بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
وبعد
فقد ذهب جملة من المفسرين من الفريقين إلى أن قول نبي الله موسى في الآية المباركة (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) راجع إلى عقدة كانت في لسانه دون هارون.
واستشهدوا لذلك بكلام آخر لموسى في كتاب الله هو قوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) وفسروها بأنها رثة تشبه التمتمة وأنها رافقته منذ صغره عندما أدخل الجمرة في فيه !!
ويلاحظ على هذا القول أمور:
1. أنه ليس في قول موسى عليه السلام (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) دلالة على وجود عقدة في لسانه، ولتقريب المعنى نقول: وردت الآية المذكورة في سياق آيات أخرى من سورة طه هي: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( 25 ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( 26 ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ( 27 ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( 28 ) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ( 29 )
ولا شك بأن صدر نبي الله موسى الذي أرسل لكافة البشرية كان منشرحاً بالإيمان بالله تعالى، ورغم ذلك دعا موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره.
ولا شك أن الله متكفل بتيسير أموره في مستقبله كما يسرها في ماضيه.
فلا يلزم من دعاء النبي عليه السلام بهذه الأمور أن يكون فاقداً لها، وإنما للدعاء حكم وغايات وأغراض أخرى بحثت في محلها، ومنها على سبيل الإشارة أن الله سبحانه وتعالى يحب من العبد الدعاء، والأنبياء أقرب الناس إلى الله وأكثرهم دعاء له، وأن الدعاء يقرب العبد من ربه، وأن فيه اعترافاً بحق المنعم فيدخل في عنوان الشكر، وأنه نوع من أنواع العبادة، وغير ذلك من الوجوه، وقد كان نبينا (ص) وأئمتنا الأطهار (ع) أكثر الناس دعاء لله تعالى وهم أقرب الناس إليه وقد أعطاهم أعلى صفات الكمال التي يمكن للمخلوق أن يصل إليها.
نعم قد يقال بأن قوله في الآية اللاحقة (يفقهوا قولي) قرينة على أن الغرض هو إتمام الحجة وفِقهُ القوم لقوله عليه السلام، فيكون الدعاء بظاهره لنفسه وبواقعه للقوم بأن يرفع الله تعالى ما يمنعهم من فقه كلامه. ويكفي قيام هذا الاحتمال وأضرابه لعدم تمامية الاحتجاج بما استظهره بعض المفسرين منها.
2. كذلك ليس في قوله (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) دلالة على كمال في هارون كان مفقوداً في موسى عليه السلام، خاصة وأن فصاحة البيان واللسان أمر ضروري ولازم في الرسول، فكيف يرسل الله سبحانه وتعالى من يكون منقوصاً أو معيوباً فيما له دخالة في تبليغ شريعة رب العباد ؟!
ويحتمل أن لا يكون المقصود فصاحة هارون بنفسه من جهة خصلة خاصة فيها، وإنما من جهة قبول أولئك القوم لكلام هارون أكثر من كلامه لمأخذ لهم على موسى عليه السلام، والقرينة على ذلك هي سياق الآيات أيضاً من سورة القصص:
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 33 ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 34 ) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 35 )
فإن جملته مسبوقة بخوفه مما يمكن أن يلاقيه على أيدي القوم، وطلبه لهارون لكي يصدقه مع خوفه من تكذيبهم، فيكون المعنى قريباً مما يحتمل في الآية السابقة.
3. أنه لا يعقل ولا يتصوّر وجود نقص في نبي من أنبياء أولي العزم وخاصة نقصاً ذو صلة بتبليغ رسالته فيكون مانعاً عن إتمام الحجة، وهذا الحكم العقلي بنفسه قرينة على عدم إرادة ما ذهب إليه جملة من المفسرين في تفسير الآية.
ويضاف إليه أنا لم نعثر على ما يصح الاستناد اليه في مثل هذا القول الذي يتعارض مع الأدلة العقلية والنقلية المانعة من اتصاف الأنبياء خاصة أولي العزم بمثل هذه الصفات..
وما عثرنا عليه في الغالب آراء خاصة للمفسرين، وما نسب إلى الروايات كان مرسلاً غير مسند.
4. وقد عثرنا بعد ذلك في كلمات عدد من العلماء على ما يؤيد هذا القول أو يشير إليه أو إلى ما يقرب منه، ومن ذلك عند الخاصة ما ذكره الشريف الرضي في تلخيص البيان تجويزاً، قال: وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك إزالة التقية عن لسانه وكفايته سطوة فرعون وغواته ، حتى يؤدى عن اللَّه سبحانه آمنا ، ويقول متمكنا ، فلا يكون معقود اللسان بالتقية ، ومعكوم الفم بالخوف والمراقبة . وذلك كقول القائل : لسان فلان معقود : إذا كان خائفا من الكلام . ولسان فلان منطلق : إذا كان مقداما على المقال (ص224)
وعند العامة ما أشار إليه الفخر الرازي بقوله: وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة واللسان آلة الذكر فكيف يحترق(تفسير الرازي22: 48)
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
والحمد لله رب العالمين
وبعد
فقد ذهب جملة من المفسرين من الفريقين إلى أن قول نبي الله موسى في الآية المباركة (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) راجع إلى عقدة كانت في لسانه دون هارون.
واستشهدوا لذلك بكلام آخر لموسى في كتاب الله هو قوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) وفسروها بأنها رثة تشبه التمتمة وأنها رافقته منذ صغره عندما أدخل الجمرة في فيه !!
ويلاحظ على هذا القول أمور:
1. أنه ليس في قول موسى عليه السلام (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) دلالة على وجود عقدة في لسانه، ولتقريب المعنى نقول: وردت الآية المذكورة في سياق آيات أخرى من سورة طه هي: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( 25 ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( 26 ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ( 27 ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( 28 ) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ( 29 )
ولا شك بأن صدر نبي الله موسى الذي أرسل لكافة البشرية كان منشرحاً بالإيمان بالله تعالى، ورغم ذلك دعا موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره.
ولا شك أن الله متكفل بتيسير أموره في مستقبله كما يسرها في ماضيه.
فلا يلزم من دعاء النبي عليه السلام بهذه الأمور أن يكون فاقداً لها، وإنما للدعاء حكم وغايات وأغراض أخرى بحثت في محلها، ومنها على سبيل الإشارة أن الله سبحانه وتعالى يحب من العبد الدعاء، والأنبياء أقرب الناس إلى الله وأكثرهم دعاء له، وأن الدعاء يقرب العبد من ربه، وأن فيه اعترافاً بحق المنعم فيدخل في عنوان الشكر، وأنه نوع من أنواع العبادة، وغير ذلك من الوجوه، وقد كان نبينا (ص) وأئمتنا الأطهار (ع) أكثر الناس دعاء لله تعالى وهم أقرب الناس إليه وقد أعطاهم أعلى صفات الكمال التي يمكن للمخلوق أن يصل إليها.
نعم قد يقال بأن قوله في الآية اللاحقة (يفقهوا قولي) قرينة على أن الغرض هو إتمام الحجة وفِقهُ القوم لقوله عليه السلام، فيكون الدعاء بظاهره لنفسه وبواقعه للقوم بأن يرفع الله تعالى ما يمنعهم من فقه كلامه. ويكفي قيام هذا الاحتمال وأضرابه لعدم تمامية الاحتجاج بما استظهره بعض المفسرين منها.
2. كذلك ليس في قوله (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) دلالة على كمال في هارون كان مفقوداً في موسى عليه السلام، خاصة وأن فصاحة البيان واللسان أمر ضروري ولازم في الرسول، فكيف يرسل الله سبحانه وتعالى من يكون منقوصاً أو معيوباً فيما له دخالة في تبليغ شريعة رب العباد ؟!
ويحتمل أن لا يكون المقصود فصاحة هارون بنفسه من جهة خصلة خاصة فيها، وإنما من جهة قبول أولئك القوم لكلام هارون أكثر من كلامه لمأخذ لهم على موسى عليه السلام، والقرينة على ذلك هي سياق الآيات أيضاً من سورة القصص:
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 33 ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 34 ) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 35 )
فإن جملته مسبوقة بخوفه مما يمكن أن يلاقيه على أيدي القوم، وطلبه لهارون لكي يصدقه مع خوفه من تكذيبهم، فيكون المعنى قريباً مما يحتمل في الآية السابقة.
3. أنه لا يعقل ولا يتصوّر وجود نقص في نبي من أنبياء أولي العزم وخاصة نقصاً ذو صلة بتبليغ رسالته فيكون مانعاً عن إتمام الحجة، وهذا الحكم العقلي بنفسه قرينة على عدم إرادة ما ذهب إليه جملة من المفسرين في تفسير الآية.
ويضاف إليه أنا لم نعثر على ما يصح الاستناد اليه في مثل هذا القول الذي يتعارض مع الأدلة العقلية والنقلية المانعة من اتصاف الأنبياء خاصة أولي العزم بمثل هذه الصفات..
وما عثرنا عليه في الغالب آراء خاصة للمفسرين، وما نسب إلى الروايات كان مرسلاً غير مسند.
4. وقد عثرنا بعد ذلك في كلمات عدد من العلماء على ما يؤيد هذا القول أو يشير إليه أو إلى ما يقرب منه، ومن ذلك عند الخاصة ما ذكره الشريف الرضي في تلخيص البيان تجويزاً، قال: وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك إزالة التقية عن لسانه وكفايته سطوة فرعون وغواته ، حتى يؤدى عن اللَّه سبحانه آمنا ، ويقول متمكنا ، فلا يكون معقود اللسان بالتقية ، ومعكوم الفم بالخوف والمراقبة . وذلك كقول القائل : لسان فلان معقود : إذا كان خائفا من الكلام . ولسان فلان منطلق : إذا كان مقداما على المقال (ص224)
وعند العامة ما أشار إليه الفخر الرازي بقوله: وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة واللسان آلة الذكر فكيف يحترق(تفسير الرازي22: 48)
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
تعليق