بسم الله الرحمن الرحيم
لقد تكرر الاقتران بين آيات الله وبين التعقّل في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل : 12] وكثيرة هي الآيات التي مدحت الذين لا يعقلون وذمت في المقابل الذين لا يعقلون حتى قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال : 22]
ذلك أن رأس المال الذي ينطلق منه الإنسان في مسيرته المعرفية والإدراكية هو العقل، فبالعقل كملت حجة الله على العباد، وعن الإمام الكاظم عليه السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة (الكافي ج1 ص13)
وعنه (ع): يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة - عليهم السلام -، وأما الباطنة فالعقول (الكافي ج1 ص16)
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل. (الكافي ج1 ص25)
وبهذه المزاوجة بين الأنبياء والعقل تمت الحجة الإلهية الظاهرة والباطنة.
لكن جدلية محلّ العقل وموضعه ومكانته لم تنته فصولاً بعد بين أهل الاعتقاد فضلاً عن غيرهم، ووقع من لم يتنبه منهم لدقائقها بين إفراط وتفريط:
فرأى قوم أن العقل هو المعيار الوحيد وأنه الميزان الذي لا يقيّده شيء ولا تحدّه حدود..وسقطت أقوام في هذا المستنقع، فمنهم من فتح كل بابٍ أمام العقل فأنكر حدود إدراكه حتى في العقيدة ولم يقرّ بعجز العقل عن إدراك كنه الذات الإلهية فتاه وضلّ وتحيّر أو كفر !! ومنهم من أنكر جزئيات الاعتقاد التي لا يمكن ادراكها بالعقل وتنحصر معرفتها برسل الله وحججه عليهم السلام لأن عقله لم يرشده إليها !! ومنهم من أعطى العقل صلاحية التشريع المطلق فاجتهد مقابل النصّ !! وأعمَلَ عقله الناقص واجتهاداته الظنية كالقياس والاستحسان في الاحكام الشرعية وغيرها فصارت شريعة الله ألعوبة بيدهم !!
وفي المقابل: أنكر أقوامٌ كلَّ دور للعقل سواء في إدراك الحقائق أو حتى في التعامل مع النصوص، فوقفوا أمامها وقفة متحجرة حتى وقعوا في التجسيم والجبر وغير ذلك.. وأنكر غيرهم كلَّ دخالة للعقل في استفادة الأحكام الشرعية من مظانها..
ومما لا شكّ فيه عند أهل التحقيق أن الصواب ما فارق المنهج الوسطي في هذا الأمر كما لم يفارقه في غيره.. فبعد أن أدرك العقل وجود خالق يدرك أنه كمخلوق محدود لا يمكنه الإحاطة بخالقه وإن أمكنه أن يرى عظمته من آثاره، ويدرك أن لا سبيل له إلى كثير من الاعتقادات الجزئية فيلجأ لحجج لله على عباده فيأخذها منهم حصراً، ويدرك أن الظنون التي قد تحصل عند الإنسان من استحساناته ليست بحجة له أو عليه.. وقد بحثت كل هذه الأمور في محلها ولسنا في وارد التعرّض لتفاصيلها..
لكنّ ما أردنا أن نعرض له في هذه المشاركة هو دور العقل في الاستنباط الشرعي، كما هو المعوّل عليه عند فقهاء الإمامية أعزّهم الله.
وما يقصده الفقهاء من كون الدليل العقلي رابع الأدلة المعتمدة في الفقه هو خصوص القضايا العقلية التي تورث علماً وقطعاً بالحكم الشرعي، لا ما أورث الظن أو الاحتمال.
وبما أن حجية القطع ذاتية لا تنفك عنه، وهي المقدار الذي التزم به الفقهاء يكون كلامهم تاماً ولا وجه لمؤاخذتهم عليه أو الانتقاص منهم، بل لا وجه لإنكاره أو عدم العمل به مع فرض كونه مفيداً للعلم والقطع.
فإن الإنسان ما عرف الله عز وجل والأنبياء والرسل إلا بالعقل وقطعياته، ولا يمكن أن يسلخ الإنسان عن ذلك بوجه من الوجوه.
ومن جملة الأمور التي بحثها العلماء هو إمكان أن يدرك العقل بنفسه أن الفعل الفلاني حسن أو قبيح شرعاً بعد أن أدرك حسنه وقبحه في نفسه ؟ أي أنه إذا حكم العقل أن الفعل الفلاني حسن شرعاً أو قبيح شرعاً، هل يستكشف بذلك حكم الشرع ؟
وتبحث هذه المسائل سواء كانت مركبة من مقدمتين عقليتين (وهي المستقلات العقلية) كحكم العقل بقبح شيء، ثم حكمه بأن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع. ومثالها: الحكم بحسن العدل عقلاً، وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع، فيعرف أن الشرع قد حكم بحسن العدل. والمستقلات العقلية هي عبارة أخرى عن التحسين والتقبيح العقليين اللذين التزم بهما الإمامية العدلية.
أو من مقدمة عقلية وأخرى شرعية، بأن حكم الشرع بوجوب شيء وحكم العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها فتنضم المقدمة العقلية إلى الشرعية لإيجاب المقدمة شرعاً..
ومن أبحاثهم مثلاً بحث الإجزاء والاكتفاء بالحكم الظاهري فيما لو انكشف بعد الامتثال أنه كان خلاف الحكم الواقعي.
ومنها ما لو أمر الشارع بأمر معين، ثم أمر بأمر آخر اضطراري عند العجز عن الأمر الأول، وأتى المكلف بالتكليف الاضطراري ثم زال الاضطرار، فهل يسقط الأمر الأول سواء مع بقاء الوقت أو مع انتهائه ؟!
ومنها حكم العقل باستحالة التكليف بلا بيان، ويلزم منه حكم الشرع بالبراءة.
ومنها حكم العقل بتقديم الأهم في موارد التزاحم بين الحكمين، ويستفاد منه تقديم الحكم الأهم عند الله تعالى.
وهكذا جملة من المباحث الأخرى.
فما ثبتت الملازمة فيه يكون من مصاديق الحكم العقلي القطعي الذي لا يمكن نفي الحجية عنه ولا إنكاره، وما لا يكون كذلك لا تثبت حجيته.
بما ذكرنا يتبين أن لا وجه للإشكال على ما يلتزم به الأصوليون من حجية الدليل العقلي.. ومن تَصَوَّرَ أن النصوص الشرعية قد أبطلت هذا المقدار من الدليل فهو واهم..
ومما قد يدعى دلالته على ذلك ما ورد عن إمامنا السجاد عليه السلام: إنّ دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدى، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم.(كمال الدين وتمام النعمة ص324)
حيث أن الحديث ناظر إلى أهل القياس والرأي والاستحسان، فإن هذه الأمور لا تكشف عن التكاليف الشرعية في دين الله عزّ وجل، وهي وإن كانت من وجوه الإدراكات العقلية عند بعض الناس، إلا أنها إدراكات ظنية لا تسمن ولا تغني من جوع..
ولو سُلِّمَ شمول الحديث حتى لغير القياس وأمثاله، فإنا لا نسلم بعمومه الاستغراقي بحيث يمنع من كل معرفة عقلية بالحكم الشرعي، إذ أقصى ما يدل عليه هو نفي إدراك كل الأحكام بالعقل، ولا يمنع من إدراك بعضها، كإدراك العقل حسن العدل وقبح الظلم..
وبعبارة أخرى: فإنه ينفي مقولة (كل ما حكم به الشرع حكم به العقل) لان دين الله لا يصاب بالعقول، فلا سبيل للعقل لإدراك أكثر الأحكام الشرعية، ولكنه لا ينفي مقولة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) وإن كان مقدار ما يحكم به العقل يسيراً.
ويؤيد هذه المعاني كلها ما ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: أن أول الأمور ومبدؤها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون ، وأنه الباقي وهم الفانون ، واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ، من سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليلة ونهاره ، وبأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول ، وعرفوا به الحسن من القبيح ، وأن الظلمة في الجهل ، وأن النور في العلم ، فهذا ما دلهم ، عليه العقل.
قيل له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره ؟
قال : إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته ، علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة ، وأن له كراهية ، وأن له طاعة ، وأن له معصية ، فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه ، وأنه لا ينتفع بعقله ، إن لم يصب ذلك بعلمه ، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به .(الكافي ج1 ص29)
وما ورد عنه (ع) : دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره ، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما ، حافظا ، ذاكرا فطنا ، فهما ، فعلم بذلك كيف ولم وحيث ، وعرف من نصحه ومن غشه ، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية لله، والإقرار بالطاعة فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات، وواردا على ما هو آت، يعرف ما هو فيه، ولأي شئ هو ههنا، ومن أين يأتيه، وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل . (الكافي ج1 ص25)
فنفى استقلال العقل وحده، بعد أن أثبت دخالته فيما له حق الدخالة فيه، وهو ما أورث علماً وقطعاً. وبهذا اتفق العقل والنقل في هذا المورد على المزاوجة الفعالة بين الحجتين الظاهرة والباطنة، فإن العقل وحده لا يكفي جزماً، ولا بدّ من ضمّه إلى سائر المصادر التي ثبتت حجيتها بالعقل.. وما التزم به الفقهاء هو ما قام دليل قطعي على حجيته، وليس بعد القطع من حجة باطنة..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
لقد تكرر الاقتران بين آيات الله وبين التعقّل في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل : 12] وكثيرة هي الآيات التي مدحت الذين لا يعقلون وذمت في المقابل الذين لا يعقلون حتى قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال : 22]
ذلك أن رأس المال الذي ينطلق منه الإنسان في مسيرته المعرفية والإدراكية هو العقل، فبالعقل كملت حجة الله على العباد، وعن الإمام الكاظم عليه السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة (الكافي ج1 ص13)
وعنه (ع): يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة - عليهم السلام -، وأما الباطنة فالعقول (الكافي ج1 ص16)
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل. (الكافي ج1 ص25)
وبهذه المزاوجة بين الأنبياء والعقل تمت الحجة الإلهية الظاهرة والباطنة.
لكن جدلية محلّ العقل وموضعه ومكانته لم تنته فصولاً بعد بين أهل الاعتقاد فضلاً عن غيرهم، ووقع من لم يتنبه منهم لدقائقها بين إفراط وتفريط:
فرأى قوم أن العقل هو المعيار الوحيد وأنه الميزان الذي لا يقيّده شيء ولا تحدّه حدود..وسقطت أقوام في هذا المستنقع، فمنهم من فتح كل بابٍ أمام العقل فأنكر حدود إدراكه حتى في العقيدة ولم يقرّ بعجز العقل عن إدراك كنه الذات الإلهية فتاه وضلّ وتحيّر أو كفر !! ومنهم من أنكر جزئيات الاعتقاد التي لا يمكن ادراكها بالعقل وتنحصر معرفتها برسل الله وحججه عليهم السلام لأن عقله لم يرشده إليها !! ومنهم من أعطى العقل صلاحية التشريع المطلق فاجتهد مقابل النصّ !! وأعمَلَ عقله الناقص واجتهاداته الظنية كالقياس والاستحسان في الاحكام الشرعية وغيرها فصارت شريعة الله ألعوبة بيدهم !!
وفي المقابل: أنكر أقوامٌ كلَّ دور للعقل سواء في إدراك الحقائق أو حتى في التعامل مع النصوص، فوقفوا أمامها وقفة متحجرة حتى وقعوا في التجسيم والجبر وغير ذلك.. وأنكر غيرهم كلَّ دخالة للعقل في استفادة الأحكام الشرعية من مظانها..
ومما لا شكّ فيه عند أهل التحقيق أن الصواب ما فارق المنهج الوسطي في هذا الأمر كما لم يفارقه في غيره.. فبعد أن أدرك العقل وجود خالق يدرك أنه كمخلوق محدود لا يمكنه الإحاطة بخالقه وإن أمكنه أن يرى عظمته من آثاره، ويدرك أن لا سبيل له إلى كثير من الاعتقادات الجزئية فيلجأ لحجج لله على عباده فيأخذها منهم حصراً، ويدرك أن الظنون التي قد تحصل عند الإنسان من استحساناته ليست بحجة له أو عليه.. وقد بحثت كل هذه الأمور في محلها ولسنا في وارد التعرّض لتفاصيلها..
لكنّ ما أردنا أن نعرض له في هذه المشاركة هو دور العقل في الاستنباط الشرعي، كما هو المعوّل عليه عند فقهاء الإمامية أعزّهم الله.
وما يقصده الفقهاء من كون الدليل العقلي رابع الأدلة المعتمدة في الفقه هو خصوص القضايا العقلية التي تورث علماً وقطعاً بالحكم الشرعي، لا ما أورث الظن أو الاحتمال.
وبما أن حجية القطع ذاتية لا تنفك عنه، وهي المقدار الذي التزم به الفقهاء يكون كلامهم تاماً ولا وجه لمؤاخذتهم عليه أو الانتقاص منهم، بل لا وجه لإنكاره أو عدم العمل به مع فرض كونه مفيداً للعلم والقطع.
فإن الإنسان ما عرف الله عز وجل والأنبياء والرسل إلا بالعقل وقطعياته، ولا يمكن أن يسلخ الإنسان عن ذلك بوجه من الوجوه.
ومن جملة الأمور التي بحثها العلماء هو إمكان أن يدرك العقل بنفسه أن الفعل الفلاني حسن أو قبيح شرعاً بعد أن أدرك حسنه وقبحه في نفسه ؟ أي أنه إذا حكم العقل أن الفعل الفلاني حسن شرعاً أو قبيح شرعاً، هل يستكشف بذلك حكم الشرع ؟
وتبحث هذه المسائل سواء كانت مركبة من مقدمتين عقليتين (وهي المستقلات العقلية) كحكم العقل بقبح شيء، ثم حكمه بأن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع. ومثالها: الحكم بحسن العدل عقلاً، وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع، فيعرف أن الشرع قد حكم بحسن العدل. والمستقلات العقلية هي عبارة أخرى عن التحسين والتقبيح العقليين اللذين التزم بهما الإمامية العدلية.
أو من مقدمة عقلية وأخرى شرعية، بأن حكم الشرع بوجوب شيء وحكم العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها فتنضم المقدمة العقلية إلى الشرعية لإيجاب المقدمة شرعاً..
ومن أبحاثهم مثلاً بحث الإجزاء والاكتفاء بالحكم الظاهري فيما لو انكشف بعد الامتثال أنه كان خلاف الحكم الواقعي.
ومنها ما لو أمر الشارع بأمر معين، ثم أمر بأمر آخر اضطراري عند العجز عن الأمر الأول، وأتى المكلف بالتكليف الاضطراري ثم زال الاضطرار، فهل يسقط الأمر الأول سواء مع بقاء الوقت أو مع انتهائه ؟!
ومنها حكم العقل باستحالة التكليف بلا بيان، ويلزم منه حكم الشرع بالبراءة.
ومنها حكم العقل بتقديم الأهم في موارد التزاحم بين الحكمين، ويستفاد منه تقديم الحكم الأهم عند الله تعالى.
وهكذا جملة من المباحث الأخرى.
فما ثبتت الملازمة فيه يكون من مصاديق الحكم العقلي القطعي الذي لا يمكن نفي الحجية عنه ولا إنكاره، وما لا يكون كذلك لا تثبت حجيته.
بما ذكرنا يتبين أن لا وجه للإشكال على ما يلتزم به الأصوليون من حجية الدليل العقلي.. ومن تَصَوَّرَ أن النصوص الشرعية قد أبطلت هذا المقدار من الدليل فهو واهم..
ومما قد يدعى دلالته على ذلك ما ورد عن إمامنا السجاد عليه السلام: إنّ دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدى، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم.(كمال الدين وتمام النعمة ص324)
حيث أن الحديث ناظر إلى أهل القياس والرأي والاستحسان، فإن هذه الأمور لا تكشف عن التكاليف الشرعية في دين الله عزّ وجل، وهي وإن كانت من وجوه الإدراكات العقلية عند بعض الناس، إلا أنها إدراكات ظنية لا تسمن ولا تغني من جوع..
ولو سُلِّمَ شمول الحديث حتى لغير القياس وأمثاله، فإنا لا نسلم بعمومه الاستغراقي بحيث يمنع من كل معرفة عقلية بالحكم الشرعي، إذ أقصى ما يدل عليه هو نفي إدراك كل الأحكام بالعقل، ولا يمنع من إدراك بعضها، كإدراك العقل حسن العدل وقبح الظلم..
وبعبارة أخرى: فإنه ينفي مقولة (كل ما حكم به الشرع حكم به العقل) لان دين الله لا يصاب بالعقول، فلا سبيل للعقل لإدراك أكثر الأحكام الشرعية، ولكنه لا ينفي مقولة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) وإن كان مقدار ما يحكم به العقل يسيراً.
ويؤيد هذه المعاني كلها ما ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: أن أول الأمور ومبدؤها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون ، وأنه الباقي وهم الفانون ، واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ، من سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليلة ونهاره ، وبأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول ، وعرفوا به الحسن من القبيح ، وأن الظلمة في الجهل ، وأن النور في العلم ، فهذا ما دلهم ، عليه العقل.
قيل له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره ؟
قال : إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته ، علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة ، وأن له كراهية ، وأن له طاعة ، وأن له معصية ، فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه ، وأنه لا ينتفع بعقله ، إن لم يصب ذلك بعلمه ، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به .(الكافي ج1 ص29)
وما ورد عنه (ع) : دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره ، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما ، حافظا ، ذاكرا فطنا ، فهما ، فعلم بذلك كيف ولم وحيث ، وعرف من نصحه ومن غشه ، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية لله، والإقرار بالطاعة فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات، وواردا على ما هو آت، يعرف ما هو فيه، ولأي شئ هو ههنا، ومن أين يأتيه، وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل . (الكافي ج1 ص25)
فنفى استقلال العقل وحده، بعد أن أثبت دخالته فيما له حق الدخالة فيه، وهو ما أورث علماً وقطعاً. وبهذا اتفق العقل والنقل في هذا المورد على المزاوجة الفعالة بين الحجتين الظاهرة والباطنة، فإن العقل وحده لا يكفي جزماً، ولا بدّ من ضمّه إلى سائر المصادر التي ثبتت حجيتها بالعقل.. وما التزم به الفقهاء هو ما قام دليل قطعي على حجيته، وليس بعد القطع من حجة باطنة..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي