،
وهو نعم يعرف نفسه بدون نوره لكن ليس حضوريا، لكنه بنوره عرف نفسه معرفة حضورية وبكل الصور والاحتمالات والمشاعر اللانهائية والممكنة
ونوره هنا لا يعني وجود غيره تبارك وتعالى معه لنقول أنه احتاج لغيره
فنوره هو مشيئته وهو الاسم المخلوق الذي نُهينا أن نعبده مع أو بدون المعنى الذي يدل عليه
ومشيئته هي التي يقال عنها أنها أمر بين أمرين، لأنها من صفات الذات ومن صفات الفعل كذلك، فهي كإسم مخلوق غير معبود ممسوس بالله المعنى المعبود من جهة، و من الجهة الثانية هو ممسوس بالكلمة التامة التي جعلها على أربعة أسماء
ومشيئته (إسمه) هي إرادته لما شاء،
وإرادته هي تقديره لما أراده،
وتقديره هو قضائه لما قدّر،
وقضائه هو إمضائه لما قضاه
وكما قلنا من قبل فإن كل ذلك هو نوره وليس شيء غيره ليقال أن الله لا يحتاج لأحد أو لشيء فكيف تقول ما قلت، فهو قد عرف ذاته بذاته، أي عرف ذاته بنوره، فالغاية من خلقه لنوره هو لكي يعرف ذاته، ويعرف ذاته تعني أن يعرف ذاته معرفة حضورية بكل الصور والمشاعر الممكنة فلا يشذ عنها أيّ صورة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، أو مشعر ظاهر أو خفيّ، فلا يبقى أي صورة أو شعور منها الا ويعلم بها ويشعر بها جميعها حضوريا،
كل الصور وكل المشاعر وكل الأفكار يعرفها بنوره حضوريا، كلها دفعة واحدة، تماما كما تفعل الشجرة، فهي تشعر بجميع ما تشعر به وما تفعله جميع الفروع والأغصان والأوراق مجتمعة ودفعة واحدة
فالمطلوب إذن من زرع العقائد والعواطف المنتجة للأفكار في النفوس الناطقة القدسية، ومن الاتفاق الجماعي بين الأرواح العليا، هو إخراج جميع أنواع المشاعر من حالة الكمون والإمكان الى حالة الظهور والجلاء، فتتحقق بذلك الغاية الأصلية من الخلق بشكل عام، ألا وهي إظهار جميع أنواع المشاعر الممكنة وبكل صورها بلا استثناء، مهما كانت تلك الصور بشعة أو قاسية
وعملية الاتفاق الجماعي هذه بين الأرواح العليا على إبراز تلك المشاعر تقول لنا أن نفس تلك الأرواح تجد متعة بتحسس تلك المشاعر مهما كانت قسوتها أو بشاعتها ولذلك فهي قد قامت بتصميم صور الأحداث بتلك الطريقة التي نعيشها اليوم، فجميع صور الابتلآآت بأنواعها هي لكي تعلم تلك الآرواح العليا حضوريا أخبارنا ومشاعرنا كلها
فمع كل صورة بلاء شدة أو صورة بلاء رخاء سينوجد هناك معها نوع جديد من المشاعر والأفكار التي تريد وترغب أنفسنا العليا أن تتحسسها وتشعر بها مهما كانت نوعها وبلا استثناء، وأنفسها العليا ستستشعر معها بتلك المشاعر وبنفس القوة، والتي بدورها سترفعها لأنفس هي أعلى منها شرفا ومكانة ومنزلة فتستشعرها معها وبنفس القوة أيضا، وهكذا صعودا حتى تصل جميع تلك المشاعر من جميع العوالم ومن جميع الإنفس القدسية والعليا بجميع شجرة الوجود للنفس الإلهية الكلية،
والعقل وسط الكل، فهو من ينتجها مع ومن خلال من يعتقدون أنهم هم من بالاسباب ينتجونها، وهو كذلك يستشعرها مع ومن خلال من يعتقدون أنهم هم من بالاسباب يستشعرونها
قلنا قبل قليل أن المطلوب من زرع العقائد والعواطف المنتجة للأفكار في النفوس الناطقة القدسية هو إخراج جميع أنواع المشاعر من حالة الكمون والإمكان الى حالة الظهور والجلاء، فأين نجد من القرآن الكريم ما يثبت أو يشير إلى أن العقائد والعواطف يتم زرعها زرعا في النفوس، وإلى أن الهدف من هذه العملية هو إخراج جميع أنواع المشاعر من حالة الكمون والإمكان الى حالة الظهور والجلاء في عالم التجلي؟
أقول أننا سنجد هذا المعنى واضح في الآيات الشريفة التالية:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا () فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
ومن قوله تعالى:
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
ومن قوله تعالى:
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً
ومن قوله تعالى:
وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَ لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى
ومن قوله تعالى:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ
ومن قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ ءَ امَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّــلِحَـتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدًّا.
فجميع الآيات السابقة وغيرها تنبأنا أن من جعل تلك العواطف المختلفة في قلوب الناس تكوينيا هو الله جل جلاله والمجموعة الفاعلة، وهم يتحكمون من خلال ذلك الجعل التكويني بجذب ونفر الأفراد والجماعات من أو عن بعضهم البعض، لحكمة هم يعرفونها ولها علاقة رئيسية بالهدف الرئيسي من عملية الخلق والتجلي
أمّا من الروايات فاخترت لكم منها الروايات الشريفة التالية عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين:
روي انّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقبّل الحسن والحسين(عليهم السلام) فقال عُيَينة (وفي رواية الأقرع بن حابس) ـ لانّ تقبيل الولد لم يكن مألوفاً ويعتبر عملاً غير لائق بين العرب ـ : انّ لي عشرة ما قبّلت واحداً منهم قطّ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): من لا يَرحم لا يُرحم. وفي رواية: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى التَمع لونه وقال للرجل: انْ كان الله قد نزع الرحمة من قلبك فما أصنع بك؟
وعن رسول الله صلّى الله عليه و آله : الأَرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَما تَعارَفَ مِنهَا ائتَلَفَ ، وما تَناكَرَ مِنهَا اختَلَفَ.
وعن الإمام عليّ عليه السّلام : النُّفوسُ أشكالٌ ، فَما تَشاكَلَ مِنهَا اتَّفَقَ ، وَالنّاسُ إلى أشكالِهِم أميَلُ.
وعنه عليه السّلام : إنَّ النُّفوسَ إذا تَناسَبَتِ ايتَلَفَت.
وعنه عليه السّلام : إنَّ طِباعَكَ تَدعوكَ إلى ما ألِفتَهُ.
وعنه عليه السّلام : المَوَدَّةُ تَعاطُفُ القُلوبِ فِي ايتِلافِ الأَرواحِ.
عنه عليه السّلام : كُلُّ امرِىٍ يَميلُ إلى مِثلِهِ.
وعنه عليه السّلام : كُلُّ شَي ءٍ يَميلُ إلى جِنسِهِ.
وعنه عليه السّلام : كُلُّ طَيرٍ يَأوي إلى شَكلِهِ.
تعليق