إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط

    27/3/2014


    * زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط (1/2)

    علي عبادي

    يمثل انضمام - أو ضم - شبه جزيرة القرم الى روسيا واحداً من أكبر الأحداث التي شهدتها أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة رسمياً بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي. هذه الحرب التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات، استؤنفت بصور أخرى ناعمة (أدواتها اقتصادية وسياسية وتكنولوجية) بهدف هضم التركة السوفياتية واجراء انقلاب كامل لمصلحة الغرب من خلال ضم اجزائها المفككة الى حلف الناتو المنتصر والى منظومة الاتحاد الاوروبي.

    ولقد كانت مسألة الدرع الصاروخية تمظهراً عسكرياً لانبعاث الصراع مجدداً بين روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي وبين الولايات المتحدة ومعها الغرب الأوروبي، لتعبر عن مدى سعي واشنطن لبسط مظلتها فوق دول العالم شرقاً وغرباً بما يعني عملياً شل قدرات الدول الأخرى على صعيد سلاحي الطيران والصواريخ، وهي أقرب الى ان تكون نسخة أرضية من برنامج "حرب النجوم" الذي اطلقه الرئيس الاميركي رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي. واتخذت الشكوك الروسية ازاء المد الاميركي بعداً آخر من عدم الثقة مع السعي لضم الدول المحيطة بروسيا الى الفلك الغربي، من جورجيا وجمهوريات البلطيق الى روسيا البيضاء وأوكرانيا. ويبدو أن القيادة الروسية حصلت من عميل المخابرات الاميركية ادوارد سنودن الذي لجأ الى روسيا مؤخراً على معطيات كثيرة مكنت موسكو من تكوين فكرة أوضح عن المخططات الأميركية لإضعاف روسيا والدول المنافسة الأخرى.



    هناك أمثولة تاريخية تؤسس ربما لفهم كيف تبدأ الحروب العالمية. فحالة روسيا اليوم تشبه من بعض الوجوه حالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث انتـُزعت منها أراض لمصلحة دول أخرى وفـُرض عليها دفع تعويضات باهظة وقيود على التسلح، وأشعرَ ذلك الكثيرَ من الألمان ، الذين يفخرون بهويتهم القومية بالمهانة، وأفسح المجالَ لتغيرات داخلية والإعداد للإنتقام ممن أذلوا ألمانيا. وكانت الأقليات الألمانية القاطنة في دول مجاورة عنواناً لتبرير الرغبة الجامحة بفرض السطوة والإحترام بل وإظهار التفوق. واليوم يشعر الكثير من الروس بأن بلادهم تتعرض لمحاولات إخضاع بطرق شتى وللإذلال بواسطة دول أقل منها شأناً وكانت بالأمس جزءاً من مجال نفوذهم التاريخي. وإضافة الى ذلك، أضحت الأقليات الروسية عنواناً للتدخل في جورجيا بالأمس، واوكرانيا اليوم، وربما في مولدافيا غدا.

    هذه المقدمة تبدو ضرورية للإضاءة على مشكلة ستترك بصماتها على الساحة الدولية والعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لوقت ليس ببسيط. نتذكر جيداً كيف انطلقت التحليلات التي تتحدث عن عودة روسيا القوية الى "التعملق" دولياً بعد اجتياح قواتها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008 وسلخهما عن جورجيا التي ارتضت الانضواء ضمن الحلف الغربي. وظهرت مبادرات روسية عدة تشير الى تصميم موسكو على فرض احترام رأيها في القضايا العالمية وكان من أبرز تجلياتها استخدام الفيتو ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع قرارات غربية في حق سوريا، وهو موقف يجب أن يُقرأ من زاوية ليس فقط عودة موسكو الى حلبة الشرق الاوسط بقوة، وإنما ايضا من زاوية تراجع نفوذ وهيبة الولايات المتحدة التي أخفقت في العراق وأفغانستان وفي إقرار تسوية للقضية الفلسطينية وفي إخضاع ايران.



    هناك في القرم إذاً أزمة دولية كبرى من شأنها أن تنقل ثقل التجاذب الدولي - في الوقت الحالي على الأقل - من الشرق الأوسط الى أوروبا، وتفتح الباب أمام مواجهة غير محددة المعالم حتى الآن. لكن ذلك لا يمنع من بقاء الشرق الأوسط ساحة لتبادل الرسائل في ظل الأزمات التي تعصف بهذه المنطقة وارتباطها بصراعات القوى الكبرى.


    من الآن، بدأ حلفاء أميركا من العرب والاسرائيليين وبعض الأوروبيين حضّ الادارة الأميركية على إظهار قدرتها على القيادة ووضع حد لروسيا، وإلا فإنه لن تكون لكلمتها أي تأثير او مفعول في طول الشرق الاوسط وعرضه، بعدما تحجّمَ دورها كثيرا بسبب إرثها الثقيل من الحروب ومشاكلها الاقتصادية وانقسامات أهلها من السياسيين.

    مأزق السياسة والطاقة والجغرافيا



    تدرك واشنطن أن عليها أن توازن في تحركها لاحتواء القفزة الروسية الكبيرة بين تحقيق قدر مدروس من الضغط يكفي لدفع موسكو الى مراجعة حساباتها قبل أية خطوة أخرى، وبين تجنب حشرها في الزاوية والوصول الى نقطة اللاتراجع، وهي نقطة قد تضع البلدين النوويين على حافة صِدام خطير. كما تدرك واشنطن في الوقت نفسه أن روسيا ليست في وارد التراجع عن تعزيز نفوذها في محيطها الاقليمي ولن تقبل بعد اليوم تعريضها لتهديدات من أي نوع، وهي قد تـُقـْدم على خطوات إضافية اذا لمست الحاجة الى ذلك او رأت تراخي الغرب في التعامل معها.



    فرض التحدي الروسي في القرم نفسَه على الادارة الاميركية واوروبا الى حد قد يدفع الملفات الساخنة في الشرق الأوسط الى المقام الثاني او حتى الثالث في اهتماماتها. لكن الخيارات ليست واسعة، وبعضها يحمل أضراراً اقتصادية للغرب الذي تعيش العديد من بلدانه مرحلة الخروج من التعثر او خطر الإفلاس.

    لكن وقف إمدادات الغاز الروسي الى اوروبا واوكرانيا خيار مُرّ للطرفين: إذ ان اوروبا تستورد من روسيا 30 % من احتياجاتها في مجال الغاز الطبيعي، وهو بمثابة سلاح اقتصادي في يد روسيا قد تستخدمه حين الضرورة ومن شأنه ان يؤدي الى اغلاق المصانع في العديد من انحاء القارة العجوز والى اضطراب دورتها الاقتصادية. وأي ضرر اقتصادي يصيب اوروبا سيصيب الاقتصاد الاميركي حتماً بفعل ترابط الاقتصادات الكبرى. وهذا بحد ذاته قد يدفع الى تروي الغرب في التعامل مع التحدي الروسي. هنا يقول محللون غربيون ان اللعبة تنتهي عند هذا الحد وان فلاديمير بوتين سيفوز مرة أخرى.


    في السياق، ثمة نقطة هامة أيضاً في لعبة المصالح الكبرى وهي ان أزمة القرم قد تتدحرج لتعيد تشكيل خارطة الطاقة والسياسة على الساحة الدولية. ففي حال قرر الغرب تقليص اعتماده الجزئي على النفط الروسي، سيترتب على اميركا زيادة اعتمادها مجددا على نفط الشرق الاوسط بعدما كانت تخطط لتخفيف هذه التبعية الى أدنى حد. كما قد يدفع ذلك روسيا الى تحويل قسم هام من صادراتها من النفط الى الصين، خصوصا بعد اتفاقهما مؤخراً على توريد ما قيمته أكثر من 350 مليار دولار من النفط الخام الروسي الى الصين في السنوات القليلة المقبلة. وهذه الصورة – المزيج من الصراع السياسي ومبادلات الطاقة قد تسهم في تشكّل محاور دولية جديدة تكوّن بموجبه روسيا والصين ثقلاً هاماً أكثر ترابطاً في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. ونلاحظ أنه في الوقت الذي يشتد التجاذب بين أميركا وروسيا حول اوكرانيا، ترفع الصين لهجتها في القضايا الجغرافية - السياسية الناشبة مع اليابان وكوريا الجنوبية. وإضافة الى ذلك، سيستعيد الشرق الأوسط دوره القديم الذي لعبه خلال الحرب العالمية الثانية في كونه الساحة الخلفية كممر ونقطة إمداد للقوى الكبرى في صراعها من أجل البقاء على قمة قيادة العالم.

    إشارة الى انه برغم ما يقال عن طفرة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، فإنها لا تزال تخطط لاستيراد 40 في المئة من احتياجاتها من النفط الخام، بما يوازي 10.6 مليون برميل يوميا. وبالمناسبة، تورد أرقام وزارة الطاقة الاميركية ان الولايات المتحدة استوردت من روسيا في عام 2013 زهاء 167 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية.

    خيارات أميركا




    عبّر الرئيس الاميركي باراك اوباما عن مأزق الغرب الحالي في صعوبة الجمع بين مصالحه السياسية والاقتصادية، فأشار من بروكسل الى ان العقوبات ضد روسيا يمكن أن تضر الاقتصادات الأوروبية التي لا تزال هشة، مُقراً بأن "الوقت الحالي ليس مناسباً للتهديد"، وقال أوباما "إن الوضع في أوكرانيا، مثل الأزمات في أجزاء كثيرة من العالم، لا يملك إجابات سهلة ولا حلا عسكريا". لكنه حض الأوروبيين على مواجهة "التوسع" الروسي من خلال توحيد الكلمة مع اميركا ووقف الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية والتوقف عن خفض الإنفاق الدفاعي بين بعض الدول الأعضاء من جانب حلف شمال الأطلسي التي تمر في ضائقة مالية.



    وقررت الإدارة الاميركية إجراءات عقابية على موسكو تتراوح بين فرض قيود على التأشيرات، وتجميد أصول مالية، إضافة إلى قيود تجارية واستثمارية، وفرض عقوبات على البنوك المملوكة للدولة. وردّت موسكو على هذه الاجراءات بخطوات مضادة، ما يشير الى تصميمها على ردّ التحدي وعدم التراجع.

    حتى تعليق عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني الكبرى (الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا وروسيا) ونقلُ مكان قمتها التي كانت مقررة في مدينة سوتشي الروسية في حزيران/ يونيو المقبل الى بروكسل لا يبدو فعلاً مُقْنعاً للعديد من الدوائر الأميركية التي ترى أنه ليس لدى الولايات المتحدة خطة استراتيجية فعالة تفرض تبعات وعواقب على روسيا. زيادة على ذلك، فإن تعزيز الحكم في اوكرانيا ضد روسيا، تبدو كلفته عالية جداً (يقدّر المسؤولون في كييف احتياجات بلادهم للنهوض الاقتصادي بـ 35 مليار دولار)، وبالتأكيد لن تكون المليار دولار التي وعدت الولايات المتحدة بمنحها لأوكرانيا عبر صندوق النقد الدولي إلا جزءاً بسيطاً من هذه الاحتياجات في بلد ينخره الفساد والانقسامات السياسية والقومية، واستنفد قبل ذلك المساعدات الاقتصادية الروسية.

    هكذا تتحول الأزمة في أوكرانيا، التي سعت واشنطن الى قلب الأوضاع فيها لمصلحتها، عبئاً عليها من النواحي كافة وباتت تطرح تحديات جسيمة عليها وعلى حلفائها الغربيين، وهي لم تقدّر - كما يبدو - ردة فعل موسكو القوية التي ذهبت الى مراجعة و"تصحيح" الخريطة الجغرافية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن دفع الوضع باتجاه احتمال انهيار أوكرانيا كدولة موحدة من الداخل وتشكيل نموذج تفتيتي يمكن ان يكون لاحقاً مثالاً يحتذى في دول أوروبية عدة تعاني من مشكلة الإنقسام القومي او الثقافي.

    في واشنطن لا أحد يحب سماع لغة التهديد باستخدام "الخيارات المفتوحة" ضد روسيا، والدعوات تنصبّ على عدم إطلاق تهديدات لا يمكن ترجمتها على أرض الواقع. وإزاء الإحساس بالعجز، تنطلق تعليقات تهكمية كتلك التي أدلى بها مايك روجرز رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب في تصريحات لقناة "فوكس" بقوله: "أعتقد أن بوتين يلعب الشطرنج، بينما نقوم نحن بلعب الحجلة"، في إشارة إلى ما وصفه بـ"التخبط" في سياسة أوباما تجاه روسيا. كذلك يقول السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام لـشبكة CNN إن أوباما يجب أن يقوم بأكثر من مجرد التهديد، بينما يقوم بوتين بنشر قواته في القرم.

    خيارات روسيا

    يدرك الروس جيدا ان العقوبات الاقتصادية الغربية ستكون مؤلمة وقد تؤدي الى هروب استثمارات تقدر بعشرات مليارات الدولارات. ومع ان التلويح الغربي بالتوقف عن استيراد الغاز من روسيا يمثل مشكلة للطرفين، من المهم أن نعلم أن العائدات من العملات الأجنبية التي تجنيها روسيا من صادرات الغاز تمثل ثـُمن إجمالي عائدات صادراتها.


    والقيادة الروسية عاقدة العزم – كما يبدو - على عدم التراجع عن موقفها في القرم، وهي تدرك أن أي ثمن ستدفعه مقابل ذلك لا يوازي المكاسب التي ستحصل عليها من خلال البقاء على ضفاف البحر الاسود والحفاظ على مكانة روسيا واكتساب قوة ردع اقليمية ودولية، والأهم حماية وحدة روسيا المعرَّضة دوماً لمحاولات اختراق اميركية من الداخل سياسياً واجتماعياً وامنياً. كما يدرك الروس ان اوكرانيا هي مجرد عبء اضافي على اوروبا والولايات المتحدة لن يكون في وسعهما تحمله من دون تعاون روسيا التي تحتفظ بنفوذ في شرق اوكرانيا ولها حدود طويلة معها. وموسكو ترسل إشارات مستمرة على أنها توشك ان تتحرك لحفظ حقوق الأقليات الروسية في خاركوف ودونتسيك في شرق أوكرانيا.


    ما هي آثار زلزال القرم على الشرق الأوسط وقضاياه المفتوحة على صراعات عسكرية وأمنية تهدد هي الأخرى جوهر خريطة سايكس – بيكو التي أقرت بعد الحرب العالمية الأولى؟ سنحاول مقاربة الموضوع في مقالة لاحقة.

    المصدر:
    http://www.almanar.com.lb/adetails.p...catid=171&s1=1
    التعديل الأخير تم بواسطة ابوبرير; الساعة 28-03-2014, 06:01 PM.

  • #2
    3/4/2014


    زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط (2/2)

    علي عبادي

    كسبت روسيا الجولة الأولى من المواجهة بعد ضم -أو انضمام- القرم اليها. اختفى فجأة الحديث عن عقوبات اضافية. كل ما يرجوه الغرب أن لا تهدد روسيا الحدود الشرقية لأوكرانيا من خلال الحشود العسكرية التي وصلت - كما يقال - الى مئة ألف جندي. التفاوض يجري على تقرير مصير المناطق الأوكرانية ذات الغالبية الناطقة بالروسية: هل سيتاح لها الإنفصال، أم سيكون هناك نظام فيدرالي، كما تطالب موسكو الآن؟



    صحيح ان موسكو ليست لديها اليوم أيديولوجيا عالمية، على غرار الأيديولوجيا الإشتراكية، وصحيح انها لا تقود مجموعة دول على غرار الكتلة الشرقية أيام الاتحاد السوفياتي، لكنها اليوم تعبر بصورة متزايدة عن نفسها وطموحاتها في شكل يهدد بعض خطوط السياسة الاميركية التقليدية.

    في خطابه الى البرلمان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رؤيته القيادية من منظور شامل بالاشارة الى ان "العديد من الدول تقوم اليوم بمراجعة قيمها الأخلاقية، والى ان هناك المزيد والمزيد من الناس في العالم الذين يؤيدون موقفنا في الدفاع عن القيم التقليدية". تحدث بوتين عن القيم الاجتماعية كمدماك للدول، رافضاً "المساواة بين مفاهيم الخير والشر". هو يدرك أيضاً ان نجم أميركا الآفل يتطلب حجز مكان مسبقاً على الساحة الدولية، ولا يُخفي الإعتقاد بأن هناك العشرات من الدول التي لا ترتاح للمبادئ الغربية والسيطرة الغربية على المؤسسات والمعايير العالمية وتريد بدائل لهذا الوضع. وهذا بالضبط يتلاقى مع شكاوى وتطلعات دول كثيرة في العالم الاسلامي والعربي وأخرى صاعدة مثل الصين والهند. هذه الدول تحتفظ بقيمها التقليدية وبنائها الثقافي الخاص وترفض المثال الغربي المفرط في الليبرالية والذي يقود تدريجياً الى الإنحلال الاجتماعي والتفكك الأسري وتضعضع التماسك الوطني في المجتمعات المتنوعة، كما ترفض العولمة الأميركية التي تتخذ الحريات والموازين في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية مطية للقيام بانقلابات ناعمة في العديد من الدول.

    من هذا المنطلق، صمم بوتين في السنوات الماضية على إعادة الاعتبار للقيم الاجتماعية والوطنية لروسيا مستفيداً من مكامن قوة علمية وتكنولوجية واقتصادية وثقافية خاصة. وانطلق من الداخل في اتجاه الخارج ليركز جهوده على العمل لبناء اتحاد "أوراسي" يستخدم إمكانات روسيا ودول اوروبية وآسيوية لوقف تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الى حدود روسيا، بما يشكل خطراً داهماً على بنيتها وأمنها الإقليمي. وترتسم معالم هذا التوجه شيئاً فشيئاً من خلال طبيعة الاتفاقات الطويلة الأجل التي تعقدها روسيا على الصعد الدفاعية والنفطية والنووية مع دول صاعدة مثل الصين والهند.

    ومن دون شك، فإن روسيا تشعر حالياً بأن لديها القوة اللازمة الجاهزة لاستخدامها او التلويح بها، في حين ان الغرب لا يسعى للحرب، وهذا يعطي موسكو رجحاناً في قوة الشد والجذب. وبذلك فإن القرم ليست سوى بداية لظهور موسكو دولياً لتمثل تحدياً منهجياً للإتحاد الأوروبي ولمنظمة حلف شمال الأطلسي.

    المصالح المشتركة والإفتراقات

    لقد أخطأت الادارة الأميركية في فهم الرئيس الروسي ودوافعه، برغم الاستعانة بخبراء لغة الجسد، اضافة الى تقارير الاستخبارات، وقللت باستمرار من تقدير فلاديمير بوتين، عن طريق النظر اليه على انه حالة عابرة او معزولة. وتبعاً لذلك، فشلت أميركا ومعها الغرب الأوروبي في التنبؤ بردة فعل روسيا بشأن العديد من القضايا الإقليمية، ومنها استمرارها بالوقوف الى جانب سوريا أو مضيها بتغيير الوقائع الجغرافية على حدود اوروبا.

    ثمة مصالح أميركية أكيدة تشترك مع مصالح روسيا، ومنها منع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب. وفي ضوء استبعاد التصادم العسكري بين الجانبين، تسعى واشنطن الى تفاهم غامض حتى الآن مع موسكو بهدف تجنيب أوروبا خضات تنجم عن ترددات زلزال القرم، وبالتالي الحفاظ على ماء وجه الولايات المتحدة على الصعيد الدولي. وقد فضحت الأزمة الاوكرانية ضعف وركاكة سياسات ادارة اوباما في مواجهة التحديات الاقليمية والدولية.



    وسواء ربحت روسيا في أوكرانيا أم خسرت، وهي تربح حتى الآن، فإن مجريات الأحداث في أوكرانيا زرعت المزيد من الشكوك ونصبت متاريس إضافية بين موسكو وواشنطن. وسيستخدم الطرفان مختلف الأوراق المتوافرة لدى كل منهما لإضعاف نفوذ الآخر او للضغط عليه من أجل التوصل الى تفاهم مقبول من الجانبين. ويمثل الشرق الأوسط ساحة رئيسية لكباشهما الذي تصاعد خلال الأزمة السورية معبّراً عن نفسه باستخدام روسيا، ومعها الصين، الفيتو 3 مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع غربية ضد سوريا.

    الإنعكاسات على الشرق الاوسط

    حتى لو أصيبت سياسة روسيا في اوكرانيا بنكسة، فليس مؤكداً أن ذلك سيُضعف من عزيمة بوتين على تحدي نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بل ربما يصبح اكثر تحدياً وعناداً.

    هناك ملفات يمكن رصد آثار الكباش الروسي- الأميركي فيها:

    1- الملف النووي الايراني: لعل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الشهر الماضي التي هدَّد فيها "باتخاذ إجراءات انتقامية" محتملة بشأن الملف النووي الإيراني إذا ما ضغطت واشنطن على موسكو بشأن شبه جزيرة القرم، أوضحُ إشارة الى ان أحداث أوكرانيا لن تبقى في مكانها بل ستترك آثاراً على واقع قضايا اقليمية هامة. إنها تشير الى رغبة روسيا في استخدام الأسلحة المتوفرة لديها لدفع واشنطن الى الامتناع عن الاستمرار في تحدي نفوذ موسكو في حديقتها الخلفية. ماذا يمكن ان تفعل روسيا في هذا الشأن، وهل يمكن ان يقود ذلك الى تنازلات اميركية لروسيا او لإيران ؟



    يمكن ان يصعّب بوتين على واشنطن مفاوضات الحل النهائي الدولية مع ايران، وهي مرحلة دقيقة وحساسة تعوّل عليها واشنطن لاختراق ايران. وتستطيع موسكو عرقلة أي اتفاق لا يلبي تطلعاتها في تعزيز موقعها في هذه المنطقة او اي اتفاق يعلّي من شأن المصالح الأميركية او تفسره واشنطن على انه انتصار دبلوماسي، كما ان بإمكانها، وهذا ربما الأهم، منع أميركا من العودة مجدداً الى مجلس الأمن لفرض عقوبات اضافية على ايران في حال فشلت المفاوضات. وبذلك لن يكون في يد واشنطن سلاح إضافي تهدد به ايرانَ لإرغامها على تقديم تنازلات. ومن هنا تحتاج واشنطن الى تأييد موسكو وتعاونها. وتجدر الاشارة الى انه بينما كانت الأزمة ناشبة في القرم، كان نيكولاي سباسكي نائب مدير شركة "روساتوم" يزور طهران حيث وقّع مع المسؤولين الايرانيين على اتفاق مبدئي لبناء ما لا يقل عن محطتين جديدتين لتوليد الطاقة النووية في ايران. بل إن إيران وروسيا حققتا تقدماً نحو اتفاق لمبادلة النفط بالسلع قد تصل قيمته إلى 20 مليار دولار سيمكن طهران من زيادة صادراتها من الطاقة، الأمر الذي يعتبره البيت الأبيض مثيراً "لبواعث قلق خطيرة" وسيكون غير منسجم مع المحادثات النووية بين إيران والقوى العالمية، بحسب ما نقلت وكالة رويترز عن مصادر غربية مطلعة. ويمكن - في اطار تكثيف الضغوط الروسية - أن تزود موسكو طهران بنظم دفاع جوي متقدمة لتقوية موقفها ازاء واشنطن وخيارها العسكري المحتمل.



    من وجهة نظر واشنطن، قد يكون من الأفضل الاعتراف ببعض المكاسب لإيران، خصوصا لجهة تخصيب اليورانيوم باعتباره أمراً واقعاً، بدلاً من تقديم تنازلات أخرى لروسيا في أوكرانيا وما بعدها. فالكباش في أوروبا أشد تأثيراً على مكانة اميركا بين حلفائها الأوروبيين، مع التذكير دائماً بأن أوروبا كانت مسرحاً للشرارة الأولى لحربين عالمين والساحة َالأساسية للحرب الباردة التي امتدت 45 عاماً. وقد تحولت الأزمة الأوكرانية الساحة الرئيسية حالياً لاختبار نفوذ أميركا وإثبات قدرتها على القيادة، لكنها لا تملك الى الآن خيارات كثيرة.


    ومن وجهة نظر ايران، فإن الأزمة بين روسيا والغرب قد تكون فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي في الشأن النووي، انطلاقاً من حاجة اميركا الى إنجاز ما في سياساتها الخارجية المليئة بالاخفاقات، ومن حاجتها أيضاً لسد ثغرة يمكن ان تنفذ منها روسيا لتقوية موقفها في الكباش الحاصل في اوروبا. وإضافة الى ذلك، ترى ايران ان الغرب يُظهر حالياً علامات ضعف، ما قد يساعدها في توسيع نطاق المناورة على الصعيد التفاوضي.

    وبالإجمال، في حال استمرت او تصاعدت المواجهة الاميركية- الروسية، سيكون من الصعب على اميركا الاعتماد على روسيا لإدانة ايران او تشديد العقوبات او التلويح بالخيار العسكري في حال عدم التوصل الى اتفاق نووي بحلول 20 تموز/ يوليو المقبل موعد انتهاء مفعول الاتفاق المرحلي.

    2- الملف السوري: تنظر سوريا الى وثبة روسيا في القرم على أنها تقدمٌ إضافي لحليف استراتيجي يمكن ان يكون لفوزه بهذه الجولة أثر إيجابي على الموقف السوري. وخلال أزمة مماثلة في جورجيا عام 2008، ثمة من راهن على ان موسكو ستفقد بعض اهتمامها بالشرق الأوسط إنْ غضّ الغرب النظر عن ضمها لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لكن هذا الرهان لم يتحقق. بل إن الدبلوماسية الروسية بدت خلال السنوات التالية أكثر ثباتاً ونشاطاً في الشرق الأوسط واستطاعت خلال الأزمة السورية أن تقنع الغرب بصحة موقفها القائل بأن سوريا أضحت ساحة رئيسية من ساحات الإرهاب الدولي العابر للحدود. وبهذا، فإن انتصار روسيا في أزمة أوكرانيا سيبعث برسائل إضافية تثير قلق الحلف المناهض لسوريا.

    3- حلفاء اميركا: تنظر اسرائيل بريبة شديدة الى تراجع مكانة الولايات المتحدة في غير ساحة، وهي رأت ما تعنيه تعهدات الولايات المتحدة باستخدام القوة في سوريا، وحتى ضد إيران. واستنتجت أن هذا الكلام لا يعني الكثير. وتعتبر اسرائيل ان أداء اميركا في اوكرانيا دليل على ضعف عزمها على حماية حلفائها والدفاع عنهم. تدرك اسرائيل ان روسيا لا تريد ان تُثقِل عليها، لكن فوز موسكو على واشنطن في القرم يقلق تل ابيب بسبب انعكاساته الايجابية لمصلحة ايران وسوريا.





    ومن جهتهم، وصل السعوديون إلى استنتاجات مماثلة. ثقتهم بإدارة أوباما منخفضة جدا، برغم زيارته الأخيرة الى الرياض ومحاولته طمأنة المملكة حيال التعامل مع ملفات رئيسية مثل سوريا وايران. المشكلة ان سقف توقعات السعوديين من اميركا بقي عالياً، بينما يتعذر على واشنطن تحقيق تطلعات الرياض الى شن حملات عسكرية ضد سوريا وايران. الرئيس الاميركي الحالي - كما يقول خصومه في واشنطن- يكره المخاطرة بشدة، ويركز على الشأن الداخلي بشكل أكبر من اهتمامه بالسياسة الخارجية، وهو رئيس ملتزم بمساعدة الطبقة الوسطى أكثر من الشرق الأوسط ومشاكله العويصة.

    هذه المعطيات لا تسرّ خاطر حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط الذين ينتظرون منها الإقدام والضرب بيد من حديد كي يرتدع خصومهم، في حين تنتظر الادارة الأميركية منهم تفهم أولوياتها والتعامل بمرونة وواقعية مع التحديات من حولهم وخفض سقف تطلعاتهم، الأمر الذي يزيد الفجوة بين واشنطن وحلفائها ويُشعرهم بتعاظم الفراغ الناجم عن ضعف الحضور الأميركي في الشرق الأوسط والعالم.

    خلاصة:

    - تمضي الدول الكبرى الى إعادة تموضع ناتجة عن تبدل في المعطيات الاقتصادية والعسكرية وتنافر الرؤى السياسية. ولقد صدقت التوقعات التي أطلقت بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي والقائلة بأن الولايات المتحدة، التي ابتهجت لسقوط "امبراطورية الشر"، ستعاني لاحقاً بسبب عدم قدرتها على إدارة العالم لوحدها. وتبينَ أن السعي حثيثاً لـ "أمركة" العالم جلب لواشنطن الكثير من العداوات، وهي تقرّ بعد كل هذا العناء على مدى عقدين بأن لقدراتها حدوداً!

    - هناك مفارقة بين الإدارتين الروسية والأميركية: يقف خلف بوتين طموح لإعادة رسم مكانة بلاده انطلاقاً من الداخل باتجاه الخارج، بينما يرسم أوباما دور بلاده بصورة معاكسة: الإنسحاب من الخارج الى الداخل. زيادة على ذلك، لا يمكن التنبؤ بتصرفات بوتين، بعكس اوباما الذي أعلنها واضحة : الشعب الأميركي لا يريد حرباً.

    - قد يكون وصف ما يجري بين روسيا وأميركا بحرب باردة جديدة أمراً مبالغاً فيه، من وجهة نظر البعض، لكنه تطورٌ يرسم حدوداً للهيمنة الأميركية والغربية عموماً على الساحة الدولية ويفتح الآفاق أمام فرص جديدة لا سيما في الشرق الأوسط.

    - اذا لم يتم تنظيم تراجع نفوذ الولايات المتحدة في أوكرانيا وفي أوروبا، سيكون لذلك مردود سلبي على حلفائها في المنطقة، ما قد يدفع هؤلاء الى تدبر أمورهم بعيدا عن واشنطن إما بنسج تحالفات جديدة مع قوى كبرى أخرى، وهذا خيار لا يمثل بديلاً كلياً عن دور واشنطن، أو سيدفع باتجاه خيارات "مُرّة" من موقع أقل تكافؤاً مثل إيجاد تفاهمات اقليمية، على غرار ما قد يحصل بين السعودية وايران، أو قد يدفع باتجاه أكثر تشدداً وعدوانية، على غرار تلميح اسرائيل بالهجوم على ايران.

    - يصعب تقدير الإنعكاس المباشر للمواجهة الأميركية - الروسية على الأزمة في سوريا، لكن روسيا ترسل، من موقع قوتها الجديد في القرم، إشارات الى انها لن تقبل تدخلاً تركياً عسكرياً مباشراً في سوريا او تزويداً أميركياً للجماعات المسلحة فيها بمنظومات صواريخ ارض- جو. وأي تقدم تحققه روسيا في أوكرانيا سينعكس سلباً على الحلف المناهض لسوريا، وربما نشهد في هذه الأثناء تسعيراً للمواجهات العسكرية من أجل تحقيق مكاسب موضعية قبل التوجه الى المفاوضات لإغلاق هذا الجرح النازف للجميع، وإن بمستويات مختلفة.

    http://www.almanar.com.lb/adetails.p...catid=171&s1=1

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    x

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

    صورة التسجيل تحديث الصورة

    اقرأ في منتديات يا حسين

    تقليص

    لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

    يعمل...
    X