بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على أشرف الأنبيــاء و المرسلـين، حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الطيبين الطاهرين المنتجبين، الهـداة المهديين.
و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من اليـوم إلى قيام يوم الـديـن.
عندما نريد أن نتكلم عن شخصية مرموقة في المجتمع، فإننا نحتاط في الحديث، لنتجنب إبخاس الشخص حقه المعلوم لدينا قدماً.
أما عندما يأتي عن شخصيات كأئمة المؤمنين، و سادة المتقين، و أنوار العارفين، فإننا لن نوفي شيئاً قط، لأننا لم نعرفهم المعرفة الحقيقية الواقعية، فمقام الإمام لدينا غير معلوم، و لن نأتي و نقول هذا حقه و هذا مقامه.
و في هذا ردّ على المتهمين للشيعة بالغلو.
الغلو معناه مجاوزة الحدّ، و إذا قلنا أنه مجاوزة الحد، إذن يجب أن نصل إلى الحد أولاً ثم نتجاوزه، و لنسأل: هل وصلنا إلى الحد؟ هل عرفنا هذا الحد، هل عرفنا مقام الإمام المعصوم عليه السلام؟ طبعاً لا، و أنت تقرأ في الدعاء: ( ... اللهم عرّفني حجتك )، و تقرأ في كلام للسلطان علي ابن موسى الرضا عليه السلام في وصف الإمام:
(وكيف يُوصف أو يُنعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه, لا وكيف وأنّى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين؟ فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ ).
و تكفيك: ( و أين العقـول عن هـذا؟ ).
فإذا لم نصل إلى الحد فكيف نتجاوزه؟!!
قلنا أنه يصعب علينا الحديث، فإن الفكر ليعجز والخواطر لتتصادم والقلم ليتقهقر والفؤاد ليعتصر حين الكتابة عن إمامنا و سيدنا و مقتدانا علي ابن الحسين صلوات الله و سلامه عليهما. و لكن من باب الميسور لا يسقط بالمعسور، ألمّح لإشارات يستهدي بها السالك من بعيد لنورها الأخّاذ من حياة سيّد السـاجدين و زين العـابدين عليه السلام.
الإشارة الأولى:
السجـــود
روي عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: « السجود منتهى العبادة من بني آدم ».
منتهى العبادة، يالها من كلمة، هل ذلك يعني أن في السجود غاية ما يبلغ المرء في العبادة؟!
السجود هو موضع الدعاء وطلب الحاجات، ويعدّ غاية في الخضوع والتذلل والاستكانة.
و العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار.
و في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: « ما خسر والله قطُّ من أتى بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه، غافلاً لاهياً عما أعدّ الله تعالى للساجدين من البشر العاجل، وراحة الآجل، ولا بَعُدَ عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود.. ».
ومن أسرار حركات السجود: من الهوي إلى الاَرض، ثم استقرار الجبهة عليها، ثم رفع الرأس، ثم العودة إليها، ثم الرفع منها ثانية ـ استحضار دورة حياة الانسان كلّها منذ نشأته الاُولى من مادة الاَرض، وتكونه إنساناً يدبّ عليها، ثمّ عودته فيها بعد موته، ثم خروجه منها يوم البعث والنشور.
وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام أطراف هذا المشهد في جوابه العجيب عن سؤال سائل سأله، قائلاً: يا بن عم خير خلق الله، ما معنى السجدة الاُولى؟ فقال عليه السلام: « تأويله اللهم إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الاَرض ـ ورفع رأسك: ومنها أخرجتنا، والسجدة الثانية: وإليها تُعيدنا، ورفع رأسك من الثانية: ومنها تخرجنا تارة اُخرى..».
فمن عثر على سر الصلاة يقف على مواقف القيامة ويراها كأنّها قامت وتدعو نارها من أعرض وتولى، فيجدُّ ويجاهد ويجتهد في إخمادها، كما في المأثور عن الاِمام زين العابدين عليه السلام أنّ حريقاً وقع في بيته وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله، النار، يا بن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى طفئت. فقيل له ـ بعد فراغه: ما الذي ألهاك عنها؟
قال عليه السلام: « ألهاني عنها النار الاُخرى ». تأمّلوا في هذه الكلمة.
و كان عليه السلام ماذكر لله عزَّ وجلَّ نعمة عليه إلاّ سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله فيها سجدة إلاّ سجد، ولا دفع الله عنه شراً يخشاه أو كيد كائد إلاّ سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ سجد، ولا وفق لاصلاح بين اثنين إلاّ سجد، وكان كثير السجود، في جميع مواضع سجوده فسمي السجّـاد لذلك.
وعن الاِمام الباقر عليه السلام: « كان أبي في موضع سجوده آثار نابتة فكان يقطعها في السنة مرتين، في كلِّ مرة خمس ثفنات، فسمي ذو الثفنات ».
و الثفنات الغرّ في مساجده ......... أطواره السبعة في المشاهدة
و بعد هذا، فلنرجع إلى البداية: « السجود منتهى العبادة من بني آدم »، من بني آدم، و بنو آدم يتفاوتون، و في سجودهم كذلك، فما هي المقامات التي ينالونها في هذه الحال التي عبّر عنها الإمام بأنها منتهى العبادة من بني آدم؟ هل نتصور تلك المقامات؟ و هل نتصورها في سجود العلماء و العارفين؟ و هل نتصور شيئاً عندما يصل الكلام إلى سجود السجّاد صلوات الله عليه؟
الإشارة الثانية:
الدعــاء
يكتشف المرء خلال تأمّله في الصحيفة السجّادية سِفراً خالداً من التربية والتهذيب والتصدّي والدعوة إلى الاِصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله واستحضار قيم الدين وتفعيل مضامينه وبثّ الروح في مواعظه وإرشاداته.
يكتشف عمق العلاقة بين الإمام زين العابدين وربّه ، وكيف أنه غاص في أعماق النفس الإنسانية ، وراح يشدّ حبلها بحبل السماء الذي قطعته السياسة الأموية ، ومزّقت أوصاله تداعياتها ، وانحطاط رجالها وتهافتهم على الدنيا وحطامها..
و إن أردنا استعراض بعض الفقرات من هذه الصحيفة السجادية فإننا نعجز عن اختيار الفقرات، فكلها في مستوى واحد، مستوى يصعب علينا الإحاطة به.
إن أردنا استعراض بعض الفقرات المتضمنة للمضمون العقائدي، فلعلَّ أول ما يطالعنا في هذا السفر الخالد هو قدرة الامام زين العابدين عليه السلام الفائقة على تجسيد العلاقة بين العبد وربّه ، أو بين الخالق والمخلوق ، وباسلوب أدبي رفيع ومناجاة عذبة صادقة يصدق أن يُقال فيها ما قيل في أقوال جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق فعلاً..
يرسم الإمام لنا لوحةً اُخرى عن عظمة الخالق سبحانه ، وكيف أنّه جلَّ وعلا أكبر ، ولكنّه أكبر من أن يوصف ، وليس أكبر من كلِّ كبير و صغير ، فليس هناك كبير بالمقارنة:
فيقول عليه السلام : « الحمدُ لله الذي تجلّى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الاَبصار بالعزة ، واقتدر على الاَشياء بالقدرة ، فلا الاَبصار تثبُت لرؤيته ، ولا الاَوهام تبلغ كنه عظمته.. ».
أما توحيد الباري جلّ وعلا فإنّ الامام عليه السلام يصبّه في قالب دعاء يوجّه من خلاله الاِنسان بهدوء وبساطة إلى وحدانية الله تبارك وتعالى من خلال استقراء ظواهر طبيعية حسيّة هي مع الاِنسان في وجوده ، يحملها معه في كلِّ آن ، ولا يستغني عنها لحظة..
فيقول في ذلك : « إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ، فجهلوك وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به ، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك بل ساووك بخلقك، فمن ثمَّ لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربّاً، فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك ».
ماذا نقول عن هذه الكلمات؟
من يبحث عن البديع و البليغ في المقال، فليأتي وليغترف.
و أما في الجانب الأخلاقي، فلاشكّ أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجادية سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه السلام على طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه السلام قد ضرب أروع الاَمثلة في الخلق الاِسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصية الاِسلامية المثالية..
ففي هذا الدعاء ـ مثلاً ـ نلتقي بقوله عليه السلام وهو ينشدُّ إلى أعماق الاَرض ، بقدر انشداده إلى آفاق السماء ، ويغوص في عمق الاِنسان فيما هو غارق في عمق العرفان ، فنسمعه يقول :
« وأجرِ للناس على يدي الخير ، ولا تمحقه بالمنّ ، وهب لي معالي الاَخلاق ، واعصمني من الفخر. اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها.. » .
فالكلمات التي يعرضها الامام السجاد عليه السلام هنا ـ كما في غيرها ـ تعبّر تعبيراً دقيقاً عن منهج سلوكي عظيم غارقٍ في الشفافية والروح من جهة ، ومستغرقٍ في الفكر والواقع من جهة اُخرى ، فكما أنّه ارتباط عاطفي شديد الصلة متين الانشداد بربِّ العزّة تبارك وتعالى ، ولكنّه من زاوية اُخرى عميق الغوص في الجانب التربوي والاَخلاقي والمعرفي الذي لايكتفي صاحبه خلاله بالعرفان المجرّد و (تهويماته) الجميلة ، بل يسحبه إلى الواقع المعاش بكلِّ تفاصيله وخيوطه ونسيجه المعقّد.
« ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها » وهذه أسمى وأرفع سبل تربية الذات ، ودحض الاَنا ، وتجاوز الكبر ، والاِجهاز على كل أشكال الغرور والهوى والغطرسة الذاتية، و لذلك علاقة قوية بالعصمة من الذنوب و الآثام.
و الجميل في العبارة أن الإمام السجاد عليه السلام واجه بُعدين ، كلّ منهما سيف ذو حدّين : بُعد الذات التي هي ألدُّ أعداء المرء من جهة ، وهي كرامته وكبرياؤه وعزّته من جهة اُخرى ، وبُعدُ الناس الذين هم ميزان العلاقة ومعيار إنسانية الاِنسان من جانبٍ ، وهم الهمج الرعاع الذين يصعب إرضاؤهم وربما يستحيل من جانب آخر...
لا نستطيع أن نوفي شيئاً..
الإشارة الثالثة:
البكاء على سيد الشهداء صلوات الله عليه
أكتفي بذكر مثال واحد.
مرّ صلوات الله عليه ذات يوم في سوق المدينة على جزار بيده شاه يجرها إلى الذبح، فناداه الإمام: يا هذا هل سقيتها الماء؟ فقال الجزار: نعم نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فبكى الإمام عليه السلام وصاح:
وا لهفاه عليك أبا عبد الله، الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشانا.
لماذا انتحب الإمام باكياً؟ هل لعلاقة الأبوة فقط ؟ لعظم ما جرى؟
لنتأمل قليلاً.. عندما سأل الإمام الجزار هل سقيت الشاة قبل ذبحها؟ فأجابه بنعم.....
الإمام سأل عن حيوان، عن الشاة، و هذا الحيوان مخلوق، و معدّ للاستفادة منه، بما في ذلك ذبحه، و التفت إلى أنه مخلوق، و معلول.
أما العلّة في الإيجاد، و العلّة في خلق الخلائق بما فيها هذا الحيوان - الذي يسقونه الماء قبل ذبحه -، و العلة التي لولاها ما كانت السماوات و الأرض، الحسين صلوات الله و سلامه عليه، ماالذي جرى عليه؟!
ُحزّ منحره!!
و ماذا بعد؟!
و هو عطشان !!
و لنلتفت إلى الباكي من؟ العلة أيضاً، و الحجّة على البريّة.
فأي معنى ذاك الذي أدركه الإمام عليه السلام حين السؤال و الجواب؟!
هذا المعنى ينهك القوى.
و أختم بنقل هذه الرواية، عن الإمام الصادق صلوات الله عليه أنه قال:
«إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره قائماً ليله، فإذا حضره الإفطاء جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل».
السـلام على سيّد المتقين، و قائد المحسنين، و علم المهتدين، و نـور العارفين، و سيـدّ الساجدين، و زين العـابدين.
بالاستعانة بـ:
من أدب الدعـــاء في الإســـلام، محمد رضـا الحسـيـني.
السجـود، مفهومه، و آدابه و التربة الحسينية، مركز الرسالة.
الملهـوف على قتلى الطفـوف، لعلي بن موسى بن جعفر بن طاووس.
و الصلاة و السلام على أشرف الأنبيــاء و المرسلـين، حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد و على آله الطيبين الطاهرين المنتجبين، الهـداة المهديين.
و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من اليـوم إلى قيام يوم الـديـن.
عندما نريد أن نتكلم عن شخصية مرموقة في المجتمع، فإننا نحتاط في الحديث، لنتجنب إبخاس الشخص حقه المعلوم لدينا قدماً.
أما عندما يأتي عن شخصيات كأئمة المؤمنين، و سادة المتقين، و أنوار العارفين، فإننا لن نوفي شيئاً قط، لأننا لم نعرفهم المعرفة الحقيقية الواقعية، فمقام الإمام لدينا غير معلوم، و لن نأتي و نقول هذا حقه و هذا مقامه.
و في هذا ردّ على المتهمين للشيعة بالغلو.
الغلو معناه مجاوزة الحدّ، و إذا قلنا أنه مجاوزة الحد، إذن يجب أن نصل إلى الحد أولاً ثم نتجاوزه، و لنسأل: هل وصلنا إلى الحد؟ هل عرفنا هذا الحد، هل عرفنا مقام الإمام المعصوم عليه السلام؟ طبعاً لا، و أنت تقرأ في الدعاء: ( ... اللهم عرّفني حجتك )، و تقرأ في كلام للسلطان علي ابن موسى الرضا عليه السلام في وصف الإمام:
(وكيف يُوصف أو يُنعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه, لا وكيف وأنّى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين؟ فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ ).
و تكفيك: ( و أين العقـول عن هـذا؟ ).
فإذا لم نصل إلى الحد فكيف نتجاوزه؟!!
قلنا أنه يصعب علينا الحديث، فإن الفكر ليعجز والخواطر لتتصادم والقلم ليتقهقر والفؤاد ليعتصر حين الكتابة عن إمامنا و سيدنا و مقتدانا علي ابن الحسين صلوات الله و سلامه عليهما. و لكن من باب الميسور لا يسقط بالمعسور، ألمّح لإشارات يستهدي بها السالك من بعيد لنورها الأخّاذ من حياة سيّد السـاجدين و زين العـابدين عليه السلام.
الإشارة الأولى:
السجـــود
روي عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: « السجود منتهى العبادة من بني آدم ».
منتهى العبادة، يالها من كلمة، هل ذلك يعني أن في السجود غاية ما يبلغ المرء في العبادة؟!
السجود هو موضع الدعاء وطلب الحاجات، ويعدّ غاية في الخضوع والتذلل والاستكانة.
و العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار.
و في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: « ما خسر والله قطُّ من أتى بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه، غافلاً لاهياً عما أعدّ الله تعالى للساجدين من البشر العاجل، وراحة الآجل، ولا بَعُدَ عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود.. ».
ومن أسرار حركات السجود: من الهوي إلى الاَرض، ثم استقرار الجبهة عليها، ثم رفع الرأس، ثم العودة إليها، ثم الرفع منها ثانية ـ استحضار دورة حياة الانسان كلّها منذ نشأته الاُولى من مادة الاَرض، وتكونه إنساناً يدبّ عليها، ثمّ عودته فيها بعد موته، ثم خروجه منها يوم البعث والنشور.
وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام أطراف هذا المشهد في جوابه العجيب عن سؤال سائل سأله، قائلاً: يا بن عم خير خلق الله، ما معنى السجدة الاُولى؟ فقال عليه السلام: « تأويله اللهم إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الاَرض ـ ورفع رأسك: ومنها أخرجتنا، والسجدة الثانية: وإليها تُعيدنا، ورفع رأسك من الثانية: ومنها تخرجنا تارة اُخرى..».
فمن عثر على سر الصلاة يقف على مواقف القيامة ويراها كأنّها قامت وتدعو نارها من أعرض وتولى، فيجدُّ ويجاهد ويجتهد في إخمادها، كما في المأثور عن الاِمام زين العابدين عليه السلام أنّ حريقاً وقع في بيته وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله، النار، يا بن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى طفئت. فقيل له ـ بعد فراغه: ما الذي ألهاك عنها؟
قال عليه السلام: « ألهاني عنها النار الاُخرى ». تأمّلوا في هذه الكلمة.
و كان عليه السلام ماذكر لله عزَّ وجلَّ نعمة عليه إلاّ سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله فيها سجدة إلاّ سجد، ولا دفع الله عنه شراً يخشاه أو كيد كائد إلاّ سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ سجد، ولا وفق لاصلاح بين اثنين إلاّ سجد، وكان كثير السجود، في جميع مواضع سجوده فسمي السجّـاد لذلك.
وعن الاِمام الباقر عليه السلام: « كان أبي في موضع سجوده آثار نابتة فكان يقطعها في السنة مرتين، في كلِّ مرة خمس ثفنات، فسمي ذو الثفنات ».
و الثفنات الغرّ في مساجده ......... أطواره السبعة في المشاهدة
و بعد هذا، فلنرجع إلى البداية: « السجود منتهى العبادة من بني آدم »، من بني آدم، و بنو آدم يتفاوتون، و في سجودهم كذلك، فما هي المقامات التي ينالونها في هذه الحال التي عبّر عنها الإمام بأنها منتهى العبادة من بني آدم؟ هل نتصور تلك المقامات؟ و هل نتصورها في سجود العلماء و العارفين؟ و هل نتصور شيئاً عندما يصل الكلام إلى سجود السجّاد صلوات الله عليه؟
الإشارة الثانية:
الدعــاء
يكتشف المرء خلال تأمّله في الصحيفة السجّادية سِفراً خالداً من التربية والتهذيب والتصدّي والدعوة إلى الاِصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله واستحضار قيم الدين وتفعيل مضامينه وبثّ الروح في مواعظه وإرشاداته.
يكتشف عمق العلاقة بين الإمام زين العابدين وربّه ، وكيف أنه غاص في أعماق النفس الإنسانية ، وراح يشدّ حبلها بحبل السماء الذي قطعته السياسة الأموية ، ومزّقت أوصاله تداعياتها ، وانحطاط رجالها وتهافتهم على الدنيا وحطامها..
و إن أردنا استعراض بعض الفقرات من هذه الصحيفة السجادية فإننا نعجز عن اختيار الفقرات، فكلها في مستوى واحد، مستوى يصعب علينا الإحاطة به.
إن أردنا استعراض بعض الفقرات المتضمنة للمضمون العقائدي، فلعلَّ أول ما يطالعنا في هذا السفر الخالد هو قدرة الامام زين العابدين عليه السلام الفائقة على تجسيد العلاقة بين العبد وربّه ، أو بين الخالق والمخلوق ، وباسلوب أدبي رفيع ومناجاة عذبة صادقة يصدق أن يُقال فيها ما قيل في أقوال جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق فعلاً..
يرسم الإمام لنا لوحةً اُخرى عن عظمة الخالق سبحانه ، وكيف أنّه جلَّ وعلا أكبر ، ولكنّه أكبر من أن يوصف ، وليس أكبر من كلِّ كبير و صغير ، فليس هناك كبير بالمقارنة:
فيقول عليه السلام : « الحمدُ لله الذي تجلّى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الاَبصار بالعزة ، واقتدر على الاَشياء بالقدرة ، فلا الاَبصار تثبُت لرؤيته ، ولا الاَوهام تبلغ كنه عظمته.. ».
أما توحيد الباري جلّ وعلا فإنّ الامام عليه السلام يصبّه في قالب دعاء يوجّه من خلاله الاِنسان بهدوء وبساطة إلى وحدانية الله تبارك وتعالى من خلال استقراء ظواهر طبيعية حسيّة هي مع الاِنسان في وجوده ، يحملها معه في كلِّ آن ، ولا يستغني عنها لحظة..
فيقول في ذلك : « إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ، فجهلوك وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به ، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك بل ساووك بخلقك، فمن ثمَّ لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربّاً، فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك ».
ماذا نقول عن هذه الكلمات؟
من يبحث عن البديع و البليغ في المقال، فليأتي وليغترف.
و أما في الجانب الأخلاقي، فلاشكّ أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجادية سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه السلام على طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه السلام قد ضرب أروع الاَمثلة في الخلق الاِسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصية الاِسلامية المثالية..
ففي هذا الدعاء ـ مثلاً ـ نلتقي بقوله عليه السلام وهو ينشدُّ إلى أعماق الاَرض ، بقدر انشداده إلى آفاق السماء ، ويغوص في عمق الاِنسان فيما هو غارق في عمق العرفان ، فنسمعه يقول :
« وأجرِ للناس على يدي الخير ، ولا تمحقه بالمنّ ، وهب لي معالي الاَخلاق ، واعصمني من الفخر. اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها.. » .
فالكلمات التي يعرضها الامام السجاد عليه السلام هنا ـ كما في غيرها ـ تعبّر تعبيراً دقيقاً عن منهج سلوكي عظيم غارقٍ في الشفافية والروح من جهة ، ومستغرقٍ في الفكر والواقع من جهة اُخرى ، فكما أنّه ارتباط عاطفي شديد الصلة متين الانشداد بربِّ العزّة تبارك وتعالى ، ولكنّه من زاوية اُخرى عميق الغوص في الجانب التربوي والاَخلاقي والمعرفي الذي لايكتفي صاحبه خلاله بالعرفان المجرّد و (تهويماته) الجميلة ، بل يسحبه إلى الواقع المعاش بكلِّ تفاصيله وخيوطه ونسيجه المعقّد.
« ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها » وهذه أسمى وأرفع سبل تربية الذات ، ودحض الاَنا ، وتجاوز الكبر ، والاِجهاز على كل أشكال الغرور والهوى والغطرسة الذاتية، و لذلك علاقة قوية بالعصمة من الذنوب و الآثام.
و الجميل في العبارة أن الإمام السجاد عليه السلام واجه بُعدين ، كلّ منهما سيف ذو حدّين : بُعد الذات التي هي ألدُّ أعداء المرء من جهة ، وهي كرامته وكبرياؤه وعزّته من جهة اُخرى ، وبُعدُ الناس الذين هم ميزان العلاقة ومعيار إنسانية الاِنسان من جانبٍ ، وهم الهمج الرعاع الذين يصعب إرضاؤهم وربما يستحيل من جانب آخر...
لا نستطيع أن نوفي شيئاً..
الإشارة الثالثة:
البكاء على سيد الشهداء صلوات الله عليه
أكتفي بذكر مثال واحد.
مرّ صلوات الله عليه ذات يوم في سوق المدينة على جزار بيده شاه يجرها إلى الذبح، فناداه الإمام: يا هذا هل سقيتها الماء؟ فقال الجزار: نعم نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فبكى الإمام عليه السلام وصاح:
وا لهفاه عليك أبا عبد الله، الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشانا.
لماذا انتحب الإمام باكياً؟ هل لعلاقة الأبوة فقط ؟ لعظم ما جرى؟
لنتأمل قليلاً.. عندما سأل الإمام الجزار هل سقيت الشاة قبل ذبحها؟ فأجابه بنعم.....
الإمام سأل عن حيوان، عن الشاة، و هذا الحيوان مخلوق، و معدّ للاستفادة منه، بما في ذلك ذبحه، و التفت إلى أنه مخلوق، و معلول.
أما العلّة في الإيجاد، و العلّة في خلق الخلائق بما فيها هذا الحيوان - الذي يسقونه الماء قبل ذبحه -، و العلة التي لولاها ما كانت السماوات و الأرض، الحسين صلوات الله و سلامه عليه، ماالذي جرى عليه؟!
ُحزّ منحره!!
و ماذا بعد؟!
و هو عطشان !!
و لنلتفت إلى الباكي من؟ العلة أيضاً، و الحجّة على البريّة.
فأي معنى ذاك الذي أدركه الإمام عليه السلام حين السؤال و الجواب؟!
هذا المعنى ينهك القوى.
و أختم بنقل هذه الرواية، عن الإمام الصادق صلوات الله عليه أنه قال:
«إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره قائماً ليله، فإذا حضره الإفطاء جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل».
السـلام على سيّد المتقين، و قائد المحسنين، و علم المهتدين، و نـور العارفين، و سيـدّ الساجدين، و زين العـابدين.
بالاستعانة بـ:
من أدب الدعـــاء في الإســـلام، محمد رضـا الحسـيـني.
السجـود، مفهومه، و آدابه و التربة الحسينية، مركز الرسالة.
الملهـوف على قتلى الطفـوف، لعلي بن موسى بن جعفر بن طاووس.
تعليق